المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الخبر عن إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام ونسبه الى فالغ بن عابر وذكر أولاده صلوات الله عليهم وأحوالهم - تاريخ ابن خلدون - جـ ٢

[ابن خلدون]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الثاني]

- ‌الكتاب الثاني ويشتمل: أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدإ الخليقة الى هذا العهد

- ‌المقدّمة الاولى في أمم العالم واختلاف أجيالهم والكلام على الجملة في أنسابهم

- ‌المقدّمة الثانية في كيفية وضع الأنساب في كتابنا لأهل الدول وغيرهم

- ‌القول في أجيال العرب وأوّليتها واختلاف طبقاتهم وتعاقبها وأنساب كل طبقة منها

- ‌برنامج بما تضمنه الكتاب من الدول في هذه الطبقات الأربع على ترتيبها والدول المعاصرين من العجم في كل طبقة منها

- ‌الطبقة الاولى من العرب وهم العرب العاربة وذكر نسبهم والإمام بملكهم ودولهم على الجملة

- ‌الخبر عن إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام ونسبه الى فالغ بن عابر وذكر أولاده صلوات الله عليهم وأحوالهم

- ‌الطبقة الثانية من العرب وهم العرب المستعربة وذكر أنسابهم وأيامهم وملوكهم والإلمام ببعض الدول التي كانت على عهدهم

- ‌الخبر عن ملوك التبابعة من حمير وأوليتهم باليمن ومصاير أمورهم

- ‌ملك الحبشة اليمن

- ‌غزو الحبشة الكعبة

- ‌قصة سيف بن ذي يزن وملك الفرس على اليمن

- ‌الخبر عن ملوك بابل من النبط والسريانيين وملوك الموصل ونينوى من الجرامقة

- ‌الخبر عن القبط وأوّلية ملكهم ودولهم وتصاريف أحوالهم والإلمام بنسبهم

- ‌الخبر عن بني إسرائيل وما كان لهم من النبوة والملك وتغلبهم على الأرض المقدّسة بالشام وكيف تجدّدت دولتهم بعد الانقراض وما اكتنف ذلك من الأحوال

- ‌الخبر عن حكام بني إسرائيل بعد يوشع الى أن صار أمرهم إلى الملك وملك عليهم طالوت

- ‌الخبر عن ملوك بني إسرائيل بعد الحكام ثم افتراق أمرهم والخبر عن دولة بني سليمان بن داود على السبطين يهوذا وبنيامين بالقدس الى انقراضها

- ‌الخبر عن افتراق بنى إسرائيل منهم ببيت المقدس على سبط يهوذا وبنيامين الى انقراضه

- ‌الخبر عن دولة الأسباط العشرة وملوكهم الى حين انقراض أمرهم

- ‌الخبر عن عمارة بيت المقدس بعد الخراب الأوّل وما كان لبني إسرائيل فيها من الملك في الدولتين لبني حشمناي وبني هيردوس إلى حين الخراب الثاني والجلوة الكبرى

- ‌ابتداء أمر انظفتر [1] أبو هيردوس

- ‌انقراض ملك بني حشمناي وابتداء ملك هيردوس وبنيه

- ‌الخبر عن شأن عيسى بن مريم صلوات الله عليه في ولادته وبعثته ورفعه من الأرض والإلمام بشأن الحواريين بعده وكتبهم الأناجيل الأربعة وديانة النصارى بملته واجتماع الاقسة على تدوين شريعته

- ‌الخبر عن الفرس وذكر أيامهم ودولهم وتسمية ملوكهم وكيف كان مصير أمرهم الى تمامه وانقراضه

- ‌الطبقة الاولى من الفرس وذكر ملوكهم وما صار اليه في الخليقة أحوالهم

- ‌الطبقة الثانية من الفرس وهم الكينية وذكر ملوكهم وأيامهم إلى حين انقراضهم

- ‌الطبقة الثالثة من الفرس وهم الأشكانية ملوك الطوائف وذكر دولهم ومصاير أمورهم الى نهايتها

- ‌الطبقة الرابعة من الفرس وهم الساسانية والخبر عن ملوكهم الأكاسرة إلى حين الفتح الإسلامي

- ‌الخبر عن دولة يونان والروم وأنسابهم ومصايرهم

- ‌الخبر عن دولة يونان والإسكندر منهم وما كان لهم من الملك والسلطان الى انقراض أمرهم

- ‌الخبر عن اللطينيين وهم الكيتم المعرفون بالروم من أمم يونان وأشياعهم وشعوبهم وما كان لهم من الملك والغلب وذكر الدولة التي فيهم للقياصرة وأولية ذلك ومصايره

- ‌الخبر عن فتنة الكيتم مع أهل إفريقية وتخريب قرطاجنة ثم بناؤها على الكيتم وهم اللطينيون

- ‌الخبر عن ملوك القياصرة من الكيتم وهم اللطينيون ومبدإ أمورهم ومصاير أحوالهم

- ‌الخبر عن القياصرة المتنصرة من اللطينيين وهم الكيتم واستفعال ملكهم بقسطنطينية ثم بالشام بعدها إلى حين الفتح الإسلامي ثم بعد إلى انقراض أمرهم

- ‌الخبر عن ملوك القياصرة من لدن هرقل والدولة الإسلامية الى حين انقراض أمرهم وتلاشي أحوالهم

- ‌الخبر عن القوط وما كان لهم من الملك بالأندلس الى حين الفتح الإسلامي وأوّلية ذلك ومصايره

- ‌الطبقة الثالثة من العرب وهم العرب التابعة للعرب وذكر افاريقهم وأنسابهم وممالكهم وما كان لهم من الدول على اختلافها والبادية والرحالة منهم وملكها

- ‌الخبر عن أنساب العرب من هذه الطبقة الثالثة واحدة واحدة وذكر مواطنهم ومن كان له الملك منهم

- ‌الخبر عن حمير من القحطانية وبطونها وتفرع شعوبها

- ‌الخبر عن قضاعة وبطونها والإلمام ببعض الملك الّذي كان فيها

- ‌الخبر عن بطون كهلان من القحطانية وشعوبهم واتصال بعضها مع بعض وانقضائها

- ‌الخبر عن ملوك الحيرة من آل المنذر من هذه الطبقة وكيف انساق الملك اليهم ممن قبلهم وكيف صار إلى طيِّئ من بعدهم

- ‌ملوك كندة الخبر عن ملوك كندة من هذه الطبقة ومبدإ أمرهم وتصاريف أحوالهم

- ‌الخبر عن أبناء جفنة ملوك غسان بالشام من هذه الطبقة وأوليتهم ودولهم وكيف انساق الملك اليهم ممن قبلهم

- ‌الخبر عن الأوس والخزرج أبناء قيلة من هذه الطبقة ملوك يثرب دار الهجرة وذكر أوليتهم والإلمام بشأن نصرتهم وكيف انقراض أمرهم

- ‌الخبر عن بني عدنان وأنسابهم وشعوبهم وما كان لهم من الدول والملك في الإسلام وأوّلية ذلك ومصايره

- ‌الخبر عن قريش من هذه الطبقة وملكهم بمكة وأولية أمرهم وكيف صار الملك اليهم فيها ممن قبلهم من الأمم السابقة

- ‌أمر النبوّة والهجرة في هذه الطبقة الثالثة وما كان من اجتماع العرب على الإسلام بعد الاباية والحرب

