المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بدء الانتقاض على عثمان رضي الله عنه - تاريخ ابن خلدون - جـ ٢

[ابن خلدون]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الثاني]

- ‌الكتاب الثاني ويشتمل: أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدإ الخليقة الى هذا العهد

- ‌المقدّمة الاولى في أمم العالم واختلاف أجيالهم والكلام على الجملة في أنسابهم

- ‌المقدّمة الثانية في كيفية وضع الأنساب في كتابنا لأهل الدول وغيرهم

- ‌القول في أجيال العرب وأوّليتها واختلاف طبقاتهم وتعاقبها وأنساب كل طبقة منها

- ‌برنامج بما تضمنه الكتاب من الدول في هذه الطبقات الأربع على ترتيبها والدول المعاصرين من العجم في كل طبقة منها

- ‌الطبقة الاولى من العرب وهم العرب العاربة وذكر نسبهم والإمام بملكهم ودولهم على الجملة

- ‌الخبر عن إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام ونسبه الى فالغ بن عابر وذكر أولاده صلوات الله عليهم وأحوالهم

- ‌الطبقة الثانية من العرب وهم العرب المستعربة وذكر أنسابهم وأيامهم وملوكهم والإلمام ببعض الدول التي كانت على عهدهم

- ‌الخبر عن ملوك التبابعة من حمير وأوليتهم باليمن ومصاير أمورهم

- ‌ملك الحبشة اليمن

- ‌غزو الحبشة الكعبة

- ‌قصة سيف بن ذي يزن وملك الفرس على اليمن

- ‌الخبر عن ملوك بابل من النبط والسريانيين وملوك الموصل ونينوى من الجرامقة

- ‌الخبر عن القبط وأوّلية ملكهم ودولهم وتصاريف أحوالهم والإلمام بنسبهم

- ‌الخبر عن بني إسرائيل وما كان لهم من النبوة والملك وتغلبهم على الأرض المقدّسة بالشام وكيف تجدّدت دولتهم بعد الانقراض وما اكتنف ذلك من الأحوال

- ‌الخبر عن حكام بني إسرائيل بعد يوشع الى أن صار أمرهم إلى الملك وملك عليهم طالوت

- ‌الخبر عن ملوك بني إسرائيل بعد الحكام ثم افتراق أمرهم والخبر عن دولة بني سليمان بن داود على السبطين يهوذا وبنيامين بالقدس الى انقراضها

- ‌الخبر عن افتراق بنى إسرائيل منهم ببيت المقدس على سبط يهوذا وبنيامين الى انقراضه

- ‌الخبر عن دولة الأسباط العشرة وملوكهم الى حين انقراض أمرهم

- ‌الخبر عن عمارة بيت المقدس بعد الخراب الأوّل وما كان لبني إسرائيل فيها من الملك في الدولتين لبني حشمناي وبني هيردوس إلى حين الخراب الثاني والجلوة الكبرى

- ‌ابتداء أمر انظفتر [1] أبو هيردوس

- ‌انقراض ملك بني حشمناي وابتداء ملك هيردوس وبنيه

- ‌الخبر عن شأن عيسى بن مريم صلوات الله عليه في ولادته وبعثته ورفعه من الأرض والإلمام بشأن الحواريين بعده وكتبهم الأناجيل الأربعة وديانة النصارى بملته واجتماع الاقسة على تدوين شريعته

- ‌الخبر عن الفرس وذكر أيامهم ودولهم وتسمية ملوكهم وكيف كان مصير أمرهم الى تمامه وانقراضه

- ‌الطبقة الاولى من الفرس وذكر ملوكهم وما صار اليه في الخليقة أحوالهم

- ‌الطبقة الثانية من الفرس وهم الكينية وذكر ملوكهم وأيامهم إلى حين انقراضهم

- ‌الطبقة الثالثة من الفرس وهم الأشكانية ملوك الطوائف وذكر دولهم ومصاير أمورهم الى نهايتها

- ‌الطبقة الرابعة من الفرس وهم الساسانية والخبر عن ملوكهم الأكاسرة إلى حين الفتح الإسلامي

- ‌الخبر عن دولة يونان والروم وأنسابهم ومصايرهم

- ‌الخبر عن دولة يونان والإسكندر منهم وما كان لهم من الملك والسلطان الى انقراض أمرهم

