المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الخبر عن عمارة بيت المقدس بعد الخراب الأول وما كان لبني إسرائيل فيها من الملك في الدولتين لبني حشمناي وبني هيردوس إلى حين الخراب الثاني والجلوة الكبرى - تاريخ ابن خلدون - جـ ٢

[ابن خلدون]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الثاني]

- ‌الكتاب الثاني ويشتمل: أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدإ الخليقة الى هذا العهد

- ‌المقدّمة الاولى في أمم العالم واختلاف أجيالهم والكلام على الجملة في أنسابهم

- ‌المقدّمة الثانية في كيفية وضع الأنساب في كتابنا لأهل الدول وغيرهم

- ‌القول في أجيال العرب وأوّليتها واختلاف طبقاتهم وتعاقبها وأنساب كل طبقة منها

- ‌برنامج بما تضمنه الكتاب من الدول في هذه الطبقات الأربع على ترتيبها والدول المعاصرين من العجم في كل طبقة منها

- ‌الطبقة الاولى من العرب وهم العرب العاربة وذكر نسبهم والإمام بملكهم ودولهم على الجملة

- ‌الخبر عن إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام ونسبه الى فالغ بن عابر وذكر أولاده صلوات الله عليهم وأحوالهم

- ‌الطبقة الثانية من العرب وهم العرب المستعربة وذكر أنسابهم وأيامهم وملوكهم والإلمام ببعض الدول التي كانت على عهدهم

- ‌الخبر عن ملوك التبابعة من حمير وأوليتهم باليمن ومصاير أمورهم

- ‌ملك الحبشة اليمن

- ‌غزو الحبشة الكعبة

- ‌قصة سيف بن ذي يزن وملك الفرس على اليمن

- ‌الخبر عن ملوك بابل من النبط والسريانيين وملوك الموصل ونينوى من الجرامقة

- ‌الخبر عن القبط وأوّلية ملكهم ودولهم وتصاريف أحوالهم والإلمام بنسبهم

- ‌الخبر عن بني إسرائيل وما كان لهم من النبوة والملك وتغلبهم على الأرض المقدّسة بالشام وكيف تجدّدت دولتهم بعد الانقراض وما اكتنف ذلك من الأحوال

- ‌الخبر عن حكام بني إسرائيل بعد يوشع الى أن صار أمرهم إلى الملك وملك عليهم طالوت

- ‌الخبر عن ملوك بني إسرائيل بعد الحكام ثم افتراق أمرهم والخبر عن دولة بني سليمان بن داود على السبطين يهوذا وبنيامين بالقدس الى انقراضها

- ‌الخبر عن افتراق بنى إسرائيل منهم ببيت المقدس على سبط يهوذا وبنيامين الى انقراضه

- ‌الخبر عن دولة الأسباط العشرة وملوكهم الى حين انقراض أمرهم

- ‌الخبر عن عمارة بيت المقدس بعد الخراب الأوّل وما كان لبني إسرائيل فيها من الملك في الدولتين لبني حشمناي وبني هيردوس إلى حين الخراب الثاني والجلوة الكبرى

- ‌ابتداء أمر انظفتر [1] أبو هيردوس

- ‌انقراض ملك بني حشمناي وابتداء ملك هيردوس وبنيه

- ‌الخبر عن شأن عيسى بن مريم صلوات الله عليه في ولادته وبعثته ورفعه من الأرض والإلمام بشأن الحواريين بعده وكتبهم الأناجيل الأربعة وديانة النصارى بملته واجتماع الاقسة على تدوين شريعته

- ‌الخبر عن الفرس وذكر أيامهم ودولهم وتسمية ملوكهم وكيف كان مصير أمرهم الى تمامه وانقراضه

- ‌الطبقة الاولى من الفرس وذكر ملوكهم وما صار اليه في الخليقة أحوالهم

- ‌الطبقة الثانية من الفرس وهم الكينية وذكر ملوكهم وأيامهم إلى حين انقراضهم

- ‌الطبقة الثالثة من الفرس وهم الأشكانية ملوك الطوائف وذكر دولهم ومصاير أمورهم الى نهايتها

- ‌الطبقة الرابعة من الفرس وهم الساسانية والخبر عن ملوكهم الأكاسرة إلى حين الفتح الإسلامي

- ‌الخبر عن دولة يونان والروم وأنسابهم ومصايرهم

- ‌الخبر عن دولة يونان والإسكندر منهم وما كان لهم من الملك والسلطان الى انقراض أمرهم

- ‌الخبر عن اللطينيين وهم الكيتم المعرفون بالروم من أمم يونان وأشياعهم وشعوبهم وما كان لهم من الملك والغلب وذكر الدولة التي فيهم للقياصرة وأولية ذلك ومصايره

- ‌الخبر عن فتنة الكيتم مع أهل إفريقية وتخريب قرطاجنة ثم بناؤها على الكيتم وهم اللطينيون

- ‌الخبر عن ملوك القياصرة من الكيتم وهم اللطينيون ومبدإ أمورهم ومصاير أحوالهم

- ‌الخبر عن القياصرة المتنصرة من اللطينيين وهم الكيتم واستفعال ملكهم بقسطنطينية ثم بالشام بعدها إلى حين الفتح الإسلامي ثم بعد إلى انقراض أمرهم

- ‌الخبر عن ملوك القياصرة من لدن هرقل والدولة الإسلامية الى حين انقراض أمرهم وتلاشي أحوالهم

- ‌الخبر عن القوط وما كان لهم من الملك بالأندلس الى حين الفتح الإسلامي وأوّلية ذلك ومصايره