- ‌المولد الكريم وبدء الوحي

- ‌بدء الوحي

- ‌هجرة الحبشة

- ‌ العقبة الثانية

- ‌الهجرة

- ‌الغزوات

- ‌الأبواء:

- ‌بواط:

- ‌البعوث:

- ‌غزوة بدر الثانية:

- ‌غزوة الكدر:

- ‌غزوة السويق:

- ‌ذي أمرّ:

- ‌نجران:

- ‌قتل كعب بن الأشرف:

- ‌غزوة بني قينقاع:

- ‌سرية زيد بن حارثة إلى قردة:

- ‌قتل ابن أبي الحقيق:

- ‌غزوة أحد

- ‌غزوة حمراء الأسد:

- ‌بعث الرجيع:

- ‌غزوة بئر معونة:

- ‌غزوة بني النضير:

- ‌غزوة ذات الرقاع:

- ‌غزوة بدر الصغرى الموعد:

- ‌غزوة دومة الجندل:

- ‌غزوة الخندق

- ‌غزوة بني قريظة

- ‌غزوة الغابة وذي قرد

- ‌غزاة بني المصطلق:

- ‌عمرة الحديبيّة

- ‌إرسال الرسل الى الملوك

- ‌غزوة خيبر

- ‌فتح فدك ووادي القرى

- ‌عمرة القضاء

- ‌غزوة جيش الأمراء

- ‌فتح مكة

- ‌غزوة حنين

- ‌حصار الطائف وغزوة تبوك

- ‌إسلام عروة بن مسعود ثم وفد ثقيف وهدم اللات

- ‌الوفود

- ‌ حجة الوداع

- ‌العمال على النواحي

- ‌خبر العنسيّ

- ‌بعث أسامة:

- ‌أخبار الأسود ومسيلمة وطليحة:

- ‌مرضه صلى الله وسلم عليه:

- ‌خبر السقيفة

- ‌الخلافة الإسلامية

- ‌الخبر عن الخلافة الإسلامية في هذه الطبقة وما كان فيها من الرّدة والفتوحات وما حدث بعد ذلك من الفتن والحروب في الإسلام ثم الاتفاق والجماعة

- ‌بعث الجيوش للمرتدين

- ‌خبر طليحة

- ‌خبر هوازن وسليم وبني عامر

- ‌خبر بني تميم وسجاح

- ‌البطاح ومالك بن نويرة

- ‌خبر مسيلمة واليمامة

- ‌ردّه الحطم وأهل البحرين

- ‌ردة أهل عمان ومهرة واليمن [2]

- ‌بعوث العراق وصلح الحيرة

- ‌فتح الحيرة

- ‌فتح ما وراء الحيرة

- ‌فتح الأنبار وعين التمر وتسمّى هذه الغزوة ذات العيون

- ‌الوقائع بالعراق

- ‌بعوث الشام

- ‌بعوث الشام

- ‌خلافة عمر رضي الله عنه

- ‌فتح دمشق

- ‌خبر المثنى بالعراق بعد مسير خالد الى الشام

- ‌ولاية أبي عبيد بن مسعود على العراق ومقتله

- ‌أخبار القادسية

- ‌فتح المدائن وجلولاء بعدها

- ‌ولاية عتبة بن غزوان على البصرة

- ‌وقعة مرج الروم وفتوح مدائن الشام بعدها

- ‌وقعة أجنادين وفتح بيسان والأردن وبيت المقدس

- ‌مسير هرقل إلى حمص وفتح الجزيرة وارمينية

- ‌غزو فارس من البحرين وعزل العلاء عن البصرة ثم المغيرة وولاية أبي موسى

- ‌بناء البصرة والكوفة

- ‌فتح الأهواز والسوس بعدهما

- ‌مسير المسلمين الى الجهات للفتح

- ‌مجاعة عام الرمادة وطاعون عمواس

- ‌فتح مصر

- ‌وقعة نهاوند وما كان بعدها من الفتوحات

- ‌فتح همذان

- ‌فتح الريّ

- ‌فتح أذربيجان

- ‌فتح الباب

- ‌فتح موقان وجبال ارمينية

- ‌غزو الترك

- ‌فتح خراسان

- ‌فتوح فارس

- ‌إصطخر:

- ‌بسا ودرابجرد:

- ‌كرمان:

- ‌سجستان:

- ‌مكران:

- ‌خبر الأكراد

- ‌مقتل عمر وأمر الشورى وبيعة عثمان رضي الله عنه

- ‌نقض أهل الاسكندرية وفتحها

- ‌ولاية الوليد بن عقبة الكوفة وصلح أرمينية وأذربيجان

- ‌ولاية عبد الله بن أبي سرح على مصر وفتح افريقية

- ‌فتح قبرص

- ‌ولاية ابن عامر على البصرة وفتوح فارس وخراسان

- ‌ولاية سعيد بن العاص الكوفة

- ‌غزو طبرستان

- ‌غزو حذيفة الباب وأمر المصاحف

- ‌مقتل يزدجرد

- ‌ظهور الترك بالثغور

- ‌بدء الانتقاض على عثمان رضي الله عنه

- ‌حصار عثمان ومقتله رضي الله عنه وأتابه ورفع درجته

- ‌بيعة علي رضي الله عنه

- ‌أمر الجمل

- ‌انتقاض محمد بن أبي حذيفة بمصر ومقتله

- ‌ولاية قيس بن سعد على مصر

- ‌مبايعة عمرو بن العاص لمعاوية

- ‌أمر صفين

- ‌ أمر الحكمين

- ‌أمر الخوارج وقتالهم

- ‌ولاية عمرو بن العاص مصر

- ‌دعاء ابن الحضرميّ بالبصرة لمعاوية ومقتله

- ‌ولاية زياد على فارس

- ‌فراق ابن عبّاس لعلي رضي الله عنهم

- ‌مقتل علي

- ‌بيعة الحسن وتسليمه الأمر لمعاوية

الفصل: ‌الخبر عن إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام ونسبه الى فالغ بن عابر وذكر أولاده صلوات الله عليهم وأحوالهم

وأما بنو سبا بن يقطن فلم يبيدوا، وكان لهم بعد تلك الأجيال البائدة أجيال باليمن منهم حمير وكهلان وملوك التبابعة وهم أهل الطبقة الثانية. وفي مسند الإمام أحمد:

أنّ رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل هو فروة بن مسيك المرادي عن سبا أرجل هو أو امرأة أم أرض؟ فقال بل رجل ولد عشرة فسكن اليمن منهم ستة والشام أربعة. فأمّا اليمانيّون فمذ حج وكندة والأزد والأشعر وأنمار وحمير. وأما الشاميّون فلخم وجذام وعاملة وغسّان. وثبت أن أباهم قحطان كان يتكلم بالعربية ولقنها عن الأجيال قبله فكانت لغة بنيه ولذلك سمّوا العرب المستعربة ولم يكن في آباء قحطان من لدى نوح عليه السلام إليه من يتكلم بالعربية، وكذلك كان أخوه فالغ، وبنوه إنما يتكلمون بالعجمية، إلى أن جاء إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما فتعلم العربية من جرهم فكانت لغة بنيه وهم أهل الطبقة الثالثة المسمّون بالعرب التابعة للعرب. فلنذكر هذا النسب لينتظم أجياله مع الأجيال السابقة واللاحقة ونستوفي أنساب الأمم منها.

