الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخبر عن عمارة بيت المقدس بعد الخراب الأوّل وما كان لبني إسرائيل فيها من الملك في الدولتين لبني حشمناي وبني هيردوس إلى حين الخراب الثاني والجلوة الكبرى
هذه الأخبار التي كانت لليهود ببيت المقدس والملك الّذي كان لهم في العمارة بعد جلاء بخت نصّر وأمر الدولتين اللتين كانتا لهم في تلك المدة، لم يكتب فيها أحد من الأئمة ولا وقفت في كتب التواريخ مع كثرتها واتساعها على ما يلمّ بشيء من ذلك.
ووقع بيدي وأنا بمصر تأليف لبعض علماء بني إسرائيل من أهل ذلك العصر في أخبار البيت والدولتين اللتين كانتا بها ما بين خراب بخت نصّر الأوّل وخراب طيطش [1] الثاني الّذي كانت عنده الجلوة الكبرى، استوفى فيه أخبار تلك المدّة بزعمه ومؤلف الكتاب يسمّى يوسف بن كريّون وزعم أنه كان من عظماء اليهود وقوّادهم عند زحف الروم إليهم، وأنه كان على صولة [2] ، فحاصره أسبيانوس أبو طيطش واقتحمها عليه عنوة، وفرّ يوسف إلى بعض الشعاب وكمن فيها ثم حصل في قبضته بعد ذلك، واستبقاه ومن عليه وبقي في جملته. وكانت له تلك وسيلة إلى ابنه طيطش عند ما أجلى بني إسرائيل عن البيت فتركه بها للعبادة كما يأتي في أخباره. هذا هو التعريف بالمؤلف.
وأمّا الكتاب فاستوعب فيه أخبار البيت واليهود بتلك المدّة وأخبار الدولتين اللتين كانتا بها لبني حشمناي وبني هيردوس من اليهود، وما حدث في ذلك من الأحداث فلخصتها هنا كما وجدتها فيه لأني لم أقف على شيء فيها لسواه، والقوم أعلم بأخبارهم إذا لم يعارضها ما يقدّم عليها. وكما قال صلى الله عليه وسلم: لا تصدّقوا أهل الكتاب. فقد قال ولا تكذبوهم. مع أنّ ذلك إنّما هو راجع إلى أخبار اليهود وقصص الأنبياء التي كان فيها التنزيل من عند الله، لقوله بعد ذلك:«وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ 29: 46» . وأمّا الخبر عن الواقعات المستندة إلى الحس فخبر الواحد كاف فيه إذا غلب على الظنّ صحته، فينبغي أن نلحق هذه الأخبار بما تقدّم
[1] وفي نسخة اخرى: طيطس.
[2]
قوله على صولة: بلد قريب من المقدس كما في التوراة ولعلها المسماة اليوم بصفد (بخط العطار) .
من أخبارهم لتكمل لنا أحوالهم من أوّل أمرهم إلى آخره والله أعلم. ولم التزم صدقه من كذبه والله المستعان.
