الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخبر عن الأوس والخزرج أبناء قيلة من هذه الطبقة ملوك يثرب دار الهجرة وذكر أوليتهم والإلمام بشأن نصرتهم وكيف انقراض أمرهم
قد ذكرنا فيما تقدّم شأن يثرب وأنها من بناء يثرب بن فانية بن مهلهل بن إرم بن عبيل ابن عوص وعبيل أخوه عاد. وفيما ذكر السهيليّ: أن يثرب بن قائد بن عبيل بن مهلاييل بن عوص بن عمليق بن لاوذ بن إرم، وهذا أصح وأوجه. وقد ذكرنا كيف صار أمر هؤلاء لإخوانهم جاسم من الأمم العمالقة وأن ملكهم كان يسمّى الأرقم وكيف تغلب بنو إسرائيل عليه وقتلوه وملكوا الحجاز دونه كله من أيدي العمالقة، ويظهر من ذلك أنّ الحجاز لعهدهم كان آهلا بالعمران وجميع مياهه، يشهد بذلك أنّ داود عليه السلام لمّا خلع بنو إسرائيل طاعته وخرجوا عليه بابنه أشبوشت فرّ مع سبط يهوذا إلى خيبر وملك ابنه الشام وأقام هو وسبط يهوذا بخيبر سبع سنين في ملكه، حتى قتل ابنه وعاد إلى الشام. فيظهر من هذا أنّ عمرانه كان متصلا بيثرب ويجاوزها إلى خيبر. وقد ذكرنا هنالك كيف أقام من بني إسرائيل من أقام بالحجاز وكيف تبعتهم يهود خيبر وبنو قريظة.
قال المسعودي: وكانت الحجاز إذ ذاك أشجر بلاد الله وأكثرها ماء فنزلوا بلاد يثرب واتخذوا بها الأموال وبنوا الآطام [1] والمنازل في كل موطن، وملّكوا أمر أنفسهم، وانضافت إليهم قبائل من العرب نزلوا معهم واتخذوا الأطم والبيوت وأمرهم راجع إلى ملوك المقدس من عقب سليمان عليه السلام. قال شاعر بني نعيف:
ولو نطقت يوما قباء لخبّرت
…
بأنّا نزلنا قبل عاد وتبّع
وآطامنا عادية مشمخرّة
…
تلوح فتنعى من يعادي ويمنع
فلمّا خرج مزيقياء من اليمن وملك غسّان بالشام ثم هلك، وملك ابنه ثعلبة العنقاء ثم هلك ثعلبة العنقاء، وولي أمرهم بعد ثعلبة عمرو ابن أخيه جفنة سخط مكانه ابنه حارثة فأجمع الرحلة إلى يثرب، وأقام بنو جفنة بن عمرو ومن انضاف إليهم بالشام، ونزل حارثة يثرب على يهود خيبر وسألهم الحلف والجوار على الأمان والمنعة فأعطوه من
[1] الآطام: ج أطم وهي القلعة.
ذلك ما سأل. قال ابن سعيد: وملك اليمن يومئذ شريب بن كعب فكانوا بادية لهم إلى أن انعكس الأمر بالكثرة والغلبة.
ومن كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني قال: بنو قريظة وبنو النضير الكاهنان من ولد الكوهن بن هارون عليه السلام، كانوا بنواحي يثرب بعد موسى عليه السلام وقبل تفرّق الأزد من اليمن بسيل العرم ونزول الأوس والخزرج يثرب وذلك بعد الفجّار.