‌الخبر عن إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام ونسبه الى فالغ بن عابر وذكر أولاده صلوات الله عليهم وأحوالهم

ولنذكر الآن أهل هذا النسب ما بين إسماعيل ونوح عليهما السلام ومن كان منهم، أو من إخوانهم أو أبنائهم من الأنبياء والشعوب والملوك وما كان لإسماعيل صلوات الله عليه من الولد. ونختم هذه الطبقة الأولى بذكرهم، وإن كانوا عجما في لغاتهم، إلّا أنهم أصون الخليقة في أنسابهم، وكل البشر على بعض الآراء من أعقابهم، وهم مع ذلك معاصرون لهذه الطبقة، فيتسق الكلام فيهم على شرط كتابنا، ويتميز بذكر أخبارهم أحوال الطبقات التي بعدهم على الوفاء والكمال.

فنبدأ أولا بذكر عمود هذا النسب على التوالي، ثم نرجع إلى أخبارهم. وإسماعيل صلوات الله عليه هو ابن إبراهيم بن آزر وهو تارح وآزر اسم لصنمه لقّب به ابن ناحور بن ساروخ بالخاء أو بالغين ابن عابر أو عنبر بن شالح أو شليخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وهذه الأسماء الأعجميّة كلها منقولة من التوراة، ولغتها عبرانية، ومخارج حروفها في الغالب مغايرة لمخارج الحروف العربية. وقد يجيء الحرف منها بين

ص: 36

حرفين من العربيّة، فترده العرب الى أحد ذينك الحرفين وفي مخرجه، فيتغير عن أصله، ولذلك تكون فيها إمالة متسوطة أو محضة، فيصير الى حرف العلّة الّذي بعده من ياء أو واو، فلذلك تنقل الكلمة منها على اختلاف، وإلا فشأن الأعلام أن لا تختلف. وقال الطبريّ: إن بين شالخ وأرفخشذ أبا آخر اسمه قينن، وسقط ذكره من التوراة لأنه كان ساحرا وادّعى الألوهية. وقال ابن حزم: في كتب النصارى أنّ بين فالغ وعابر أبا آخر اسمه ملكيصدق وهو أبو فالغ.

واعلم أن نوحا صلوات الله عليه بلغ عمره يوم الطوفان ستمائة سنة، وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، فكانت جملة ذلك تسعمائة وخمسين سنة، ألف سنة إلا خمسين وهذا نص المصحف الكريم، وكذا وقع في التوراة بعينه. ومن الغريب الواقع في التوراة أنّ عمر إبراهيم كان يوم وفاة نوح ثلاثا وخمسين سنة، لأنه قال إنّ أرفخشذ ولد لسام بعد سنتين من الطوفان، ولما بلغ خمسا وثلاثين سنة ولد له ابنه شالخ، وبعد ثلاثين سنة ولد ابنه عابر، وبلغ عابر أربعا وثلاثين سنة فولد ابنه فالغ، وبلغ فالغ ثلاثين سنة فولد له أرغو، وبلغ أرغو اثنتين وثلاثين سنة فولد شاروغ، وبلغ شاروغ ثلاثين سنة فولد ناحور، وبلغ ناحور تسعا وعشرين سنة فولد تارح، وبلغ تارح خمسا وسبعين سنة فولد إبراهيم، وجملة هذه السنين من الطوفان إلى ولادة إبراهيم مائتان وسبع وتسعون سنة، وعمر نوح بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسون سنة، فيكون إبراهيم بعد وفاة نوح ابن ثلاث وخمسين سنة، فيكون لقي نوحا صلوات الله عليهما وخالطه وأخذ عنه، وهو على رأي بعضهم أب لجميع الشعوب من بعده، فلذلك كان الأب الثالث للخليقة من بعد آدم ونوح صلوات الله عليهم أجمعين أهـ.

وفي كتاب البدء ونقله ابن سعيد: أنّ أوّل من ملك الأرض من ولد نوح، كنعان بن كوش بن حام، فسار من أرض كنعان بالشام الى أرض بابل، فبنى مدينة بابل اثني عشر فرسخا في مثلها، وورث ملكه ابنه النمرود بن كنعان، وعظم سلطانه في الأرض، وطال عمره، وغلب على أكثر المعمور، وأخذ بدين الصابئة، وخالفه الكلدانيون منهم في التوحيد وأسمائه، ومال معهم بنو سام، وكان سام قد نزل بشرقيّ الدجلة، وكان وصيّ أبيه في الدين والتوحيد، وورث ذلك ابنه أرفخشذ، ومعنى أرفخشذ مصباح مضيء، فاشتغل بالعبادة ودعاه الكلدانيون الى القيام بالتوحيد

ص: 37

فامتنع. ثم قام من بعده ابنه شالخ وعاش طويلا وقام من بعده بأمره ابنه عابر كذلك وخرج مع الكلدانيين على النمروذ منكرا لعبادة الهياكل، فغلبه نمروذ وأخرجه من كوثا، فلحق هو ومن معه من الحلفاء بالجزيرة وهي مدينة المجدل بين الفرات ودجلة. وعابر هذا هو أبو العبرانيّين الذين تكلموا بالعبرانية، واستفحل ملكه بالمجدل. قال ابن سعيد وورث من بعده ابنه فالغ وهو الّذي قسّم الأرض بين ولد نوح، وفي زمانه بنى النمرود الصرح ببابل [1] وكان من أمره ما نصّه القرآن، وقام بأمر فالغ من بعده ابنه ملكان فيما زعموا وغلبه الجرامقة والنبط على ملكه، وقام بالمجدل في ملكهم إلى أن هلك وخلف ابنه أتيا ويقال له الخضر. وأما أرغو بن فالغ فعبر الى كلواذا ودخل في دين النبط، وهي بدعة الصابئة وولد له منهم ابنه شاروخ، ثم بعده ناحور بن شاروخ، ثم بعد تارح بن ناحور الّذي سمّي آزر، واستخلص النمروذ آزر وقدمه على بيت الأصنام، والنمروذ من ملوك الجرامقة واسمه هاصد بن كوش، انتهى كلام ابن سعيد.

وولد لتارخ وهو آزر على ما وقع في التوراة ثلاثة من الولد إبراهيم وناحور وهاران، ومات هاران في حياة أبيه تارح، وترك ابنه لوطا فهو ابن أخي إبراهيم. قال الطبريّ: ولد إبراهيم الخليل قيل بناحية كوثا من السواد وهو قول ابن إسحاق، وقيل بحران، وقيل ببابل. وعامة السلف انه ولد على عهد نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام. وكان الكهان يتحدّثون بولادة رجل يخالف الدين، ويكسر الأصنام والأوثان، فأمر بذبح الولدان، فولدته أمه وتركته بمغارة في فلاة من الأرض حتى كبر وشب، ورأى في الكواكب ما رآه، وكملت نبوّته، فأحضرته إلى أبيه ودعاه إلى التوحيد، فامتنع وكسر إبراهيم الأصنام، وأحضر عند نمروذ وقذفه في النار، فصارت بردا وسلاما، وخرج منها ولم تعد عليه كما نصّ ذلك القرآن. ثم تدبر النمروذ في أمره، وطلب من إبراهيم أن يقرّب قربانا يفتدي مما دعاه إليه، فقال له إبراهيم:

لن يقبل منك إلا الإيمان، فقال: لا أستطيع، وترك إبراهيم وشأنه.

ثم أمر الله إبراهيم بالخروج من أرض الكلدانيين ببابل فخرج به أبوه تارح ومعهما على ما في التوراة ابنه ناحور بن تارح، وزوجته ملكا بنت أخيه هاران، وحافده لوط بن

[1] يقال ان الصرح سبعة الاف درجة ويقال ثلاثة الاف وشيء وجعل يرمي في السماء فيرجع نبله اليه مختضبا

(البدء والتاريخ ج 3 ص 56) .