- ‌الخبر عن اللطينيين وهم الكيتم المعرفون بالروم من أمم يونان وأشياعهم وشعوبهم وما كان لهم من الملك والغلب وذكر الدولة التي فيهم للقياصرة وأولية ذلك ومصايره

- ‌الخبر عن فتنة الكيتم مع أهل إفريقية وتخريب قرطاجنة ثم بناؤها على الكيتم وهم اللطينيون

- ‌الخبر عن ملوك القياصرة من الكيتم وهم اللطينيون ومبدإ أمورهم ومصاير أحوالهم

- ‌الخبر عن القياصرة المتنصرة من اللطينيين وهم الكيتم واستفعال ملكهم بقسطنطينية ثم بالشام بعدها إلى حين الفتح الإسلامي ثم بعد إلى انقراض أمرهم

- ‌الخبر عن ملوك القياصرة من لدن هرقل والدولة الإسلامية الى حين انقراض أمرهم وتلاشي أحوالهم

- ‌الخبر عن القوط وما كان لهم من الملك بالأندلس الى حين الفتح الإسلامي وأوّلية ذلك ومصايره

- ‌الطبقة الثالثة من العرب وهم العرب التابعة للعرب وذكر افاريقهم وأنسابهم وممالكهم وما كان لهم من الدول على اختلافها والبادية والرحالة منهم وملكها

- ‌الخبر عن أنساب العرب من هذه الطبقة الثالثة واحدة واحدة وذكر مواطنهم ومن كان له الملك منهم

- ‌الخبر عن حمير من القحطانية وبطونها وتفرع شعوبها

- ‌الخبر عن قضاعة وبطونها والإلمام ببعض الملك الّذي كان فيها

- ‌الخبر عن بطون كهلان من القحطانية وشعوبهم واتصال بعضها مع بعض وانقضائها

- ‌الخبر عن ملوك الحيرة من آل المنذر من هذه الطبقة وكيف انساق الملك اليهم ممن قبلهم وكيف صار إلى طيِّئ من بعدهم

- ‌ملوك كندة الخبر عن ملوك كندة من هذه الطبقة ومبدإ أمرهم وتصاريف أحوالهم

- ‌الخبر عن أبناء جفنة ملوك غسان بالشام من هذه الطبقة وأوليتهم ودولهم وكيف انساق الملك اليهم ممن قبلهم

- ‌الخبر عن الأوس والخزرج أبناء قيلة من هذه الطبقة ملوك يثرب دار الهجرة وذكر أوليتهم والإلمام بشأن نصرتهم وكيف انقراض أمرهم

- ‌الخبر عن بني عدنان وأنسابهم وشعوبهم وما كان لهم من الدول والملك في الإسلام وأوّلية ذلك ومصايره

- ‌الخبر عن قريش من هذه الطبقة وملكهم بمكة وأولية أمرهم وكيف صار الملك اليهم فيها ممن قبلهم من الأمم السابقة

- ‌أمر النبوّة والهجرة في هذه الطبقة الثالثة وما كان من اجتماع العرب على الإسلام بعد الاباية والحرب

- ‌المولد الكريم وبدء الوحي

- ‌بدء الوحي

- ‌هجرة الحبشة

- ‌ العقبة الثانية

- ‌الهجرة

- ‌الغزوات

- ‌الأبواء:

- ‌بواط:

- ‌البعوث:

- ‌غزوة بدر الثانية:

- ‌غزوة الكدر:

- ‌غزوة السويق:

- ‌ذي أمرّ:

- ‌نجران:

- ‌قتل كعب بن الأشرف:

- ‌غزوة بني قينقاع:

- ‌سرية زيد بن حارثة إلى قردة:

- ‌قتل ابن أبي الحقيق:

- ‌غزوة أحد

- ‌غزوة حمراء الأسد:

- ‌بعث الرجيع:

- ‌غزوة بئر معونة:

- ‌غزوة بني النضير:

- ‌غزوة ذات الرقاع:

- ‌غزوة بدر الصغرى الموعد:

- ‌غزوة دومة الجندل:

- ‌غزوة الخندق

- ‌غزوة بني قريظة

- ‌غزوة الغابة وذي قرد

- ‌غزاة بني المصطلق:

- ‌عمرة الحديبيّة

- ‌إرسال الرسل الى الملوك

- ‌غزوة خيبر

- ‌فتح فدك ووادي القرى

- ‌عمرة القضاء

- ‌غزوة جيش الأمراء

- ‌فتح مكة

- ‌غزوة حنين

- ‌حصار الطائف وغزوة تبوك

- ‌إسلام عروة بن مسعود ثم وفد ثقيف وهدم اللات

- ‌الوفود

- ‌ حجة الوداع

- ‌العمال على النواحي

- ‌خبر العنسيّ

- ‌بعث أسامة:

- ‌أخبار الأسود ومسيلمة وطليحة:

- ‌مرضه صلى الله وسلم عليه:

- ‌خبر السقيفة

- ‌الخلافة الإسلامية

- ‌الخبر عن الخلافة الإسلامية في هذه الطبقة وما كان فيها من الرّدة والفتوحات وما حدث بعد ذلك من الفتن والحروب في الإسلام ثم الاتفاق والجماعة

- ‌بعث الجيوش للمرتدين

- ‌خبر طليحة

- ‌خبر هوازن وسليم وبني عامر

- ‌خبر بني تميم وسجاح

- ‌البطاح ومالك بن نويرة

- ‌خبر مسيلمة واليمامة

- ‌ردّه الحطم وأهل البحرين

- ‌ردة أهل عمان ومهرة واليمن [2]

- ‌بعوث العراق وصلح الحيرة

- ‌فتح الحيرة

- ‌فتح ما وراء الحيرة

- ‌فتح الأنبار وعين التمر وتسمّى هذه الغزوة ذات العيون

- ‌الوقائع بالعراق

- ‌بعوث الشام

- ‌بعوث الشام

- ‌خلافة عمر رضي الله عنه

- ‌فتح دمشق

- ‌خبر المثنى بالعراق بعد مسير خالد الى الشام

- ‌ولاية أبي عبيد بن مسعود على العراق ومقتله

- ‌أخبار القادسية

- ‌فتح المدائن وجلولاء بعدها

- ‌ولاية عتبة بن غزوان على البصرة

- ‌وقعة مرج الروم وفتوح مدائن الشام بعدها

- ‌وقعة أجنادين وفتح بيسان والأردن وبيت المقدس

- ‌مسير هرقل إلى حمص وفتح الجزيرة وارمينية

- ‌غزو فارس من البحرين وعزل العلاء عن البصرة ثم المغيرة وولاية أبي موسى

- ‌بناء البصرة والكوفة

- ‌فتح الأهواز والسوس بعدهما

- ‌مسير المسلمين الى الجهات للفتح

- ‌مجاعة عام الرمادة وطاعون عمواس

- ‌فتح مصر

- ‌وقعة نهاوند وما كان بعدها من الفتوحات

- ‌فتح همذان

- ‌فتح الريّ

- ‌فتح أذربيجان

- ‌فتح الباب

- ‌فتح موقان وجبال ارمينية

- ‌غزو الترك

- ‌فتح خراسان

- ‌فتوح فارس

- ‌إصطخر:

- ‌بسا ودرابجرد:

- ‌كرمان:

- ‌سجستان:

- ‌مكران:

- ‌خبر الأكراد

- ‌مقتل عمر وأمر الشورى وبيعة عثمان رضي الله عنه

- ‌نقض أهل الاسكندرية وفتحها

- ‌ولاية الوليد بن عقبة الكوفة وصلح أرمينية وأذربيجان

- ‌ولاية عبد الله بن أبي سرح على مصر وفتح افريقية

- ‌فتح قبرص

- ‌ولاية ابن عامر على البصرة وفتوح فارس وخراسان

- ‌ولاية سعيد بن العاص الكوفة

- ‌غزو طبرستان

- ‌غزو حذيفة الباب وأمر المصاحف

- ‌مقتل يزدجرد

- ‌ظهور الترك بالثغور

- ‌بدء الانتقاض على عثمان رضي الله عنه

- ‌حصار عثمان ومقتله رضي الله عنه وأتابه ورفع درجته

- ‌بيعة علي رضي الله عنه

- ‌أمر الجمل

- ‌انتقاض محمد بن أبي حذيفة بمصر ومقتله

- ‌ولاية قيس بن سعد على مصر

- ‌مبايعة عمرو بن العاص لمعاوية

- ‌أمر صفين

- ‌ أمر الحكمين

- ‌أمر الخوارج وقتالهم

- ‌ولاية عمرو بن العاص مصر

- ‌دعاء ابن الحضرميّ بالبصرة لمعاوية ومقتله

- ‌ولاية زياد على فارس

- ‌فراق ابن عبّاس لعلي رضي الله عنهم

- ‌مقتل علي

- ‌بيعة الحسن وتسليمه الأمر لمعاوية

الفصل: ‌بدء الانتقاض على عثمان رضي الله عنه

هريرة. ثم استعمل سعيد بن العاص على الباب سلمان بن ربيعة مكان أخيه، وبعث معه جندا من أهل الكوفة عليهم حذيفة بن اليمان وأمدّهم عثمان بحبيب بن مسلمة في جند الشام وسلمان أمير على الجميع، ونازعه حبيب الامارة فوقع الخلاف، ثم غزا حذيفة بعد ذلك ثلاث غزوات آخرها عند مقتل عثمان.

وخرجت جموع الترك سنة اثنتين وثلاثين من ناحية خراسان في أربعين ألفا عليهم قارن من ملوكهم فانتهى إلى الطبسين، واجتمع له أهل باذغيس وهراة وقهستان، وكان على خراسان يومئذ قيس بن الهيثم السلميّ استخلفه عليها ابن عامر عند خروجه إلى مكة محرما فدوّخ جهتها، وكان معه ابن عمه عبد الله بن حازم فقال لابن عامر:

اكتب لي على خراسان عهدا إذا خرج منها قيس ففعل، فلما أقبلت جموع الترك قال قيس لابن حازم: ما ترى، قال: أرى أن تخرج عن البلاد فإن عهد ابن عامر عندي بولايتها. فترك منازعته وذهب إلى ابن عامر، وقيل أشار عليه أن يخرج إلى ابن عامر يستمدّه، فلما خرج أظهر عهد ابن عامر له بالولاية عند مغيب قيس، وسار ابن حازم للقاء الترك في أربعة آلاف. ولما التقى الناس أمر جيشه بايقاد النار في أطراف رحالهم فهاج العدوّ على دهش، وغشيهم ابن حازم بالناس متتابعين، فانهزموا وأثخن المسلمون فيهم بالقتل والسبي. وكتب ابن حازم بالفتح إلى ابن عامر فأقرّه على خراسان فلم يزل واليا عليها إلى حرب الجمل، فأقبل إلى البصرة وبقي أهل البصرة بعد غزوة ابن حازم هذه حتى غزوا المنتقضين من أهلها وعادوا جهزوا كتيبة من أربعة آلاف فارس هناك.

‌بدء الانتقاض على عثمان رضي الله عنه

لما استكمل الفتح واستكمل للملّة الملك ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم وبين الأمم من البصرة والكوفة والشام ومصر، وكان المختصون بصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهداه وآدابه المهاجرين والأنصار من قريش وأهل الحجاز ومن ظفر بمثل ذلك من غيرهم. وأما سائر العرب من بني بكر بن وائل وعبد القيس وسائر ربيعة والأزد وكندة وتميم وقضاعة وغيرهم، فلم يكونوا من تلك الصحبة بمكان إلّا قليلا منهم وكان لهم في الفتوحات قدم، فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السابقة من الصحابة ومعرفة حقهم، وما كانوا فيه من