ونقل ذلك عن عليّ بن سليمان الأخفش بسنده إلى العماري قال: ساكنو المدينة العماليق وكانوا أهل عدوان وبغي، وتفرّقوا في البلاد، وكان بالمدينة منهم بنو نعيف وبنو سعيد وبنو الأزرق وبنو نظرون، وملك الحجاز منهم الأرقم ما بين تيماء إلى فدك وكانوا ملوك المدينة ولهم بها نخل وزرع، وكان موسى عليه السلام قد بعث الجنود إلى الجبابرة يغزونهم، وبعث إلى العمالقة جيشا من بني إسرائيل وأمرهم أن لا يستبقوا أحدا فأبقوا ابنا للأرقم ضنّوا به على القتل، فلمّا رجعوا بعد وفاة موسى عليه السلام وأخبروا بني إسرائيل بشأنه فقالوا هذه معصية لا تدخلوا علينا الشام، فرجعوا إلى بلاد العمالقة ونزلوا المدينة وكان هذا أوّلية سكنى اليهود بيثرب. وانتشروا في نواحيها واتخذوا بها الآطام والأموال والمزارع ولبثوا زمانا، وظهر الروم على بني إسرائيل بالشام وقتلوهم وسبوا، فخرج بنو النضير وبنو قريظة وبنو يهدل هاربين إلى الحجاز وتبعهم الروم فهلكوا عطشا في المفازة بين الشام والحجاز. وسمّي الموضع تمر الروم. ولما قدم هؤلاء الثلاثة المدينة نزلوا العالية فوجدوها وابية [1] وارتادوا. ونزل بنو النضير مما يلي البهجان، وبنو قريظة وبنو يهدل على نهروز. وكان ممن سكن المدينة من اليهود حين نزلها الأوس والخزرج بنو الشقمة. وبنو ثعلبة وبنو زرعة وبنو قينقاع وبنو يزيد وبنو النضير وبنو قريظة وبنو يهدل وبنو عوف وبنو عصص، وكان بنو يزيد من بليّ وبنو نعيف من بليّ وبنو الشقمة من غسّان. وكان يقال لبني قريظة وبني النضير الكاهنان كما مرّ. فلما كان سيل العرم وخرجت الأزد نزلت أزدشنوءة الشام بالسراة وخزاعة بطوى، ونزلت غسّان بصرى [2] وأرض الشام، ونزلت أزد عمان الطائف، ونزلت الأوس والخزرج يثرب نزلوا في ضرار بعضهم بالضاحية وبعضهم بالقرى مع أهلها، ولم يكونوا أهل نعم وشاء لأنّ المدينة كانت ليست بلاد مرعى، ولا نخل
[1] اي وجدوها موبؤة، نزل بها الوباء.
[2]
وتعرف ببصرى الشام.
لهم ولا زرع إلا الأعذاق اليسيرة والمزرعة يستخرجها من الموات والأموال لليهود فلبثوا حينا. ثم وفد مالك بن عجلان إلى أبي جبلة الغسّاني وهو يومئذ ملك غسّان فسأله فأخبره عن ضيق معاشهم، فقال: ما بالكم لم تغلبوهم حين غلبنا أهل بلدنا؟
ووعده أنه يسير إليهم فينصرهم، فرجع مالك وأخبرهم أنّ الملك آبا جبيلة يزورهم فأعدوا له نزلا فأقبل ونزل بذي حرض، وبعث إلى الأوس والخزرج بقدومه، وخشي أن يتحصّن منه اليهود في الآطام فاتخذ حائرا وبعث إليهم فجاءوه في خواصهم وحشمهم، وأذن لهم في دخول الحائر وأمر جنوده فقتلوهم رجلا رجلا إلى أن أتوا عليهم، وقال للأوس والخزرج: إن لم تغلبوا على البلاد بعد قتل هؤلاء فلأحرقنّكم ورجع الى الشام فأقاموا في عداوة مع اليهود. ثم أجمع مالك بن العجلان وصنع لهم طعاما ودعاهم فامتنعوا لغدرة أبي جبيلة، فاعتذر لهم مالك عنها وأنه لا يقصد نحو ذلك فأجابوه وجاءوا إليه فغدرهم وقتل منهم سبعة وثمانين من رؤسائهم، وفطن الباقون فرجعوا وصوّرت اليهود بالحجاز مالك بن العجلان في كنائسهم وبيعهم وكانوا يلعنونه كلما دخلوا. ولما قتلهم مالك ذلّوا وخافوا وتركوا مشي بعضهم إلى بعض في الفتنة كما كانوا يفعلون من قبل، وكان كل قوم من اليهود قد لجئوا إلى بطن من الأوس والخزرج يستنصرون بهم ويكونون لهم أحلافا أهـ كلام الأغاني.