قال الطبريّ وغيره من الأئمة: كان يرميا ويقال أرميا بن خلقيّا من أنبياء بني إسرائيل ومن سبط لاوى، وكان لعهد صدقيّا هو آخر ملوك بني يهوذا ببيت المقدس، ولما توغلوا في الكفر والعصيان أنذرهم بالهلاك على يد بخت نصّر وسأله عنه وأطلقه واحتمله معه في السبي، وكان فيما يقوله أرميا إنّهم يرجعون إلى بيت المقدس بعد سبعين سنة يملك فيها بخت نصّر وابنه وابن ابنه ويهلكون، وإذا فرغت مملكة الكلدانيّين بعد السبعين يفتقدكم. يخاطب بذلك بني إسرائيل في نص آخر له عند كمال سبعين لخراب المقدس. وكان شعيا بن أمصيّا من أنبيائهم أخبرهم بأنهم يرجعون إلى بيت المقدس على يد كورش من ملوك الفرس، ولم يكن وجد لذلك العهد، فلما استولى كورش على بابل وأزال مملكة الكلدانيين أذن لبني إسرائيل في الرجوع إلى بيت المقدس وعمارة مسجدها، ونادى في الناس أنّ الله أوصاني أن أبني بيتا فمن كان للَّه وسعيه للَّه فليمض إلى بنائه. فمضى بنو إسرائيل في اثنين وأربعين ألفا وعليهم زيريافيل، بالفاء الهوائية، بن شالتهيل بن يوخنيّا آخر ملوكهم بالقدس الّذي حبسه بخت نصّر وقد مرّ ذكره. وقد مضى معهم عزير النبي من عقب أشيوع بن فنحاص ابن العازر بن هارون وبينه وبين أشيوع ستة آباء، لم أثق بنقلها لغلبة الظنّ بأنها مصحّفة، وردّ عليهم كورش الأواني وكانت لا يعبر عنها من الكثرة. قال ابن العميد: كانت خمسة آلاف وأربعمائة قصعة ذهبا وفضة. فمضوا إلى بيت المقدس وشرعوا في العمارة وشرع كورش وسعى عليهم في إبطال ذلك بعض أعدائهم من السامرة، ولم يكن أمد السبعين التي وعدهم بها انقضى لأنّ الخراب كان لثمان عشرة من ملك بخت نصّر وكانت دولته خمسة وأربعين ومدّة ابنه وابن ابنه خمس وعشرون، فبقيت من السبعين ثمانية عشر التي نفدت من ملك بخت نصّر قبل الخراب، فمنعوا من العمارة بسعاية السامريّة إلى أن انقضت الثمان عشرة.
وجاءت دولة دارا من ملوك الفرس فأذن لهم في العمارة وعاد السامرة لسعايتهم في إبطال ذلك عند دارا، فأخبره أهل دولته أنّ كورش أذن لهم في ذلك فخلّى سبيلهم وعمّروا بيت المقدس في الثانية من ملك دارا الأوّل، وهو أرفخشد والكوهن يومئذ عزيز، وجدّد لهم التوراة بعد سنتين من رجوعهم إلى البيت. ثم هلك زيريافيل
وخلفه فيهم بهشمياس، وقبض العزير وخلفه شمعون الصفا من بني هارون أيضا.
وقال يوسف بن كريون: إنّ بخت نصّر لما رجع إلى بابل أقام ملكا سبعا وعشرين سنة، وملك بعده ابنه بلتنصّر ثلاث سنين، وانتقض عليه داريوش ملك ماذي، وأظنهم الديلم وكيرش ملك فارس، وهزمتهم عساكره كما مرّ، فعمل في بعض أيامه صنيعا لقواده سرورا بالواقع، وسقاهم في أواني بيت المقدس التي احتملها جدّه من الهيكل، فسخط الله لذلك ورأى تلك الساعة كأنّ يدا خرجت من الحائط تومي بكتابة كلمات بالخط الكلداني والكلمات عبرانية، وهي أحصى وزن نفذ، فارتاع لذلك هو والحاضرون وفزع إلى دانيال النبي في تفسيرها. قال وهب بن منيّه وهو من أعقاب حزقيل الأصغر وكان خلفا من دانيال الأكبر، فقال له دانيال: هذه الكلمات تنذر بزوال ملكك ومعناها أنّ الله أحصى مدّة ملكك، ووزن أعمالك، ونفذ قضاؤه بزوال ملكك عنك وعن قومك. وقتل في تلك الليلة بلتنصّر، وكان ما قدّمناه من استقلال كورش وقومه فارس بالملك ورد الجالية إلى بيت المقدس، وأطلق لهم المال لعمارتها شكرا على الظفر بالكلدانيين ومضى بنو إسرائيل ومعهم عزرا الكاهن ونجميّا ومردخاي وجميع رؤساء الجالية يبنون البيت والمذبح على حدودها وقرّبوا القرابين.
