الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدّمة الثانية في كيفية وضع الأنساب في كتابنا لأهل الدول وغيرهم
اعلم أن الأنساب تتشعب دائما وذلك أن الرجل قد يكون له من الولد ثلاثة أو أربعة أو أكثر، ويكون لكل واحد منهم كذلك، وكل واحد منهم فرع ناشئ عن أصل أو فرع أو عن فرع فرع فصارت بمثابة الأغصان للشجرة تكون قائمة على ساق واحدة هي أصلها والفروع عن جانبها، ولكل واحد من الفروع فروع أخرى الى أن تنتهي إلى الغاية. فلذلك اخترنا بعد الكلام على الأنساب للأمّة وشعوبها أن نضع ذلك على شكل شجرة نجعل أصلها وعمود نسبها باسم الأعظم من أولئك الشعوب ومن له التقدم عليهم فيجعل عمود نسبه أصلا لها وتفرع الشعوب الأخرى عن جانبه من كل جهة، كأنها فروع لتلك الشجرة حتى تتصل تلك الأنساب عمودا وفروعا بأصلها الجامع لها ظاهرة للعيان في صفحة واحدة، فترسم في الخيال دفعة ويكون ذلك أعون على تصوّر الأنساب وتشعبها. فإن الصور الحسيّة أقرب إلى الارتسام في الخيال من المعاني المتعلقة. ثم لما كانت هذه الأمم كلها لها دول وسلطان، اعتمدنا بالقصد الأوّل ذكر الملوك منهم في تلك الشجرات متصلة أنسابهم الى الجد الّذي يجمعهم، بعد أن نرسم على كل واحد منهم رتبته في تعاقبهم واحدا بعد واحد بحروف أب ج د فالألف للأوّل والباء للثاني والجيم للثالث والدال للرابع والهاء للخامس وهلم جرّا.
ونهاية الأجداد لأهل تلك الدولة في الآخر منهم، ويكون للأول غصون وفروع في كل جهة عنه فإذا نظرت في الشجرة علمت أنساب الملوك في كل دولة وترتبهم بتلك الحروف واحدا بعد واحد والله أعلم بالصواب.
القول في أجيال العرب وأوّليتها واختلاف طبقاتهم وتعاقبها وأنساب كل طبقة منها
(1)
اعلم أن العرب منهم الأمة الراحلة الناجعة، أهل الخيام لسكناهم والخيل لركوبهم، والأنعام لكسبهم، يقومون عليها، ويقتاتون من ألبانها، ويتخذون الدفء والأثاث من أوبارها وأشعارها، ويحملون أثقالهم على ظهورها. يتنازلون حللا متفرقة،
ويبتغون الرزق في غالب أحوالهم من القنص، ويختطف الناس من السبل، ويتقلبون دائما في المجالات فرارا من حمارّة القيظ تارة، وصبارة البرد أخرى، وانتجاعا لمراعي غنمهم، وارتيادا لمصالح إبلهم الكفيلة بمعاشهم، وحمل أثقالهم ودفئهم ومنافعهم، فاختصوا لذلك بسكنى الإقليم الثالث ما بين البحر المحيط من المغرب الى أقصى اليمن وحدود الهند من المشرق. فعمروا اليمن والحجاز ونجدا وتهامة وما وراء ذلك مما دخلوا إليه في المائة الخامسة كما ذكروه من مصر وصحاري برقة وتلولها وقسنطينة وإفريقية وزاغا والمغرب الأقصى والسوس، لاختصاص هذه البلاد بالرمال والقفار المحيطة بالأرياف والتلول والأرياف الآهلة بمن سواهم من الأمم في فصل الربيع وزخرف الأرض لرعي الكلإ والعشب في منابتها، والتنقل في نواحيها الى فصل الصيف لمدّة الأقوات في سنتهم من حبوبها. وربما يلحق أهل العمران أثناء ذلك معرات من أضرارهم بإفساد السابلة، ورعي الزرع مخضرّا، وانتهابه قائما وحصيدا إلا ما حاطته الدولة، وذادت عنه الحامية في الممالك التي للسلطان عليهم فيها. ثم ينحدرون في فصل الخريف الى القفار لرعي شجرها، ونتاج إبلهم في رمالها، وما أحاط به عملهم من مصالحها، وفرارا بأنفسهم وظعائنهم من أذى البرد الى دفء مشاتيها. فلا يزالون في كل عام مترددين بين الريف والصحراء ما بين الإقليم الثالث والرابع صاعدين ومنحدرين على ممر الأيام، شعارهم لبس المخيط في الغالب، ولبس العمائم تيجانا على رءوسهم يرسلون من أطرافها عذبات يتلثم قوم منهم بفضلها وهم عرب المشرق، وقوم يلفون منها الليث والأخدع قبل لبسها ثم يتلثمون بما تحت أذقانهم من فضلها وهم عرب المغرب حاكوا بها عمائم زناتة من أمم البربر قبلهم. وكذلك لقنوا منهم في حمل السلاح اعتقال الرماح الخطية، وهجروا تنكب القسي. وكان المعروف لأولهم ومن بالمشرق لهذا العهد منهم استعمال الأمرين.