- ‌الطبقة الثالثة من العرب وهم العرب التابعة للعرب وذكر افاريقهم وأنسابهم وممالكهم وما كان لهم من الدول على اختلافها والبادية والرحالة منهم وملكها

- ‌الخبر عن أنساب العرب من هذه الطبقة الثالثة واحدة واحدة وذكر مواطنهم ومن كان له الملك منهم

- ‌الخبر عن حمير من القحطانية وبطونها وتفرع شعوبها

- ‌الخبر عن قضاعة وبطونها والإلمام ببعض الملك الّذي كان فيها

- ‌الخبر عن بطون كهلان من القحطانية وشعوبهم واتصال بعضها مع بعض وانقضائها

- ‌الخبر عن ملوك الحيرة من آل المنذر من هذه الطبقة وكيف انساق الملك اليهم ممن قبلهم وكيف صار إلى طيِّئ من بعدهم

- ‌ملوك كندة الخبر عن ملوك كندة من هذه الطبقة ومبدإ أمرهم وتصاريف أحوالهم

- ‌الخبر عن أبناء جفنة ملوك غسان بالشام من هذه الطبقة وأوليتهم ودولهم وكيف انساق الملك اليهم ممن قبلهم

- ‌الخبر عن الأوس والخزرج أبناء قيلة من هذه الطبقة ملوك يثرب دار الهجرة وذكر أوليتهم والإلمام بشأن نصرتهم وكيف انقراض أمرهم

- ‌الخبر عن بني عدنان وأنسابهم وشعوبهم وما كان لهم من الدول والملك في الإسلام وأوّلية ذلك ومصايره

- ‌الخبر عن قريش من هذه الطبقة وملكهم بمكة وأولية أمرهم وكيف صار الملك اليهم فيها ممن قبلهم من الأمم السابقة

- ‌أمر النبوّة والهجرة في هذه الطبقة الثالثة وما كان من اجتماع العرب على الإسلام بعد الاباية والحرب

- ‌المولد الكريم وبدء الوحي

- ‌بدء الوحي

- ‌هجرة الحبشة

- ‌ العقبة الثانية

- ‌الهجرة

- ‌الغزوات

- ‌الأبواء:

- ‌بواط:

- ‌البعوث:

- ‌غزوة بدر الثانية:

- ‌غزوة الكدر:

- ‌غزوة السويق:

- ‌ذي أمرّ:

- ‌نجران:

- ‌قتل كعب بن الأشرف:

- ‌غزوة بني قينقاع:

- ‌سرية زيد بن حارثة إلى قردة:

- ‌قتل ابن أبي الحقيق:

- ‌غزوة أحد

- ‌غزوة حمراء الأسد:

- ‌بعث الرجيع:

- ‌غزوة بئر معونة:

- ‌غزوة بني النضير:

- ‌غزوة ذات الرقاع:

- ‌غزوة بدر الصغرى الموعد:

- ‌غزوة دومة الجندل:

- ‌غزوة الخندق

- ‌غزوة بني قريظة

- ‌غزوة الغابة وذي قرد

- ‌غزاة بني المصطلق:

- ‌عمرة الحديبيّة

- ‌إرسال الرسل الى الملوك

- ‌غزوة خيبر

- ‌فتح فدك ووادي القرى

- ‌عمرة القضاء

- ‌غزوة جيش الأمراء

- ‌فتح مكة

- ‌غزوة حنين

- ‌حصار الطائف وغزوة تبوك

- ‌إسلام عروة بن مسعود ثم وفد ثقيف وهدم اللات

- ‌الوفود

- ‌ حجة الوداع

- ‌العمال على النواحي

- ‌خبر العنسيّ

- ‌بعث أسامة:

- ‌أخبار الأسود ومسيلمة وطليحة:

- ‌مرضه صلى الله وسلم عليه:

- ‌خبر السقيفة

- ‌الخلافة الإسلامية

- ‌الخبر عن الخلافة الإسلامية في هذه الطبقة وما كان فيها من الرّدة والفتوحات وما حدث بعد ذلك من الفتن والحروب في الإسلام ثم الاتفاق والجماعة

- ‌بعث الجيوش للمرتدين

- ‌خبر طليحة

- ‌خبر هوازن وسليم وبني عامر

- ‌خبر بني تميم وسجاح

- ‌البطاح ومالك بن نويرة

- ‌خبر مسيلمة واليمامة

- ‌ردّه الحطم وأهل البحرين

- ‌ردة أهل عمان ومهرة واليمن [2]

- ‌بعوث العراق وصلح الحيرة

- ‌فتح الحيرة

- ‌فتح ما وراء الحيرة

- ‌فتح الأنبار وعين التمر وتسمّى هذه الغزوة ذات العيون

- ‌الوقائع بالعراق

- ‌بعوث الشام

- ‌بعوث الشام

- ‌خلافة عمر رضي الله عنه

- ‌فتح دمشق

- ‌خبر المثنى بالعراق بعد مسير خالد الى الشام

- ‌ولاية أبي عبيد بن مسعود على العراق ومقتله

- ‌أخبار القادسية

- ‌فتح المدائن وجلولاء بعدها

- ‌ولاية عتبة بن غزوان على البصرة

- ‌وقعة مرج الروم وفتوح مدائن الشام بعدها

- ‌وقعة أجنادين وفتح بيسان والأردن وبيت المقدس

- ‌مسير هرقل إلى حمص وفتح الجزيرة وارمينية

- ‌غزو فارس من البحرين وعزل العلاء عن البصرة ثم المغيرة وولاية أبي موسى

- ‌بناء البصرة والكوفة

- ‌فتح الأهواز والسوس بعدهما

- ‌مسير المسلمين الى الجهات للفتح

- ‌مجاعة عام الرمادة وطاعون عمواس

- ‌فتح مصر

- ‌وقعة نهاوند وما كان بعدها من الفتوحات

- ‌فتح همذان

- ‌فتح الريّ

- ‌فتح أذربيجان

- ‌فتح الباب

- ‌فتح موقان وجبال ارمينية

- ‌غزو الترك

- ‌فتح خراسان

- ‌فتوح فارس

- ‌إصطخر:

- ‌بسا ودرابجرد:

- ‌كرمان:

- ‌سجستان:

- ‌مكران:

- ‌خبر الأكراد

- ‌مقتل عمر وأمر الشورى وبيعة عثمان رضي الله عنه

- ‌نقض أهل الاسكندرية وفتحها

- ‌ولاية الوليد بن عقبة الكوفة وصلح أرمينية وأذربيجان

- ‌ولاية عبد الله بن أبي سرح على مصر وفتح افريقية

- ‌فتح قبرص

- ‌ولاية ابن عامر على البصرة وفتوح فارس وخراسان

- ‌ولاية سعيد بن العاص الكوفة

- ‌غزو طبرستان

- ‌غزو حذيفة الباب وأمر المصاحف

- ‌مقتل يزدجرد

- ‌ظهور الترك بالثغور

- ‌بدء الانتقاض على عثمان رضي الله عنه

- ‌حصار عثمان ومقتله رضي الله عنه وأتابه ورفع درجته

- ‌بيعة علي رضي الله عنه

- ‌أمر الجمل

- ‌انتقاض محمد بن أبي حذيفة بمصر ومقتله

- ‌ولاية قيس بن سعد على مصر

- ‌مبايعة عمرو بن العاص لمعاوية

- ‌أمر صفين

- ‌ أمر الحكمين

- ‌أمر الخوارج وقتالهم

- ‌ولاية عمرو بن العاص مصر

- ‌دعاء ابن الحضرميّ بالبصرة لمعاوية ومقتله

- ‌ولاية زياد على فارس

- ‌فراق ابن عبّاس لعلي رضي الله عنهم

- ‌مقتل علي

- ‌بيعة الحسن وتسليمه الأمر لمعاوية

الفصل: ‌الخبر عن عمارة بيت المقدس بعد الخراب الأول وما كان لبني إسرائيل فيها من الملك في الدولتين لبني حشمناي وبني هيردوس إلى حين الخراب الثاني والجلوة الكبرى

‌الخبر عن عمارة بيت المقدس بعد الخراب الأوّل وما كان لبني إسرائيل فيها من الملك في الدولتين لبني حشمناي وبني هيردوس إلى حين الخراب الثاني والجلوة الكبرى

هذه الأخبار التي كانت لليهود ببيت المقدس والملك الّذي كان لهم في العمارة بعد جلاء بخت نصّر وأمر الدولتين اللتين كانتا لهم في تلك المدة، لم يكتب فيها أحد من الأئمة ولا وقفت في كتب التواريخ مع كثرتها واتساعها على ما يلمّ بشيء من ذلك.

ووقع بيدي وأنا بمصر تأليف لبعض علماء بني إسرائيل من أهل ذلك العصر في أخبار البيت والدولتين اللتين كانتا بها ما بين خراب بخت نصّر الأوّل وخراب طيطش [1] الثاني الّذي كانت عنده الجلوة الكبرى، استوفى فيه أخبار تلك المدّة بزعمه ومؤلف الكتاب يسمّى يوسف بن كريّون وزعم أنه كان من عظماء اليهود وقوّادهم عند زحف الروم إليهم، وأنه كان على صولة [2] ، فحاصره أسبيانوس أبو طيطش واقتحمها عليه عنوة، وفرّ يوسف إلى بعض الشعاب وكمن فيها ثم حصل في قبضته بعد ذلك، واستبقاه ومن عليه وبقي في جملته. وكانت له تلك وسيلة إلى ابنه طيطش عند ما أجلى بني إسرائيل عن البيت فتركه بها للعبادة كما يأتي في أخباره. هذا هو التعريف بالمؤلف.

وأمّا الكتاب فاستوعب فيه أخبار البيت واليهود بتلك المدّة وأخبار الدولتين اللتين كانتا بها لبني حشمناي وبني هيردوس من اليهود، وما حدث في ذلك من الأحداث فلخصتها هنا كما وجدتها فيه لأني لم أقف على شيء فيها لسواه، والقوم أعلم بأخبارهم إذا لم يعارضها ما يقدّم عليها. وكما قال صلى الله عليه وسلم: لا تصدّقوا أهل الكتاب. فقد قال ولا تكذبوهم. مع أنّ ذلك إنّما هو راجع إلى أخبار اليهود وقصص الأنبياء التي كان فيها التنزيل من عند الله، لقوله بعد ذلك:«وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ 29: 46» . وأمّا الخبر عن الواقعات المستندة إلى الحس فخبر الواحد كاف فيه إذا غلب على الظنّ صحته، فينبغي أن نلحق هذه الأخبار بما تقدّم

[1] وفي نسخة اخرى: طيطس.

[2]

قوله على صولة: بلد قريب من المقدس كما في التوراة ولعلها المسماة اليوم بصفد (بخط العطار) .

ص: 134

من أخبارهم لتكمل لنا أحوالهم من أوّل أمرهم إلى آخره والله أعلم. ولم التزم صدقه من كذبه والله المستعان.