وكان كورش بعد ذلك يطلق لهم في كل سنة من الحنطة والزيت والبقر والغنم والخمر ما يحتاجون اليه في خدمة البيت ويطلق لهم جراية واسعة. وجرى ملوك الفرس بعده على سنة في ذلك إلا قليلا في أيام أخشويروش [1] منهم، كان وزيره هامان وكان من العمالقة، وكان طالوت قد استخلفهم بأمر الله، فكان هامان يعاديهم لذلك وعظمت سعايته فيهم وحمله على قتلهم. وكان مردخاي من رؤسائهم قد زوّج أخته من الرضاع لأخشويروش، فدس إليها مردخاي أن تشفع إلى الملك في قومها فقبلها وعطف عليهم وأعادهم إلى أن انقرضت دولة الفرس بمهلك دارا، واستولى بنو يونان بمهلك دارا على ملك فارس.
وملك الإسكندر بن فيلفوس [2] ودوّخ الأرض، وفتح سواحل الشام، وسار إلى بيت المقدس لأنها من طاعة دارا، وخاف الكهنة من وصوله إليهم، ورأى في بعض
[1] وفي التوراة سفر استير الفصل السادس: احشوروش وفي كتب التاريخ احشويروش.
[2]
هو الإسكندر المقدوني ابن فيلبس.
تمثال [1] رجلا فقال: أنا رجل أرسلت لمعونتك. ونهاه عن أذية المقدس، وأوصاه بامتثال اشارتهم. فلما وصل إلى البيت لقيه الكوهن، فبالغ في تعظيمه ودخل معه إلى الهيكل، وبارك عليه، ورغب إليه الإسكندر أن يضع هنالك تمثاله من الذهب اليذكر به، فقال: هذا حرام لكن تصرف همتك في مصالح الكهنة والمصلين ويجعل لك من الذكر دعاؤهم لك، وأن يسمي كل مولود لبني إسرائيل في هذه السنة بالإسكندر، فرضي الإسكندر وحمل لهم المال وأجزل عطية الكوهن، وسأله أن يستخير الله في حرب دارا، فقال له: امض والله مظفرك. وحض دانيال وقص عليه الإسكندر رؤيا رآها فأوّلها له بأنه يظفر بدارا.
ثم انصرف الإسكندر وسار في نواحي بيت المقدس، ومرّ بنابلس ولقيه سنبلاط السامريّ وكان أهل المقدس أخرجوه عنهم، فأضافه وأهدى له أموالا وأمتعة واستأذنه في بناء هيكل في طول بريد فأذن له، فبناه وأقام صهره منشا كوهنا فيه، وزعم أنه المراد بقوله في التوراة اجعل البركة على جيل كريدم. فقصده اليهود في الأعياد، وحملوا اليه القرابين وعظم أمره، وغص بشأنه أهل بيت المقدس، إلى أنّ خربه هرمايوس بن شمعون أوّل ملوك بني حشمناى كما يأتي ذكره.
ثم هلك الإسكندر ببابل بعد استيفاء مدّته لاثنتين وثلاثين من ملكه وقد كان قسم ملكه بين عظماء دولته، فكان سلياقوس بعد الإسكندر وكان عظيم أصحابه، فأكرم اليهود وحمل المال إلى فقراء البيت ثم سعى عنده بأن في الهيكل أموالا وذخائر نفيسة ورغبوه في ذلك، فبعث عظيما من قوّاده اسمه أبردوس ليقبض ذلك المال فحضر بالبيت، وأنكر الكاهن حنّيان [2] أن يكون بالبيت إلّا بقية الصدقات من فارس ويونان وما أعطاهم سلياقوس آنفا، فلم يقبل، ووكل بهم في الهيكل فتوجهوا بالدعاء. وجاء أدروس ليقبض المال فصدع في طريقه، وجاء أصحابه إلى الكوهن حنينا وجماعة الكهنة يسألون الاقالة والدعاء لأردوس، فدعوا له وعوفي وارتحل.
