الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخبر عن شأن عيسى بن مريم صلوات الله عليه في ولادته وبعثته ورفعه من الأرض والإلمام بشأن الحواريين بعده وكتبهم الأناجيل الأربعة وديانة النصارى بملته واجتماع الاقسة على تدوين شريعته
كان بنو ماثان من ولد داود صلوات الله عليه كهنونية بيت المقدس، وهو ماثان بن ألعازر بن اليهود بن أخس بن رادوق بن عازور بن ألياقيم بن أيود بن زروقابل بن سالات بن يوخنانيا بن يوشيا السادس عشر من ملوك بني إسرائيل بن أمون بن عمون ابن منشا بن حزقيا بن أحاز بن يواش بن أحزيا بن يورام بن يهوشافاظ بن أسا بن رحبعم بن سليمان ابن داود صلوات الله عليهما. ويوخنانيا بن يوشيا السادس عشر من ملوك بني سليمان ولد في جلاء بابل وهذا النسب نقلته من إنجيل متى [1] . وكانت الكهنونية العظمى من بعد بني حشمناي لهم، وكان كبيرهم قبل عصر هيردوس عمران أبو مريم، ونسبه ابن إسحاق إلى أمون بن منشا الخامس عشر من ملوك بيت المقدس من لدن سليمان أبيهم، وقال فيه عمران بن ياشم بن أمون. وهذا بعيد لأن الزمان بين عمون وعمران أبعد من أن يكون بينهما أب واحد، فإنّ أمون كان قبيل الخراب الأوّل وعمران كان في دولة هيردوس قبيل الخراب الثاني، وبينهما قريب من أربعمائة سنة. ونقل ابن عساكر، والظنّ أنّه ينقل عن مستند، أنه من ولد زريافيل الّذي ولي على بني إسرائيل عند رجوعهم إلى بيت المقدس، وهو ابن يخنيا آخر ملوكهم الّذي حبسه بخت نصّر وولّى عمه صدقيا هو بعده كما مرّ. وقال فيه:
عمران بن ماثان بن فلان بن فلان إلى زريافيل، وعدّ نحوا من ثمانية آباء بأسماء
[1] بعد مقارنة الأسماء في إنجيل متى ظهر تباين في بعض الأسماء وهذه هي الأسماء: إبراهيم ولد إسحاق وإسحاق ولد يعقوب ويعقوب ولد يهوذا واخوته ويهوذا ولد فارص وزارح من تامار وفارص ولد حصرون وحصرون ولد آرام وآرام ولد عميناب وعميناب ولد نحشون ونحشون ولد سلمون وسلمون ولد بوعز من ارحاب وبوعز ولد عوبير من راعوث وعوبير ولد يسى ويسى ولد داود الملك، وداود الملك ولد سليمان من التي كانت لأوباء، وسليمان ولد رحبعام ورحبعام ولد أبيّا وأبيّا ولد آسا وآسا ولد يوشافاط ويوشافاط ولد يورام ويورام ولد عزيا وعزيا ولد يوثام ويوثام ولد آحاز ولد حزقيا ولد منسي ومنسي ولد آمون وآمون ولد يوشيا ويوشيا ولد يكنيا واخوته في جلاء بابل.
عبرانية لا وثوق بضبطها، وهو أقرب من الأول وفيه ذكر ماثان الّذي هو شهرتهم، ولم يذكره ابن إسحاق.
وكان عمران أبو مريم كهنونا في عصره، وكانت تحته حنّة بنت فاقود بن فيل وكانت من العابدات، وكانت أختها إيشاع ويقال خالتها تحت زكريّا بن يوحنّا، ونسبه ابن عساكر الى يهوشافاظ خامس ملوك القدس من عهد سليمان أبيهم وعد ما بينه وبين يهوشافاظ اثني عشر أبا أوّلهم يوحنا بأسماء عبرانية، كما فعل في نسب عمران، ثم قال وهو أبو يحيى صلوات الله عليهما، ويقال بالمدّ والقصر من غير ألف، وكان نبيا من بني إسرائيل صلوات الله عليهم أهـ. ونقلت من كتاب يعقوب بن يوسف النجّار مثان يعني ماثان من سبط داود، وكان له ولدان يعقوب ويؤاقيم، ومات فتزوّج أمّهما بعده مطنان، ومطنان بن لاوي من سبط سليمان بن داود وسمي ماثان فولدت هالي من مطنان. ثم تزوّج ومات ولم يعقب فتزوّج امرأته أخوه لأمه يعقوب بن ماثان فولدت منه يوسف خطيب مريم ونسب إلى هالي، لأنّ من أحكام التوراة إن مات من غير عقب فامرأته لأخيه وأوّل ولد منها ينسب إلى الأوّل، فلهذا قيل فيه يوسف بن هالي بن مطنان، وإنّما هو يوسف بن يعقوب بن ماثان وهو ابن عمّ مريم لحا [1] .