وكان لحارثة بن ثعلبة ولدان أحدهما أوس والآخر خزرج، وأمّهما قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة وقيل بنت كاهن بن عذرة من قضاعة، فأقاموا كذلك زمانا حتى أثروا وامتنعوا في جانبهم وكثر نسلهم وشعوبهم، فكان بنو الأوس كلهم لمالك بن الأوس منهم خطمة بن جشم بن مالك وثعلبة ولوذان وعوف كلهم بنو عمرو بن عوف بن مالك، ومن بني عوف بن عمرو حنش ومالك وكلفة كلهم بنو عوف، ومن مالك بن عوف معاوية وزيد. فمن زيد عبيد وضبيعة وأميّة ومن كلفة بن عوف جحجبا بن كلفة ومن مالك بن الأوس أيضا الحارث وكعب ابنا الخزرج بن عمرو ابن مالك، فمن كعب بنو ظفر ومن الحارث بن الخزرج حارثة وجشم، ومن جشم بنو عبد الأسهل، ومن مالك بن الأوس أيضا بنو سعد وبنو عامر ابنا مرّة بن مالك فبنوا سعد الجعادرة، ومن بني عامر عطيّة وأميّة ووائل كلهم بنو زيد بن قيس بن عامر، ومن مالك بن الأوس أيضا أسلم وواقف بنو امرئ القيس بن مالك فهذه بطون الأوس.
وأمّا الخزرج فخمسة بطون من كعب وعمرو وعوف وجشم والحارث، فمن كعب بن الخزرج بنو ساعدة بن كعب، ومن عمرو بن الخزرج بنو النجّار وهم تيم الله بن ثعلبة بن عمرو وهم شعوب كثيرة: بنو مالك وبنو عديّ وبنو مازن وبنو دينار كلهم بنو النجّار، ومن مالك بن النجّار مبدول واسمه عامر وغانم وعمرو، ومن عمرو عديّ معاوية، ومن عوف بن الخزرج بنو سالم والقواقل وهما عوف بن عمرو بن عوف.
والقواقل ثعلبة ومرضخة بنو قوقل بن عوف، ومن سالم بن عوف بنو العجلان بن زيد بن عصم بن سالم وبنو سالم بن عوف، ومن جشم بن الخزرج بنو غضب بن جشم وتزيد بن جشم، فمن غضب بن جشم بنو بياضة وبنو زريق ابنا عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب، ومن تزيد بن جشم بنو سلمة بن سعد بن علي بن راشد بن ساردة بن تزيد، ومن الحارث بن الخزرج بنو خدرة وبنو حرام ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج. فهذه بطون الخزرج.
فلما انتشر بيثرب هذان الحيّان من الأوس والخزرج وكثروا يهود، خافوهم على أنفسهم، فنقضوا الحلف الّذي عقدوه لهم وكان العزّة يومئذ بيثرب لليهود، قال قيس بن الحطيم:
كنّا إذا رابنا قوم بمظلمة
…
شدّت لنا الكاهنان الخيل واعتزموا
بنو الرهون وواسونا بأنفسهم
…
بنو الصريخ فقد عفّوا وقد كرموا
ثم نتج فيهم بعد حين مالك بن العجلان وقد ذكر نسب العجلان، فعظم شأن مالك وسوّده الحيّان، فلما نقض يهود الحلف واقعهم وأصاب منهم ولحق بأبي جبيلة ملك غسّان بالشام وقيل بعث إليه الرنق بن زيد بن امرئ القيس فقدم عليه فأنشده:
أقسمت أطعم من رزق قطرة
…
حتى تكثّر للنجاة رحيل
حتى ألاقي معشر أنّى لهم
…
خلّ ومالهم لنا مبذول
أرض لنا تدعى قبائل سالم
…
ويجيب فيها مالك وسلول
قوم أولو عزّ وعزّة غيرهم
…
إنّ الغريب ولو يعزّ ذليل
فأعجبه وخرج في نصرتهم. وأبو جبيلة هو ابن عبد الله بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج، كان حبيب بن عبد حارثة وأخوه غانم ابنا الجشمي ساروا مع غسّان إلى الشام وفارقوا الخزرج. ولما خرج أبو جبيلة إلى يثرب
لنصرة الأوس والخزرج لقيه أبناء قيلة وأخبروه أنّ يهود علموا بقصده فتحصّنوا في آطامهم فوري [1] عن قصده باليمن، وخرجوا إليه فدعاهم إلى صنيع أعده لرؤسائهم ثم استلحمهم، فعزت الأوس والخزرج من يومئذ وتفرّقوا في عالية يثرب وسافلتها يتبوّءون منها حيث شاءوا، وملكت أمرها على يهود، فذلت اليهود وقلّ عددهم وعلت قدم أبناء قيلة عليهم، فلم يكن لهم امتناع إلّا بحصونهم وتفرّقهم أحزابا على الحيّين إذا اشتجرا.
