الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بارزوه وبعث العساكر إلى يزيد بن الحرث الكناني بخربتا وعليهم الحرث بن جمهان فقتلوه ثم بعث آخر فقتلوه.
مبايعة عمرو بن العاص لمعاوية
لما أحيط بعثمان خرج عمرو بن العاص إلى فلسطين ومعه ابناه عبد الله ومحمد، فسكن بها هاربا مما توقعه من قتل عثمان إلى أن بلغه الخبر بقتله، فارتحل يبكي ويقول كما تقول النساء، حتى أتى دمشق فبلغه بيعة عليّ، فاشتدّ عليه الأمر وأقام ينتظر ما يصنعه الناس، ثم بلغه مسير عائشة وطلحة والزبير فأمّل فرجا من أمره، ثم جاءه الخبر بوقعة الجمل فارتاب في أمره. وسمع أنّ معاوية بالشام لا يبايع عليّا وأنّه يعظّم قتل عثمان، فاستشار ابنيه في المسير إليه، فقال له ابنه عبد الله توفي النبي صلى الله عليه وسلم والشيخان بعده وهم راضون عنك فأرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس. وقال له محمد: أنت ناب من أنياب العرب وكيف يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صيت. فقال: يا عبد الله أمرتني بما هو خير لي في ديني، ويا محمد أمرتني بما هو خير لي في دنياي وشرّ لي في آخرتي. ثم خرج ومعه ابناه حتى قدم على معاوية فوجدوهم يطلبون دم عثمان، فقال: أنتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم. فأعرض معاوية قليلا، ثم رجع إليه وشركه في سلطانه.
أمر صفين
لما رجع عليّ بعد وقعة الجمل إلى الكوفة مجمعا على قصد الشام، بعث إلى جرير بن عبد الله البجلي بهمدان وإلى الأشعث بن قيس بآذربيجان وهما من عمّال عثمان بأن يأخذا له البيعة ويحضرا عنده، فلما حضرا بعث جرير إلى معاوية يعلمه ببيعته ونكث طلحة والزبير وحزبهما ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فلمّا قدم عليه طاوله في الجواب وحمل أهل الشام ليرى جرير قيامهم في دم عثمان واتهامهم عليّا به، وكان أهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان ملوّثا بالدم كما قدّمناه وبأصابع زوجته نائلة، وضع معاوية القميص على المنبر والأصابع من فوقه، فمكث الناس يبكون مدّة وأقسموا ألّا يمسهم ماء إلّا لجنابة ولا يناموا على فراش حتى يثأروا لعثمان ومن حال دون ذلك قتلوه. فرجع جرير بذلك إلى عليّ وعذله الأشتر في بعث
جرير وأنّه طال مقامه حتى تمكن أهل الشام من رأيهم [1] ، فغضب لذلك جرير ولحق بقرقيسياء واستقدمه معاوية فقدم عليه. وقيل أن شرحبيل بن السمط الكندي أشار على معاوية بردّ جرير لأجل منافسة كانت بينهما منذ أيام عمر، وذلك أن شرحبيل كان عمر بن الخطاب بعثه إلى سعد بالعراق ليكون معه فقرّبه سعد وقدّمه ونافسه له أشعث بن قيس، فأوصى جريرا عند وفادته على عمر أن ينال من شرحبيل عنده، ففعل فبعث عمر شرحبيل إلى الشام فكان يحقد ذلك على جرير، فلما جاء الى معاوية أغراه شرحبيل به وحمله على الطلب بدم عثمان.