وكان ليوسف من البنين خمسة بنين وبنت وهم يعقوب ويوشا وبيلوت وشمعون ويهوذا وأختهم مريم، كانوا يسكنون بيت لحم. فارتحل بأهله ونزل ناصرة وسكن بها وتعلم النجارة حتى صار يلقّب بالنجار. وتزوّج يؤاقيم حنّة أخت إيشاع العاقر امرأة زكريّا بن يوحنا المعمدان، وأقامت ثلاثين سنة لا يولد لها، فدعوا الله وولد لها مريم فهي بنت يؤاقيم موثان وهو مثان. وولدت إيشاع العاقر من زكريا ابنه يحيى. قلت في التنزيل مريم ابنة عمران فليعلم أن معنى عمران بالعبرانية يؤاقيم وكان له اسمان أهـ.
وعن الطبري وكانت حنة أم مريم لا تحبل، فنذرت للَّه إن حملت لتجعلن ولدها حبيسا ببيت المقدس على خدمته على عاداتهم في نذر مثله، فلما حملت ووضعتها لفتها في خرقتها وجاءت بها إلى المسجد فدفعتها إلى عباده وهي ابنة امامهم وكهنونهم، فتنازعوا في كفالتها، وأراد زكريّا أن يستبدّ بها لأنّ زوجه إيشاع خالتها، ونازعوه في ذلك لمكان أبيها من إمامهم، فاقترعوا فخرجت قرعة زكريّا عليها فكفلها ووضعها في
[1] لحّا: بفتح اللام وشد الحاء المهملة قاله نصر.
مكان شريف من المسجد لا يدخله سواها وهو المحراب فيما قيل. والظاهر أنّها دفعتها إليهم بعد مدّة إرضاعها.
فأقامت في المسجد تعبد الله وتقوم بسدانة البيت في نوبتها حتى كان يضرب بها المثل في عبادتها، وظهرت عليها الأحوال الشريفة والكرامات كما قصّه القرآن. وكانت خالتها إيشاع زوج زكريا أيضا عاقرا، وطلب زكريّا من الله ولدا، فبشره بيحيى نبيا كما طلب، لأنه قال يرثني ويرث من آل يعقوب وهم أنبياء فكان كذلك. وكان حاله في نشوه وصباه عجبا وولد في دولة هيردوس ملك بني إسرائيل، وكان يسكن القفار ويقتات الجراد ويلبس الصوف من وبر الإبل، وولّاه اليهود الكهنونية ببيت المقدس، ثم أكرمه الله بالنّبوّة كما قصه القرآن. وكان لعهده على اليهود بالقدس أنطيفس بن هيردوس وكان يسمى هيردوس [2] باسم أبيه، وكان شريرا فاسقا واغتصب امرأة أخيه وتزوّجها ولها ولدان منه، ولم يكن ذلك في شعرهم مباحا، فنكر ذلك عليه العلماء والكهنونية وفيهم يحيى بن زكريا، المعروف بيوحنان ويعرّفه النصارى بالمعمدان، فقتل جميع من نكر عليه ذلك وقتل فيهم يحيى صلوات الله عليه.
وقد ذكر في قتله أسباب كثيرة وهذا أقربها إلى الصحة.
وقد اختلف الناس هل كان أبوه حيّا عند قتله فقيل إنه لما قتل يحيى طلبه بنو إسرائيل ليقتلوه، ففرّ أمامهم ودخل في بطن شجرة كرامة له فدلهم عليه طرف ردائه خارجا منها، فشقوها بالمنشار وشق زكريا فيها نصفين. وقيل بل مات زكريا قبل هذا والمشقوق في الشجرة إنما هو شعيا النبي وقد مرّ ذكره. وكذلك اختلف في دفنه فقيل دفن ببيت المقدس وهو الصحيح. وقال ابو عبيد بسنده إلى سعيد بن المسيب أنّ بخت نصّر لما قدم دمشق وجد دم يحيى بن زكريّا يغلي، فقتل على دمه سبعين ألفا فسكن دمه. ويشكل أنّ يحيى كان مع المسيح في عصر واحد باتفاق وأنّ ذلك كان بعد بخت نصّر بأحقاب متطاولة وفي هذا ما فيه. وفي الإسرائيليات من تأليف يعقوب بن يوسف النجّار أنّ هيردوس قتل زكريا عند ما جاء المجوس للبحث عن إيشوع والإنذار به، وأنه طلب ابنه يوحنّا ليقتله مع من قتل من صبيان بيت لحم، فهربت به أمّه إلى الشقراء واختلفت. فطالب به أباه زكريّا وهو كهنون في الهيكل، فقال لا
[2] وفي الإنجيل: هيردوس.
علم لي هو مع أمّه فتهدّده وقتله. ثم قال بعد قتل زكريا بسنة تولى الكهنونية يعقوب بن يوسف إلى أن مات هيرودوس.
وأما مريم سلام الله عليها فكانت بالمسجد على حالها من العبادة إلى أن أكرمها الله بالولاية وبين الناس في نبوّتها خلاف من أجل خطاب الملائكة لها. وعند أهل السنة أنّ النبوّة مختصة بالرجل، قاله أبو الحسن الأشعري وغيره وأدلة الفريقين في أماكنها.