وفي كتاب ابن إسحاق: إنّ تبعا أبا كرب غزا المشرق فمرّ بالمدينة وخلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة، فلما رجع أجمع على تخريبها واستئصال أهلها، فجمع له هذا الحي من الأنصار ورئيسهم عمرو بن ظلّة، وظلة أمّه وأبوه معاوية بن عمرو. قال ابن إسحاق: وقد كان رجل من بني عديّ بن النجّار ويقال له أحمر نزل بهم تبّع، وقال: إنّما التمر لمن أبره. فزاد ذلك تبّعا حنقا عليهم فاقتتلوا. وقال ابن قتيبة في هذه الحكاية إنّ الّذي عدا على التبّعي هو مالك بن العجلان، وأنكره السهيليّ، وفرّق بين القصتين بأنّ عمرو بن ظلة كان لعهد تبّع ومالك بن العجلان لعهد أبي جبيلة واستبعد ما بين الزمانين. ولم يزل هذان الحيّان قد غلبوا اليهود على يثرب. وكان الاعتزاز والمنعة تعرف لهم في ذلك، ويدخل في حلفهم من جاورهم من قبائل مضر وكانت قد تكون بينهم في الحيّين فتن وحروب ويستصرخ كل بمن دخل في حلفه من العرب ويهود.
قال ابن سعيد: ورحل عمرو بن الإنابة من الخزرج إلى النعمان بن المنذر ملك الحيرة فملكه على الحيرة، واتصلت الرئاسة في الخزرج والحرب بينهم وبين الأوس، ومن أشهر الوقائع التي كانت بينهم يوم بعاث قبل المبعث، كان على الخزرج فيه عمرو بن النعمان بن صلاة بن عمرو بن أمية بن عامر بن بياضة، وكان على الأوس يومئذ حضير الكتائب ابن سماك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل. وكان حلفاء الخزرج يومئذ أشجّ من غطفان وجهينة من قضاعة، وحلفاء الأوس مزينة من أحياء طلحة بن إياس وقريظة والنضير من يهود، وكان الغلب صدر النهار للخزرج ثم نزل حضير وحلف لا أركب أو أقتل، فتراجعت الأوس وحلفاؤها وانهزم الخزرج، وقتل عمرو بن النعمان رئيسهم. وكان آخر الأيام بينهم،
[1] أي أخفى قصده.