قال الطبريّ وغيره من الأئمة: كان يرميا ويقال أرميا بن خلقيّا من أنبياء بني إسرائيل ومن سبط لاوى، وكان لعهد صدقيّا هو آخر ملوك بني يهوذا ببيت المقدس، ولما توغلوا في الكفر والعصيان أنذرهم بالهلاك على يد بخت نصّر وسأله عنه وأطلقه واحتمله معه في السبي، وكان فيما يقوله أرميا إنّهم يرجعون إلى بيت المقدس بعد سبعين سنة يملك فيها بخت نصّر وابنه وابن ابنه ويهلكون، وإذا فرغت مملكة الكلدانيّين بعد السبعين يفتقدكم. يخاطب بذلك بني إسرائيل في نص آخر له عند كمال سبعين لخراب المقدس. وكان شعيا بن أمصيّا من أنبيائهم أخبرهم بأنهم يرجعون إلى بيت المقدس على يد كورش من ملوك الفرس، ولم يكن وجد لذلك العهد، فلما استولى كورش على بابل وأزال مملكة الكلدانيين أذن لبني إسرائيل في الرجوع إلى بيت المقدس وعمارة مسجدها، ونادى في الناس أنّ الله أوصاني أن أبني بيتا فمن كان للَّه وسعيه للَّه فليمض إلى بنائه. فمضى بنو إسرائيل في اثنين وأربعين ألفا وعليهم زيريافيل، بالفاء الهوائية، بن شالتهيل بن يوخنيّا آخر ملوكهم بالقدس الّذي حبسه بخت نصّر وقد مرّ ذكره. وقد مضى معهم عزير النبي من عقب أشيوع بن فنحاص ابن العازر بن هارون وبينه وبين أشيوع ستة آباء، لم أثق بنقلها لغلبة الظنّ بأنها مصحّفة، وردّ عليهم كورش الأواني وكانت لا يعبر عنها من الكثرة. قال ابن العميد: كانت خمسة آلاف وأربعمائة قصعة ذهبا وفضة. فمضوا إلى بيت المقدس وشرعوا في العمارة وشرع كورش وسعى عليهم في إبطال ذلك بعض أعدائهم من السامرة، ولم يكن أمد السبعين التي وعدهم بها انقضى لأنّ الخراب كان لثمان عشرة من ملك بخت نصّر وكانت دولته خمسة وأربعين ومدّة ابنه وابن ابنه خمس وعشرون، فبقيت من السبعين ثمانية عشر التي نفدت من ملك بخت نصّر قبل الخراب، فمنعوا من العمارة بسعاية السامريّة إلى أن انقضت الثمان عشرة.

وجاءت دولة دارا من ملوك الفرس فأذن لهم في العمارة وعاد السامرة لسعايتهم في إبطال ذلك عند دارا، فأخبره أهل دولته أنّ كورش أذن لهم في ذلك فخلّى سبيلهم وعمّروا بيت المقدس في الثانية من ملك دارا الأوّل، وهو أرفخشد والكوهن يومئذ عزيز، وجدّد لهم التوراة بعد سنتين من رجوعهم إلى البيت. ثم هلك زيريافيل

ص: 135

وخلفه فيهم بهشمياس، وقبض العزير وخلفه شمعون الصفا من بني هارون أيضا.

وقال يوسف بن كريون: إنّ بخت نصّر لما رجع إلى بابل أقام ملكا سبعا وعشرين سنة، وملك بعده ابنه بلتنصّر ثلاث سنين، وانتقض عليه داريوش ملك ماذي، وأظنهم الديلم وكيرش ملك فارس، وهزمتهم عساكره كما مرّ، فعمل في بعض أيامه صنيعا لقواده سرورا بالواقع، وسقاهم في أواني بيت المقدس التي احتملها جدّه من الهيكل، فسخط الله لذلك ورأى تلك الساعة كأنّ يدا خرجت من الحائط تومي بكتابة كلمات بالخط الكلداني والكلمات عبرانية، وهي أحصى وزن نفذ، فارتاع لذلك هو والحاضرون وفزع إلى دانيال النبي في تفسيرها. قال وهب بن منيّه وهو من أعقاب حزقيل الأصغر وكان خلفا من دانيال الأكبر، فقال له دانيال: هذه الكلمات تنذر بزوال ملكك ومعناها أنّ الله أحصى مدّة ملكك، ووزن أعمالك، ونفذ قضاؤه بزوال ملكك عنك وعن قومك. وقتل في تلك الليلة بلتنصّر، وكان ما قدّمناه من استقلال كورش وقومه فارس بالملك ورد الجالية إلى بيت المقدس، وأطلق لهم المال لعمارتها شكرا على الظفر بالكلدانيين ومضى بنو إسرائيل ومعهم عزرا الكاهن ونجميّا ومردخاي وجميع رؤساء الجالية يبنون البيت والمذبح على حدودها وقرّبوا القرابين.

وكان كورش بعد ذلك يطلق لهم في كل سنة من الحنطة والزيت والبقر والغنم والخمر ما يحتاجون اليه في خدمة البيت ويطلق لهم جراية واسعة. وجرى ملوك الفرس بعده على سنة في ذلك إلا قليلا في أيام أخشويروش [1] منهم، كان وزيره هامان وكان من العمالقة، وكان طالوت قد استخلفهم بأمر الله، فكان هامان يعاديهم لذلك وعظمت سعايته فيهم وحمله على قتلهم. وكان مردخاي من رؤسائهم قد زوّج أخته من الرضاع لأخشويروش، فدس إليها مردخاي أن تشفع إلى الملك في قومها فقبلها وعطف عليهم وأعادهم إلى أن انقرضت دولة الفرس بمهلك دارا، واستولى بنو يونان بمهلك دارا على ملك فارس.

وملك الإسكندر بن فيلفوس [2] ودوّخ الأرض، وفتح سواحل الشام، وسار إلى بيت المقدس لأنها من طاعة دارا، وخاف الكهنة من وصوله إليهم، ورأى في بعض

[1] وفي التوراة سفر استير الفصل السادس: احشوروش وفي كتب التاريخ احشويروش.