ثم خرج عليّ وعسكر بالنخيلة واستخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري وقدم عليه عبد الله بن عبّاس في أهل البصرة، وتجهّز معاوية وأغراه عمرو بقلّة عسكر عليّ واضطغان أهل البصرة له بمن قتل منهم، وعبّى معاوية أهل الشام وعقد لعمرو ولا بنيه وغلامه وردان الألوية. وبعث عليّ في مقدمته زياد بن النضر الحارثي في ثمانية آلاف وشريح بن هانئ في أربعة آلاف، وسار من النخيلة إلى المدائن واستنفر من كان بها من المقاتلة وبعث منها معقل بن قيس في ثلاثة آلاف يسير من الموصل ويوافيه بالرّقة. وولّي عليّ على المدائن سعد بن مسعود الثقفي عمّ المختار بن أبي عبيد، وسار فلما وصل إلى الرّقة نصب له جسر فعبر وجاء زياد وشريح من ورائه، وكانا سمعا بمسير معاوية وخشيا أن يلقاهما معاوية وبينهما وبين عليّ البحر ورجعا إلى هيت وعبر الفرات، ولحقا بعلي فقدّمهما امامه، فلما أتيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي في جند من أهل الشام فطاولاه وبعثا إلى عليّ فسرح الأشتر وأمره أن يجعلهم على مجنبتيه، وقال: لا تقاتلهم حتى آتيك. وكتب إلى شريح وزياد بطاعته فقدم عليهما وكف عن القتال سائر يومه حتى حمل عليهم أبو الأعور بالعشيّ فاقتتلوا ساعة وافترقوا، ثم خرج من الغداة وخرج إليه من أصحاب الأشتر هاشم بن عتبة المرقال واقتتلوا عامة يومهم. وبعث الأشتر سنان بن مالك النخعيّ إلي أبي الأعور السلميّ يدعوه إلى البراز فأبي وحجز بينهم الليل، ووافاهم من الغد عليّ وعساكره، فتقدم الأشتر وانتهى إلى معاوية ولحق به عليّ. وكان معاوية قد ملك شريعة الفرات فشكى الناس إلى عليّ العطش فبعث صعصعة بن صوحان إلى معاوية: «بأنّا سرنا ونحن عازمون على الكفّ عنكم حتى نعذر إليكم فسابقنا جندكم بالقتال ونحن رأينا
[1] وفي النسخة الباريسية: من ورائهم.
الكفّ حتى ندعوك ونحتج عليك وقد منعتم الماء والناس غير منتهين فابعث إلى أصحابك يخلّون عن الماء للورد حتى ننظر بيننا وبينكم وان أردت القتال حتى يشرب الغالب فعلنا» . فأشار عمرو بن العاص بتخلية الماء لهم، وأشار ابن أبي سرح والوليد بن عقبة بمنعهم الماء، وعرضا بشتم فتشاتم معهم صعصعة ورجع، وأوعز إلى أبي الأعور بمنعهم الماء وجاء الأشعث بن قيس إلى الماء فقاتلهم عليه ثم أمر معاوية أبا الأعور يزيد بن أبي أسد القسري جدّ خالد بن عبد الله ثم بعمرو بن العاص بعده، وأمر عليّ الأشعث بشبث بن ربعي ثم بالأشتر وعليهم أصحاب عليّ وملكوا الماء عليهم، وأرادوا منعهم منه فنهاهم عليّ عن ذلك.
وأقام يومين ثم بعث إلى معاوية أبا عمرو بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمدانيّ وشبث بن ربعي التميمي، يدعونه إلى الطاعة وذلك أوّل ذي الحجة سنة ست وثلاثين، فدخلوا عليه وتكلّم بشير بن عمرو بعد حمدا للَّه والثناء عليه والموعظة الحسنة وناشده الله أن لا يفرّق الجماعة ولا يسفيك الدماء، فقال: هلّا أوصيت بذلك صاحبك. فقال بشير: ليس مثلك أحق بالأمر بالسابقة والقرابة.
قال: فما رأيك؟ قال: تجيبه إلى ما دعا إليه من الحق، قال معاوية: ونترك دم عثمان لا والله لا أفعله أبدا! ثم قال شبث بن ربعي: يا معاوية إنما طلبت دم عثمان تستميل به هؤلاء السفهاء العظام الى طاعتك، ولقد علمنا أنك أبطات على عثمان بالنصر لطلب هذه المنزلة فاتق الله ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله. فأجابه معاوية وأبدع في سبّه وقال: انصرفوا فليس بيني وبينكم إلّا السيف. فقال له شبث: أقسم باللَّه لنعجلها [1] لك. ورجعوا إلى عليّ بالخبر.
وأقاموا يقتتلون أيام ذي الحجة كلها عسكر من هؤلاء وعسكر من هؤلاء، وكرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام حذرا من الاستئصال والهلاك. ثم جاء المحرم فذهبوا إلى الموادعة حتى ينقضي طمعا في الصلح، وبعث إلى معاوية عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن خصفة [2]، فتكلم عدي بعد الحمد والثناء ودعا إلى الدخول في طاعة عليّ ليجمع الله به الكلمة فلم يبق غيرك ومن معك واحذر يا معاوية أن يصيبك وأصحابك مثل يوم الجمل. فقال معاوية:
[1] وفي نسخة اخرى: لنجعلنها لك.
