الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخبر عن قريش من هذه الطبقة وملكهم بمكة وأولية أمرهم وكيف صار الملك اليهم فيها ممن قبلهم من الأمم السابقة
قد ذكروا عند الطبقة الأولى أن الحجاز وأكناف العرب كانت ديار العمالقة من ولد عمليق بن لاوذ وأنهم كان لهم ملك هنالك، وكانت جرهم أيضا من تلك الطبقة من ولد يقطن بن شالخ بن أرفخشد، وكانت ديارهم اليمن مع إخوانهم حضرموت. وأصاب اليمن يومئذ قحط ففرّوا نحو تهامة يطلبون الماء والمرعى وعثروا في طريقهم بإسماعيل مع أمّه هاجر عند زمزم، وكان من شأنه وشأنهم معه ما ذكرناه عند ذكر إبراهيم عليه السلام. ونزلوا على قطورا من بقية العمالقة، وعليهم يومئذ السميدع بن هوثر بثاء مثلثة ابن لاوي بن قطورا بن ذكر بن عملاق أو عمليق.
واتصل خبر جرهم من ورائهم من قومهم باليمن وما أصابوا من النجعة بالحجاز فلحقوا بهم، وعليهم مضاض بن عمرو بن سعيد بن الرقيب بن هنء بن نبت بن جرهم، فنزلوا على مكّة بقعيقعان وكانت قطورا أسفل مكّة. وكان مضاض يعشر من دخل مكّة من أعلاها والسميدع من أسفلها، هكذا عند ابن إسحاق والمسعودي أنّ قطورا من العمالقة، وعند غيرهما أنّ قطورا من بطون جرهم وليسوا من العمالقة. ثم افترق أمر قطورا وجرهم وتنافسوا الملك واقتتلوا وغلبهم المضاض وقتل السميدع وانقضت العرب العاربة قال الشاعر:
مضى آل عملاق فلم يبق منهمو
…
حقير ولاذ وعزّة متشاوس
عتوا فأدال الدهر منهم وحكمه
…
على الناس هذا وأغذ ومبايس
ونشأ إسماعيل صلوات الله عليه بين جرهم وتكلم بلغتهم وتزوّج منهم حرّا بنت سعد بن عوف بن هنء بن نبت بن جرهم، وهي المرأة التي أمره أبوه بتطليقها لما زاره ووجده غائبا فقال لها: قولي لزوجك فليغير عتبته، فطلّقها وتزوّج بنت أخيها مامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف، ذكر هاتين المرأتين الواقدي في كتاب انتقال النور، وتزوّج بعدهما السيدة بنت الحرث بن مضاض بن عمرو بن جرهم. ولثلاثين سنة من عمر إسماعيل قدم أبوه الحجاز فأمر ببناء الكعبة البيت الحرام، وكان الحجر زربا لغنم
إسماعيل فرفع قواعدها مع ابنه إسماعيل وصيّرها خلوة لعبادته، وجعلها حجا للناس كما أمره الله، وانصرف إلى الشام فقبض هنالك كما مرّ. وبعث الله إسماعيل إلى العمالقة وجرهم وأهل اليمن فآمن بعض وكفر بعض إلى أن قبضة الله ودفن بالحجر مع أمه هاجر ويقال آجر، وكان عمره فيما يقال مائة وثلاثين سنة وعهد بأمره لابنه قيذار: ومعنى قيذار صاحب الإبل وذلك لأنه كان صاحب إبل أبيه إسماعيل كذا قال السهيليّ، قال غيره معناه الملك. ويقال: إنما عهد لابنه نابت فقام ابنه بأمر البيت ووليها، وكان ولده فيما ينقل أهل التوراة كما نقل اثني عشر: قيذار ينابوت ادبيبل [1] مبسام مشمع دوما مسّا حدد [2] ديما يطور ياقيس قدما [3] أمّهم السيدة بنت مضاض قاله السهيليّ.