وازداد الملك سلياقوس إعظاما للبيت وحمل ما كان يحمل إليهم مضاعفا.
[1] العبارة هنا مشوشة ولم نجد في المراجع التي بين أيدينا على ما يصحح هذه العبارة. ومقتضى السياق:
ورأى امام تمثال رجلا فقال
…
[2]
ورد اسمه في التوراة حناني (سفر تحميا- الفصل الأول) .
قال ابن كريّون: ثم ترجمت التوراة لليونانيين وكان من خبرها أنّ تلماي [1] ملك مصر من اليونانيين بعد الإسكندر، وكان من أهل مقدونية، وكان محبا للعلوم ومشغوفا بالحكمة والكتب الإلهية. وذكرت له كتب اليهود الأربعة والعشرون سفرا فتاقت نفسه للوقوف عليها، وكتب إلى كهنون القدس في ذلك وأهدى له، فاختار سبعين من أحبار اليهود وعلمائهم وفيهم كوهن عظيم اسمه ألعازر، وبعثهم إليه ومعهم الأسفار فتلقاهم بالكرامة وأوسع لهم النزول ورتب مع كل واحد كاتبا يملي عليه ما يترجم له، حتى ترجم الأسفار من العبرانية إلى اليونانية، وصحّحها وأجاز الأحبار وأطلق لهم من كان بمصر من سبي اليهود نحوا من مائة ألف، وصنع مائدة من الذهب نقشت عليها صورة أرض مصر والنيل ورصعها بالجواهر والفصوص وبعث بها إلى القدس فأودعت في الهيكل.
ثم ملك تلماي صاحب مصر، واستولى بعده أنطيخوس صاحب مقدونية على أنطاكية ثم على مصر، وأطاعه ملوك الطوائف بأرض العراق، واستفحل ملكه وعظم طغيانه، وأمر الأمم بعبادة الأصنام. وعمل أصناما على صورته، فامتنع اليهود من قبولها وسعى بهم عنده بعض شرارهم، وكانوا أهل نجدة وشوكة، فسار انطيخوس إليهم وأثخن فيهم بالقتل والسبي، وفروا إلى الجبال والبراري، فرجع واستخلف على بيت المقدس قائدة فليلقوس، وأمره أن يحملهم على السجود لأصنامه وعلى أكل الخنزير وترك السبت والختان، ويقتل من يخالفه. ففعل ذلك أشدّ ما يكون، وبسط على اليهود أيدي أولئك الأشرار الساعين، وقتل العازر الكوهن الّذي ترجم لهم التوراة لمّا امتنع من السجود لصنمه وأكل قربانه. وكان فيمن هرب إلى الجبال والبراري متيتيّا بن يوحنّا بن شمعون الكوهن الأعظم ويعرف بحشمناي بن حونيّا من بني نوذاب من نسل هارون عليه السلام، وكان رجلا صالحا خيّرا شجاعا، وأقام بالبرية وحزن لما نزل بقومه. فلما أبعد انطيخوس الرحلة عن القدس، بعث متيتيّا إلى اليهود يعرفهم بمكانه، وينمعض لهم ويحرّضهم على الثورة على اليونانيين، فأجابوه وتراسلوا في ذلك، وبلغ الخبر فليلقوس قائد أنطيخوس، فسار في عسكره إلى البريّة طالبا متيتيا وأصحابه، فلما وصل إليهم حاربهم فغلبوه وانهزم في عساكره.
[1] هو بطليموس مؤسس دوله البطالسة في مصر.