ص: 586

الذهول والدهش لأمر النبوة وتردّد الوحي وتنزل الملائكة، فلما انحسر ذلك العباب وتنوسي الحال بعض الشيء وذلّ العدو واستفحل الملك، كانت عروق الجاهلية تنفض ووجدوا الرئاسة عليهم للمهاجرين والأنصار من قريش وسواهم، فأنفت نفوسهم منه، ووافق أيام عثمان فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار، والمؤاخذة لهم باللحظات والخطرات، والاستبطاء [1] عليهم في الطاعات والتجني بسؤال الاستبدال منهم والعزل، ويفيضون في النكير على عثمان. وفشت المقالة في ذلك من أتباعهم وتنادوا بالظلم من الأمراء في جهاتهم وانتهت الأخبار بذلك إلى الصحابة بالمدينة، فارتابوا لها وأفاضوا في عزل عثمان وحمله على عزل أمرائه. وبعث الى الأمصار من يأتيه بصحيح الخبر: محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام، وعمّار بن ياسر إلى مصر وغيرهم إلى سوى هذه، فرجعوا إليه فقالوا: ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامهم إلا عمّارا فإنه استماله قوم من الأشرار انقطعوا إليه منهم عبد الله بن سبإ ويعرف بابن السوداء، كان يهوديا وهاجر أيام عثمان فلم يحسن إسلامه وأخرج من البصرة فلحق بالكوفة ثم بالشام وأخرجوه فلحق بمصر، وكان يكثر الطعن على عثمان ويدعو في السرّ لأهل البيت ويقول: إن محمدا يرجع كما يرجع عيسى. وعنه أخذ ذلك أهل الرجعة، وإنّ عليّا وصيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لم يجز وصيته وإنّ عثمان أخذ الأمر بغير حق، ويحرّض الناس على القيام في ذلك والطعن على الأمراء.

فاستمال الناس بذلك في الأمصار وكاتب به بعضهم بعضا، وكان معه خالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر فثبطوا عمارا عن المسير الى المدينة.

وكان مما أنكروه على عثمان إخراج أبي ذر من الشام ومن المدينة إلى الرَّبَذَة، وكان الّذي دعا إلى ذلك شدّة الورع من أبي ذر وحمله الناس على شدائد الأمور والزهد في الدنيا وانه لا ينبغي لأحد أن يكون عنده أكثر من قوت يومه، ويأخذ بالظاهر في ذم الادّخار بكنز الذهب والفضة. وكان ابن سبإ يأتيه فيغريه بمعاوية ويعيب [2] قوله المال مال الله، ويوهم أنّ في ذلك احتجانه للمال وصرفه على المسلمين، حتى

[1] وفي النسخة الباريسية: والاشتضاط

[2]

وفي النسخة الباريسية: ونقيم.

ص: 587

عتب أبو ذر معاوية فاستعتب له وقال سأقول مال المسلمين [1] ، وأتى ابن سبإ إلى أبي الدرداء وعبادة بن الصامت بمثل ذلك فدفعوه، وجاء به عبادة الى معاوية وقال هذا الّذي بعث [2] عليك أبا ذرّ. ولما كثر ذلك على معاوية شكاه إلى عثمان فاستقدمه وقال له ما لأهل الشام يشكون منك فأخبره، فقال: يا أبا ذرّ لا يمكن حمل الناس على الزهد وإنما عليّ أن أقضي [3] بينهم بحكم الله وأرغبهم في الاقتصاد، فقال أبو ذرّ: لا نرضى من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف ويحسنوا للجيران والاخوان ويصلوا القرابة، فقال له كعب الأحبار: من أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه. فضربه أبو ذرّ فشجّه وقال: يا ابن اليهودية ما أنت وهذا. فاستوهب عثمان من كعب شجّته فوهبه. ثم استأذن أبو ذرّ عثمان في الخروج من المدينة وقال:

إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعا، فأذن له، ونزل الرَّبَذَة وبنى بها مسجدا وأقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه رزقا، وكان يتعاهد المدينة فعدّ أولئك الرهط خروج أبي ذرّ فيما ينقمونه على عثمان مع ما كان من إعطاء مروان خمس مغانم إفريقية والصحيح أنه اشتراه بخمسمائة ألف فوضعها عنه.

ومما عدوّا عليه أيضا زيادة النداء الثالث على الزوراء يوم الجمعة، وإتمامه الصلاة في منى وعرفة مع أن الأمر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والشيخين بعده كان على القصر. ولما سأله عبد الرحمن واحتج عليه بذلك قال له: بلغني أن بعض حاج اليمن والجفاة جعل صلاة المقيم ركعتين من أجل صلاتي وقد اتخذت بمكة أهلا ولي بالطائف مال. فلم يقبل ذلك عبد الرحمن فقال: زوجتك بمكّة إنما تسكن بسكناك ولو خرجت ومالك بالطائف على أكثر من مسافة القصر. وأما حاج اليمن فقد شهدوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم والشيخين بعده وقد كان الإسلام ضرب بجرانه. فقال عثمان: هذا رأي رأيته. فمن الصحابة من تبعه على ذلك ومنهم من خالفه. ومما عدّوا عليه سقوط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من يده في بئر أريس على ميلين من المدينة فلم يوجد.