وهكذا وقعت أسماؤهم في الإسرائيليات، والحروف مخالفة للحروف العربية بعض الشيء باختلاف المخارج، فلهذا يقع الخلاف بين العلماء في ضبط هذه الألفاظ، وقد ضبط ابن إسحاق تيماء منهم بالطاء والياء وضبطه الدار الدّارقطنيّ بالضاد المعجمة والميم قبل الياء كأنها تأنيث آضم وذكر ابن إسحاق ديما. وقال البكري به سميت دومة الجندل لأنه كان نزلها وذكر أنّ الطوربيطون ابن إسماعيل.
ثم هلك نابت بن إسماعيل، وولى أمر البيت جدّه الحرث بن مضاض، وقيل وليها مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هنء ابن نبت بن جرهم، ثم ابنه الحرث بن عمرو. ثم قسمت الولاية بين ولد إسماعيل بمكة وأخوالهم من جرهم ولاة البيت لا ينازعهم ولد إسماعيل إعظاما للحرم أن يكون به بغي أو قتال. ثم بغت جرهم في البيت، ووافق بغيهم تفرّق سبإ ونزول بني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر أرض مكّة، فأرادوا المقام مع جرهم فمنعوهم واقتتلوا فغلبهم بنو حارثة، وهم فيما قيل خزاعة، وملكوا البيت عليهم، ورئيسهم يومئذ عمرو بن لحيّ وشرّد بقية جرهم.
ولحيّ هذا هو ربيعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر، وقيل: إنما ثعلبة بن حارثة بن عامر. وفي الحديث «رأيت عمرو بن لحيّ يجرّ قصبه في النار»
[1] وفي نسخة ثانية: قيايوت أدبئيل.
[2]
وفي نسخة ثانية: حدار.
[3]
وهذه هي أسماء بني إسماعيل عن التوراة: بنايوت، قيذار، أدئبيل، مبسام، مشماع، دومة، مسّا، حدار، تيما، يطور، ناغيش، قدمه. هؤلاء بنو إسماعيل وهذه أسماؤهم بحسب احويتهم وحظائرهم اثنا عشر زعيما لقبائلهم. سفر التكوين: الفصل الخامس والعشرون.
يعني أحشاءه، لأنه الّذي بحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي وغير دين إسماعيل ودعا الى عبادة الأوثان. وفي طريق آخر رأيت عمرو بن عامر. قال عياض المعروف في نسب أبي خزاعة، هذا هو عمرو بن لحيّ بن قمعة بن إلياس وإنّما عامر اسم أبيه أخو قمعة، وهو مدركة بن إلياس، وقال السهيليّ: كان حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر خلف على أم لحيّ بد أبيه قمعة ولحيّ تصغير واسمه ربيعة تبنّاه حارثة وانتسب إليه فالنسب صحيح بالوجهين، وأسلم بن أفصى بن حارثة أخو خزاعة.
وعن ابن إسحاق أنّ الّذي أخرج جرهم من البيت ليست خزاعة وحدها، وإنّما تصدّى للنكير عليهم خزاعة وكنانة. وتولّى كبره بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة وبنو غبشان بن عبد عمرو بن بوى بن ملكان بن أفصى بن حارثة فاجتمعوا لحربهم واقتتلوا، وغلبهم بنو بكر وبنو غبشان بن كنانة وخزاعة على البيت ونفوهم من مكّة.