[2]
وفي نسخة اخرى: زياد بن حفصة.
كأنك جئت مهدّدا لا مصلحا هيهات يا عدي أنا ابن حرب والله ما يقعقع لي بالشنان وأنّك من قتلة عثمان وأرجو أن يقتلك الله به. فقال له يزيد بن قيس: إنما أتيناك رسلا ولا ندع مع ذلك النصح والسعي في الالفة والجماعة وذكر من فضل عليّ واستحقاقه للأمر بتقواه وزهده. فقال معاوية بعد الحمد والثناء: أمّا الجماعة التي تدعون إليها فهي معنا وأمّا طاعة صاحبكم فلا نراها لأنه قتل خليفتنا وآوى أهل ثأرنا ونحن مع ذلك نجيبكم إلى الطاعة والجماعة إذا دفع إلينا قتلة عثمان. فقال شبث بن ربعي: أيسرّك يا معاوية أن تقتل عمّارا؟ قال: نعم بمولاه. قال شبث: حتى تضيق الأرض والفضاء عليك. فقال معاوية: لو كان ذلك لكانت عليك أضيق.
وافترقوا عن معاوية ثم خلا بزياد بن خصفة وشكى إليه من عليّ وسأله النصر منه بعشيرته وأن يولّيه أحد المصرين، فأبى وقال: إني على بيّنة من ربي فلن أكون ظهيرا للمجرمين. وقام عنه فقال معاوية لعمرو: كأنّ قلوبهم قلب رجل واحد.
ثم بعث معاوية إلى عليّ حبيب بن مسلمة وشرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس فدخلوا عليه، فتكلّم حبيب بعد الحمد للَّه والثناء فقال: إنّ عثمان كان خليفة مهديّا يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمره فاستثقلتم حياته واستبطأتم موته فقتلتموه فادفع إلينا قتلته إن كنت لم تقتله ثم اعتزل أمر الناس فيولّوا من أجمعوا عليه. فقال عليّ: ما أنت وهذا الأمر؟ فاسكت فلست بأهل له، فقال والله لتراني بحيث تكره، فقال: وما أنت لا أبقى الله عليك ان أبقيت اذهب فصوّب وصعد، ثم تكلّم بعد الحمد للَّه والثناء وهداية الناس بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وخلافة الشيخين وحسن سيرتهما، وقد وجدنا عليهما أن تولّيا ونحن أقرب منهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن سمحنا لهما [1] بذلك، وولي عثمان فعاب الناس عليه وقتلوه، ثم بايعوني مخافة الفرقة فأجبتهم، ونكث عليّ رجلان وخالف صاحبكم الّذي ليس له مثل سابقتي، والعجب من انقيادكم له دون بيت نبيّكم ولا ينبغي لكم ذلك، وأنا أدعوكم إلى الكتاب والسنّة ومعالم الدين وإماتة الباطل وإحياء الحق» فقالوا:
نشهد أن عثمان قتل مظلوما، فقال: لا أقول مظلوما ولا ظالما. قالوا: فمن لم يقل ذلك فنحن منه برآء وانصرفوا. فقرأ عليّ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى 27: 80 الآية ثم، قال لأصحابه: لا يكن هؤلاء في ضلالهم أجدّ منكم في حقّكم.
[1] وفي نسخة اخرى: سامحناهما.