ص: 38

هاران، قال في التوراة وكنته سارة يعني زوج إبراهيم، فقيل انها أخت ملكا بنت هاران بن تارح، وقيل بنت ملك حران، طعنت على قومها في الدين، فتزوجها إبراهيم على أن لا يضرها. ويردّ هذا ما في التوراة انها خرجت معهم من أرض الكلدانيين إلى حرّان، فتزوجها، وقيل انها بنت هاران بن ناحور وهاران عم إبراهيم، قاله السهيليّ، فأقاموا بحرّان ومات بها أبوه تارح وعمره مائتا سنة وخمس سنين، ثم أمر بالخروج إلى أرض الكنعانيين، ووعده الله بأن تكون أثرا لبنيه، وأنهم يكثرون مثل حصى الأرض. فنزل بمكان بيت المقدس وهو ابن خمس وسبعين سنة، ثم أصاب بلد الكنعانيين مجاعة، فخرج إبراهيم في أهل بيته وقدم مصر، ووصف لفرعون ملك القبط جمال امرأته سارة فأحضرها عنده، ولما همّ بها يبست يده على صدره، فطلب منها الإقالة فدعت له الله فانطلقت يده. ويقال عاود ذلك ثلاثا يصاب في كلها وتدعو له فردّها إلى إبراهيم، واستخدمها هاجر. [1] قال الطبريّ والملك الّذي أراد سارة هو سنان بن علوان وهو أخو الضحاك، والظاهر أنه من ملوك القبط.

ثم ساروا إلى أرض كنعان بالشام، ويقال أنّ هاجر أهداها ملك الأردن لسارة، وكان اسمه فيما قال الضبيّ صلاوق، وأنه انتزع سارة من إبراهيم، ولما همّ بها صرع مكانه وسألها في الدعاء، فدعت له فأفاق فردّها إلى إبراهيم، وأخدمها هاجر أمة كانت لبعض ملوك القبط. ولما عاد إبراهيم إلى أرض كنعان، نزل جيرون وهو مدفنه المسمى بالخليل، وكانت معظمة تعظمها الصابئة، وتسكب عليها الزيت للقربان، وتزعم أنها هيكل المشتري والزهرة، فسمّاها العبرانيون إيليا ومعناه بيت الله.

ثم أنّ لوطا فارق إبراهيم عليه السلام لكثرة مواشيهما وتابعهما وضيق المرعى، فنزل المؤتفكة بناحية فلسطين وهي بلاد العدور المعروف بعدور صقر، وكانت هناك على ما

[1] ويروي الطبري هذه الحادثة في ج 1 ص 135: (وكانت سارة من أحسن الناس فيما يقال فكانت لا تعصي إبراهيم شيئا وبذلك أكرمها الله عز وجل فلما وصف لفرعون ووصف له حسنها وجمالها أرسل الى إبراهيم فقال: ما هذه المرأة التي معك؟ قال: هي أختي وتخوف إبراهيم ان قال هي امرأتي أن يقتله عنها. فقال لإبراهيم: زينها ثم أرسلها اليّ حتى انظر اليها، فرجع إبراهيم الى سارة وأمرها فتهيأت ثم أرسلها اليه، فأقبلت حتى دخلت عليه، فلما قعدت اليه تناولها بيده فيبست الى صدره. فلما رأى ذلك فرعون أعظم أمرها وقال: ادعي الله ان يطلق عني فو الله لا أريك مكروها ولأحسنن إليك. فقالت:

اللَّهمّ إن كان صادقا فأطلق يده، فردها الى إبراهيم ووهب لها هاجر جارية كانت له قبطية) . وفي كتاب البدء والتاريخ ج 3- ص 52 ما شابه ذلك.

ص: 39

نقله المحقّقون خمس قرى سدوم. ووجدهم على ارتكاب الفواحش، فدعاهم الى الدين، ونهاهم عن المخالفة، فكذّبوه وعتوا، وأقام فيهم داعيا إلى الله إلى أن هلكوا كما قصّة القرآن. وخرج لوط مع عساكر كنعان وفلسطين للقاء ملوك الشرق حين زحفوا إلى أرض الشام، وكانوا أربعة ملوك ملك الأهواز من بني غليم بن سام واسمه كرزلّا عامر، وملك بابل واسمه في التوراة شنعا واسمه أمّراقيل ويقال هو نمروذ، وملك الأستار وما أدري معنى هذه اللفظة واسمه أريوح، وملك كوتم ومعناه ملك أمم أو جماعة واسمه تزعال. وكان ملوك كنعان الذين خرجوا إليهم خمسة على عدد القرى الخمسة، وذلك أن ملك الأهواز كان استعبدهم اثنتي عشرة سنة، ثم عصوا فزحف إليهم واستجاش بالملوك المذكورين معه، فأصابوا من أهل جبال يسعين إلى فاران التي في البرية وكان بها يومئذ الجويون من شعوب كنعان أيضا. وخرج ملك سدوم وأصحابه لمدافعتهم فانهزم هو والملوك الذين معه من أهل سدوم، وسباهم ملك الأهواز ومن معه من الملوك، وأسروا لوطا وسبوا أهله وغنموا ماشيته. وبلغ الخبر إبراهيم عليه السلام فاتّبعهم في ولده ومواليه نحوا من ثلاثمائة وثمانية عشر، ولحقهم بظاهر دمشق فدهمهم، فانفضوا وخلص لوطا في تلك الواقعة، وجاء بأهله ومواشيه وتلقاهم ملك سدوم واستعظم فعلتهم.

ثم أوحى الله إلى إبراهيم أنّ هذه الأرض أرض الكنعانيّين التي أنت بها، ملّكتها لك ولذرّيتك وأكثرهم مثل حصى الأرض، وأن ذريتك يسكنون في أرض ليست لهم أربعمائة سنة ويرجع الحقب الرابع الى هنا.

ثم إن سارة وهبت مملوكتها هاجر القبطية لإبراهيم عليه السلام لعشر سنين من مجيئهم من مصر، وقالت لعل الله يرزقك منها ولدا. وكان إبراهيم قد سأل الله أن يهب له ولدا فوعده به. وكانت سارة قد كبرت وعقمت عن الولد، فولدت هاجر لإبراهيم إسماعيل عليهما السلام لست وثمانين من عمره، وأوحى الله إليه أني قد باركت عليه وكثرته ويولد له اثنا عشر ولدا، ويكون رئيسا لشعب عظيم. وأدركت سارة الغيرة من هاجر وطلبت منه إخراجها، وأمره الله أن يطيع سارة في أمرها، فهاجر بها إلى مكة ووضعها وابنها بمكان زمزم عند دوحة هنالك وانطلق. فقالت له هاجر: آللَّه أمرك؟ قال: نعم. فقالت: إذا لا يضيعنا. وانطلق إبراهيم وعطش إسماعيل بعد ذلك عطشا شديدا، وأقامت هاجر تتردّد بين الصفا والمروة، إلى أن صعدت عليها

ص: 40

سبع مرات لعلها تجد شيئا، ثم أتته وهو يفحص برجليه فنبعت زمزم.