وبشرت الملائكة مريم باصطفاء الله لها، وأنها تلد ولدا من غير أب يكون نبيّا، فعجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة أنّ الله قادر على ما يشاء، فاستكانت وعلمت أنها محنة بما تلقاه من كلام الناس فاحتسبت.
وفي كتاب يعقوب بن يوسف النجّار أنّ أمّها حنّة توفيت لثمان سنين من عمر مريم، وكان من سنتهم أنّها إن لم تقبل التزويج يفرض لها من أرزاق الهيكل، فأوحى الله إليه أن يجمع أولاد هارون ويردّها إليهم، فمن ظهرت في عصاه آية تدفعها إليه تكون له شبه زوجة ولا يقربها، وحضر الجمع يوسف النجار فخرج من عصاه حمامة بيضاء ووقفت على رأسه، فقال له زكريّا هذه عزراء الرب تكون لك شبه زوجة ولا تردها.
فاحتملها متكرّها بنت اثنتي عشرة سنة إلى ناصرة فأقامت معه، إلى أن خرجت يوما تستسقي من العين فعرض لها الملك [1] أوّلا وكلّمها ثم عاودها وبشّرها بولادة عيسى كما نصّ القرآن. فحملت وذهبت إلى زكريا ببيت المقدس فوجدته على الموت وهو يجود بنفسه، فرجعت الى ناصرة، ورأى يوسف الحمل فلطم وجهه وخشي الفضيحة مع الكهنونية فيما شرطوا عليه، فأخبرته بقول الملك، فلم يصدّق وعرض له الملك في نومه وأخبره أنّ الّذي بها من روح القدس، فاستيقظ وجاء إلى مريم فسجد لها وردّها إلى بيتها. ويقال إنّ زكريا حضر لذلك وأقام فيهما سنة اللعان الّذي أوصى به موسى، فلم يصبهما شيء وبرّأهما الله. ووقع في إنجيل متّى أنّ يوسف خطب مريم ووجدها حاملا قبل أن يجتمعا، فعزم على فراقها خوفا من الفضيحة، فأمر في نومه أن يقبلها وأخبره الملك بأن المولود من روح القدس، وكان يوسف صديقا وولد على فراشه إيشوع انتهى.
وقال الطبريّ: كانت مريم ويوسف بن يعقوب ابن عمها، وفي رواية عنه أنه ابن خالها، وكانوا سدنة في بيت المقدس لا يخرجان منه إلّا لحاجة الإنسان، وإذا نفد
[1] وفي نسخة اخرى: الملاك.
ماؤهما فيملآن من أقرب المياه. فمضت مريم يوما وتخلف عنها يوسف، ودخلت المغارة التي كانت تعهد أنها للورد، فتمثّل لها جبريل بشرا، فذهبت لتجزع، فقال لها «إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا 19: 19» فاستسقاها. وعن وهب بن منبه أنه نفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى الرحم، فاشتملت على عيسى، فكان معها ذو قرابة يسمى يوسف النجّار، وكان في مسجد بجبل صهيون، وكان لخدمته عندهم فضل، وكانا يجمرانه ويقمانه. وكانا صالحين مجتهدين في العبادة، ولما رأى ما بها من الحمل استعظمه وعجب منه لما يعلم من صلاحها وأنها لم تغب قط عنه، ثم سألها فردّت الأمر إلى قدرة الله، فسكت وقام بما ينو بها من الخدمة. فلما بان حملها أفضت بذلك إلى خالتها إيشاع، وكانت أيضا حبلى بيحيى، فقالت لها اني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك. ثم أمرت بالخروج من بلدها خشية أن يعيرها قومها ويقتلوا ما في بطنها، فاحتملها يوسف إلى مصر وأخذها المخاض في طريقها، فوضعته كما قصّة القرآن، واحتملته على الحمار، وأقامت تكتم أمرها من الناس وتتحفظ به، حتى بلغ اثنتي عشرة سنة وظهرت عليه الكرامات، وشاع خبره، فأمرت أن ترجع به إلى إيلياء فرجعت. وتتابعت عنه المعجزات وانثال الناس عليه يستشفون ويسألون عن الغيوب.
قال الطبريّ: وفي خبر السدّي أنّها إنّما خرجت من المسجد لحيض أصابها، فكان نفخ الملك، وأنّ إيشاع خالتها التي سألتها عن الجمل وناظرتها فيه فحجتها بالقدرة، وأنّ الوضع كان في شرقي بيت لحم قريبا من بيت المقدس وهو الّذي بنى عليه بعض ملوك الروم البناء الهائل لهذا العهد.
قال ابن العميد مؤرخ النصارى: ولد لثلاثة أشهر من ولادة يحيى بن زكريا، ولإحدى وثلاثين من دولة هيردوس الكبر، ولاثنتين وأربعين من ملك أوغسطس قيصر.