ثم تنازع عدي بن حاتم في راية طيِّئ وعامر بن قيس الحزمري [1] وكان رهطه أكثر من رهط عدي، فقال عبد الله بن خليفة البولاني: ما فينا أفضل من عدي ولا من أبيه حاتم ولم يكن في الإسلام أفضل من عدي وهو الوافد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأس طيِّئ في النخيلة والقادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند وتستر، وسأل عليّ قومهم فوافقوه على ذلك فقضى بها لعديّ. ولما انسلخ المحرّم نادى عليّ في الناس بالقتال وعبّى الكتائب وقال: لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثّلوا ولا تأخذوا مالا ولا تهيّجوا امرأة وإن شتمتكم فإنّهنّ ضعاف الأنفس والقوى، ثم حرّضهم ودعا لهم وجعل الأشتر على خيل الكوفة وسهل بن حنيف على خيل البصرة وقيس بن سعد على رجالة البصرة وعمّار بن ياسر على رجّالة الكوفة وهاشم بن عتبة معه الراية ومسعر بن فدكي على القرّاء، وعبّى معاوية كتائبه فجعل على الميمنة ذا الكلاع الحميري وعلى الميسرة حبيب بن مسلمة، وعلى المقدّمة أبا الأعور وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص وعلى رجّالتها مسلم بن عقبة المرّي. وعلى الناس كلهم الضحّاك بن قيس. وتبايع رجال من أهل الشام على الموت فعقلوا أنفسهم بالعمائم في خمسة صفوف فاقتتلوا عامة يومهم، وفي اليوم الثاني هاشم بن عتبة وأبو الأعور السلميّ، وفي اليوم الثالث عمّار بن ياسر وعمرو بن العاص فاقتتلوا أشدّ قتال وحمل عمّار فأزال عمرا عن موضعه، وفي اليوم الرابع محمد بن الحنفيّة وعبيد الله بن عمر بن الخطاب وتداعيا إلى البراز فرد عليّ ابنه وتراجعوا، وفي اليوم الخامس عبد الله بن عبّاس والوليد بن عقبة فاقتتلا كذلك، ثم عاد في اليوم السادس الأشتر وحبيب فاقتتلا قتالا شديدا وانصرفا.
وخطب عليّ الناس عشيّة يومه [2] وأمرهم بمناهضة القوم بأجمعهم وأن يطيلوا ليلتهم القيام، ويكثروا التلاوة ويدعو الله بالنصر والصبر، ويرموا [3] غدا في لقائهم بالجدّ والحزم. فبات الناس يصلحون ليلتهم سلاحهم، وعبّى عليّ الناس ليلته إلى الصباح، وزحف وسأل عن القبائل من أهل الشام وعرف مواقفهم وأمر كل قبيلة أن تكفيه أختها من الشام، ومن ليس منهم أحد بالشام يصرفهم إلى من ليس منهم أحد
[1] وفي نسخة اخرى: الجرموزي.
[2]
وفي نسخة اخرى: عشية يومهم.
[3]
وفي النسخة الباريسية: ويدنو في الكامل: القوهم.
بالعراق مثل بجيلة صرفهم الى لخم. وخرج معاوية في أهل الشام فاقتتلوا يوم الأربعاء قتالا شديدا عامة يومهم ثم انصرفوا، وغلس عليّ يوم الخميس بالزحف وعلى ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء وعلى ميسرته عبد الله بن عبّاس والقرّاء مع عمّار وقيس بن سعد وعبد الله بن يزيد والناس على راياتهم ومراكزهم، وعليّ في القلب بين أهل الكوفة والبصرة ومعه أهل البصرة والكوفة ومعه أهل المدينة من الأنصار وخزاعة وكنانة.
ورفع معاوية قبة عظيمة وألقى عليها الثياب وبايعه أكثر أهل الشام على الموت، وأحاط بقبته خيل دمشق [1] وزحف ابن بديل في الميمنة فقاتلهم إلى الظهر وهو يحرّض أصحابه. ثم كشف خيلهم واضطرهم إلى قبة معاوية، وجاء الذين تبايعوا على الموت إلى معاوية فبعثهم إلى حبيب فحمل بهم على ميمنة أهل العراق فانجفل الناس عن ابن بديل إلا ثلاثمائة أو مائتين من القرّاء وانتهت الهزيمة إلى عليّ، وأمدّه عليّ بسهل بن حنيف في أهل المدينة فاستقبلهم جموع عظيمة لأهل الشام فمنعتهم، ثم انكشفت مضر من الميسرة وثبتت ربيعة وجاء عليّ يمشي نحوهم فاعترضه أحمر مولى أبي سفيان فحال دونه كيسان مولاه فقتله أحمر، فتناول عليّ أحمر من درعه فجذبه وضرب به الأرض وكسر منكبيه وعضديه، ثم دنا من ربيعة فصبّرهم وثبّت أقدامهم وتنادوا بينهم إن أصيب بينكم أمير المؤمنين افتضحتم في العرب، وكان الأشتر مرّ به راكضا نحو الميمنة واستقبل الناس منهزمين فأبلغهم مقالة عليّ: أين فراركم من الموت الّذي لا تعجزوه [2] إلى الحياة التي لا تبقى لكم، ثم نادى أنا الأشتر فرجع إليه بعضهم فنادى مذحجا وحرّضهم فأجابوه، وقصد القوم واستقبله شباب من همذان ثمانمائة أو نحوها وكان قد هلك منهم في ذلك اليوم أحد عشر رئيسا وأصيب منهم ثمانون ومائة وزحف الأشتر نحو الميمنة، وتراجع الناس واشتدّ القتال حتى كشف أهل الشام وألحقهم بمعاوية عند الاصفرار وانتهى إلى ابن بديل في مائتين أو ثلاثمائة من القرّاء قد لصقوا بالأرض، فانكشفوا عنهم أهل الشام وأبصروا إخوانهم وسألوا عن عليّ فقيل لهم هو في الميسرة يقاتل، فقال ابن بديل استقدموا بنا ونهاه الأشتر فأبى ومضى نحو معاوية وحوله أمثال الجبال تقتل كل من دنا منه حتى وصل
[1] وفي النسخة الباريسية: وأحاط نفسه بخيل دمشق.