وقوي اليهود على الخلاف، وهلك متيتيّا خلال ذلك وقام بأمره ابنه يهوذا فهزم عساكر فليلقوس ثانية. وشغل أنطيخوس بحروب الفرس فزحف إليهم من مقدونية، واستخلف عليهم ابنه أفظر، وضمّ إليه عظيما من قومه اسمه ليشاوش، وأمرهم أن يبعثوا العساكر إلى اليهود، فبعثوا ثلاثة من قوادهم وهم نيقانور وتلمياس وصردوس، وعهد إليهم بإبادة اليهود حيث كانوا فسارت العساكر، واستنفروا سائر الأرمن من نواحي دمشق وحلب، وأعداء اليهود من فلسطين وغيرهم. وزحف يهوذا بن متيتيّا مقدّم اليهود للقائم بعد أن تضرعوا إلى الله وطافوا بالبيت وتمسحوا به، ولقيهم عسكر نيقانور فهزموه، واثخنوا فيه بالقتل، وغنموا ما معهم، ثم لقيهم عسكر القائد ابن تلمياس وصردوس ثانيا فهزموهما كذلك، وقبضوا على فليلقوس القائد الأوّل لأنطيخوس فأحرقوه بالنار، ورجع نيقانور إلى مقدونية فدخلها وخبّر ليشاوش وأفظر ابن الملك بالهزيمة، فجزعوا لها. ثم جاءهم الخبر بهزيمة أنطيخوس أمام الفرس، ثم وصل إلى مقدونية واشتدّ غيظه على اليهود، وجمع لغزوهم فهلك دون ذلك بطاعون في جسده، ودفن في طريقه. وملك أفظر وسموه أنطيخوس باسم أبيه.
ورجع يهوذا بن متيتيّا إلى القدس، فهدم جميع ما بناه أنطيخوس من المذابح، وأزال ما نصبه من الأصنام، وطهّر المسجد، وبنى مذبحا جديدا للقربان، فوضع فيه الحطب ودعا الله أن يريهم آية في اشتغاله من غير نار، فاشتعل كذلك ولم ينطف إلى الخراب الثاني أيام الجلوة، واتخذوا ذلك اليوم عيدا سمّوه عيد العساكر.
ونازل ليشاوش فزحف إليه يهوذا بن متيتيّا في عسكر اليهود وثبت عسكر ليشاوش فانهزموا، ولجأ إلى بعض الحصون وطلب النزول على الأمان على أن لا يعود إلى حربهم، فأجابه يهوذا على أن يدخل أفظر معه في العقد وكان ذلك. وتم الصلح وعاهد أفظر اليهود على أن لا يسير إليهم، وشغل يهوذا بالنظر في مصالح قومه.
قال ابن كريّون: وكان لذلك العهد ابتداء أمر الكيتم وهم الروم، وكانوا برومية وكان أمرهم شورى بين ثلاثمائة وعشرين رئيسا، ورئيس واحد عليهم يسمونه الشيخ يدبّر أمرهم، ويدفعون للحروب من يثقون بغنائه وكفايته منهم أو من سواهم. هكذا كان شأنهم لذلك العهد، وكانوا قد غلبوا اليونانيين واستولوا على ملكهم، وأجازوا البحر إلى إفريقية فملكوها كما يأتي في أخبارهم، فأجمعوا السير إلى أنطيخوس أفظر وابن
عمه ليشاوش بقية ملوك يونان بأنطاكيّة، وكاتبوا يهوذا ملك بني إسرائيل بالقدس يستميلونهم عن طاعة أنطيخوس واليونانيين فأجابوهم إلى ذلك، وبلغ ذلك أنطيخوس فنبذ إلى اليهود عهدهم وسار إلى حربهم فهزموه ونالوا منه. ثمة راسلهم في الصلح وأن يقيموا على عهدهم معه وتحمل لبيت المقدس بما كان يحمله من المال، وأن يقتل من عنده من شرار اليهود الساعين عليهم، فتم العهد بينهم على ذلك وقتل شملاوش من الساعين على اليهود، ثم جهز أهل رومة قائد حروبهم دمترياس [1] بن سلياقوس إلى أنطاكية، ولقيه أنطيخوس أفظر فانهزم أنطيخوس وقتل هو وابن عمه ليشاوش، وملك الروم أنطاكية. ونزلها قائدهم دمترياس وكان ألقيموس الكوهن من شرار اليهود عند أنطيخوس، فلما ملك دمترياس قائد الروم فسعى عنده في اليهود ورغبه في ملك القدس والاستيلاء على أمواله، فبعث قائده نيقانور لذلك وخرج يهوذا ملك القدس لتلقيه وطاعته، وقدم بين يديه الهدايا والتحف، فمال نيقانور إلى مسالمة اليهود وحسن رأيه وأكد بينه وبينهم العهد. ورجع وبادر ألقيموس الكوهن إلى دمترياس وأخبره بميل قائده نيقانور إلى اليهود، وزاد في إغرائه فبعث إلى قائده ينكر عليه ويستحثه لإنفاذ أمره، وأن يحمل يهوذا مقيّدا. وبلغ ذلك يهوذا فلحق بمدينة السامرة صبصطية، واتبعه نيقانور في العساكر فكرّ عليه يهوذا وهزمه وقتل أكثر عساكر الروم الذين معه. ثم ظفر به فصلبه على الهيكل ببيت المقدس، واتخذ اليهود ذلك اليوم عيدا وهو ثالث عشر آذار.