وفي الإنجيل أنّ يوسف تزوّجها ومضى بها ليكتم أمرها في بيت لحم، فوضعته هنالك ووضعته في مذود لأنها لم يكن لها موضع نزل. وأنّ جماعة من المجوس بعثهم ملك الفرس يسألون أين ولد الملك العظيم؟ وجاءوا الى هيردوس يسألونه وقالوا جئنا لنسجد له، وحدّثوه بما أخبر الكهان وعلماء النجوم من شأن ظهوره، وأنه يولد ببيت لحم من ابن سنتين فما دونها. وسمع اوغسطس قيصر بخبر المجوس فكتب إلى هيردوس يسأله،
فكتب له بمصدوقية خبره وأنه قتل فيمن قتل من الصبيان. وكان يوسف النّجار قد أمر أن يخرج به الى مصر، فأقام هنالك اثنتي عشرة سنة، وظهرت عليه الكرامات، وهلك هيرودوس الّذي كان يطلبه وأمروا بالرجوع إلى إيليا، فرجعوا.
وظهر صدق شعيا النبيّ في قوله عنه من مصر دعوتك. وفي كتاب يعقوب بن يوسف النجّار حذرا من أن يكتب كما أمر أوغسطس في بعض أيامه فأجاءها المخاض وهي في طريقها على حمار، فصابرته إلى قرية بيت لحم وولدت في غار وسماه إيشوع، وأنه لما بلغ سنتين، وكان من أمر المجوس ما قدّمناه، حذر هيرودوس من شأنه وأمر أن يقتل الصبيان ببيت لحم، فخرج يوسف به وبأمّه إلى مصر، أمر بذلك في نومه، وأقام بمصر سنتين حتى مات هيرودوس، ثم أمر بالرجوع فرجع الى ناصرة، وظهرت عليه الخوارق من احياء الموتى وإبراء المعتوهين وخلق الطير وغير ذلك من خوارقه، حتى إذا بلغ ثماني سنين كفّ عن ذلك.
ثم جاء يوحنان [1] المعمدان من البرية، وهو يحيى بن زكريا، ونادى بالتوبة والدعاء إلى الدين، وقد كان شعيا أخبر أنه يخرج أيام المسيح، وجاء المسيح من الناصرة ولقيه بالأردن فعمده يوحنان وهو ابن ثلاثين سنة، ثم خرج الى البرية واجتهد في العبادة والصلاة والرهبانية واختار تلامذته الاثني عشر: سمعان بطرس وأخوه أندراوس ويعقوب بن زيدي وأخوه يوحنا وفيليبس وبرتولوماوس وتوما ومتى العشار ويعقوب بن حلفا وتداوس وسمعان القناني [2] ويهوذا الأسخريوطي. وشرع في إظهار المعجزات. ثم قبض هيرودوس الصغير على يوحنان وهو يحيى بن زكريا لنكيره عليه في زوجة أخيه، فقتله ودفن بنابلس.
ثم شرّع المسيح الشرائع من الصلاة والصوم وسائر القربات، وحلّل وحرّم وأنزل عليه الإنجيل، وظهرت على يديه الخوارق والعجائب، وشاع ذكره في النواحي، واتبعه الكثير من بني إسرائيل، وخافه رؤساء اليهود على دينهم، وتأمروا في قتله. وجمع عيسى الحواريين فباتوا عنده ليلتين يطعمهم ويبالغ في خدمتهم بما استعظموه، قال وإنما فعلته لتتأسوا به، وقال يعظهم ليكفرنّ بي بعضكم قبل أن يصيح الديك ثلاثا ويبيعني أحدكم بثمن بخس وتأكلوا ثمني، ثم افترقوا. وكان اليهود قد بعثوا العيون
[1] وفي الإنجيل يوحنا.
[2]
وفي إنجيل متى: سمعان الغيور أو سمعان القناني أو القانوني.
عليهم، فأخذوا شمعون من الحواريين فتبرّأ منهم وتركوه، وجاء يهوذا الأسخريوطي وبايعهم على الدلالة عليه بثلاثين درهما، وأراهم مكانه الّذي كان يبيت فيه، وأصبحوا به إلى فلاطش النبطي [1] قائد قيصر على اليهود. وحضر جماعة الكهنونية وقالوا هذا يفسد ديننا ويحل نواميسنا ويدّعي الملك فأقتله. وتوقف فصاحوا به وتوعدوه بإبلاغ الأمر إلى قيصر فأمر بقتله.
وكان عيسى قد أبلغ الحواريين بأنه يشبه على اليهود في شأنه فقتل ذلك الشبه وصلب، وأقام سبعا. وجاءت أمّه تبكي عند الخشبة فجاءها عيسى وقال: مالك تبكي؟ قالت: عليك. قال: إنّ الله رفعني ولم يصبني إلّا خير وهذا شيء شبه لهم، وقولي للحواريين يلقوني بمكان كذا. فانطلقوا إليه وأمرهم بتبليغ رسالته في النواحي، كما عين لهم من قبل. وعند علماء النصارى أن الّذي بعث من الحواريين إلى رومة بطرس ومعه بولس من الأتباع ولم يكن حواريا، وإلى أرض السودان والحبشة ويعبرون عن هذه الناحية بالأرض التي تأكل أهلها والناس متّى العشار، وأندراوس إلى أرض بابل، والمشرق توماس، وإلى أرض إفريقية فيلبس، وإلى أفسوس قرية أصحاب الكهف يوحناس، وإلى أورشليم وهي بيت المقدس يوحنا، وإلى أرض العرب والحجاز برتلوماوس، وإلى أرض برقة والبربر شمعون القناني.