ثم إنّ العرب لم يزالوا موسومين بين الأمم بالبيان في الكلام والفصاحة في المنطق والذلاقة في اللسان ولذلك سموا بهذا الاسم فإنه مشتق من الابانة لقولهم أعرب الرجل عما في ضميره إذا أبان عنه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الثيب تعرب عن نفسها» . والبيان سمتهم بين الأمم منذ كانوا. وانظر قصة كسرى لما طلب من خليفته على العرب النعمان بن المنذر أن يوفد عليه من كبرائهم وخطبائهم من رضي لذلك، فاختار منهم وفد أوفده عليه وكان من خبره واستغراب ما جاءوا به من البيان ما هو معروف
فهذه كلها شعائرهم وسماتهم وأغلبها عليهم اتخاذ الإبل والقيام على نتاجها وطلب الانتجاع بها الارتياد مراعيها ومفاحص توليدها بما كان معاشهم منها. فالعرب أهل هذه الشعار من أجيال الآدميين. كما أن الشاوية أهل القيام على الشاة والبقر لما كان معاشهم فيها فلهذا لا يختصون بنسب واحد بعينه الا بالعرض ولذلك كان النسب في بعضهم مجهولا عند الأكثر وفي بعضهم خفيّا على الجمهور. وربما تكون هذه السمات والشعائر في أهل نسب آخر فيدعون باسم العرب إلا أنهم في الغالب يكونون أقرب الى الأولين من غيرهم. وهذا الانتقال لا يكون إلّا في أزمنة متطاولة وأحقاب متداولة.
ولذلك يعرض في الأنساب ما يعرض من الجهل والخفاء.
واعلم أنّ جيل العرب بعد الطوفان وعصر نوح عليه السلام كان في عاد الأولى وثمود والعمالقة وطسم وجديس وأميم وجرهم وحضرموت ومن ينتمي إليهم من العرب العاربة من أبناء سام بن نوح. ثم لما انقرضت تلك العصور وذهب أولئك الأمم وأبادهم الله بما شاء من قدرته وصار هذا الجيل في آخرين ممن قرب من نسبهم من حمير وكهلان وأعقابهم من التبابعة ومن إليهم من العرب المستعربة من أبناء عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام. ثم لما تطاولت تلك العصور وتعاقبت وكان بنو فالغ بن عابر أعالم من بين ولده واختص الله بالنّبوّة منهم إبراهيم بن تارخ [1] وهو آزر بن ناحور بن ساروخ بن أرغو بن فالغ وكان من شأنه مع نمروذ ما قصّه القرآن. ثم كان من هجرته الى الحجاز ما هو مذكور، وتخلف ابنه إسماعيل مع أمه هاجر بالحجر قربانا للَّه، ومرّت بها رفقة من جرهم في تلك المفازة فخالطوها ونشأ إسماعيل بينهم، وربّي في أحيائهم، وتعلم لغتهم العربية بعد أن كان أبوه أعجميا. ثم كان بناء البيت كما قصه القرآن، ثم بعثه الله الى جرهم والعمالقة الذين كانوا بالحجاز فآمن كثير منهم واتبعوه.
ثم عظم نسله وكثر وصار بالجيل آخر من ربيعة ومضر ومن إليهم من إياد وعك وشعوب نزار وعدنان وسائر ولد إسماعيل وهم العرب التابعة للعرب. ثم انقرض أولئك الشعوب في أحقاب طويلة وانقرض ما كان لهم من الدولة في الإسلام وخالطوا العجم بما كان لهم من التغلب عليهم ففسدت لغة أعقابهم في آماد متطاولة وبقي خلفهم أحياء بادين في القفار والرمال والخلاء من الأرض تارة والعمران تارة. وقبائل بالمشرق والمغرب والحجاز واليمن وبلاد الصعيد والنوبة والحبشة وبلاد الشام والعراق
[1] تارخ أو تارح كما في التوراة.