[1] وفي نسخة اخرى: ما للمسلمين.

[2]

وفي النسخة الباريسية: الّذي خيّر.

[3]

وفي النسخة الباريسية: ان اقصد

ص: 588

وأما الحوادث التي وقعت في الأمصار فمنها قصة الوليد بن عقبة وقد تقدّم ذكرها وأنه عزله على شرب الخمر واستبدله بسعيد بن العاص منه، وكان وجوه الناس وأهل القادسية يسمرون عنده مثل مالك بن كعب الأرحبي والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس من النخع وثابت بن قيس الهمدانيّ وجندب بن زهير الغامدي وجندب بن كعب الأزدي وعروة بن الجعد وعمرو بن الحمق الخزاعيّ وصعصعة بن صوحان وأخوه زيد وابن الكوّاء وكميل بن زياد وعمير بن ضابيء وطليحة بن خويلد، وكانوا يفيضون في أيام الوقائع وفي أنساب الناس وأخبارهم وربما ينتهون إلى الملاحاة ويخرجون منها إلى المشاتمة والمقاتلة، ويعذلهم في ذلك حجّاب سعيد بن العاص فينهرونهم [1] ويضربونهم. وقد قيل إن سعيدا قال يوما: إنما هذا السواد بستان قريش، فقال له الأشتر: السواد الّذي أفاء الله علينا بأسيافنا تزعم أنه بستان لك ولقومك؟ وخاص القوم في ذلك، فأغلظ لهم عبد الرحمن الأسدي [2] ، صاحب شرطته فوثبوا عليه وضربوه حتى غشي عليه، فمنع سعيد بعدها السمر عنده.

فاجتمعوا في مجالسهم يثلبون سعيدا وعثمان، والسفهاء يغشونهم.

فكتب سعيد وأهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم، فكتب أن يلحقوهم بمعاوية وكتب إلى معاوية إن نفرا خلقوا للفتنة فقم عليهم وانههم وإن آنست منهم رشدا فاقبل وان أعيوك فارددهم علي، فأنزلهم معاوية وأجرى عليهم ما كان لهم بالعراق، وأقاموا عنده يحضرون مائدته ثم قال لهم يوما:«أنتم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة وقد أدركتم بالإسلام شرفا وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم وقد بلغني أنكم نقمتم قريشا ولو لم تكن قريش كنتم أذلة إذا أئمتكم لكم جنة فلا تفترقوا على جنتكم وان أئمتكم يصبرون لكم على الجور ويحملون عنكم المؤنة والله لتنتهنّ أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم ولا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون شركاءهم [3] فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم» . فقال له صعصعة منهم: أمّا ما ذكرت من قريش فإنّها لم تكن أكثر الناس ولا أمنعها في الجاهلية فتخوّفنا، وأمّا ما ذكرت من الجنّة فانّ الجنّة إذا

[1] وفي نسخة اخرى: فيهزمونهم.

[2]

وفي نسخة اخرى: الازدي

[3]