قال ابن إسحاق: ثم وثب اليهود على بقية الحواريين يعذبونهم ويفتنونهم، وسمع قيصر بذلك وكتب إليه فلاطش النبطي قائده بأخباره ومعجزاته وبغي اليهود عليه وعلى يوحنان قبله، فأمرهم بالكف عن ذلك. ويقال قتل بعضهم. وانطلق الحواريّون إلى الجهات التي بعثهم إليها عيسى فآمن به بعض وكذب بعض. ودخل يعقوب أخو يوحنان إلى رومة فقتله غاليوس قيصر وحبس شمعون، ثم خلص وسار إلى أنطاكية ثم رجع إلى رومة أيام قلوديش قيصر بعد غاليوس، واتبعه كثير من الناس وآمن به بعض نساء القياصرة وأخبرها بخبر الصليب، فدخلت إلى القدس وأخرجته من تحت الزبل والقمامات بمكان الصلب وغشته بالحرير والذهب وجاءت به إلى رومة.
وأما بطرس كبير الحواريين وبولص اللذان بعثهما عيسى صلوات الله عليه إلى رومة فإنهما مكثا هنالك يقيمان دين النصرانية، ثم كتب بطرس الإنجيل بالرومية ونسبه إلى مرقص تلميذه، وكتب متّى انجيله بالعبرانية في بيت المقدس ونقله من بعد ذلك
[1] وفي الإنجيل بيلاطس البنطي.
يوحنّان بن زيدي إلى رومة، وكتب لوقا انجيله بالرومية وبعثه الى بعض أكابر الروم، وكتب يوحنّا بن زيدي انجيله برومة. ثم اجتمع الرسل الحواريون برومة ووضعوا القوانين الشرعية لدينهم وصيروها بيد أقليمنطس تلميذ بطرس، وكتبوا فيها عدّ الكتب التي يجب قبولها، فمن القديمة: التوراة خمسة أسفار، وكتاب يوشع بن نون، وكتاب القضاة، وكتاب راعوث، وكتاب يهوذا، وأسفار الملوك أربعة كتب، وسفر بنيامين، وسفر المقباسين [1] ثلاثة كتب، وكتاب عزرا الامام، وكتاب أشير، وكتاب قصة هامان، وكتاب أيّوب الصديق، ومزامير داود النبي، وكتب ولده سليمان خمسة، ونبوّات الأنبياء الصغار والكبار ستة عشر كتابا، وكتاب يشوع بن شارخ [2] . ومن الحديثة: كتب الإنجيل الأربعة، وكتب القتاليقون سبع رسائل، وكتاب بولس أربع عشرة رسالة، والإيركسيس وهو قصص الرسل ويسمى أفليمد ثمانية كتب تشتمل على كلام الرسل وما أمروا به ونهوا عنه.
وكتاب النصارى الكبار إلى أساقفتهم الذين يسمون البطارقة ببلاد معينة يعلمون بها دين النصرانية فكان: برومة بطرس الرسول الّذي بعثه عيسى صلوات الله عليه، وكان بيت المقدس يعقوب النجّار، وكان بالإسكندرية، مرقص تلميذ بطرس، وكان ببيزنطية وهي قسطنطينية أندرواس [3] الشيخ، وكان بأنطاكية [4] .
وكان صاحب هذا الدين عندهم والمقيم لمراسمه يسمونه البطرك وهو رئيس الملّة وخليفة المسيح فيهم، ويبعث نوّابه وخلفاءه إلى من بعد عنهم من أمم النصرانية ويسمّونه الأسقف أي نائب البطرك، ويسمّون القرّاء بالقسيس، وصاحب الصلاة بالجاثليق، وقومة المسجد بالشمامسة، والمنقطع الّذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالراهب، والقاضي بالمطران. ولم يكن بمصر لذلك العهد أسقف الى أن جاء دهدس الحادي عشر من أساقفة اسكندرية وكان بطرك أساقفة بمصر. وكان الأساقفة يسمون البطرك أبا، والقسوس يسمون الأساقفة أبا، فوقع الاشتراك في اسم الأب، فاخترع اسم
[1] وهو سفر المكتابيين وهو كتابان: الأول والثاني، كما في التوراة.
[2]
وفي التوراة: يشوع بن سيراخ.
[3]
وفي الإنجيل اندراوس.
[4]
بياض بالأصل وفي الإنجيل: وكان في الكنيسة التي بأنطاكية أنبياء ومعلمون منهم برنابا وسمعان الملقب بالأسود ولوقيوس القيرواني ومناين الّذي تربى مع هيردوس رئيس الربع وشارل (اعمال الرسل الفصل 13) .