ثم بعث قائد الروم دمترياس من قابل قائده الآخر يعتروس في ثلاثين ألفا من الروم لمحاربة اليهود، وخرجت عساكرهم من المقدس، وفرّوا عن ملكهم يهوذا وافترقوا في الشعاب، وأقام معه منهم فلّ قليل، واتبعهم يعتروس فلقيه يهوذا وأكمن له فانهزم اليهود، وخرج عليهم كمين الروم فقتل يهوذا في كثير من ولايته ودفن إلى جانب أبيه متيتيّا. ولحق أخوه يوناثال فيمن بقي من اليهود، بنواحي الأردن وتحصنوا ببئر سبع، فحاصرهم يعتروس هنالك أياما، ثم بيتوه فهزموه وخرج يوناثال واليهود في اتباعه فتقبضوا عليه، ثم أطلقوه على مسالمة اليهود وأن لا يسير إلى حربهم. فهلك يوناثال إثر ذلك وقام بأمر اليهود أخوهما الثالث شمعون، فاجتمع إليه اليهود من كل ناحية وعظمت عساكره، وغزا جميع أعدائهم ومن ظاهر عليهم من سائر الأمم، وزحف
[1] هو القائد الروماني الشهير ميتريدات.
إليه دمترياس قائد الروم بأنطاكية فهزمه شمعون وقتل غالب عسكره.
ولم تعاودهم الروم بعدها بالحرب إلى أن هلك شمعون. وثب عليه صهره تلماي زوج أخته فقتله وتقبض على بنيه وامرأته، وهرب ابنه الأكبر قانوس بن شمعون إلى غزة فامتنع بها، وكان اسمه يوحان وكان شجاعا قتل في بعض الحروب شجاعا اسمه هرقانوس فسمّاه أبوه باسمه. ثم اجتمع عليه اليهود وملكوه وسار إلى بيت المقدس، وفرّ تلماي المتوثب على أبيه إلى حصن داخون، فامتنع به وسار هرقانوس إلى محاربته وضيق عليه، وأشرف تلماي في بعض الأيام من فوق السور بأم هرقانوس وأخته يتهدّده بقتلهما، فكف عن الحرب، وانصرف لحضور عيد المظال ببيت المقدس فقتل تلماي أخته وأمّه وفرّ من الحصن.