وصبحهم الإسلام وقد سئموا الحرب وكرهوا الفتنة، فأجمعوا على أن يتوّجوا عبد الله ابن أبي بن سلول. ثم اجتمع أهل العقبة منهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة ودعاهم إلى نصرة الإسلام، فجاءوا إلى قومهم بالخبر كما نذكر وأجابوا واجتمعوا على نصرته، ورئيس الخزرج سعد بن عبادة والأوس سعد بن معاذ. قالت عائشة:
كان يوم بعاث يوما قدّمه الله لرسوله، ولما بلغهم خبر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكّة وما جاء به من الدين وكيف أعرض قومه عنه وكذّبوه وآذوه وكان بينهم وبين قريش إخاء قديم وصهر، فبعث أبو قيس بن الأسلت من بني مرّة بن مالك بن الأوس ثم من بني وائل منهم واسمه صيفي بن عامر بن شحم بن وائل وكان يحبهم لمكان صهره فيهم، فكتب إليهم قصيدة يعظّم لهم فيها الحرمة ويذكر فضلهم وحلمهم وينهاهم عن الحرب، ويأمرهم بالكفّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكّرهم بما رفع الله عنهم من أمر الفيل وأوّلها:
أيا راكبا إمّا عرضت فبلغن
…
مقالة أوسيّ لؤيّ بن غالب
تناهز خمسا وثلاثين بيتا ذكرها ابن إسحاق في كتاب السير، فكان ذلك أوّل ما ألقح بينهم من الخير والإيمان.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يئس من إسلام قومه يعرض نفسه على وفود العرب وحجاجهم أيّام الموسم أن يقوموا بدين الإسلام وبنصره حتى يبلغ ما جاء به من عند الله وقريش يصدّونهم عنه ويرمونه بالجنون والشعر والسحر كما نطق به القرآن، وبينما هو في بعض المواسم عند العقبة لقي رهطا من الخزرج ست نفر اثنان من بني غانم بن مالك وهما: أسعد بن زرارة بن عديّ بن عبيد الله بن ثعلبة بن غانم ابن عوف بن الحرث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غانم وهو ابن عفراء، ومن بني زريق بن عامر: رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق، ومن بني غانم بن كعب بن سلمة بن سعد بن عبد الله بن عمرو بن الحرث بن ثعلبة بن الحرث ابن حرام بن كعب بن غانم كعب بن رئاب بن غانم وقطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غانم بن سواد بن غانم وعقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب ابن غانم. فلما لقيهم قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج! قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم! فقال: ألا تجلسون أكلمكم؟ فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله إنه
النبي الّذي تعدكم يهودية فلا يسبقنّكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم وصدّقوه وآمنوا به وأرجأوا الأمر في نصرته إلى لقاء قومهم، وقدموا المدينة فذكروا لقومهم شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام ففشا فيهم فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم وافى الموسم في العام المقبل اثنا عشر منهم فوافوه بالعقبة وهي العقبة الأولى، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحرث وأخوه معاذ ابنا عفراء، ورافع بن مالك ابن العجلان، وعقبة بن عامر من الستة الأولى، وستة آخرون منهم من بني غانم بن عوف من القواقل: منهم عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غانم، ومن بني زريق ذكوان بن عبد القيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق والعبّاس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان، هؤلاء التسعة من الخزرج وأبو عبد الرحمن بن زيد بن ثعلبة بن خزيمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة بن بني عصيّة من بليّ إحدى بطون قضاعة حليف لهم، ومن الأوس رجلان الهيثم بن التيهان واسمه مالك بن التيهان بن مالك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهر وعويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف. فبايعوه على الإسلام بيعة النساء وذلك قبل أن يفترض الحرب، ومعناه أنه حينئذ لم يؤمر بالجهاد وكانت البيعة على الإسلام فقط، كما وقع في بيعة النساء على أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ 60: 12 الآية، وقال لهم: فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحدّه في الدنيا فهو كفّارة له، وإن سترتم عليه في الدنيا إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذّب وإن شاء غفر. وبعث معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي يقريهم القرآن ويعلّمهم الإسلام ويفقّههم في الدين، فكان يصلّي بهم، وكان منزله على أسعد بن زرارة.
وغلب الإسلام في الخزرج وفشا فيهم وبلغ المسلمون من أهل يثرب أربعين رجلا فجمعوا، ثم أسلم من الأوس سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل وابن عمه أسيد بن حضير الكتائب وهما سيدا بني عبد الأشهل، وأوعب الإسلام بني عبد الأشهل وأخذ من كل بطن من الأوس ما عدا بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف وهي أوس أمّه من الأوس من بني حارثة، ووقف بهم عن الإسلام أبو قيس بن الأسلت يرى رأيه حتى مضى صدر من الإسلام ولم يبق دار من
دور أبناء قيلة إلّا وفيها رجال ونساء مسلمون.