البابا لبطرك الاسكندرية ليتميز عن الأسقف في اصطلاح القسوس، ومعناه أبو الاباء فاشتهر هذا الاسم. ثم انتقل الى بطرك رومة لأنه صاحب كرسي بطرس كبير الحواريين ورسول المسيح، وأقام على ذلك لهذا العهد يسمى البابا.
ثم جاء بعد قلوديش قيصر نيرون قيصر فقتل بطرس كبير الحواريين وبولص اللذين بعثهما عيسى صلوات الله عليه الى رومة، وجعل مكان بطرس أرنوس برومة. وقتل مرقص الإنجيلي تلميذ بطرس وكان بالإسكندرية يدعو الى الدين سبع سنين ويبعثه في نواحي مصر وبرقة والمغرب وقتله نيرون، وولى بعده حنينا وهو أوّل البطاركة عليها بعد الحواريين. وثار اليهود في دولته على أسقف بيت المقدس وهو يعقوب النجّار وهدموا البيعة ودفنوا الصليب الى أن أظهرته هيلانة أم قسطنطين كما نذكره بعد، وجعل نيرون مكان يعقوب النجّار ابن عمه شمعون بن كيافا.
ثم اختلفت حال القياصرة من بعد ذلك في الأخذ بهذا الدين وتركه كما يأتي في أخبارهم، الى أن جاء قسطنطين بن قسطنطين باني المدينة المشهورة، وكانت في مكانها قبله مدينة صغيرة تسمى بيزنطية. وكانت أمه هيلانة صالحة فأخذت بدين المسيح لاثنتين وعشرين سنة من ملك قسطنطين ابنها، وجاءت إلى مكان الصليب فوقفت عليه وترحمت وسألت عن الخشبة التي صلب عليهما بزعمهم، فأخبرت بما فعل اليهود فيها وأنهم دفنوها وجعلوا مكانها مطرحا للقمامة والنجاسة والجيف والقاذورات، فاستعظمت ذلك واستخرجت تلك الخشبة التي صلب عليها بزعمهم، وقيل من علامتها أن يمسها ذو العاهة فيعافى لوقته، فطهرتها وطيبتها وغشتها بالذهب والحرير، ورفعتها عندها للتبرك بها، وأمرت ببناء كنيسة هائلة بمكان الخشبة تزعم أنها قبره وهي التي تسمى لهذا العهد قمامة [1] . وخربت مسجد بني إسرائيل وأمرت بأن تلقى القاذورات والكناسات على الصخرة التي كانت عليها القبة التي هي قبلة اليهود، إلى أن أزال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عند فتح بيت المقدس كما نذكره هنالك.
وكان من ميلاد المسيح إلى وجود الصليب ثلاثمائة وثمان وعشرون سنة، وأقام هؤلاء النصرانية بطاركتهم وأساقفتهم على إقامة دين المسيح على ما وضعه الحواريون من القوانين والعقائد والأحكام. ثم حدث بينهم اختلاف في العقائد وسائر ما ذهبوا إليه
[1] كان اسمها قيامه فحرفوها قمامه. كذا في الخطط قاله نصر. أهـ.
من الإيمان باللَّه وصفاته، وحاش للَّه وللمسيح وللحواريّين أن يذهبوا إليه، وهو معتقدهم التثليث. وإنما حملهم عليه ظواهر من كلام المسيح في الإنجيل لم يهتدوا إلى تأويلها، ولا وقفوا على فهم معانيها، مثل قول المسيح حين صلب بزعمهم: أذهب إلى أبي وأبيكم. وقال: افعلوا كذا وكذا من البر لتكونوا أبناء أبيكم في السماء وتكونوا تامّين، كما أنّ أباكم الّذي في السماء تامّ. وقال له في الإنجيل إنّك أنت الابن الوحيد. وقال له شمعون الصفا إنك ابن الله حقا. فلما أثبتوا هذه الأبوة من ظاهر هذا اللفظ زعموا أنّ عيسى ابن مريم من أب قديم، وكان اتصاله بمريم تجسد كلمة منه مازجت جسد المسيح وتدرعت به، فكان مجموع الكلمة والجسد ابنا، وهو ناسوت كلي قديم أزلي، وولدت مريم إلها أزليا والقتل والصلب وقع على الجسد والكلمة، ويعبرون عنهما بالناسوت واللاهوت.