قال ابن كريّون: ثم زحف دمترياس بن سلياقوس قائد الروم إلى القدس وحاصر اليهود فامتنعوا، وثلم السور، وراسلوه في تأخير الحرب إلى انقضاء عيدهم، ففعل على أن يكون له نصيب في القربان. ووقعت في نفسه صاغية اليهم، وأهدى تماثيل للبيت فحسن موقعها عندهم، وراسلوه في الصلح على المسالمة والمظاهرة لبعض فأجاب. وخرج إليه هرقانوس ملك اليهود وأعطاه ثلاثمائة بدرة من الذهب استخرجها من بعض قبور بني داود. ورحل عنهم الروم، وشغل هرقانوس في رمّ ما ثلم [1] من السور، وحدثت خلال ذلك فتنة بين الفرس والروم فسار إليهم دمترياس في جموع الروم، وبينما أبطأ هرقانوس ملك اليهود لحضور عيدهم إذ جاءه الخبر بأنّ الفرس هزموا دمترياس، فنهز الفرصة وزحف إلى أعدائه من أهل الشام وفتح نابلس وحصون أروم التي بجبل الشراة، وقتل منهم خلقا ووضع عليهم الجزية وأخذهم بالختان والتزام أحكام التوراة، وخرب الهيكل الّذي بناه سنبلاط السامري في طول بريد بإذن الإسكندر، وقهر جميع الأمم المجاورين لهم، ثم بعث وجوه اليهود وأعيانهم إلى الأشياخ والمدبّرين برومة يسأل تجديد العهد، وأن يردّوا على اليهود ما أخذ أنطيخوس ويونان من بلادهم التي صارت في مملكة الروم، فأجابوا وكتبوا له العهد بذلك وخاطبوه بملك اليهود. وإنما كان يسمى من سلف قبله من آبائه بالكوهن فسمى نفسه من يومئذ بالملك، وجمع بين منزلة الكهنونة ومنزلة الملك، وكان أوّل ملوك بني حشمناي. ثم سار إلى مدينة السامرة صبصطية ففتحها وخرّبها وقتل أهلها.
[1] أي ترميم ما تهدّم.
قال ابن كريّون: وكان اليهود في دينهم يومئذ ثلاث فرق. فرقة الفقهاء وأهل القياس [1] ويسمّونهم الفروشيم وهم الربّانيّون، وفرقة الظاهريّة المتعلقين بظواهر الألفاظ من كتابهم ويسمونهم الصدوقيّة وهم القرّاءون، وفرقة العبّاد المنقطعين إلى العبادة والتسبيح والزهاد فيما سوى ذلك ويسمونهم الحيسيد. وكان هرقانوس وآباؤه من الربانيين، ففارق مذهبهم إلى القراءين لأنه جمع اليهود يوما عند ما تمهّد أمره، وأخذ بمذاهب الملك، وألقى به في صنيع احتفل فيه وألان لهم جانبه وخضع في قوله وقال:، أريد منكم النصيحة. فطمع بعض الربانيين فيه وقال: إنّ النصيحة أن تنزل عن الكهنونة وتقتصر على الملك وقد فاتك شرطها لأنّ أمك كانت سبية من أيام أنطيخوس. فغضب لذلك وقال للربانيين: قد حكمتكم في صاحبكم فأخذوا في تأديبه بالضرب فتنكر لهم من أجل ذلك، وفارق مذهبهم إلى مذهب القراءين، وقتل من الربانيين خلقا كثيرا، ونشأت الفتنة بين هاتين الطائفتين من اليهود، واتصلت بينهم الحرب إلى هذا العهد.
وهلك هرقانوس لإحدى وثلاثين سنة من دولته، وملك بعده ابنه أرستبلوس وكان كبيرهم، وكان له ولدان آخران وهم أنطقنوس ويحبّ الملك له ويبغض الإسكندر فأبعده إلى جبل الخليل، فلما ملك أرستبلوس أخذ من اخوته بمذهب أبيهم وقبض على الإسكندر وأمه واستخلص أنطقنوس وقدّمه على العساكر، واكتفى به في الحروب، وترفع عن تاج الكهنونة ولبس تاج الملك. وخرج أنطقنوس إلى الأمم المجاورين الخارجين عن طاعتهم فردّهم إلى الطاعة، وكثرت السعاية فيه عند أخيه من البطانة وأغروه به، فلما قدم أنطقنوس من مغيبه وافق عيد المظال، وكان أخوه ملتزما بيته لمرض طرقه، فعدل أنطقنوس عن بيته إلى الهيكل للتبرك، فأوهموا الملك أنّه إنما فعل ذلك لاستمالة الكهنونية والعامة وأنّه يروم قتل أخيه، وعلامة ذلك أنّه جاء بسلاحه، فعهد أرستبلوس إلى حشمانه وغلمان قصه إن جاء متسلحا أن يقتلوه.