وعن السدّي، أنه تركه في مكان الحجر، واتخذ فيه عريشا، وأن جبريل هو الّذي همز له الماء بعقبه، وأخبر هاجر أنها عين يشرب بها ضيفان الله، وأنّ أبا هذا الغلام سيجيء ويبنيان بيتا للَّه هذا مكانه. ثم مرّت رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم أقبلوا من كداء، ونزلوا أسفل مكة، فرأوا الطير حائمة، فقالوا: لا نعلم بهذا الوادي ماء، ثم أشرفوا فرأوا المرأة ونزلوا معها هنالك.

وعن ابن عبّاس: كانت أحياؤها قريبا من ذلك المكان، فلما رأوا الطير تحوم عليه، أقبلوا اليه فوجدوهما، فنزلوا معهما حتى كان بها أهل أبيات منهم، وشبّ إسماعيل بينهم، وتعلم اللغة العربية منهم، وأعجبهم وزوّجوه امرأة منهم، وماتت أمه هاجر فدفنها في الحجر. ولما رجع إبراهيم وأقام في أهله بالشام، وبالغ أهل المؤتفكة في العصيان والفاحشة، ودعاهم لوط فكذّبوه وأقام على ذلك. قال الطبريّ: فأرسل الله رسولا من الملائكة لا هلاكهم، ومرّوا بإبراهيم فأضافهم وخدمهم، وكان من ضحك سارة وبشارة الملائكة لها بإسحاق وابنه يعقوب ما قصّه القرآن، وكانت البشارة بإسحاق وإبراهيم ابن مائة سنة وسارة بنت تسعين. وفي التوراة إنه أمر أن يحرّر ولده إسماعيل لثلاث عشرة سنة من عمره، وكل من في بيته من الأحرار فكان ذلك لتسع وتسعين من عمر إبراهيم، وقال له ذلك عهد بيني وبينك وذريتك. ثم أهلك الله المؤتفكة ونجى لوطا إلى أرض الشام، فكان بها مع عمه إبراهيم صلوات الله عليهما. وولدت سارة إسحاق، وأمر الله إبراهيم بعد ولادة إسماعيل وإسحاق ببناء بيت يعبد فيه ويذكر، ولم يعرف مكانه فجعل له علامة تسير معه حتى وقفت به على الموضع، يقال انها ريح لينة لها رأسان تسير معه حتى تكون بالموضع، ويقال بل بعث معه جبرئيل لذلك حتى أراه الموضع. وكان إبراهيم يعتاد إسماعيل لزيارته، ويقال انه كان يستأذن سارة في ذلك، وأنها شرطت عليه أن لا يقيم عندهم، وأنّ إبراهيم وجد امرأة لإسماعيل في غيبة منه وكانت من العماليق، وهي عمارة بنت سعيد بن أسامة بن أكيل، فرآها فظة غليظة فأوصاها لإسماعيل بان يحوّل عتبة بابه، فلما قصت عليه الخبر والوصيّة قال ذلك أبي يأمرني أن أطلقك فطلقها. وتزوّج بعدها السيدة بنت مضّاق بن عمرو الجرهميّ، وخالفه إبراهيم إلى بيته فتسهلت له بالإذن وأحسنت التحية وقرّبت الوضوء والطعام، فأوصاها لإسماعيل بأني قد رضيت

ص: 41

عتبة بابك، ولما قصّت عليه الوصية قال ذلك أبي يأمرني بإمساكك فأمسكها. ثم جاء إبراهيم مرة ثالثة وقد أمره الله ببناء البيت وأمر إسماعيل بإعانته، فرفعوها من القواعد وتمّ بناؤها، وأذن في الناس بالحج.

ثم زوّج لوط ابنته من مدين بن إبراهيم عليهما السلام، وجعل الله في نسلها البركة، فكان منه أهل مدين الأمّة المعروفة.

ثم ابتلى الله إبراهيم بذبح ابنه في رؤيا رآها وهي وحي، وكانت الفدية ونجّى الله ذلك الولد كما قصّ في القرآن. واختلف في ذلك الذبيح من ولديه فقيل إسماعيل وقيل إسحاق، وذهب إلى كلا القولين جماعة من الصحابة والتابعين، فالقول بإسماعيل لابن عبّاس وابن عمر والشعبي ومجاهد والحسن ومحمد بن كعب القرظي وقد يحتجون له بقوله صلى الله عليه وسلم:«أنا ابن الذبيحين» ، ولا تقوى الحجة به لأنّ عمّ الرجل قد يجعل أباه يضرب من التجوز لا سيما في مثل هذا الفخر. ويحتجّون أيضا بقوله تعالى:«فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمن وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ 11: 71» ، ولو كان ذبيحا في زمن الصبا، لم تصح البشارة بابن يكون له لأنّ الذبح في الصبا ينافي وجود الولد، ولا تقوم من ذلك حجة، لأنّ البشارة انما وقعت على وفق العلم بأنه لا يذبح وإنّما كان ابتلاء لإبراهيم، والقول بإسحاق للعبّاس وعمرو وعليّ وابن مسعود وكعب الأحبار وزيد بن أسلم ومسروق وعكرمة وسعيد بن جبير وعطا والزهري ومكحول والسدّي وقتادة.

وقال الطبريّ: والراجح أنه إسحاق لأن نصّ القرآن يقتضي أن الذبيح هو المبشّر به، ولم يبشّر إبراهيم بولد إلا من زوجته سارة، مع أنّ البشارة وقعت إجابة لدعائه عند مهاجره من أرض بابل. وقوله إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ 37: 99، ثم قال عقبة: رَبِّ هَبْ لِي من الصَّالِحِينَ 37: 100، ثم قال عقبة فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ 37:101. وذلك كله كان قبل هاجر، لأن هاجر إنما ملكتها سارة بمضر، وملّكتها لإبراهيم بعد ذلك بعشر سنين، فالمبشّر به قبل ذلك كله إنّما هو ابن سارة، فهو الذبيح بهذه الدلالة القاطعة. وبشارة الملائكة لسارة بعد ذلك حين كانوا ضيوفا عند إبراهيم في مسيرهم لإهلاك سدوم، إنّما كان تجديدا لبشارة المتقدّمة انتهى.

ص: 42

ثم توفيت سارة لمائة وسبع وعشرين من عمرها، وذلك في قرية جيرون [1] من بلاد بني حبيب الكنعانيين، فطلب إبراهيم منهم مقبرة لها، فوهبه عفرون بن صخر مغارة كانت في مزرعته، فامتنع من قبولها إلا بالثمن، فأجاب إلى ذلك، وأعطاه إبراهيم أربعمائة مثقال فضة ودفن فيها سارة. وتزوّج إبراهيم من بعدها قطورا بنت يقطان من الكنعانيين. وقال السهيليّ قنطورا بزيادة نون بين القاف والطاء، وهذا الاسم أعجمي وطاؤه قريبة من التاء، فولدت له كما هو مذكور في التوراة ستة من الولد وهم: زمران يقشان مدان مدين أشبق شوخ. ثم وقع في التوراة ذكر أولادهم فولد يقشان سبا ودذّان، وولد دذّان أشوثم ولطوسيح ولاميم. وولد مدين عيفا وعيفين وحنوخ وأفيداع وألزاعا هذا آخر ولده من قنطورا في التوراة. وقال السهيليّ: كان لإبراهيم عليه السلام أولاد آخرون خمسة من امرأة اسمها حجين أو حجّون بنت أهيب، وهم كبسان وفرّوخ وأميم ولوطان ونافس. ولما ذكر الطبري بني قنطورا الستة وسمّى منهم يقشان، قال بعده: وسائرهم من الأخرى وهي رعوة. ثم قال: ومن يقشان جيل البربر أهـ. فولد إبراهيم على هذا ثلاثة عشر: فإسماعيل من هاجر، وإسحاق من سارة، وستة من قنطورا كما ذكر في التوراة، والخمسة بنو حجين عند السهيليّ، أو رعوة عند الطبريّ.