ثم رجع مصعب إلى مكّة، وقدم المسلمون من أهل المدينة معه فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق فبايعوه، وكانوا ثلاثمائة وسبعين رجلا وامرأتين، بايعوه على الإسلام وأن يمنعوه ممن أراده بسوء ولو كان دون ذلك القتل، وأخذ عليهم النقباء اثني عشر تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وأسلم ليلتئذ عبد الله بن عمرو بن حرام وأبو جابر بن عبد الله، وكان أوّل من بايع البراء بن معرور من بني تزيد بن جشم من الخزرج. وصرخ الشيطان بمكانهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنطست [1] قريش الخبر فوجدوه قد كان فخرجوا في طلب القوم، وأدركوا سعد بن عبادة وأخذوه وربطوه حتى أطلقه جبير بن مطعم بن عدي ابن نوفل والحرث بن حرب بن أمية بن عبد شمس لجوار كان له عليهما ببلده. فلمّا قدم المسلمون المدينة أظهروا الإسلام ثم كانت بيعة الحرب حتى أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في القتال، فبايعوه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وأثرته عليهم، وأن لا ينازعوا الأمر أهله وأن يقوموا بالحق أينما كانوا ولا يخافوا في الله لومة لائم. ولما تمت بيعة العقبة وأذن الله لنبيّه في الحرب أمر المهاجرين الذين كانوا يؤذون بمكّة أن يلحقوا بإخوانهم من الأنصار بالمدينة، فخرجوا أرسالا وأقام هو بمكّة ينتظر الإذن في الهجرة فهاجر من المسلمين كثير سمّاهم ابن إسحاق وغيره.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيمن هاجر هو وأخوه زيد وطلحة بن عبيد الله وحمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة وأنيسة وأبو كبشة موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوّام وعثمان بن عفّان رضي الله عنهم. ثم أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فهاجر وصحبه أبو بكر رضي الله عنه، فقدم المدينة ونزل في الأوس على كلثوم بن مطعم بن امرئ القيس بن الحرث بن زيد بن عبيد بن مالك بن عوف. وسيد الخزرج يومئذ عبد الله بن أبي ابن سلول وأبيّ هو ابن مالك بن الحرث بن عبيد واسم أم عبيد سلول وعبيد هو ابن مالك بن سالم بن غانم بن عوف بن غانم بن مالك بن النجّار، وقد نظموا له الخرز ليملّكوه على الحيين، فغلب على أمره واجتمعت أبناء قيلة كلهم على الإسلام، فضغن لذلك لكنه أظهر أن يكون له اسم منه، فأعطى الصفقة وطوى على النفاق
[1] تنطست: اي تجسّست عن الاخبار وبحثت عنها. (قاموس) .
كما يذكر بعد. وسيد الأوس يومئذ أبو عامر بن عبد عمرو بن صيفي بن النعمان أحد بني ضبيعة بن زيد، فخرج إلى مكة هاربا من الإسلام حين رأى اجتماع قومه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بغضا في الدين، ولما فتحت مكة فرّ إلى الطائف، ولما فتح الطائف فرّ الى الشام فمات هنالك.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب الأنصاري حتى ابنتي مساكنه ومسجده ثم انتقل إلى بيته. وتلاحق به المهاجرون واستوعب الإسلام سائر الأوس والخزرج وسمّوا الأنصار يومئذ بما نصروا من دينه، وخطبهم النبي صلى الله عليه وسلم وذكرهم وكتب بين المهاجرين والأنصار كتابا وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرّهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم شرط لهم كما يفيده كتاب ابن إسحاق فلينظر هنالك.