[2]
الصحيح ان تقول: لا تعجزونه.
الى معاوية، فنهض إليه الناس من كل جانب وأحيط به فقتل وقتل من أصحابه ناس ورجع آخرون مجرّمين [1] وأهل الشام في اتباعهم، فبعث الأشتر من نفس عنهم حتى وصلوا إليه وزحف الأشتر في همذان وطوائف من الناس فأزال أهل الشام عن مواقفهم حتى ألحقهم بالصفوف المعقلة بالعمائم حول معاوية، ثم حمل أخرى فصرع منهم أربعة صفوف حتى دعا معاوية بفرسه فركبه، وخرج عبد الله بن أبي الحصين الأزدي في القراء الذين مع عمّار فقاتلوا، وتقدّم عقبة بن حديد النميري مستميتا ومعه إخوته وقاتلوا حتى قتلوا، وتقدّم شمر بن ذي الجوشن مبارزا فضرب أدهم بن محرز الباهليّ وجهه بالسيف وحمل هو على أدهم فقتله، وحمل قيس بن المكشوح [2] ومعه راية بجيلة فقاتل حتى أخذها آخر كذلك.
ولما رأى عليّ أهل ميمنة أصحابه قد عادوا إلى مواقفهم وكشفوا العدوّ قبالتهم أقبل إليهم وعذلهم بعض الشيء عن مفرّهم وأثنى على وجوههم، وقاتل الناس قتالا شديدا وتبارز الشجعان من كل جانب وأقبلت قبائل طيِّئ والنخع وخرجت حمير من ميمنة أهل الشام، وتقدّم ذو الكلاع ومعهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب فقصد ربيعة في ميسرة أهل العراق وعليهم ابن عبّاس وحملوا عليهم حملة شديدة فثبت ربيعة وأهل الحفاظ منهم وانهزم الضعفاء والفشلة، ثم رجعوا ولحقت بهم عبد القيس وحملوا على حمير فقتل ذو الكلاع وعبيد الله بن عمر وأخذ سيف ذي الكلاع وكان لعمر، فلما ملك معاوية العراق أخذه من قاتله. ثم خرج عمّار بن ياسر وقال اللَّهمّ اني لا أعمل اليوم عملا أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين ثم نادى من سعى في رضوان ربّه فلا يرجع إلى مال ولا ولد فأتاه عصابة فقال:«اقصدوا بنا هؤلاء الذين يطلبون بدم عثمان يخادعون بذلك عمّا في نفوسهم من الباطل» ، ثم مضى فلا يمرّ بواد من صفّين الا اتبعه من هناك من الصحابة. ثم جاء الى هاشم بن عتبة وكان صاحب الراية فأنهضه حتى دنا من عمرو بن العاص وقال: يا عمرو بعت دينك بمصر؟ تبّا لك فقال: إنما أطلب دم عثمان، فقال: أشهد أنك لا تطلب وجه الله في كلام كثير من أمثال ذلك وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عمّار تقتله الفئة الباغية.
[1] وفي نسخة اخرى: مجروحون.
[2]
المكشوح لقب واسمه هبيرة أهـ.
ولما قتل عمّار حمل عليّ وحمل معه ربيعة ومضر وهمذان حملة منكرة فلم يبق لأهل الشام صف إلّا انتقض حتى بلغوا معاوية فناداه عليّ: علام يقتل الناس بيننا هلمّ أحاكمك إلى الله فأينا قتل صاحبه استقام له الأمر، فقال له عمرو: أنصفك.