وكان إبراهيم عليه السلام قد عهد لابنه إسحاق أن لا يتزوّج في الكنعانيين، وأكّد العهد والوصيّة بذلك لمولاه القائم على أموره، ثم بعثه إلى حرّان مهاجرهم الأول، فخطب من ابن أخيه بتويل بن ناحور بن آزر بنته رفقا فزوّجها أبوها واحتملها ومن معها من الجواري وجاء بها إلى إسحاق في حياة أبيه وعمره يومئذ أربعون سنة فتزوّجها، وولدت له يعقوب وعيصو توأمين وسنذكر خبرهما. ثم قبض الله نبيّه إبراهيم صلوات الله عليه بمكان هجرته من أرض كنعان وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة، ودفن مع سارة في مغارة عفرون الحبيبى، وعرف بالخليل لهذا العهد، ثم جعل الله في ذريته النبوّة والكتاب آخر الدهر.

[1] جيرون: بالفتح، قال ابن الفقيه: ومن بنائهم جيرون عند باب دمشق من بناء سليمان بن داود عليه السلام. ويقال إنّ الشياطين بنته، وهي سقيفة مستطيلة على عمد وسقائف وحولها مدينة تطيف بها، قال: واسم الشيطان الّذي بناه جيرون فسمّي به

(معجم البلدان) وربما المقصود جبرون كما في التوراة.

ص: 43

فإسماعيل سكن مع جرهم بمكة وتزوّج فيهم وتعلم لغتهم وتكلم بها وصار أبا لمن بعده من أجيال العرب، وبعثه الله إلى جرهم والعمالقة الذين كانوا بمكة، وإلى أهل اليمن فآمن بعض وكفر بعض. ثم قبضه الله إليه وخلّف ولده بين جرهم، وكانوا على ما ذكر في التوراة اثنتي عشر أكبرهم بنايوت وهو الّذي تقوله العرب نابت ونبت، ثم قيذار وأدبيل وبسام ومشمع وذوما ومسار وحرّاه وقيما وبطور ونافس وقدما. قال ابن إسحاق: وعاش فيما ذكر مائة وثلاثين سنة، ودفن في الحجر مع أمه هاجر، ويقال آجر. وفي التوراة أنّه قبض ابن مائة وسبع وثلاثين سنة، وأنّ شيعته سكنوا من حويلا إلى شور قبالة مصر من مدخل أثور، وسكنوا على حذر شيع اخوته. وحويلا عند أهل التوراة هي جنوب برقة والواو منها قريبة من الياء، وشور هي أرض الحجاز، وأثور بلاد الموصل والجزيرة. ثم ولي أمر البيت من بعد إسماعيل ابنه نابت، وأقام ولده بمكة مع أخوالهم جرهم حتى تشعبوا وكثر نسلهم وتعدّدت بطونهم من عدنان في عداد معدّ، ثم بطون معدّ في ربيعة ومضر وإياد وأنمار بني نزار بن معد، فضاقت بهم مكة، على ما نذكره عند ذكر قريش وأخبار ملكهم بمكة، فكانت بطون عدنان هذه كلها من ولد إسماعيل لابنه نابت، وقيل لقيذار، ولم يذكر النسّابون نسلا من ولده الآخرين، وتشعبت من إسماعيل أيضا عند جماعة من أهل العلم بالنسب بطون قحطان كلها فيكون على هذا أبا لجميع العرب بعده.

وأمّا إسحاق فأقام بمكانه من فلسطين، وعمّر وعمي بعد الكثير من عمره وبارك على ولده يعقوب فغضب بذلك أخوه عيصو، وهمّ بقتله فأشارت عليه رفقا بنت بتويل بالسير الى حرّان عند خاله لا بان بن بتويل، فأقام عنده وزوّجه بنتيه، فزوجه أولا الكبرى واسمها ليّا وأخدمها جاريتها زلفة، ثم من بعدها أختها الصغير واسمها راحيل وأخدمها جاريتها بلها. وأوّل من ولد منهنّ ليّا ولدت له روبيل، ثم شمعون، ثم لاوي، ثم يهوذا. وكانت راحيل لا تحبل فوهبت جاريتها بلها ليعقوب لتلد منه، فولدت له دان ثم نفتالي. ولما فعلت ذلك راحيل وهبت أختها ليا ليعقوب عليه السلام جاريتها زلفة فولدت له كادو وآشر، ثم ولدت ليّا من بعد ذلك يساخر، ثم زبولون، فكمل له بذلك عشرة من الولد. ثم دعت راحيل الله عز وجل أن يهب لها ولدا من يعقوب فولدت يوسف، وقد كملت له بحرّان عشرون سنة، ثم أمر بالرحيل إلى أرض كنعان التي وعدوا بملكها. فارتحل وخرج لابان في اتباعه وعزم له في المقام

ص: 44

عنده، فأبى فودّعه وانصرف إلى حران وسار يعقوب لوجهه حتى إذا قرب من بلد عيصو، وهو جبل يسعين بأرض الكرك والشوبك لهذا العهد، اعترضه عيصوا لتلقّيه وكرامته، فأهدى إليه يعقوب من ماشيته هديّة احتلف فيها وتودّد إليه بالخضوع والتضرّع، فذهب ما كان عند عيصو وأوحى الله إليه بأن يكون اسمه إسرائيل، ومرّ على أورشاليم وهي بيت المقدس فاشترى لك مزرعة ضرب فيها فسطاطه وأمر ببناء مرجح سماه إيل في مكان الصخرة. ثم حملت راحيل هنالك فولدت له بنيامين، وماتت من نفاسة ودفنها في بيت لحم. ثم جاء إلى أبيه إسحاق بقرية جيرون من أرض كنعان فأقام عنده.

ومات إسحاق عليه السلام لمائة وثمانين سنة من عمره ودفن مع أبيه في المغارة، وأقام يعقوب بمكانه وولده عنده، وشب يوسف عليه السلام على غير حالهم من كرامة الله به، وقصّ عليهم رؤياه التي بشّر الله فيها بأمره فغصوا به وخرجوا معه الى الصيد، فألقوه في الجبّ واستخرجه السيّارة الذين مرّوا به بعد ذلك وباعوه للعرب بعشرين مثقالا، ويقال إنّ الّذي تولّى بيعه هو مالك بن دعر بن واين بن عيفا بن مدين.

واشتراه من العرب عزيز مصر وهو وزيرها أو صاحب شرطتها. قال ابن إسحاق واسمه أطفير بن رجيب وقيل قوطفير. وكان ملكها يومئذ من العماليق، والريّان بن الوليد بن دومغ، وربي يوسف عليه السلام في بيت العزيز فكان من شأنه مع امرأته زليخا، ومكثه في السجن، وتعبيره الرؤيا للمحبوسين من أصحاب الملك ما هو مذكور في الكتاب الكريم. ثم استعمله ملك مصر عند ما خشي السّنة [1] والغلاء على خزائن الزرع في سائر مملكته يقدر جمعها وتصريف الأرزاق منها وأطلق يده بذلك في جميع أعماله، وألبسه خاتمه وحمله على مركبه، ويوسف لذلك العهد ابن ثلاثين سنة.