[2]

هو الإسكندر المقدوني ابن فيلبس.

ص: 136

تمثال [1] رجلا فقال: أنا رجل أرسلت لمعونتك. ونهاه عن أذية المقدس، وأوصاه بامتثال اشارتهم. فلما وصل إلى البيت لقيه الكوهن، فبالغ في تعظيمه ودخل معه إلى الهيكل، وبارك عليه، ورغب إليه الإسكندر أن يضع هنالك تمثاله من الذهب اليذكر به، فقال: هذا حرام لكن تصرف همتك في مصالح الكهنة والمصلين ويجعل لك من الذكر دعاؤهم لك، وأن يسمي كل مولود لبني إسرائيل في هذه السنة بالإسكندر، فرضي الإسكندر وحمل لهم المال وأجزل عطية الكوهن، وسأله أن يستخير الله في حرب دارا، فقال له: امض والله مظفرك. وحض دانيال وقص عليه الإسكندر رؤيا رآها فأوّلها له بأنه يظفر بدارا.

ثم انصرف الإسكندر وسار في نواحي بيت المقدس، ومرّ بنابلس ولقيه سنبلاط السامريّ وكان أهل المقدس أخرجوه عنهم، فأضافه وأهدى له أموالا وأمتعة واستأذنه في بناء هيكل في طول بريد فأذن له، فبناه وأقام صهره منشا كوهنا فيه، وزعم أنه المراد بقوله في التوراة اجعل البركة على جيل كريدم. فقصده اليهود في الأعياد، وحملوا اليه القرابين وعظم أمره، وغص بشأنه أهل بيت المقدس، إلى أنّ خربه هرمايوس بن شمعون أوّل ملوك بني حشمناى كما يأتي ذكره.

ثم هلك الإسكندر ببابل بعد استيفاء مدّته لاثنتين وثلاثين من ملكه وقد كان قسم ملكه بين عظماء دولته، فكان سلياقوس بعد الإسكندر وكان عظيم أصحابه، فأكرم اليهود وحمل المال إلى فقراء البيت ثم سعى عنده بأن في الهيكل أموالا وذخائر نفيسة ورغبوه في ذلك، فبعث عظيما من قوّاده اسمه أبردوس ليقبض ذلك المال فحضر بالبيت، وأنكر الكاهن حنّيان [2] أن يكون بالبيت إلّا بقية الصدقات من فارس ويونان وما أعطاهم سلياقوس آنفا، فلم يقبل، ووكل بهم في الهيكل فتوجهوا بالدعاء. وجاء أدروس ليقبض المال فصدع في طريقه، وجاء أصحابه إلى الكوهن حنينا وجماعة الكهنة يسألون الاقالة والدعاء لأردوس، فدعوا له وعوفي وارتحل.

وازداد الملك سلياقوس إعظاما للبيت وحمل ما كان يحمل إليهم مضاعفا.

[1] العبارة هنا مشوشة ولم نجد في المراجع التي بين أيدينا على ما يصحح هذه العبارة. ومقتضى السياق:

ورأى امام تمثال رجلا فقال

[2]

ورد اسمه في التوراة حناني (سفر تحميا- الفصل الأول) .

ص: 137

قال ابن كريّون: ثم ترجمت التوراة لليونانيين وكان من خبرها أنّ تلماي [1] ملك مصر من اليونانيين بعد الإسكندر، وكان من أهل مقدونية، وكان محبا للعلوم ومشغوفا بالحكمة والكتب الإلهية. وذكرت له كتب اليهود الأربعة والعشرون سفرا فتاقت نفسه للوقوف عليها، وكتب إلى كهنون القدس في ذلك وأهدى له، فاختار سبعين من أحبار اليهود وعلمائهم وفيهم كوهن عظيم اسمه ألعازر، وبعثهم إليه ومعهم الأسفار فتلقاهم بالكرامة وأوسع لهم النزول ورتب مع كل واحد كاتبا يملي عليه ما يترجم له، حتى ترجم الأسفار من العبرانية إلى اليونانية، وصحّحها وأجاز الأحبار وأطلق لهم من كان بمصر من سبي اليهود نحوا من مائة ألف، وصنع مائدة من الذهب نقشت عليها صورة أرض مصر والنيل ورصعها بالجواهر والفصوص وبعث بها إلى القدس فأودعت في الهيكل.

ثم ملك تلماي صاحب مصر، واستولى بعده أنطيخوس صاحب مقدونية على أنطاكية ثم على مصر، وأطاعه ملوك الطوائف بأرض العراق، واستفحل ملكه وعظم طغيانه، وأمر الأمم بعبادة الأصنام. وعمل أصناما على صورته، فامتنع اليهود من قبولها وسعى بهم عنده بعض شرارهم، وكانوا أهل نجدة وشوكة، فسار انطيخوس إليهم وأثخن فيهم بالقتل والسبي، وفروا إلى الجبال والبراري، فرجع واستخلف على بيت المقدس قائدة فليلقوس، وأمره أن يحملهم على السجود لأصنامه وعلى أكل الخنزير وترك السبت والختان، ويقتل من يخالفه. ففعل ذلك أشدّ ما يكون، وبسط على اليهود أيدي أولئك الأشرار الساعين، وقتل العازر الكوهن الّذي ترجم لهم التوراة لمّا امتنع من السجود لصنمه وأكل قربانه. وكان فيمن هرب إلى الجبال والبراري متيتيّا بن يوحنّا بن شمعون الكوهن الأعظم ويعرف بحشمناي بن حونيّا من بني نوذاب من نسل هارون عليه السلام، وكان رجلا صالحا خيّرا شجاعا، وأقام بالبرية وحزن لما نزل بقومه. فلما أبعد انطيخوس الرحلة عن القدس، بعث متيتيّا إلى اليهود يعرفهم بمكانه، وينمعض لهم ويحرّضهم على الثورة على اليونانيين، فأجابوه وتراسلوا في ذلك، وبلغ الخبر فليلقوس قائد أنطيخوس، فسار في عسكره إلى البريّة طالبا متيتيا وأصحابه، فلما وصل إليهم حاربهم فغلبوه وانهزم في عساكره.

