الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتح مكة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عقد الصلح بينه وبين قريش في الحديبيّة أدخل خزاعة في عقده المؤمن منهم والكافر، وأدخلت قريش بني بكر بن عبد مناة ابن كنانة في عقدها وكانت بينهم تراث في الجاهلية ودخول كان فيها الأوّل للأسود بن رزن [1] من بني الدئل بن بكر بن عبد مناة وثارهم [2] عند خزاعة لما قتلت حليفهم مالك بن عباد الحضرميّ، وكانوا قد عدوا [3] على رجل من خزاعة فقتلوه في مالك بن عباد حليفهم، وعدت خزاعة على سلمى وكلثوم وذؤيب بني الأسود بن رزن فقتلوهم وهم أشراف بني كنانة، وجاء الإسلام فاشتغل الناس به ونسوا أمر هذه الدماء، فلمّا انعقد هذا الصلح من الحديبيّة وأمن الناس بعضهم بعضا، فاغتنم بنو الدئل هذه الفرصة في إدراك الثأر من خزاعة بقتلهم بني الأسود بن رزن، وخرج نوفل بن معاوية الدّؤلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة وليس كلهم تابعه، وخرج معه بعضهم وخرجوا منهم وانحجزوا في دور مكة ودخلوا دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ورجع بنو بكر وقد انتقض العهد فركب بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم في وفد من قومهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغيثين مما أصابهم به بنو الدئل بن عبد مناة وقريش، فأجاب صلى الله عليه وسلم صريخهم وأخبرهم: بأنّ أبا سفيان يأتي يشدّ العقد ويزيد في المدّة وأنه يرجع بغير حاجة وكان ذلك سببا للفتح وندم قريش على ما فعلوا، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليؤكد العقد ويزيد في المدّة، ولقي بديل بن ورقاء بعسفان فكتمه الخبر وورّى له عن وجهه، وأتى أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة فطوت دونه فراش النبيّ صلى الله عليه وسلم وقالت لا يجلس عليه مشرك، فقال لها قد أصابك بعدي شرّيا بنية. ثم أتى المسجد وكلّمن النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فذهب إلى أبي بكر وكلمه أن يتكلم في ذلك فأبى، فلقي عمر فقال: والله لو لم أجد إلا الذرّ لجاهدتكم به، فدخل على عليّ بن أبي طالب وعنده فاطمة وابنه الحسن صبيّا
[1] وفي نسخة اخرى: بن رزق.
[2]
وفي النسخة الباريسية: دم عند خزاعة.
[3]
وفي نسخة أخرى: عقدوا.
فكلمه فيما أتى له فقال عليّ: ما نستطيع أن نكلمه في أمر عزم عليه، فقال لفاطمة يا بنت محمد أما تأمري [1] ابنك هذا ليجير بين الناس فقالت لا يجير أحد على رسول الله، فقال له عليّ يا أبا سفيان أنت سيد بني كنانة فقم وأجر وارجع إلى أرضك، فقال ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال: ما أظنه ولكن لا أجد لك سواه. فقام أبو سفيان في المسجد فنادى: ألا إني قد أجرت بين الناس ثم ذهب إلى مكة وأخبر قريشا، فقالوا ما جئت بشيء وما زاد ابن أبي طالب على أن لعب بك.
ثم أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سائر إلى مكة، وأمر الناس بأن يتجهزوا، ودعا الله أن يطمس الأخبار عن قريش، وكتب إليهم حاطب بن أبي بلتعة بالخبر مع ظعينة قاصدة إلى مكة، فأوحى الله، إليه بذلك فبعث عليّا والزبير والمقداد إلى.