فخرج عمرو، وقيل عامر بن الحرث بن مضاض الأصغر، بمن معه من جرهم إلى اليمن بعد أن دفن حجر الركن وجميع أموال الكعبة بزمزم. ثم أسفوا على ما فارقوا من أمر مكّة وحزنوا حزنا شديدا. وقال عمرو بن الحرث وقيل عامر:
كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا
…
أنيس ولم يسمر بمكّة سامر
بلى نحن كنّا أهلها فأزالنا
…
صروف اللّيالي والجدود العواثر
وكنّا ولاة البيت من بعد نابت
…
نطوف فما تحظى لدينا المكاثر
ملكنا فعزّزنا فأعظم ملكنا
…
فليس لحيّ عندنا ثم فاخر
ألم تنكحوا من خير شخص علمته
…
فأبناؤنا منّا ونحن الأصاهر
فإن تنثني الدنيا علينا بحالها
…
فإنّ لها حالا وفيها التّشاجر
فأخرجنا منها المليك بقدرة
…
كذلك يا للنّاس تجري المقادر
أقول إذا نام الخليّ ولم أنم
…
إذا العرش لا يبعد سهيل وعامر
وبدّلت منها أوجها لا أحبّها
…
قبائل منها حمير وبحائر
وصرنا أحاديثا وكنّا بغبطة
…
بذلك عضّتنا السنون الغوابر
فساحت دموع العين تبكي لبلدة
…
بها حرم أمن وفيها المشاعر
ونبكي لبيت ليس يؤذي حمامه
…
يظلّ بها أمنا وفيها العصافر
وفيه وحوش لا ترام أنيسة
…
إذا خرجت منه فليست تغادر
ثم غلبت بنو حبشيّة على أمر البيت بقومهم من خزاعة، واستقلوا بولايتها دون بني بكر
عبد مناة، وكان الّذي يليها لآخر عهدهم عمرو بن الحرث وهو غبشان.
وذكر الزبير: أنّ الذين أخرجوا جرهم من البيت من ولد إسماعيل هم إياد بن نزار.
ومن بعد ذلك وقعت الحرب بين مضر وإياد فأخرجتهم مضر، ولما خرجت إياد قلعوا الحجر الأسود ودفنوه في بعض المواضع، ورأت ذلك امرأة من خزاعة فأخبرت قومها فاشترطوا على مضر إن دلوهم عليه أنّ لهم ولاية البيت دونهم، فوفّوا لهم بذلك. وصارت ولاية البيت لخزاعة إلى أن باعها أبو غبشان لقصيّ. ويذكر ان من وليها منهم عمرو بن لحيّ ونصب الأصنام وخاطبه رجل من جرهم:
يا عمرو لا تظلم بمكّة إنّها بلد حرام سائل بعاد أين هم- وكذاك تحترم الأنام وهي العماليق الذين لهم بها كان السوام وكانت ولاية البيت لخزاعة وكان لمضر ثلاث خصال: الإجازة بالناس يوم عرفة لبني الغوث بن مرّة إخوتهم وهو صوفة، والإفاضة بالناس غداة النحر من جمع إلى منى لبني زيد بن عديّ وانتهى ذلك منهم إلى أبي سيارة عميرة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحرث بن كانس بن زيد فدفع من مزدلفة أربعين سنة على حمار، ونسأ الشهور الحرم، كان لبني مالك بن كنانة وانتهى إلى القلمس كما مرّ. وكان إذا أراد الناس الصدور من مكّة قال: اللَّهمّ إني أحللت أحد الصغرين ونسأت الآخر للعام المقبل قال عمرو بن قيس من بني فراس.
ونحن الناسئون على معدّ
…
شهور الحلّ نجعلها حراما
قال ابن إسحاق: فأقام بنو خزاعة وبنو كنانة على ذلك مدّة الولاية لخزاعة دونهم كما قلناه. وفي أثناء ذلك تشعبت بطون كنانة ومن مضر كلها وصاروا جرما وبيوتات متفرّقين في بطن قومهم من بني كنانة، وكلهم إذ ذاك أحياء حلول بظواهرها.