[1] هو بطليموس مؤسس دوله البطالسة في مصر.

ص: 138

وقوي اليهود على الخلاف، وهلك متيتيّا خلال ذلك وقام بأمره ابنه يهوذا فهزم عساكر فليلقوس ثانية. وشغل أنطيخوس بحروب الفرس فزحف إليهم من مقدونية، واستخلف عليهم ابنه أفظر، وضمّ إليه عظيما من قومه اسمه ليشاوش، وأمرهم أن يبعثوا العساكر إلى اليهود، فبعثوا ثلاثة من قوادهم وهم نيقانور وتلمياس وصردوس، وعهد إليهم بإبادة اليهود حيث كانوا فسارت العساكر، واستنفروا سائر الأرمن من نواحي دمشق وحلب، وأعداء اليهود من فلسطين وغيرهم. وزحف يهوذا بن متيتيّا مقدّم اليهود للقائم بعد أن تضرعوا إلى الله وطافوا بالبيت وتمسحوا به، ولقيهم عسكر نيقانور فهزموه، واثخنوا فيه بالقتل، وغنموا ما معهم، ثم لقيهم عسكر القائد ابن تلمياس وصردوس ثانيا فهزموهما كذلك، وقبضوا على فليلقوس القائد الأوّل لأنطيخوس فأحرقوه بالنار، ورجع نيقانور إلى مقدونية فدخلها وخبّر ليشاوش وأفظر ابن الملك بالهزيمة، فجزعوا لها. ثم جاءهم الخبر بهزيمة أنطيخوس أمام الفرس، ثم وصل إلى مقدونية واشتدّ غيظه على اليهود، وجمع لغزوهم فهلك دون ذلك بطاعون في جسده، ودفن في طريقه. وملك أفظر وسموه أنطيخوس باسم أبيه.

ورجع يهوذا بن متيتيّا إلى القدس، فهدم جميع ما بناه أنطيخوس من المذابح، وأزال ما نصبه من الأصنام، وطهّر المسجد، وبنى مذبحا جديدا للقربان، فوضع فيه الحطب ودعا الله أن يريهم آية في اشتغاله من غير نار، فاشتعل كذلك ولم ينطف إلى الخراب الثاني أيام الجلوة، واتخذوا ذلك اليوم عيدا سمّوه عيد العساكر.

ونازل ليشاوش فزحف إليه يهوذا بن متيتيّا في عسكر اليهود وثبت عسكر ليشاوش فانهزموا، ولجأ إلى بعض الحصون وطلب النزول على الأمان على أن لا يعود إلى حربهم، فأجابه يهوذا على أن يدخل أفظر معه في العقد وكان ذلك. وتم الصلح وعاهد أفظر اليهود على أن لا يسير إليهم، وشغل يهوذا بالنظر في مصالح قومه.

قال ابن كريّون: وكان لذلك العهد ابتداء أمر الكيتم وهم الروم، وكانوا برومية وكان أمرهم شورى بين ثلاثمائة وعشرين رئيسا، ورئيس واحد عليهم يسمونه الشيخ يدبّر أمرهم، ويدفعون للحروب من يثقون بغنائه وكفايته منهم أو من سواهم. هكذا كان شأنهم لذلك العهد، وكانوا قد غلبوا اليونانيين واستولوا على ملكهم، وأجازوا البحر إلى إفريقية فملكوها كما يأتي في أخبارهم، فأجمعوا السير إلى أنطيخوس أفظر وابن

ص: 139

عمه ليشاوش بقية ملوك يونان بأنطاكيّة، وكاتبوا يهوذا ملك بني إسرائيل بالقدس يستميلونهم عن طاعة أنطيخوس واليونانيين فأجابوهم إلى ذلك، وبلغ ذلك أنطيخوس فنبذ إلى اليهود عهدهم وسار إلى حربهم فهزموه ونالوا منه. ثمة راسلهم في الصلح وأن يقيموا على عهدهم معه وتحمل لبيت المقدس بما كان يحمله من المال، وأن يقتل من عنده من شرار اليهود الساعين عليهم، فتم العهد بينهم على ذلك وقتل شملاوش من الساعين على اليهود، ثم جهز أهل رومة قائد حروبهم دمترياس [1] بن سلياقوس إلى أنطاكية، ولقيه أنطيخوس أفظر فانهزم أنطيخوس وقتل هو وابن عمه ليشاوش، وملك الروم أنطاكية. ونزلها قائدهم دمترياس وكان ألقيموس الكوهن من شرار اليهود عند أنطيخوس، فلما ملك دمترياس قائد الروم فسعى عنده في اليهود ورغبه في ملك القدس والاستيلاء على أمواله، فبعث قائده نيقانور لذلك وخرج يهوذا ملك القدس لتلقيه وطاعته، وقدم بين يديه الهدايا والتحف، فمال نيقانور إلى مسالمة اليهود وحسن رأيه وأكد بينه وبينهم العهد. ورجع وبادر ألقيموس الكوهن إلى دمترياس وأخبره بميل قائده نيقانور إلى اليهود، وزاد في إغرائه فبعث إلى قائده ينكر عليه ويستحثه لإنفاذ أمره، وأن يحمل يهوذا مقيّدا. وبلغ ذلك يهوذا فلحق بمدينة السامرة صبصطية، واتبعه نيقانور في العساكر فكرّ عليه يهوذا وهزمه وقتل أكثر عساكر الروم الذين معه. ثم ظفر به فصلبه على الهيكل ببيت المقدس، واتخذ اليهود ذلك اليوم عيدا وهو ثالث عشر آذار.