وأقاموا على هذه العقيدة ووقع بينهم فيها اختلاف، وظهرت مبتدعة من النصرانية اختلفت أقوالهم الكفرية، كان من أشدّهم ابن دنصان، ودافعهم هؤلاء الأساقفة والبطاركة عن معتقدهم الذين كانوا يزعمونه حقّا، وظهر يونس الشميصانيّ بطرك انطاكية بعد حين أيام افلوديس قيصر، فقال بالوحدانية ونفى الكلمة والروح، وتبعه جماعة على ذلك. ثم مات فردّ الأساقفة مقالته وهجروها ولم يزالوا على ذلك إلى أيام قسطنطين بن قسطنطين، فتنصّر ودخل في دينهم. وكان باسكندرية أسكندروس البطرك وكان لعهده أريوش [1] من الأساقفة، وكان يذهب الى حدوث الابن وأنه إنما خلق الخلق بتفويض الأب إليه في ذلك، فمنعه إسكندروس الدخول إلى الكنيسة وأعلم أن إيمانه فاسد، وكتب بذلك إلى سائر الأساقفة والبطاركة في النواحي. وفعل ذلك بأسقفين آخرين على مثل رأي أريوش، فدفعوا أمرهم إلى قسطنطين وأحضرهم جميعا لتسع عشرة من دولته، وتناظروا. ولما قال أريوش: إنّ الابن حادث وأنّ الأب فوّض إليه بالخلق. وقال الإسكندروس: بالخلق استحق الألوهية، فاستحسن قسطنطين قوله وأذن له أن يشيد بكفر أريوش.
وطلب الإسكندروس باجتماع النصرانية لتحرير المعتقد الإيماني، فجمعهم قسطنطين وكانوا ألفين وثلاثمائة وأربعين أسقفا وذلك في مدينة نيقية، فسمي المجتمع مجتمع نيقية، وكان رئيسهم الإسكندروس بطرك إسكندرية، وأسطانس بطرك أنطاكية،
[1] وفي نسخة اخرى أريوس.
ومقاريوس أسقف بيت المقدس. وبعث سلطوس بطرك رومة بقسيس حضر معهم لذلك نيابة عنه، فتفاوضوا وتناظروا واتفقوا عنهم، بعد الاختلاف الكثير، على ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على رأي واحد، فصار قسطنطين إلى قولهم، وأعطى سيفه وخاتمه وباركوا عليه ووضعوا له قوانين الدين والملك، ونفى أريوش وأشيد بكفره وكتبوا العقيدة التي اتفق عليها أهل ذلك المجمع، ونصّها عندهم على ما نقله ابن العميد من مؤرخيهم والشهرستاني في كتاب الملل والنحل وهو:
هذا هو اتفاق المجمع الأوّل الّذي هو مجمع نيقية وفيه إشارة إلى حشر الأبدان ولا يتفق النصارى عليه، وإنما يتفقون على حشر الأرواح ويسمون هذه العقيدة الأمانة، ووضعوا معها قوانين الشرائع ويسمونها الهيمايون:
وتوفي الإسكندروس البطرك بعد هذا المجمع بخمسة أشهر، ولما عمرت هلانة أم قسطنطين الكنائس وأحب الملك أن يقدسها ويجمع الأساقفة لذلك، وبعث أوسانيوس بطرك القسطنطينية وحضر معهم أثناس بطرك الإسكندرية، واجتمعوا في صور وكان أوسانيوس الّذي أخرجه إسكندروس مع أريوس من كنيسة إسكندرية.
وكان بسبب ذلك مجمع نيقية وكتاب الأمانة. ونفي أريوس حينئذ وأوسانيوس وصاحبهما ولعنوا. جاء أوسانيوس من بعد ذلك وأظهر البراءة من أريوس ومن مقالته فقبله قسطنطين وجعله بطركا بالقسطنطينية، فلما اجتمعوا في صور وكان فيهم أومانيوس على رأي أريوس، فأشار أوسانيوس بطرك القسطنطينية بأن يظاهر أثناس بطرك الاسكندرية عن مقالة أريوس. فقال أومانيوس: إنّ أريوس لم يقل إنّ المسيح
[2] وهو يسوع المسيح كما في الإنجيل.
خلق العالم وإنما قال هو كلمة الله التي بها خلق كما وقع في الإنجيل. فقال أثناس بطرك الاسكندرية: وهذا الكلام أيضا يقتضي أنّ الابن مخلوق وأنه خلق المخلوقات دون الأب لأنه إذا كان يخلق به فالأب لم يخلق شيئا لأنه مستعين بغيره والفاعل بغيره محتاج إلى ذلك المتمّم فهو في ذاته الخالق والله سبحانه منزّه عن ذلك وإن زعم أريوس ان الأب يريد الشيء والابن يكونه فقد جعل فعل الابن أتمّ لأنّ الأب إنما له الارادة فقط وللابن الاختراع فهو أتم.
فلما ظهر بطلان مقالة أريوس وثبوا على أومانيوس المناظر عن مقالة أريوس وضربوه ضربا وجيعا، وخلصه ابن أخت الملك، ثم قدّسوا الكنائس، وانفضّ الجمع وبلغ الخبر إلى قسطنطين فندم على بطركية أوسانيوس بالقسطنطينية وغضب عليه ومات لسنتين من رياسته، واجتمع بعد ذلك أصحاب أريوس إلى قسطنطين فحسنوا له تلك المقالة، وأنّ جماعة نيقية ظلموا أريوس وبغوا عليه وصدّوا عن الحق في قولهم إنّ الأب مساو للابن في الجوهرية وكاد الملك أن يقبل منهم. فكتب إليه كيراش أسقف بيت المقدس يحذره من مقالة أريوس فقبل ورجع. واختلف حال ملوك القياصرة بعد قسطنطين في الأخذ بالأمانة أو بمقالة أريوس، وظهور إحدى الطائفتين متى كان الملك على دينهم. وأفحش بعض ملوك القياصرة في الحق على مخالفه، فقال له بعض العلماء والحكماء: لا تنكر المخالفة فالحنفاء يختلفون أيضا وإنما هم الخلق يحمدون الله ويصفونه بالصفات الكثيرة والله يحب ذلك. فسكن بعض الشيء وكان بعضهم يعرض عن الطائفتين ويخلي كل أحد ودينه.