ثم كانت الحرب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قومه فغزاهم وغزوة وكانت حروبهم سجالا، ثم كان الظهور والظفر لرسول الله صلى الله عليه وسلم آخرا كما نذكر في سيرته صلى الله عليه وسلم، وصبر الأنصار في المواطن كلها واستشهد من أشرافهم ورجالاتهم كثير هلكوا في سبيل الله وجهاد عدوّه. ونقض أثناء ذلك اليهود الذين بيثرب على المهاجرين والأنصار ما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهروا عليه، فأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فيهم وحاصرهم طائفة بعد أخرى، وأمّا بنو قينقاع فإنّهم تثاوروا مع المسلمين بسيوفهم وقتلوا مسلما، وأمّا بنو النضير وقريظة فمنهم من قتله الله وأجلاه، فأمّا بنو النضير فكان من شأنهم بعد أحد وبعد بئر معونة جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية العامريّين اللذين قتلهما عمرو بن أمية من القرى، ولم يكن علم بعقدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبما نذكره، فهمّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءهم لذلك خديعة منهم ومكرا، فحاصرهم حتى نزلوا على الجلاء وأن يحملوا ما استقلت به الإبل من أموالهم إلا الحلقة [1] وافترقوا في خيبر وبني قريظة.
وأمّا بنو قريظة فظاهروا قريشا في غزوة الخندق فلما فرج الله كما نذكره حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكمه وكلمته وشفع الأوس فيهم، وقالوا تهبهم لنا كما وهبت بني قينقاع للخزرج، فردّ حكمهم إلى سعد بن معاذ وكان جريحا في المسجد أثبت في غزوة الخندق، فجاء
[1] الدرع.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم تحكم في هؤلاء بعد ان استحلف الأوس أنهم راضون بحكمه، فقال: يا رسول الله تضرب الأعناق وتسبي الأموال والذرية، فقال حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. فقتلوا عن آخرهم وهم ما بين الستمائة والتسعمائة.
ثم خرج إلى خيبر بعد الحديبيّة سنة ست فحاصرهم وافتتحها عنوة وضرب رقاب اليهود وسبى نساءهم، وكان في السبي صفية بنت حيّي بن أخطب، وكان أبوها قتل مع بني قريظة وكانت تحت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وقتله محمد بن مسلمة غزاه من المدينة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستة نفر فبيته. فلما افتتحت خيبر اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه وقسم الغنائم في الناس من القمح والتمر، وكان عدد السهام التي قسّمت عليها أموال خيبر ألف سهم وثمانمائة سهم برجالهم وخيلهم الرجال ألف وأربعمائة والخيل مائتان. وكانت أرضهم الشّقّ ونطاة والكتيبة، فحصلت الكتيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والخمس ففرّقها على قرابته ونسائه ومن وصلهم من المسلمين، وأعمل أهل خيبر على المسافات ولم يزالوا كذلك حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه.
ولما كان فتح مكة سنة ثمان وغزوة حنين على أثرها وقسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم فيمن كان يستألفه على الإسلام من قريش وسواهم، وجد الأنصار في أنفسهم وقالوا: سيوفنا تقطر من دمائهم وغنائمنا تقسّم فيهم مع أنّهم كانوا ظنوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فتح بلاده وجمع على الدين قومه إنه سيقيم بأرضه وله غنيّة عنهم. وسمعوا ذلك من بعض المنافقين. وبلغ ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم وقال: يا معشر الأنصار ما الّذي بلغكم عني؟ فصدقوه الحديث، فقال: ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله ومتفرّقين فجمعكم الله؟ فقالوا الله ورسوله آمنّ. فقال:«لو شئتم لقلتم جئتنا طريدا فآويناك ومكذّبا فصدّقناك ولكن والله إني لأعطي رجالا استألفهم على الدين وغيرهم أحب اليّ، ألا ترضون أن ينقلب الناس بالشاء والبعير وتنقلبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ أمّا والّذي نفسي بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، الناس دثار وأنتم شعار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار» .
ففرحوا بذلك ورجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب فلم يزل بين أظهرهم
إلى أن قبضه الله إليه.