فقيل عزل أطفير العزيز وولاه، وقيل بل مات أطفير فتزوّج زليخا وتولّى عمله وكان ذلك سببا لانتظام شمله بأبيه واخوته لما أصابتهم السنة بأرض كنعان وجاء بعضهم للميرة، وكال لهم يوسف عليه السلام، وردّ عليهم بضاعتهم وطالبهم بحضور أخيهم فكان ذلك كله سببا لاجتماعه بأبيه يعقوب بعد أن كبر وعمي.

قال ابن إسحاق: كان ذلك لعشرين سنة من مغيبه، ولما وصل يعقوب إلى بلبيس قريبا من مصر، خرج يوسف ليلقاه، ويقال خرج فرعون معه، وأطلق لهم أرض

[1] سنت الأرض: صارت سنينا أي اكل نباتها (قاموس) .

ص: 45

بلبيس يسكنون بها وينتفعون. وكان وصول يعقوب صلوات الله عليه في سبعين راكبا من بينه، ومعه أيوب [1] النبيّ من بني عيصو، وهو أيوب من برحما بن زبرج بن رعويل بن عيصو، واستقرّوا جميعا بمصر ثم قبض يعقوب صلوات الله عليه لسبع عشرة سنة من مقدمه ولمائة وأربعين من عمره، وحمله يوسف صلوات الله عليه إلى أرض فلسطين، وخرج معه أكابر مصر وشيوخها بإذن من فرعون. واعترضهم بعض الكنعانيّين في طريقهم، فأوقعوا بهم، وانتهوا إلى مدفن إبراهيم وإسحاق عليهما السلام فدفنوه في المغارة عندهما، وانتقلوا الى مصر، وأقام يوسف صلوات الله عليه بعد موت أبيه ومعه إخوته إلى أن أدركته الوفاة فقبض لمائة وعشرين سنة من عمره، وأدرج في تابوت وختم عليه، ودفن في بعض مجاري النيل. وكان يوسف أوصى أن يجمل عند خروج بني إسرائيل إلى أرض اليفاع، فيدفن هنالك ولم تزل وصيته محفوظة عندهم إلى أن حمله موسى صلوات الله عليه عند خروجه ببني إسرائيل من مصر.

ولما قبض يوسف صلوات الله عليه، وبقي من بقي من الأسباط اخوته وبنيه تحت سلطان الفراعنة بمصر، تشعّب نسلهم، وتعدّدوا إلى أن كاثروا أهل الدولة وارتابوا بهم فاستعبدوهم. قال المسعودي: دخل يعقوب إلى مصر مع ولده الأسباط وأولادهم حين أتوا إلى يوسف في سبعين راكبا، وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى صلوات الله عليه نحوا من مائتين وعشر سنين، فتداولهم ملوك القبط والعمالقة بمصر، ثم أحصاهم موسى في التيه، وعدّ من يطيق حمل السلاح من ابن عشرين فما فوقها، فكانوا ستمائة ألف ويزيدون. وقد ذكرنا ما في هذا العدد من الوهم والغلوّ في مقدّمة الكتاب، فلا نطوّل به. ووقوعه في نصّ التوراة لا يقضي بتحقيق هذا العدد لأنّ المقام للمبالغة، فلا تكون اعداده نصوصا. وكان ليوسف صلوات الله عليه من الولد كثير، إلّا أنّ المعروف منهم اثنان أفراثيم ومنشى [2] وهما معدودان في الأسباط، لأنّ يعقوب صلوات الله عليه أدركهما وبارك عليهما وجعلهما من جملة ولده، وقد يزعم بعض من لا تحقيق عنده أنّ يوسف صلوات الله عليه استقلّ آخر بملك مصر. وينسب لبعض ضعفة المفسّرين ومعتمدهم في ذلك قول

[1] هو أيوب بن موص بن رازح بن عيص، كذا في كتب التفسير، قاله نصر.

[2]

ورد ذكره في التوراة: منس.

ص: 46

يوسف عليه السلام في دعائه: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي من الْمُلْكِ 12: 101. ولا دليل لهم في ذلك لأنّ كل من ملك شيئا ولو في خاصة نفسه فاستيلاؤه يسمى ملكا حتى البيت والفرس والخادم، فكيف من ملك التصرّف ولو كان في شعب واحد منها فهو ملك وقد كان العرب يسمّون أهل القرى والمدائن ملوكا، مثل هجر ومعان ودومة الجندل، فما ظنك بوزير مصر لذلك العهد وفي تلك الدولة، وقد كان في الخلافة العباسيّة تسمّى ولاة الأطراف وعمالها ملوكا، فلا استدلال لهم في هذه الصيغة. وأخرى أيضا فيما يستدلون به من قوله تعالى: «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الْأَرْضِ 12: 56» أن لا يكون لهم فيه مستند لأنّ التمكين يكون بغير الملك. ونص القرآن إنّما هو بولايته على أمور الزرع في جمعه وتفريقه كما قال تعالى: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ 12: 55» . ومساق القصة كلها أنه مرءوس في تلك الدولة بقرائن الحال كلها لا ما يتوهم من تلك اللفظة الواقعة في دعائه، فلا نعدل عن النص المحفوف بالقرائن إلى هذا المتوهم الضعيف.

وأيضا فالقصّة في التوراة قد وقعت صريحة في أنه لم يكن ملكا ولا صار اليه ملك.

وأيضا فالأمر الطبيعي من الشوكة والقطامة له يدفع أن يكون حصل له ملك، لأنه إنما كان في تلك الدولة قبل أن يأتي إليه إخوته منفردا لا يملك إلا نفسه ولا يتأتى الملك في هذا الحال وقد تقدّم ذلك في مقدمة الكتاب والله أعلم.

وأما عيصو بن إسحاق فسكن جبال بني يسعين من بني جوي، إحدى شعوب كنعان، وهي جبال الشراة بين تبوك وفلسطين وتعرف اليوم ببلاد كرك والشوبك، وكان من شعوبهم هناك على ما في التوراة بنو لوطان وبنو شوبال وبنو صمقون وبنو عنا وبنو ديشوق وبنو يصد وبنو ديسان سبعة شعوب. ومن بني ديشون الأشبان، فسكن عيصو بينهم بتلك البلاد، وتزوّج منهم من بنات عنا بن يسعين من جوى، وهي أهليقاما، وتزوّج أيضا من بنات حي من الكنعانيين عاذا بنت أيلول، وباسمت بنت إسماعيل عليه السلام. وكان له من الولد خمسة مذكورون في التوراة وأكبرهم أليفاز، بالفاء المفخمة وإشباع حركتها وزاي معجمة من بعدها، من عاذا بنت أيلول، ثم رعويل من باسمت بنت إسماعيل، ثم يعوض ويعلام وقورح من أهليقاما بنت عنا.

وولد أليفاز ستة من الولد ثيمال وأومار وصفو وكعتام وقتال وعمالق السادس، لسرّية اسمها تمتاع وهي شقيقة لوطان بن يسعين. وولد رعويل بن عيصو أربعة من الولد، ناحة وزيدم وشتما ومرّا. هكذا وقع ذكر ولد العيص وولدهم في التوراة، وفيها أنّ

ص: 47

العيص اسمه أروم [1] ، فلذلك قيل لهم بنو أروم، ولبعض الإسرائيليين أنّ أروم اسم لذلك الجبل ومعناه بالعبرانية الجبل الأحمر الّذي لا نبات به. وقد يقع لبعض المؤرّخين أن القياصرة ملوك الروم من ولد عيصو، وقال الطبريّ: أنّ الروم وفارس من ولد رعويل ابن باسمت. وليس ذلك كله بصحيح ورأيته في كتاب يوسف بن كرمون مؤرخ العمارة الثانية ببيت المقدس قبيل الجلوة الكبرى، وكان من كهنونية اليهود وهو قريب من الغلط.