ثم بعث قائد الروم دمترياس من قابل قائده الآخر يعتروس في ثلاثين ألفا من الروم لمحاربة اليهود، وخرجت عساكرهم من المقدس، وفرّوا عن ملكهم يهوذا وافترقوا في الشعاب، وأقام معه منهم فلّ قليل، واتبعهم يعتروس فلقيه يهوذا وأكمن له فانهزم اليهود، وخرج عليهم كمين الروم فقتل يهوذا في كثير من ولايته ودفن إلى جانب أبيه متيتيّا. ولحق أخوه يوناثال فيمن بقي من اليهود، بنواحي الأردن وتحصنوا ببئر سبع، فحاصرهم يعتروس هنالك أياما، ثم بيتوه فهزموه وخرج يوناثال واليهود في اتباعه فتقبضوا عليه، ثم أطلقوه على مسالمة اليهود وأن لا يسير إلى حربهم. فهلك يوناثال إثر ذلك وقام بأمر اليهود أخوهما الثالث شمعون، فاجتمع إليه اليهود من كل ناحية وعظمت عساكره، وغزا جميع أعدائهم ومن ظاهر عليهم من سائر الأمم، وزحف

[1] هو القائد الروماني الشهير ميتريدات.

ص: 140

إليه دمترياس قائد الروم بأنطاكية فهزمه شمعون وقتل غالب عسكره.

ولم تعاودهم الروم بعدها بالحرب إلى أن هلك شمعون. وثب عليه صهره تلماي زوج أخته فقتله وتقبض على بنيه وامرأته، وهرب ابنه الأكبر قانوس بن شمعون إلى غزة فامتنع بها، وكان اسمه يوحان وكان شجاعا قتل في بعض الحروب شجاعا اسمه هرقانوس فسمّاه أبوه باسمه. ثم اجتمع عليه اليهود وملكوه وسار إلى بيت المقدس، وفرّ تلماي المتوثب على أبيه إلى حصن داخون، فامتنع به وسار هرقانوس إلى محاربته وضيق عليه، وأشرف تلماي في بعض الأيام من فوق السور بأم هرقانوس وأخته يتهدّده بقتلهما، فكف عن الحرب، وانصرف لحضور عيد المظال ببيت المقدس فقتل تلماي أخته وأمّه وفرّ من الحصن.

قال ابن كريّون: ثم زحف دمترياس بن سلياقوس قائد الروم إلى القدس وحاصر اليهود فامتنعوا، وثلم السور، وراسلوه في تأخير الحرب إلى انقضاء عيدهم، ففعل على أن يكون له نصيب في القربان. ووقعت في نفسه صاغية اليهم، وأهدى تماثيل للبيت فحسن موقعها عندهم، وراسلوه في الصلح على المسالمة والمظاهرة لبعض فأجاب. وخرج إليه هرقانوس ملك اليهود وأعطاه ثلاثمائة بدرة من الذهب استخرجها من بعض قبور بني داود. ورحل عنهم الروم، وشغل هرقانوس في رمّ ما ثلم [1] من السور، وحدثت خلال ذلك فتنة بين الفرس والروم فسار إليهم دمترياس في جموع الروم، وبينما أبطأ هرقانوس ملك اليهود لحضور عيدهم إذ جاءه الخبر بأنّ الفرس هزموا دمترياس، فنهز الفرصة وزحف إلى أعدائه من أهل الشام وفتح نابلس وحصون أروم التي بجبل الشراة، وقتل منهم خلقا ووضع عليهم الجزية وأخذهم بالختان والتزام أحكام التوراة، وخرب الهيكل الّذي بناه سنبلاط السامري في طول بريد بإذن الإسكندر، وقهر جميع الأمم المجاورين لهم، ثم بعث وجوه اليهود وأعيانهم إلى الأشياخ والمدبّرين برومة يسأل تجديد العهد، وأن يردّوا على اليهود ما أخذ أنطيخوس ويونان من بلادهم التي صارت في مملكة الروم، فأجابوا وكتبوا له العهد بذلك وخاطبوه بملك اليهود. وإنما كان يسمى من سلف قبله من آبائه بالكوهن فسمى نفسه من يومئذ بالملك، وجمع بين منزلة الكهنونة ومنزلة الملك، وكان أوّل ملوك بني حشمناي. ثم سار إلى مدينة السامرة صبصطية ففتحها وخرّبها وقتل أهلها.

[1] أي ترميم ما تهدّم.

ص: 141

قال ابن كريّون: وكان اليهود في دينهم يومئذ ثلاث فرق. فرقة الفقهاء وأهل القياس [1] ويسمّونهم الفروشيم وهم الربّانيّون، وفرقة الظاهريّة المتعلقين بظواهر الألفاظ من كتابهم ويسمونهم الصدوقيّة وهم القرّاءون، وفرقة العبّاد المنقطعين إلى العبادة والتسبيح والزهاد فيما سوى ذلك ويسمونهم الحيسيد. وكان هرقانوس وآباؤه من الربانيين، ففارق مذهبهم إلى القراءين لأنه جمع اليهود يوما عند ما تمهّد أمره، وأخذ بمذاهب الملك، وألقى به في صنيع احتفل فيه وألان لهم جانبه وخضع في قوله وقال:، أريد منكم النصيحة. فطمع بعض الربانيين فيه وقال: إنّ النصيحة أن تنزل عن الكهنونة وتقتصر على الملك وقد فاتك شرطها لأنّ أمك كانت سبية من أيام أنطيخوس. فغضب لذلك وقال للربانيين: قد حكمتكم في صاحبكم فأخذوا في تأديبه بالضرب فتنكر لهم من أجل ذلك، وفارق مذهبهم إلى مذهب القراءين، وقتل من الربانيين خلقا كثيرا، ونشأت الفتنة بين هاتين الطائفتين من اليهود، واتصلت بينهم الحرب إلى هذا العهد.