ثم كان المجمع الثاني بقسطنطينية بعد مجمع نيقية بمائتين وخمسين سنة اجتمعوا للنظر في مقالة مقدونيوس وسليوس، بأن جسد المسيح بغيرنا موت وأنّ اللاهوت أغناه عنها، مستدلين بما وقع في الإنجيل أنّ الكلمة صار لحما ولم يقل صار إنسانا، وجعلا من الإله عظيما وأعظم منه والأب أفضل عظما. وقال: إن الأب غير محدود في القوّة وفي الجوهر. فأبطلوا هذه المقالة ولعنوهما وأشادوا بكفرهما وزادوا في الأمانة التي قرّرها جماعة نيقية ما نصه: «ونؤمن بروح القدس المنتقى من الأب» . ولعنوا من يزيد بعد ذلك على كلمة الأمانة أو ينقص منها.
ثم كان لهم بعد ذلك بأربعين سنة المجمع الثالث على نسطوريوس البطرك بالقسطنطينية لأنه كان يقول: إنّ مريم لم تلد إلها وإنما ولدت إنسانا، وإنما اتحد به في المشيئة لا في الذات وليس هو إلها حقيقية بل بالموهبة والكرامة. ويقول بجوهرين
وأقنومين: وهذا الرأي الّذي أظهره نسطوريوس كان رأي تاودوس وديودوس الأسقفين، وكان من مقالتهما أنّ المولود من مريم هو المسيح والمولود من الأب هو الابن الأزلي والابن الأزلي حلّ في المسيح المحدث فسمي المسيح ابن الله بالموهبة والكرامة، وإنّما الاتحاد بالمشيئة والارادة. فأثبتوا للَّه ولدين أحدهما بالجوهر والثاني بالنعمة. وبلغت مقالة نسطوريوس إلى كرلس بطرك اسكندرية، فكتب الى بطرك رومة وهو أكليمس، وإلى يوحنا وهو بطرك أنطاكية، وإلى يونالوس أسقف بيت المقدس. فكتبوا إلى نسطوريوس ليدفعوه عن ذلك بالحجة فلم يرجع ولا التفت إلى قولهم. فاجتمعوا في مدينة أفسيس [1] في مائتين أسقفا للنظر في مقالته، فقرّروا إبطالها ولعنوه وأشاروا بكفره، ووجد عليهم يوحنّا بطرك أنطاكية حيث لم ينتظروا حضوره فخالفهم ووافق نسطوريوس، ثم أصلح بينهم باوداسوس من بعد مدّة واتفقوا على نسطوريوس. وكتب أساقفة المشارقة أمانتهم وبعثوا بها إلى كرلّس فقبلها ونفى نسطوريوس إلى صعيد مصر، فنزل أخميم ومات بها لسبع سنين من نزولها، وظهرت مقالته في نصارى المشرق وبفارس والعراق والجزيرة والموصل الى الفرات.
وكان بعد ذلك بإحدى وعشرين سنة المجمع الرابع بمدينة خلقدونية، اجتمع فيه ستمائة وأربعة وثلاثون أسقفا من فتيان قيصر للنظر في مقالة ديسقورس بطرك الاسكندرية لأنه كان يقول: المسيح جوهر من جوهرين وأقنوم من أقنومين وطبيعة من طبيعتين ومشيئة من مشيئتين. وكانت الأساقفة والبطاركة لذلك العهد يقولون بجوهرين وطبيعتين ومشيئتين وأقنوم واحد، فخالفهم ديسقورس في بعض الأساقفة وكتب خطه بذلك ولعن من يخالفه. فأراد مرقيان قيصر قتله، فأشارت البطارقة بإحضاره وجمع الأساقفة لمناظرته، فحضر بمجلس مرقيان قيصر وافتضح في مخاطبتهم ومناظرتهم. وخاطبته زوج الملك فأساء الردّ فلطمته بيدها، وتناوله الحاضرون بالضرب، وكتب مرقيان قيصر إلى أهل مملكته في جميع النواحي بأنّ مجمع خلقدونية هو الحق ومن لا يقبله يقتل. ومرّ ديسقورس بالقدس وأرض فلسطين وهو مضروب منفي فاتبعوا رأيه، وكذلك اتبعه أهل مصر والإسكندرية، وولّى وهو في النفي أساقفة كثيرة كلهم يعقوبية.
قال ابن العميد: وإنما سمي أهل مذهب ديسقورس يعقوبية لأنّ اسمه كان في الغلمانية
[1] وهي مدينة أفسس كما في الإنجيل.