قال ابن حزم في كتاب الجمهرة: وكأن لإسحاق عليه السلام ابن آخر غير يعقوب اسمه عيصاب أو عيصو، كان بنوه يسكنون جبال الشراة بين الشام والحجاز، وقد بادوا جملة، إلا أنّ قوما يذكرون أنّ الروم من ولده وهذا خطأ. وإنما وقع لهم هذا الغلط لأن موضعهم كان يقال له أروم فظنوا أنّ الروم من ذلك الموضع، وليس كذلك لأنّ الروم إنما نسبوا الى رومس باني رومة، فإن ظنّ ظان أنّ قول النبيّ صلى الله عليه وسلم للحرّ بن قيس هل لك في بلاد بني الأصفر العام، وذلك في غزوة تبوك، يدل على أنّ الروم من بني الأصفر وهو عيصاب المذكور فليس كما ظنّ. وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم حق، وإنما عنى عليه السلام بني عيصاب على الحقيقة لا الروم، لأن مغزاه عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة كان إلى ناحية الشراة مسكن القوم المذكورين أهـ كلام ابن حزم.

وزعم أهروشيوش مؤرّخ الروم أنّ أم الفينان وهاءوا وعالوم وقدوح الأربعة من بنات كاتيم بن ياوان ابن يافث، والأوّل أصح لأنه نص التوراة. ثم كثر نسل بني عيصو بأرض يسعين وغلبوا الجويّين على تلك البلاد وغلبوا بني مدين أيضا على بلادهم إلى أيلة. وتداول فيهم ملوك وعظماء كان منهم فالغ بن ساعور، وبعده يودب بن زيدح، ثم كان منهم هداد بن مدّاد الّذي أخرج بني مدين عن مواطنهم، ثم كان فيهم بعده ملوك إلى أن زحف يوشع الى الشام وفتح أريحاء وما بعدها وانتزع الملك من جميع الأمم الذين كانوا هنالك، ثم استلحمهم بخت نصّر عند ما ملك أرض القدس، ولحق بعضهم بأرض يونان، وبعضهم بإفريقية. وأما عمالق بن أليفاز فمن عقبه عند الإسرائيليين عمالقة الشام، وفي قول فراعنة مصر من القبط ونسّاب العرب، يأبون

[1] وفي نسخة اخرى: أدوم.

ص: 48

من ذلك ونسبوهم إلى عملاق بن لاوذ كما مرّ. ثم بنو يروم وكنعان ولم يبق منهم عين تطرف والله الباقي بعد فناء خلقه.

وأمّا مدين بن إبراهيم فتزوّج بابنة لوط وجعل الله في نسلها البركة، وكان له من الولد خمسة عيّفا وعيفين وخنوخ وأنيداغ وألزاعا. وقد تقدّم ذكرهم في ولد إبراهيم من قنطورا، فكان منهم مدين أمّة كبيرة ذات بطون وشعوب، وكانوا من أكبر قبائل الشام وأكثرهم عددا، وكانت مواطنهم تجاور أرض معان من أطراف الشام مما يلي الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط، وكان لهم تغلب بتلك الأرض، فعتوا وبغوا وعبدوا الآلهة، وكانوا يقطعون السبل ويبخسون في المكيال. وبعث الله فيهم شعيبا نبيا منهم، وهو ابن نويل بن رعويل بن عيا بن مدين. قال المسعوديّ: مدين هؤلاء من ولد المحضر بن جندل بن يعصب بن مدين، وأنّ شعيبا أخوهم في النسب، وكانوا ملوكا عدة يسمون بكلمات أبجد إلى آخرها وفيه نظر. وقال ابن حبيب في كتاب البدء: هو شعيب بن نويب بن أحزم بن مدين. وقال السهيليّ: شعيب بن عيفا، ويقال ابن صيفون، وشعيب هذا هو شعيب موسى الّذي هاجر إليه من مصر أيام القبط واستأجره على إنكاح ابنته إياه على أنّ يخدمه ثماني سنين، وأخذ عنه آداب الكتاب والنبوّة حسبما يأتي عند ذكر موسى صلوات الله عليهما وأخبار بني إسرائيل.

وقال الصيمري الّذي استأجر موسى وزوّجه: هو بثر بن رعويل، ووقع في التوراة أنّ اسمه يبثر وأنّ رعويل أباه أو عمّه هو الّذي تولى عقد النكاح. وكان لمدين هؤلاء مع بني إسرائيل حروب بالشام، ثم تغلب عليهم بنو إسرائيل وانقرضوا جميعا.

وأما لوط بن هاران أخي إبراهيم عليهما السلام فقد تقدّم من خبره مع قومه ما ذكرناه هنالك، ولما نجا بعد هلاكهم لحق بأرض فلسطين، فكان بها مع إبراهيم إلى أن قبضة الله، وكان له من الولد على ما ذكر في التوراة عمّون بتشديد الميم واشباع حركتها بالضمّ ونون بعدها، وموآيي بإشباع ضمة الميم واشباع فتحة الهمزة بعدها وياء تحتية وبعدها ياء ساكنة هوائية، وجعل الله في نسلهما البركة، حتى كانوا من أكثر قبائل الشام، وكانت مساكنهم بأرض البقاء ومدائنها في بلد موآيي ومعان وما والاهما، وكانت لهم مع بني إسرائيل حروب نذكرها في أخبارهم، وكان منهم بلعام بن باعورا بن رسيوم بن برسيم بن موآيي، وقصته مع ملك كنعان حين طلبه في الدعاء على بني إسرائيل أيام موسى صلوات الله عليه وأنّ دعاءه صرف إلى

ص: 49

الكنعانيّين، مذكورة في التوراة ونوردها في موضعها.

وأمّا ناحور أخو إبراهيم عليه السلام فقد تقدّم ذكره أنه هاجر مع إبراهيم عليه السلام من بابل الى حرّان، ثم إلى الأرض المقدّسة، فكان معه هنالك، وكانت زوجته ملكا بنت أخيه هاران، وملكا هذه هي أخت سارة زوج إبراهيم عليه السلام وأم إسحاق، وكان لناحور من ملكا على ما وقع في نص التوراة ثمانية من الولد عوص وبوص وقمويل وهو أبو الأرمن، وكاس ومنه الكلدانيّون الذين كان منه بخت نصّر وملوك بابل، وحذو وبلداس وبلداف ويثويل. وكان له من سرّيّة اسمها أدوما أربعة من الولد وهم طالج وكاحم وتاخش وماعخا. هؤلاء ولد ناحور أخي إبراهيم كلهم مذكورون في التوراة وهم اثنا عشر ولدا، وهؤلاء كلهم بادوا وانقرضوا، ولم يبق منهم إلّا الأرمن من قمويل بن ناحورا أخي إبراهيم عليه السلام ابن آزر وهم لهذا العهد على دين النصرانية ومواطنهم في أرمينية شرقي القسطنطنيّة، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وهذا آخر الكلام في الطبقة الأولى من العرب ومن عاصرهم من الأمم، ولنرجع إلى أهل الطبقة الثانية وهم العرب المستعربة، والله سبحانه وتعالى الكفيل بالإعانة.

ص: 50