فقال له معاوية: لكنك ما أنصفت. وأسر يومئذ جماعة من أصحاب عليّ فترك سبيلهم، وكذلك فعل عليّ، ومرّ عليّ بكتيبة من الشام قد ثبتوا فبعث إليهم محمد ابن الحنفية فازالهم عن مواقفهم، وصرح عبد الله بن كعب المرادي فمرّ به الأسود بن قيس فأوصاه بتقوى الله والقتال مع عليّ، وقال أبلغه عني السلام، وقال له قاتل على [1] المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك فإنه من أصبح غدا والمعركة خلف ظهره فإنه العالي.
ثم اقتتل الناس إلى الصباح وهي ليلة الجمعة وتسمّي ليلة الهرير، وعليّ يسير بين الصفوف ويحرّض كل كتيبة على التقدّم حتى أصبح والمعركة كلها خلف ظهره، والأشتر في الميمنة وابن عبّاس في الميسرة والناس يقتتلون من كل جانب وذلك يوم الجمعة. ثم ركب الأشتر ودعا الناس إلى الحملة على أهل الشام فحمل حتى انتهى إلى عسكرهم وقتل صاحب رايتهم، وأمدّه عليّ بالرجال، فلما رأى عمرو شدّة أهل العراق وخاف على أصحابه الهلاك، قال لمعاوية: مر الناس يرفعون المصاحف على الرماح ويقولون كتاب الله بيننا وبينكم فإن قبلوا ذلك ارتفع عنّا القتال وإن أبى بعضهم وجدنا في افتراقهم راحة. ففعلوا ذلك، فقال الناس: نجيب إلى كتاب الله فقال لهم عليّ: «يا عباد الله امضوا على حقكم وقتال عدوّكم فإنّ معاوية وابن أبي معيط وحبيبا وابن أبي سرح والضحّاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن أنا أعرف بهم صحبتهم أطفالا ورجالا فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال، ويحكم والله ما رفعوها إلّا مكيدة وخديعة» . فقالوا: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فلا نقبل، فقال: إنما قتلناهم ليدينوا بكتاب الله فإنّهم نبذوه. فقال له مسعر بن فدك التميميّ وزيد بن حصين الطائي في عصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا عليّ أجب الى كتاب الله وإلّا دفعنا برمتك إلى القوم. أو فعلنا بك ما فعلنا بابن عفّان. فقال:
إن تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم، قالوا: فابعث إلى الأشتر وكفّه عن القتال، فبعث إليه يزيد بن هانئ بذلك فأبى، وقال:، قد رجوت أن يفتح
[1] وفي النسخة الباريسية: عن المعركة.
الله لي فلما جاء يزيد بذلك ارتج الموقف باللغط، وقالوا لعليّ: ما نراك إلا أمرته بقتال فابعث إليه فليأتك وإلّا اعتزلناك، فقال عليّ: ويحك يا يزيد قل له أقبل إليّ فان الفتنة قد رفعت، فقال: ألرفع المصاحف؟ فقال: نعم قال: لقد ظننت أن ذلك يوقع فرقة كيف ندع هؤلاء وننصرف والفتح قد وقع، فقال يزيد: تحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلّم إلى عدوّه أو يقتل، ثم أقبل إليهم الأشتر وأطال عتبهم، وقال امهلوني فواقا فقد أحسست بالفتح، فأبوا فعذلهم وأطال في عذلهم، فقالوا دعنا يا أشتر قاتلناهم الله، فقال: بل خدعتم فانخدعتم. ثم كثرت الملاحاة بينهم وتشاتموا فصاح بهم عليّ فكفّوا، فقال له الأشعث بن قيس: إنّ الناس قد رضوا بما دعوا إليه من حكم القرآن فإن شئت أتيت معاوية وسألته ما يريد. قال: افعل.