وكان ذلك وتمت حيلة البطانة وسعايتهم عليه وعلم أرستبلوس أن قد خدع في أخيه، فندم واغتمّ ولطم صدره حتى قذف الدم من فيه، وأقام عليلا بعده حولا كاملا ثم هلك. فأفرجوا على أخيه الإسكندر من محبسه، وبايعوا له بالملك واستقام له الأمر، ثم انتقض عليه أهل عكّا وأهل صيدا وأهل غزة بعثوا إلى قبرص، وسار
[1] وفي نسخة اخرى: أهل القيافة.
الإسكندر إلى عكّا فحاصرها وكانت كلوبطرة ملكة من بقية اليونان قد انتقض عليها ابنها واسمه ألظيرو وأجاز البحر إلى جزيرة قبرص فملكها، فبعث أهل عكّا أنّهم يملكونه وأجاز إليهم في ثلاثين ألف مقاتل، حتى إذا أفرج الإسكندر عن حصارهم راجعوا أمرهم ومنعوا ألظيرو، وامن الدخول إليهم، فسار في بلاد الإسكندر ونزل على جبل الخليل فقتل منه خلقا، ونزل على الأردن. وفي خلال ذلك زحف الإسكندر إلى صيدا ففتحها عنوة واستباحها، وعاد إلى القدس وقد أطاعته البلاد وحسم داء المنتقضين عليه.
ثم تجدّدت الفتنة بين اليهود بالقدس وذلك أنّهم اجتمعوا في عيد المظال بالمسجد، وحضر الإسكندر معهم فتلاعبوا بين يديه مراماة بما عندهم من مشوم ومأكول، وأصاب الإسكندر رمية من الربّانيين فغضب لها، وشاتمهم القراءون بما كانوا من شيعته، فشتموا الإسكندر وقتلوا الشاتم وأصحابه فلم يغن عنهم، وعظم فيهم الفتك وانفض الجمع، وعهد الإسكندر ان يستدّ المذبح والكهنة بحائط عن الناس، ونفذ أمره بذلك، واتصلت الفتنة بين اليهود ست سنين قتل من الربانيين نحو من خمسين ألفا، والإسكندر يعين القراءين عليهم، وبعثوا إلى دمتريوس المسمّى أنطيخوس، وبذلوا له المال فسار معهم إلى نابلس ولقي الإسكندر فهزمه وقتل عامّة أصحابه ورجع. فخرج الإسكندر إلى الربّانيين وأثخن فيهم وظفر منهم بجماعة تزيد على ثلاثمائة فقتلهم صبرا وقهر سائر اليهود. وسار إلى دمتريوس ففتح الكثير من بلاده، وخرج فظفر به الإسكندر وقتله.
وعاد إلى بيت المقدس لثلاث سنين في محاربة الربّانيين ودمتريوس، فاستقام أمره وعظم سلطانه ثم طرقه المرض فقام عليلا ثلاثا آخرين، وخرج بعدها لحصار بعض الحصون وانتقضوا عليه فمات هنالك، وأوصى امرأته الإسكندرة بكتمان موته حتى يفتح الحصن وتسير بشلوه [1] إلى القدس فتدفنه فيه، وتصانع الربّانيين على ولدها فتملكه، لأن العامّة إليهم أميل. ففعلت ذلك واستدعت من كان نافرا من الربّانيين، وجمعتهم وقدّمتهم للشورى، واستبدت بالملك. وكان لها ابنان من الإسكندر بن هرقانوس، اسم الأكبر منهما هرقانوس، والآخر أرستبلوس، وكانا صغيرين عند موت أبيهما فلما كبرا عينت هرقانوس للكهنونة وقدّمت أرستبلوس على
[1] ج أشلاء وهنا تعني جثته أو رفاته.