وهلك هرقانوس لإحدى وثلاثين سنة من دولته، وملك بعده ابنه أرستبلوس وكان كبيرهم، وكان له ولدان آخران وهم أنطقنوس ويحبّ الملك له ويبغض الإسكندر فأبعده إلى جبل الخليل، فلما ملك أرستبلوس أخذ من اخوته بمذهب أبيهم وقبض على الإسكندر وأمه واستخلص أنطقنوس وقدّمه على العساكر، واكتفى به في الحروب، وترفع عن تاج الكهنونة ولبس تاج الملك. وخرج أنطقنوس إلى الأمم المجاورين الخارجين عن طاعتهم فردّهم إلى الطاعة، وكثرت السعاية فيه عند أخيه من البطانة وأغروه به، فلما قدم أنطقنوس من مغيبه وافق عيد المظال، وكان أخوه ملتزما بيته لمرض طرقه، فعدل أنطقنوس عن بيته إلى الهيكل للتبرك، فأوهموا الملك أنّه إنما فعل ذلك لاستمالة الكهنونية والعامة وأنّه يروم قتل أخيه، وعلامة ذلك أنّه جاء بسلاحه، فعهد أرستبلوس إلى حشمانه وغلمان قصه إن جاء متسلحا أن يقتلوه.

وكان ذلك وتمت حيلة البطانة وسعايتهم عليه وعلم أرستبلوس أن قد خدع في أخيه، فندم واغتمّ ولطم صدره حتى قذف الدم من فيه، وأقام عليلا بعده حولا كاملا ثم هلك. فأفرجوا على أخيه الإسكندر من محبسه، وبايعوا له بالملك واستقام له الأمر، ثم انتقض عليه أهل عكّا وأهل صيدا وأهل غزة بعثوا إلى قبرص، وسار

[1] وفي نسخة اخرى: أهل القيافة.

ص: 142

الإسكندر إلى عكّا فحاصرها وكانت كلوبطرة ملكة من بقية اليونان قد انتقض عليها ابنها واسمه ألظيرو وأجاز البحر إلى جزيرة قبرص فملكها، فبعث أهل عكّا أنّهم يملكونه وأجاز إليهم في ثلاثين ألف مقاتل، حتى إذا أفرج الإسكندر عن حصارهم راجعوا أمرهم ومنعوا ألظيرو، وامن الدخول إليهم، فسار في بلاد الإسكندر ونزل على جبل الخليل فقتل منه خلقا، ونزل على الأردن. وفي خلال ذلك زحف الإسكندر إلى صيدا ففتحها عنوة واستباحها، وعاد إلى القدس وقد أطاعته البلاد وحسم داء المنتقضين عليه.

ثم تجدّدت الفتنة بين اليهود بالقدس وذلك أنّهم اجتمعوا في عيد المظال بالمسجد، وحضر الإسكندر معهم فتلاعبوا بين يديه مراماة بما عندهم من مشوم ومأكول، وأصاب الإسكندر رمية من الربّانيين فغضب لها، وشاتمهم القراءون بما كانوا من شيعته، فشتموا الإسكندر وقتلوا الشاتم وأصحابه فلم يغن عنهم، وعظم فيهم الفتك وانفض الجمع، وعهد الإسكندر ان يستدّ المذبح والكهنة بحائط عن الناس، ونفذ أمره بذلك، واتصلت الفتنة بين اليهود ست سنين قتل من الربانيين نحو من خمسين ألفا، والإسكندر يعين القراءين عليهم، وبعثوا إلى دمتريوس المسمّى أنطيخوس، وبذلوا له المال فسار معهم إلى نابلس ولقي الإسكندر فهزمه وقتل عامّة أصحابه ورجع. فخرج الإسكندر إلى الربّانيين وأثخن فيهم وظفر منهم بجماعة تزيد على ثلاثمائة فقتلهم صبرا وقهر سائر اليهود. وسار إلى دمتريوس ففتح الكثير من بلاده، وخرج فظفر به الإسكندر وقتله.

وعاد إلى بيت المقدس لثلاث سنين في محاربة الربّانيين ودمتريوس، فاستقام أمره وعظم سلطانه ثم طرقه المرض فقام عليلا ثلاثا آخرين، وخرج بعدها لحصار بعض الحصون وانتقضوا عليه فمات هنالك، وأوصى امرأته الإسكندرة بكتمان موته حتى يفتح الحصن وتسير بشلوه [1] إلى القدس فتدفنه فيه، وتصانع الربّانيين على ولدها فتملكه، لأن العامّة إليهم أميل. ففعلت ذلك واستدعت من كان نافرا من الربّانيين، وجمعتهم وقدّمتهم للشورى، واستبدت بالملك. وكان لها ابنان من الإسكندر بن هرقانوس، اسم الأكبر منهما هرقانوس، والآخر أرستبلوس، وكانا صغيرين عند موت أبيهما فلما كبرا عينت هرقانوس للكهنونة وقدّمت أرستبلوس على

[1] ج أشلاء وهنا تعني جثته أو رفاته.

ص: 143