وفي النسخة الباريسية: ثم يكونون شركاءكم

ص: 589

اخترمت [1] خلص إلينا. فقال معاوية: الآن عرفتكم وعلمت أنّ الّذي أغراكم على هذا قلّة العقول وأنت خطيبهم ولا أرى لك عقلا أعظم عليك أمر الإسلام، وتذكرني الجاهلية أخزى الله قوما عظّموا أمركم فقهوا عني ولا أظنكم تفقهون، ثم ذكر شأن قريش وأن عزّها إنما كان باللَّه في الجاهلية والإسلام ولم يكن بكثرة ولا شدّة، وكانوا على أكرم أحساب وأكمل مروءة وبوّأهم الله حرمه فآمنوا فيه مما أصاب العرب والعجم والأسود والأحمر في بلادهم، ثم ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأنّ الله ارتضى له أصحابا كان خيارهم قريشا فبنى الملك عليهم وجعل الخلافة فيهم فلا يصلح ذلك إلّا بهم، ثم قرّعهم ووبّخهم وهددهم، ثم أحضرهم بعد أيام، وقال: اذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحدا ولا يضرّه، وإن أردتم النجاة فالزموا الجماعة ولا تبطرنّكم النعمة وسأكتب الى أمير المؤمنين فيكم. وكتب إلى عثمان: «أنه قدم عليّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان أبطرهم العدل إنّما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ثم فاضحهم وليسوا بالذين ينكون أحد [2] إلّا مع غيرهم فإنه سعيدا ومن عنده عنهم [3] .

فخرجوا من عنده قاصدين الجزيرة ومروا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص فأحضرهم، وقال:«يا ألة الشيطان [4] لا مرحبا بكم ولا أهلا قد رجع الشيطان محسورا وأنتم بعد في نشاط خسّر الله عبد الرحمن إن لم يؤدّبكم يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم» . ثم مضى في توبيخهم على ما فعلوا وما قالوا لسعيد ومعاوية، فهابوا [5] سطوته وطفقوا يقولون: نتوب إلى الله أقلنا أقالك الله، حتى قال: تاب الله عليكم. وسرّح الأشتر إلى عثمان تائبا فقال له عثمان: أحلّك حيث تشاء، فقال:

مع عبد الرحمن بن خالد قال: ذاك إليك فرجع إليهم. وقيل إنهم عادوا إلى معاوية من القابلة ودار بينهم وبينه القول وأغلظوا له وأغلظ عليهم، وكتب إلى عثمان فأمر أن يردّهم الى سعيد، فردّهم، فأطلقوا ألسنتهم وضجّ سعيد منهم، وكتب إلى

[1] وفي نسخة اخرى: إذا اخترقت

[2]

وفي نسخة اخرى: يأتون الأمر

[3]

وفي الطبري ج 5 ص 87: «ليسوا بالذين ينكون أحدا إلا مع غيرهم فإنه سعيدا ومن قبله عنهم، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب أو نكير.

[4]

الألّة: بتشديد اللام الحربة أهـ.

[5]

وفي النسخة الباريسية: فرهبوا

ص: 590

عثمان، فكتب إليه أن يسيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد فدار بينهم وبينه ما قدّمناه.

وحدث بالبصرة مثل ذلك من الطعن وكان بدؤه فيما يقال شأن عبد الله بن سبإ المعروف بابن السوداء، هاجر إلى الإسلام من اليهودية ونزل على حكيم بن جبلة العبديّ وكان يتشيع لأهل البيت، ففشت مقالته بالطعن وبلغ ذلك حكيم بن جبلة فأخرجه وأتى الكوفة فأخرج أيضا واستقّر بمصر، وأقام يكاتب أصحابه بالبصرة ويكاتبونه والمقالات تفشو بالطعن والنكير على الأمراء. وكان حمران [1] بن أبان أيضا يحقد لعثمان أنه ضربه على زواجه امرأة في العدّة وسيّره إلى البصرة، فلزم ابن عامر وكان بالبصرة عامر بن عبد القيس وكان زاهدا متقشّفا فأغرى به حمران صاحب ابن عامر فلم يقبل سعايته، ثم أذن له عثمان فقدم المدينة ومعه قوم فسعوا بعامر بن عبد القيس أنه لا يرى التزويج ولا يأكل اللحم ولا يشهد الجمعة، فألحقه عثمان بمعاوية وأقام عنده حتى تبيّنت براءته وعرف فضله وحقه وقال: ارجع إلى صاحبك فقال: لا أرجع إلى بلد استحلّ أهله مني ما استحلوا وأقام بالشام كثير العبادة والانفراد بالسواحل إلى أن هلك.