الظعينة فأدركوها بروضة خاخ وفتشوا رحلها فلم يجدوا شيئا، وقالوا: رسول الله أصدق، فقال عليّ: لتخرجنّ الكتاب أو لتلقينّ الحوائج، فأخرجته من بين قرون رأسها. فلما قرئ على النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ما هذا يا حاطب؟ فقال يا رسول الله والله ما شككت في الإسلام ولكني ملصق في قريش فأردت عندهم يدا يحفظوني [2] بها في مخلف أهلي وولدي، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: وما يدريك يا عمر لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإنّي قد غفرت لكم. وخرج صلى الله عليه وسلم لعشر خلون من رمضان من السنة الثامنة في عشرة آلاف فيهم: من سليم ألف رجل وقيل سبعمائة، ومن مزينة ألف، ومن غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة، وطوائف من قريش وأسد وتميم وغيرهم، ومن سائر القبائل جموع وكتائب الله من المهاجرين والأنصار. واستخلف أبا رهم الغفاريّ على المدينة، ولقيه العبّاس بذي الحليفة وقيل بالجحفة مهاجرا، فبعث رحله إلى المدينة وانصرف معه غازيا، ولقيه بنيق [3] العقاب أبو سفيان بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية مهاجرين واستأذنا فلم يؤذن لهما، وكلمته أم سلمة فأذن لهما، وأسلما فسار حتى نزل مرّ الظهران، وقد طوى الله أخباره عن قريش إلّا أنهم يتوجسون الخيفة.
[1] الأصح ان يقول: اما تأمرين.
[2]
الأصح ان يقول: يحفظونني.
[3]
وفي نسخة أخرى: بشق.
وخشي العبّاس تلافي قريش إن فاجأهم الجيش قبل ان يستأمنوا، فركب بغلة النبيّ صلى الله عليه وسلم وذهب يتجسس، وقد خرج أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم ابن حزام يتحسسون الخبر، وبينما العبّاس قد أتى الأراك ليلقى من السابلة من ينذر أهل مكة إذ سمع صوت أبي سفيان وبديل وقد أبصرا نيران العساكر، فيقول بديل: نيران بني خزاعة، فيقول أبو سفيان: خزاعة أذلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. فقال العبّاس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس والله إن ظفر بك ليقتلنك واصباح قريش فارتدف خلفي. ونهض به إلى المعسكر ومر بعمر فخرج يشتدّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحمد للَّه الّذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، فسبقه العبّاس على البغلة ودخل على أثره فقال: يا رسول الله هذا عدوّ الله أبو سفيان أمكن الله منه بلا عهد فدعني أضرب عنقه، فقال العبّاس: قد أجرته فزأره عمر، فقال العباس: لو كان من بني عديّ ما قلت هذا ولكنه من عبد مناف، فقال عمر: والله لإسلامك كان أحب إليّ من إسلام الخطّاب لأني أعرف أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العبّاس أن يحمله إلى رحله ويأتيه به صباحا، فلما أتى به قال له صلى الله عليه وسلم: ألم يأن لك أن تعلم أنّ لا إله إلّا الله؟ فقال بأي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد علمت لو كان معه إله غيره أغنى عنا، فقال: ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله، قال أبي أنت وأمي ما أحملك وأكرمك وأوصلك امّا هذه ففي النفس منها شيء [1] . فقال له العبّاس: ويحك أسلم قبل أن يضرب عنقك فأسلم. فقال العبّاس: يا رسول الله إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا.
قال: نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. ثم أمر العبّاس أن يوقف أبا سفيان بخطم الوادي ليرى جنود الله ففعل ذلك، ومرّت به القبائل قبيلة قبيلة، إلى أن جاء مركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، عليهم الدروع البيض، فقال من هؤلاء؟ فقال العبّاس: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار. فقال: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما: فقال: يا أبا سفيان إنها النبوّة، فقال: هي إذا! فقال له العبّاس: النجاء إلى قومك. فأتى مكة
[1] وفي نسخة اخرى: في النفس منها حتى الآن شيئا.
وأخبرهم بما أحاط بهم وبقول النبيّ صلى الله عليه وسلم من أتى المسجد أو دار أبي سفيان أو أغلق بابه.
ورتب الجيش وأعطى سعد بن عبادة الراية فذهب يقول: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة وبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمر عليّا ان يأخذ الراية منه، ويقال أمر الزبير. وكان على الميمنة خالد بن الوليد وفيها أسلم وغفار ومزينة وجهينة، وعلى الميسرة الزبير، وعلى المقدّمة أبو عبيدة بن الجرّاح. وسرّب رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش من ذي طوى، وأمرهم بالدخول إلى مكة: الزبير من أعلاها، وخالد من أسفلها، وأن يقاتلوا من تعرض لهم. وكان عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو قد جمعوا للقتال، فناوشهم أصحاب خالد القتال، واستشهد من المسلمين كرز بن جابر من بني محارب، وخنيس بن خالد من خزاعة، وسلمة بن جهينة، وانهزم المشركون وقتل منهم ثلاثة عشر وأمّن النبيّ صلى الله عليه وسلم سائر الناس.