وصارت قريش على فرقتين: قريش البطاح وقريش الظواهر. فقريش البطاح ولد قصيّ بن كلاب وسائر بني كعب بن لؤيّ، وقريش الظواهر من سواهم وكانت خزاعة بادية لكنانة، ثم صار بنو كنانة لقريش، ثم صارت قريش الظواهر بادية لقريش البطاح، وقريش الظواهر من كان على أقل من مرحلة، ومن الضواحي ما كان على أكثر من
ذلك. وصار من سوى قريش وكنانة من قبائل مضر في الضواحي أحياء بادية، وظعونا ناجعة من بطون قيس، وخندف من أشجع وعبس وفزارة ومرّة وسليم وسعد بن بكر وعامر بن صعصعة وثقيف. ومن تميم والرباب وضبعي بني أسد وهذيل والقارة وغير هؤلاء من البطون الصغار، وكان التقدّم في مضر كلها لكنانة ثم لقريش، والتقدّم في قريش لبني لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، وكان سيّدهم قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ كان له فيهم شرف وقرابة وثروة وولد.
وكان له في قضاعة ثم في بني عروة بن سعد بن زيد من بطونهم نسب ظئر ورحم كلالة كانوا من أجلها فيه شيعة، وذلك بما كان ربيعة بن حرام بن عذرة قدم مكّة قبل مهلك كلاب بن مرّة. وكان كلاب خلف قصيّا في حجر أمّه فاطمة بنت سعد بن باسل بن خثعمة الأسدي من اليمن فتزوّجها ربيعة وقصيّ يومئذ فطيم فاحتملته إلى بلاد بني عذرة وتركت ابنها زهرة بن كلاب لأنه كان رجلا بالغا، وولدت لربيعة بن حزام رزاح بن ربيعة. ولما شبّ قصيّ وعرف نسبه رجع إلى قومه، وكان الّذي يلي أمر البيت لعهده من خزاعة حليل بن حبشيّة بن سلول بن كعب بن عمرو، فأصهر إلى قصيّ في ابنته حبي فأنكحه إياها فولدت له عبد الدار وعبد مناف وعبد العزّى وعبد قصيّ. ولما انتشر ولد قصيّ وكثر ماله وعظم شرفه هلك حليل، فرأى قصيّ أنه أحق بالكعبة وبأمر مكّة وخزاعة وبني بكر لشرفه في قريش. ولما كثرت قريش سائر الناس واعتزت عليهم وقيل أوصى له بذلك حليل، ولما بدا له ذلك مشى في رجالات قريش ودعاهم الى ذلك فأجابوه، وكتب إلى أخيه رزاح في قومه عذرة مستجيشا بهم فقدم مكّة في إخوته من ولد ربيعة ومن تبعهم من قضاعة في جملة الحاج مجمعا نصر قصيّ.
قال السهيليّ: وذكر غير ابن إسحاق أنّ حليلا كان يعطي مفاتيح البيت بنته حبي حين كبر وضعف فكانت بيدها، وكان قصيّ ربما أخذها يفتح البيت للناس ويغلقه. فلما هلك حليل أوصى بولاية البيت إلى قصيّ وأبت خزاعة أن يمضي ذلك لقصيّ، فعند ذلك هاجت الحرب بينه وبين خزاعة وأرسل إلى رزاح أخيه يستنجده عليهم.
وقال الطبريّ: لما أعطى حليل مفاتيح الكعبة لابنته حبي لما كبر وثقل قالت: اجعل ذلك لرجل يقوم لك به. فجعله إلى أبي غبشان سليمان بن عمرو بن لؤيّ بن ملكان
بن قصيّ، وكانت له ولاية الكعبة. ويقال: إنّ أبا غبشان هو ابن حليل باعه من قصيّ بزق خمر، قليل فيه:«أخسر من صفقة أبي غبشان» . فكان من أوّل ما بدءوا به نقض ما كان لصوفة من إجازة الحاج، وذلك أنّ بني سعد بن زيد مناة بن تميم كانوا يلون الإجازة للناس بالحج من عرفة ينفر الحاج لنفرهم ويرمون الجمار لرميهم، ورثوا ذلك من بني الغوث بن مرّة، كانت أمّه من جرهم وكانت لا تلد، فنذرت إن ولدت أن تتصدق به على الكعبة عبدا يخدمها، فولدت الغوث وخلى أخواله من جرهم بينه وبين من نافسه بذلك، فكان له ولولده وكان يقال لهم صوفة.