ولما كان يوم وفاته صلى الله عليه وسلم اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة بن كعب ودعت الخزرج إلى بيعة سعد بن عبادة، وقالوا لقريش: منا أمير ومنكم أمير ضنّا بالأمر أو بعضه فيهم لما كان من قيامهم بنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتنع المهاجرون، واحتجوا عليهم بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بالأنصار في الخطبة ولم يخطب بعدها. قال: أوصيكم بالأنصار إنهم كرشي [1] وعيبتي [2] وقد قضوا الّذي عليهم وبقي الّذي لهم فأوصيكم بأن تحسنوا إلى محسنهم وتتجاوزوا عن مسيئهم فلو كانت الإمارة لكم لكانت ولم تكن الوصية بكم فحجوهم. فقام بشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس بن زيد بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحرث بن الخزرج فبايع لابي بكر واتبعه الناس، فقال حباب بن المنذر بن الجموح بن حرام بن كعب بن غانم بن سلمة بن سعد يا بشير أنفست بها ابن عمك يعني الإمارة، قال لا والله ولكني كرهت أن أنازع الحق قوما جعله الله لهم. فلما رأى الأوس ما صنع بشير بن سعد وكانوا لا يريدون الأمر للخزرج قاموا فبايعوا أبا بكر، ووجد سعد فتخلف عن البيعة ولحق بالشام إلى أن هلك وقتله الجنّ فيما يزعمون وينشدون من شعر الجنّ.
نحن قتلنا سيّد الخزرج سعد بن عبادة
…
ضربناه بسهم فلم تخط فؤاده
وكان لابنه قيس من بعده غناء في الأيام
…
وأثرا في فتوحات الإسلام
وكان له انحياش إلى عليّ في حروبه مع معاوية، وهو القائل لمعاوية بعد مهلك عليّ رضي الله عنه وقد عرض به معاوية في تشيعه فقال: والآن ماذا يا معاوية؟ والله إنّ القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإنّ السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا.
وكان أجود العرب وأعظمهم جثمانا، يقال: إنه كان إذا ركب تخط رجلاه الأرض.
ولما ولي يزيد بن معاوية وظهر من عسفه وجوره وإدالته الباطل من الحق ما هو معروف، امتعضوا للدين وبايعوا لعبد الله بن الزبير حين خرجوا بمكة، واجتمعوا على حنظلة بن عبد الله الغسيل إن أبي عامر بن عبد عمرو بن صيفي بن النعمان بن مالك
[1] كرش الرجل: صار له جيش بعد انفراده.
[2]
العيبة من الرجل موضع سره.
ابن صيفي بن أمية بن ضبيعة بن زيد، وعقد ابن الزبير لعبد الله بن مطيع بن إياس على المهاجرين معهم، وسرح يزيد إليهم مسلم بن عقبة المريّ، وهو عقبة بن رباح ابن أسعد بن ربيعة بن عامر بن مرّة بن عوف ابن سعد بن دينار بن بغيض بن ريث ابن غطفان، فيمن فرض عليه من بعوث الشام والمهاجرين. فالتقوا بالحرة، حرة بني زهرة، وكانت الدبرة على الأنصار واستلحمهم جنود يزيد، ويقال إنه قتل في ذلك اليوم من المهاجرين والأنصار سبعون بدريّا وهلك عبد الله بن حنظلة يومئذ فيمن هلك، وكانت إحدى الكبر التي أتاها يزيد.
واستفحل ملك الإسلام من بعد ذلك واتسعت دولة العرب، وافترقت قبائل المهاجرين والأنصار في قاصية الثغور بالعراق والشام والأندلس وإفريقية والمغرب حامية ومرابطين، فافترق الحيّ أجمع من أبناء قيلة وافترقت وأقفرت منهم يثرب، ودرسوا فيمن درس من الأمم. وتِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ 2: 134 والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. لا خالق سواه ولا معبود إلّا إياه ولا خير إلّا خيره ولا ربّ غيره، وهو نعم المولى ونعم النصير. ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد للَّه رب العالمين.