وكان الفتح لعشر بقين من رمضان، وأهدر دم جماعة من المشركين سمّاهم يومئذ منهم: عبد العزّى بن خطل من بني تميم، والأدرم بن غالب كان قد أسلم وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا ومعه رجل من المشركين فقتله وارتدّ ولحق بمكّة وتعلق يوم الفتح بأستار الكعبة فقتله سعد بن حريث المخزومي وابو برزة الأسلميّ. ومنهم:
عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ثم ارتدّ ولحق بمكة ونميت عنه أقوال، فاختفى يوم الفتح وأتى به عثمان بن عفّان وهو أخوه من الرضاعة فاستأمن له فسكت عليه السلام ساعة ثم أمّنه، فلما خرج قال لأصحابه هلّا ضربتم عنقه، فقال له بعض الأنصار هلا أومأت إليّ، فقال: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين ولم يظهر بعد إسلامه إلّا خير وصلاح واستعمله عمر وعثمان.
ومنهم الحويرث بن نفيل [1] من بني عبد قصيّ كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة فقتله علي بن أبي طالب يوم الفتح. ومنهم مقيس بن صبابة كان هاجر في غزوة الخندق ثم عدا على رجل من الأنصار كان قتل أخاه قبل ذلك غلطا ووداه فقتله وفرّ إلى مكّة مرتدّا، فقتله يوم الفتح نميلة بن عبد الله الليثي وهو ابن عمه.
ومنهم قينتا ابن خطل كانتا تغنيان بهجو النبيّ صلى الله عليه وسلم فقتلت إحداهما
[1] قوله نفيل وفي المواهب نقيد أهـ.
واستؤمن للأخرى فأمنها. ومنهم مولاة لبني عبد المطلب اسمها سارة واستؤمن لها فأمّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستجار رجلان من بني مخزوم بأمّ هانئ بنت أبي طالب يقال إنّهما الحرث بن هشام وزهير بن أبي أميّة أخو أمّ سلمة فأمنتهما، وأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانها فأسلما.
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وطاف بالكعبة وأخذ المفتاح من عثمان بن طلحة بعد أن مانعت دونه أم عثمان ثم أسلمته، فدخل الكعبة ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة وأبقى له حجابة البيت فهي في ولد شيبة إلى اليوم. وأمر بكسر الصور داخل الكعبة وخارجها، وبكسر الأصنام حواليها، ومرّ عليها وهي مشدودة بالرصاص يشير إليها بقضيب في يده وهو يقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً 17: 81، فما بقي منهم [1] صنم إلا خرّ على وجهه. وأمر بلالا فأذن على ظهر الكعبة ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بباب الكعبة ثاني يوم الفتح وخطب خطبته المعروفة، ووضع مآثر الجاهلية إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج، وأخبر أنّ مكة لم تحلّ لأحد قبله ولا بعده، وإنما أحلّت له ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس [2]، ثم قال:«لا إله إلّا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا إنّ كل مأثورة أو دم أو مال يدعى في الجاهلية فهو تحت قدميّ هاتين إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج، ألا وإن قتل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا فيهما الدية مغلظة منها أربعون في بطونها أولادها، يا معشر قريش إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم خلق من تراب» . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ من ذَكَرٍ وَأُنْثى 49: 13» إلى آخر الآية. يا «معشر قريش ويا أهل مكة ما ترون إني فاعل فيكم؟» قالوا: خيرا أخ كريم، ثم قال:«اذهبوا فأنتم الطلقاء» . وأعتقهم على الإسلام وجلس لهم فيما قيل على الصفا فبايعوه على السمع والطاعة للَّه ولرسوله فيما استطاعوا، ولمّا فرغ من بيعة الرجال بايع النساء، أمر عمر بن الخطاب أن يبايعهن واستغفر لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان لا يمس امرأة حلالا ولا حراما.
[1] الأصح ان يقول منها.
[2]
وفي النسخة الباريسية: ثم أعيدت لحرمتها بالأمس.