وقال السهيليّ: عن بعض الأخباريين: إنّ ولاية الغوث بن مرّة كانت من قبل ملوك كندة، ولما انقرضوا ورث بالتعدد بنو سعد بن زيد مناة، ولما جاء الإسلام كانت تلك الإجازة منهم لكرب بن صفوان بن حتاب بن شجنة وقد مرّ ذكره في بطون تميم. فلما كان العام الّذي أجمع فيه قصيّ الانفراد بولاية البيت وحضر إخوته من عذرة، تعرّض لبني سعد أصحاب صوفة في قومهم من قريش وكنانة وقضاعة عند الكعبة، فلما وقفوا للإجازة قال: لا نحن أولى بهذا منكم فتناجزا وغلبهم قصيّ على ما كان بأيديهم، وعرفت خزاعة وبنو بكر عند ذلك أنّه سيمنعهم من ولاية البيت كما منع الآخرين، فانحازوا عنه وأجمعوا لحربه وتناجزوا وكثر القتل، ثم صالحوه على أن يحكمّوا من أشراف العرب، وتنافروا إلى يعمر بن عوف بن كعب بن عمرو بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة فقضى لقصيّ عليهم، فولي قصيّ البيت وقرّ بمكة وجمع قريشا من منازلهم بين كنانة إليها وقطعها أرباعا بينهم، فأنزل كل بطن منهم بمنزله الّذي صبحهم [1] به الإسلام وسمّي بذلك مجمعا قال الشاعر:
قصيّ لعمري كان يدعى مجمّعا
…
به جمع الله القبائل من فهر
فكان أوّل من أصاب من بني لؤيّ بن غالب ملكا أطاع له به قومه، فصار له لواء الحرب وحجابة البيت، وتيمنت قريش برأيه فصرفوا مشورتهم إليه في قليل أمورهم وكثيرها، فاتخذوا دار الندوة إزاء الكعبة في مشاوراتهم وجعل بابها إلى المسجد فكانت مجتمع الملاء من قريش في مشاوراتهم ومعاقدهم. ثم تصدّى لإطعام الحاج وسقايته لما رأى أنهم ضيف الله وزوّار بيته، وفرض على قريش خراجا يؤدّونه إليه
[1] صبح: أتاهم صباحا. وصبح: كان وضيّا. وصبح: كان مشرقا وجميلا.
زيادة على ذلك كانوا يردفونه به فحاز شرفهم كله، وكانت الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء له. ولما أسنّ قصيّ وكان بكرة عبد الدار وكان ضعيفا، وكان أخوه عبد مناف شرف عليه في حياة أبيه، فأوصى قصيّ لعبد الدار بما كان له من الحجابة واللواء والندوة والرفادة والسقاية يجبر له بذلك ما نقصه من شرف عبد مناف، وكان أمره في قومه كالدين المتّبع لا يعدل عنه. ثم هلك وقام بأمره في قومه بنوه من بعده.
وأقاموا على ذلك مدّة وسلطان مكّة لهم وأمر قريش جميعا، ثم نفس بنو عبد مناف على بني عبد الدار ما بأيديهم ونازعوهم، فافترق أمر قريش وصاروا في مظاهرة بني قصيّ بعضهم على بعض فرقتين. وكان بطون قريش قد اجتمعت لعهدها ذلك اثني عشر بطنا: بنو الحرث بن فهر، وبنو محارب بن فهر، وبنو عامر بن لؤيّ، وبنو عديّ بن كعب، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص، وبنو تيم بن مرّة، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرّة، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو أسد بن عبد العزّى بن قصيّ، وبنو عبد الدار، وبنو عبد مناف بن قصيّ.