فأتاه وسأله: لأيّ شيء رفعتم المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به من كتابه تبعثون رجلا ترضونه، ونحن آخر ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه. ثم نتبع ما اتفقا عليه، فقال الأشعث هذا الحق ورجع إلى عليّ والناس وأخبرهم، فقال الناس رضينا وقبلنا، ورضي أهل الشام عمرا، وقال الأشعث وأولئك القرّاء الذين صاروا خوارج: رضينا بأبي موسى، فقال عليّ لا أرضاه فقال الأشعث ويزيد بن الحصين [1] ومسعر بن فدك: لا نرضي إلّا به. قال فإنه ليس ثقة قد فارقني وخذل الناس عني وهرب مني حتى أمّنته بعد شهر، قالوا لا نريد إلّا رجلا هو منك ومن معاوية سواء، قال فالأشتر، قالوا: وهل سعر الأرض غير الأشتر؟ قال: فاصنعوا ما بدا لكم. فبعثوا إلى أبي موسى وقد اعتزل القتال، فقيل إنّ الناس قد اصطلحوا، فحمد الله، قيل وقد جعلوك حكما فاسترجع، وجاء أبو موسى إلى العسكر وطلب الأحنف بن قيس من عليّ أن يجعله مع أبي موسى، فأبى الناس من ذلك وحضر عمرو بن العاص عند عليّ لتكتب القضية بحضوره، فكتبوا بعد البسملة هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين، فقال: عمرو ليس هو بأميرنا، فقال له الأحنف: لا تمحها فاني أتطير بمحوها فمكث مليّا، ثم قال الأشعث: امحها.
فقال عليّ: الله أكبر وذكر قصة الحديبيّة وفيها أنّك ستدعى إلى مثلها فتجيبها، فقال عمرو: وسبحان الله نشبه بالكفار ونحن مؤمنون. فقال عليّ: يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين وليّا وللمؤمنين عدّوا، فقال عمرو: والله لا يجمع بيني وبينك
[1] وفي النسخة الباريسية: زيد بن الحصن.
مجلس بعد اليوم، فقال عليّ: أرجو أن يظهر الله مجلسي منك ومن أشباهك.
وكتب الكتاب: «هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قاضى عليّ على أهل الكوفة ومن معهم ومعاوية على أهل الشام ومن معهم أنّا ننزل عند حكم الله وكتابه وأن لا يجمع بيننا غيره وأنّ كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات مما وجد الحكمان في كتاب الله. وهما أبو موسى عبد الله ابن قيس وعمرو بن العاص وما لم يجدا في كتب الله فالسنّة العادلة الجامعة غير المفرّقة وأخذ الحكمان من عليّ ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما والأمة لهما أنصار على الّذي يتقاضيان عليه، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة ولا يورداها في حرب ولا فرقة حتى يقضيا، وأجلّاء القضاء إلى رمضان وإن أحبّا أن يؤخّرا ذلك أخّراه وأنّ مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام» . وشهد رجال من أهل العراق ورجال من أهل الشام وضعوا خطوطهم في الصحيفة، وأبى الأشتر أن يكتب اسمه فيها وحاوره الأشعث في ذلك فأساء الردّ عليه وتهدّده. وكتب الكتاب لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين. واتفقوا على أن يوافي عليّ موضع الحكمين بدومة الجندل وبأذرح في شهر رمضان، ثم جاء بعض الناس إلى عليّ يحضّه على قتال القوم فقال:
لا يصلح الرجوع بعد الرضى ولا التبديل بعد الإقرار.
ثم رجع الناس عن صفّين ورجع علي، وخالفت الحروريّة وأنكروا تحكيم الرجال ورجعوا على غير الطريق الّذي جاءوا فيه حتى جازوا النخيلة ورأوا بيوت الكوفة، ومرّ عليّ بقبر خباب بن الأرت توفي بعد خروجه فوقف واسترحم له، ثم دخل الكوفة فسمع رجة البكاء في الدور فقال يبكين على القتلى فترحم لهم، ولم يزل يذكر الله حتى دخل القصر فلم تدخل الخوارج معه وأتوا حرورا فنزلوا بها في اثني عشر ألفا، وقدّموا شبث بن عمر التميمي أمير القتال وعبيد الله بن الكوّاء اليشكري أمير الصلاة، قالوا البيعة للَّه عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأمر شورى بعد الفتح. فقالوا للناس بايعتم عليّا إنّكم أولياء من والى وأعداء من عادى، وبايع أهل الشام معاوية على ما أحب وكرهوا فلستم جميعا من الحق في شيء، فقال لهم زياد بن النضر: والله ما بايعناه إلا على الكتاب والسنّة لكن لما خالفتموه تعيّنتم للضلال وتعيّنا للحق. ثم بعث عليّ عبد الله بن عبّاس إليهم قوال لا تراجعهم حتى آتيك فلم يصبر عن