ولما فشت المقالات بالطعن والإرجاف على الأمراء اعتزم سعيد بن العاص على الوفادة على عثمان سنة أربع وثلاثين، وكان قبلها قد ولّى على الأعمال أمراء من قبله، فولّى الأشعث بن قيس على أذربيجان وسعيد بن قيس على الري والنسير العجليّ على همذان والسائب بن الأقرع على أصبهان ومالك بن حبيب على ماه وحكيم بن سلامة على الموصل وجرير بن عبد الله على قرقيسيا وسلمان بن ربيعة على الباب وجعل على حلوان عتيبة [2] بن النهّاس وعلى الحرب القعقاع بن عمرو، فخرجوا لأعمالهم وخرج هو وافدا على عثمان، واستخلف عمرو بن حريث وخلت الكوفة من الرؤساء وأظهر الطاعنون أمرهم وخرج بهم يزيد بن قيس يريد خلع عثمان، فبادره القعقاع بن عمرو فقال له: إنما نستعفي من سعيد. وكتب يزيد إلى الرهط الذين عند عبد الرحمن بن خالد بحمص في القدوم، فساروا إليه وسبقهم الأشتر ووقف على باب المسجد يوم الجمعة يقول جئتكم من عند عثمان وتركت سعيدا يريده على نقصان

[1] وفي النسخة الباريسية: عمران

[2]

وفي النسخة الباريسية: عيينة.

ص: 591

نسائكم على مائة درهم وردّ أولى [1] البلاء منكم إلى ألفين، ويزعم أن فيئكم بستان قريش. ثم استخف الناس ونادى يزيد في الناس من شاء أن يلحق بيزيد لردّ سعيد فليفعل، فخرجوا وذوو الرأي يعذلونهم فلا يسمعون.

وأقام أشراف الناس وعقلاؤهم مع عمرو بن حريث ونزل يزيد وأصحابه الجزعة [2] قريبا من القادسية لاعتراض سعيد وردّه، فلما وصل قالوا: ارجع فلا حاجة لنا بك قال: إنما كان يكفيكم أن تبعثوا واحدا إليّ وإلى عثمان رجلا. وقال مولى له: ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع، فقتله الأشتر ورجع سعيدا الى عثمان فأخبره بخبر القوم وأنهم يختارون أبا موسى الأشعري، فولّاه الكوفة وكتب إليهم:«أما بعد فقد أمرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد والله لأقرضنكم عرضي ولأبذلنّكم صبري ولاستصلحنكم بجهدي» . وخطب أبو موسى الناس، وأمرهم بلزوم الجماعة، وطاعة عثمان، فرضوا ورجع الأمراء من قرب الكوفة واستمرّ أبو موسى على عمله.

وقيل إنّ أهل الكوفة أجمع رأيهم أن يبعثوا إلى عثمان ويعذلوه فيما نقم عليه، فأجمع رأيهم على عامر بن عبد القيس الزاهد وهو عامر بن عبد الله من بني تميم ثم من بني العنبر [3] فأتاه وقال له: إن ناسا اجتمعوا ونظروا في أعمالك فوجدوك ركبت أمورا عظاما، فاتق الله وتب إليه. فقال عثمان: ألا تسمعون إلى هذا الّذي يزعم الناس أنه قارئ ثم يجيء يكلمني في المحقرات؟ وو الله لا يدري أين الله. فقال له عامر:

بل والله إني لأدري إنّ الله لبالمرصاد. فأرسل عثمان إلى معاوية وعبد الله بن أبي سرح وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر وعمرو بن العاص، وكانوا بطانته دون الناس فجمعهم وشاورهم، وقال: إنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي وقد صنع الناس ما رأيتم فطلبوا أن أعزل عمالي وأرجع إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم. فقال ابن عامر:

أرى أن تشغلهم بالجهاد، وقال سعيد: متى تهلك قادتهم يتفرّقوا، وقال معاوية:

اجعل كفالتهم إلى أمرائهم وأنا أكفيك الشام، وقال عبد الله: استصلحهم بالمال.

فردّهم عثمان إلى أعمالهم وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث ليكون لهم فيها شغل، ورد سعيد إلى الكوفة فلقيه الناس بالجزعة وردوه كما ذكرناه وولّى أبا موسى وأمر عثمان

[1] وفي النسخة الباريسية: على نقض أعطيتكم للنساء وذر النساء

[2]

وفي النسخة الباريسية: المخزعة وفي نسخة اخرى: الجرعة

[3]

وفي نسخة أخرى: بني العنيس.

ص: 592