فأجمع بنو عبد مناف انتزاع ما بأيدي بني عبد الدار مما جعل لهم قصيّ، وقام بأمرهم عبد شمس أسنّ ولده واجتمع له من قريش: بنو أسد بن عبد العزّى، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحرث. واعتزل بن عامر، وبنو المحارب الفريقين. وصار الباقي من بطون قريش مع بني عبد الدار وهم: بنو سهم، وبنو جمح، وبنو عديّ، وبنو مخزوم. ثم عقد كل من الفريقين على أحلافه عقدا مؤكدا، وأحشر بنو عبد مناف وحلف قومهم عند الكعبة جفنة مملوءة طيبا غمسوا فيها أيديهم تأكيدا للحلف، فسمّي «حلف المطيّبين» . وأجمعوا للحرب وسوّوا بين القبائل وأنّ بعضها إلى بعض، فعبت بنو عبد الدار لبني أسد، وبنو جمح لبني زهرة، وبنو مخزوم لبني تيم، وبنو عديّ لبني الحرث. ثم تداعوا للصلح على أن يسلموا لبني عبد مناف السقاية والرفادة، ويختص بنو عبد الدار بالحجابة واللواء فرضي الفريقان وتحاجز الناس.
وقال الطبريّ قيل ورثها من أبيه. ثم قام بأمر بني عبد مناف هاشم ليساره وقراره بمكّة، وتقلب أخيه عبد شمس في التجارة إلى الشام، فأحسن هاشم ما شاء في إطعام الحاج وإكرام وفدهم. ويقال: إنه أوّل من أطعم الثريد الّذي كان يطعم فهو
ثريد قريش الّذي قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. والثريد لهذا العهد ثريد الخبز بعد أن يطبخ في المقلاة والتنور وليس من طعام العرب، إلا أن عندهم طعاما يسمونه البازين يتناوله الثريد لغة، وهو ثريد الخبز بعد أن يطبخ في الماء عجينا رطبا إلى أن يتم نضجه، ثم يدلكونه بالمغرفة حتى تتلاحم أجزاؤه وتتلازج. وما أدري هل كان ذلك الطعام كذلك أو لا إلا أنّ لفظ الثريد يتناوله لغة.
ويقال: إن هاشم بن عبد المطلب أوّل من سنّ الرحلتين في الشتاء والصيف للعرب ذكره ابن إسحاق، وهو غير صحيح، لأنّ الرحلتين من عوائد العرب في كل جيل لمراعي إبلهم ومصالحها لأنّ معاشهم فيها، وهذا معنى العرب وحقيقتهم أنه الجيل الّذي معاشهم في كسب الإبل والقيام عليها في ارتياد المرعى وانتجاع المياه والنتاج والتوليد وغير ذلك من مصالحها، والفرار بها من أذى البرد عند التوليد الى القفار ودفئها، وطلب التلول في المصيف للحبوب وبرد الهواء، وتكوّنت على ذلك طباعهم فلا بد لهم منها ظعنوا أو أقاموا وهو معنى العروبية، وشعارها أنّ هاشما لما هلك وكان مهلكه بغزّة من أرض الشام، تخلف عبد المطلب صغيرا بيثرب فأقام بأمره من بعده ابنه المطّلب، وكان ذا شرف وفضل، وكانت قريش تسمّيه الفضل لسماحته، وكان هاشم قدم يثرب فتزوّج في بني عديّ وكانت قبله عند أحيحة بن الجلّاح بن الحريش بن جحجبا بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك سيد الأوس لعهده، فولدت عمرو بن أحيحة، وكانت لشرفها تشترط أمرها بيدها في عقد النكاح، فولدت عبد المطّلب فسمته شيبة، وتركه هاشم عندها حتى كان غلاما.
وهلك هاشم فخرج إليه أخوه المطّلب فأسلمته إليه بعد تعسّف واغتباط به، فاحتمله ودخل مكة فرفده على بعيره فقالت قريش: هذا عبد ابتاعه المطّلب، فسمي شيبة عبد المطلب من يومئذ.
ثم أنّ المطّلب هلك بردمان من اليمن، فقام بأمر بني هاشم بعده عبد المطلب بن هاشم، وأقام الرفادة والسقاية للحاج على أحسن ما كان قومه يقيمونه بمكّة من قبله، وكانت له وفادة على ملوك اليمن من حمير والحبشة، وقد قدّمناه خبره مع ابن ذي يزن ومع أبرهة. ولمّا أراد حفر زمزم للرؤيا التي رآها، اعترضته قريش دون ذلك، ثم حالوا بينه وبين ما أراد منها، فنذر لئن ولد له عشرة من الولد ثم يبلغوا معه
حتى يمنعوه لينحرنّ أحدهم قربانا للَّه عند الكعبة، فلما كملوا عشرة ضرب عليهم القداح عند هبل الصنم العظيم الّذي كان في جوف الكعبة على البئر التي كانوا ينحرون فيها هدايا الكعبة، فخرجت القداح على ابنه عبد الله والد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتحيّر في شأنه، ومنعه قومه من ذلك، وأشار بعضهم وهو المغيرة بن عبد الله بن مخزوم بسؤال العرّافة التي كانت لهم بالمدينة على ذلك، فألفوها بخيبر وسألوها.
فقالت: قرّبوه وعشرا من الإبل وأجيلوا القداح فإن خرجت على الإبل فذلك وإلّا فزيدوا في الإبل حتى تخرج عليها القداح وانحروها حينئذ فهي الفدية عنه وقد رضي إلهكم. ففعلوا وبلغت الإبل مائة فنحرها عبد المطلب، وكانت من كرامات الله به.
وعليه قوله صلى الله عليه وسلم «أنا ابن الذبيحين» يعني عبد الله أباه وإسماعيل بن إبراهيم جدّه اللذين قرّبا للذبح، ثم فديا بذبح الأنعام.
ثم إنّ عبد المطلب زوّج ابنه عبد الله بآمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فدخل بها وحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه عبد المطلب يمتار لهم تمرا فمات هنالك، فلما أبطأ عليهم خبره بعث في أثره. وقال الطبريّ: عن الواقدي:
الصحيح أنه أقبل من الشام في حي لقريش، فنزل بالمدينة ومرض بها ومات. ثم أقام عبد المطلب في رياسة قريش بمكّة والكون يصغي لملك العرب والعالم يتمخّض بفصال النبوة، إلى أن وضح نور الله من أفقهم، وسرى خبر السماء إلى بيوتهم، واختلفت الملائكة إلى أحيائهم، وخرجت الخلافة في أنصبائهم، وصارت العزّة لمضر ولسائر العرب بهم، وذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ من يَشاءُ 5:54. وعاش عبد المطلب مائة وأربعين سنة وهو الّذي احتفر زمزم.
قال السهيليّ: ولما حفر عبد المطلب زمزم استخرج منه تمثالي غزالين من ذهب وأسيافا كذلك، كان ساسان ملك الفرس أهداها إلى الكعبة، وقيل سابور. ودفنها الحرث بن مضاض في زمزم لما خرج بجرهم من مكّة، فاستخرجها عبد المطلب، وضرب الغزالين حلية للكعبة فهو أوّل من ذهّب حلية الكعبة بها، وضرب من تلك الأسياف باب حديد وجعله للكعبة. ويقال: إنّ أوّل من كسى الكعبة واتخذ لها غلقا تبّع إلى أن جعل لها عبد المطلب هذا الباب. ثم اتخذ عبد المطلب حوضا لزمزم يسقي منه، وحسده قومه على ذلك وكانوا يخرّبونه بالليل، فلما غمّه ذلك رأى في النوم قائلا يقول:«قل لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حلّ وبلّ فإذا قلتها فقد كفيتهم»