الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صريحة في ذلك كما تقدم.
[إرواء الغليل تحت حديث رقم (579)]
حكم الجمع بعذر البرد
مداخلة: يا فضيلة الشيخ هنا الجو كما تعلم بارد، فبعض الأئمة يقول: يجمع، فهل الجمع في هذا الحال جائز؟
الشيخ: إذا كان البرد شديداً ويجد الناس في الحضور للمسجد في الصلاة التالية حرجاً يجوز لرفع الحرج عن الأمة.
مداخلة: نعم، لكن عندنا إمام المسجد يخالف المصلين كلهم ولا يجمع حتى في يعني: سنوات سابقة في مطر غزير جداً يكون ولا يجمع، والمصلين يتركون المسجد ويذهب كل إنسان إلى بيته، وإنسان إلى مسجد آخر، ولكن الإمام لا يأخذ بأقوال أي إنسان كان.
الشيخ: طيب، فإذا كان واحد يريد أن يجمع يصلي في مسجد آخر.
مداخلة: يعني: نترك هذا الإمام.
الشيخ: نعم.
(الهدى والنور / 259/ 45: 17: 00)
الجمع بعذر البرد وضابطه
الشيخ: كنا نتكلم عن الجمع من أجل البرد، فأقول: الجمع من أجل البرد ليس عليه نص في الشرع، يلزم به المسلم وإنما قال به بعض العلماء استنباطاً واجتهاداً واعتماداً على بعض الأعذار التي جاء النص بها، وبأنها تسوِّغ الجمع بين الصلاتين.
معلوم لدى الجميع الجمع في السفر، ولكن بحثنا الآن الجمع في الحضر، لم يأت
نص في جواز الجمع في الحضر، إلا من أجل المطر أو الخوف.
وهذا كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: «جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، بغير سفر ولا مطر، قالوا: ماذا أراد بذلك؟ قال: «أراد أن لا يحرج أمته» .
هنا الحديث يفيدنا في جمعين: أحدهما: يتعلق بالجمع الجماعي، أي في المساجد، والآخر: يتعلق بالأفراد، ونادراً ما يتعلق بالجماعة.
أما الجمع الأول الذي يستفاد من الحديث جوازه فهو الجمع للمطر؛ لأنه قال: «جمع الرسول بغير مطر وغير السفر» ، يشعرنا بأن هذين العذرين معروف لدى المسلمين عامة لأنهما يسوغان الجمع، لكن يريد أن يفيدنا شيئاً جديداً فيقول: جمع لغير هذين العذرين، سألوه ما هو؟ قال:«أراد أن لا يحرج أمته» ، هذا النص «أراد أن لا يحرج أمته» ، يمكن أن يدخل فيه أسباب أخرى غير منصوص عليها، ومنها ما كنا آنفاً في صدده وهو البرد، وكما قلت آنفاً، البرد قضية نسبية يختلف بين شخصين متساويين في العمر لكنهما ليسا متساويين في التربية وفي النشأة فأحدهما نشأ يتعاطى أعمالاً أو مهنة يتعرض بسببها للحر والقر للتعب والنصب والآخر إنما هو نُشِّئ في الحلية، رُبِّي تربية الولد المدلل الناعم، فلا يستويان مثلاً أبداً، وهما كما قلنا في سن واحد، مع ذلك الشعور بالبرد يختلف من هذا إلى ذاك، فإذا ما ضربنا مثالاً متبايناً كل التباين بين شاب وبين شيخ عجوز أيضاً سيختلف الشعور بالبرد الكثير أو الخفيف، فهنا تبقى القضية قضية نسبية فيما إذا أراد الإنسان أن يجمع لنفسه، فإذا كان متقياً لربه وكان متفقهاً في دينه ويعرف أنه يجد حرجاً في أن لا يجمع فله أن يجمع بهذه الشروط التي ذكرناها.
الدقة الآن في الإمام الذي يريد أن يَؤُمَّ الناس وفي الناس المتفاوتون في الإحساس بالبرد، فالإمام .. وهنا بيت القصيد من هذا الكلام هو الذي ينبغي أن يقدر ويضع، ولا أرى حرجاً أبداً إذا نظر إلى جماعته الذين يريدون أن يصلوا معه في مسجده، فوجد فيهم شيوخاً لا أرى حرجاً بالنسبة إليه أن يجمع من أجلهم لا من
أجله، لكن هذا يحتاج إلى فقه وإلى تقوى ولذلك فأنا أرى أنه ما دام ثبت هذا النص من ابن عباس «أراد أن لا يحرج أمته» فإذا كان الإمام فقيهاً وكان تقياً لا يداري الناس بالباطل وإنما هو يسايسهم سياسة شرعية فوجد من مصلحة الجماعة أن يجمع بهم للبرد فله ذلك ما دام أنه اتقى الله عز وجل وأخذ بتلك الرخصة التي جاءت في حديث ابن عباس السابق ذِكْرُه.
أقول: إذا كان الإمام فقيهاً وتقياً، وإلا عليه أن يتقي الله عز وجل سلباً أو إيجاباً تَرَخُّصاً أو تمسكاً بالعزيمة، فلا يجمع حيث لا رخصة ولا يتشدد حيث الرخصة قائمة، كما وقع منذ يومين في مسجد هناك، لم يحضر الإمام الراتب فقدموا أحد المواطنين على صلاة الجماعة، وأنا لا أعلم مقدار ما عنده من علم ولو كان من العلم التقليدي المذهبي، لكن الذي وقع أن المؤذن بعد أن صلى الإمام صلاة الظهر فوراً أقام الصلاة، فشعرت بأنه جعل الإمام وبعض الحاضرين تحت الأمر الواقع، وأشعر بأن هذا الإمام من مراقبتي لصلاته أنه حنفي المذهب، والأحناف لا يجيزون الجمع في الحضر مطلقاً بل ولا في السفر إلا في عرفات وفي مزدلفة، فلما أقيمت الصلاة سمعنا شوشرة وضوضاء وغوغاء أنا شخصياً ما فهمت شيئاً لكني تأسفت كثيراً من قلة أدب الناس في بيوت الله تبارك وتعالى، صار في المسجد ضوضاء لو وقعت هذه الضوضاء في قهوة لكان عاراً على أصحاب الضوضاء فكيف لهم في بيت من بيوت الله تبارك وتعالى، ولأمر ما ما فهمت ما الذي حرك هذه الأصوات، ما أدري إذا كان ثامر أنت فهمت على ما كان الكلام؟
مداخلة: نعم، أحد الشباب وقف وقال إن الرسول عليه الصلاة والسلام جمع بين الصلاتين في المطر، فالرجل صار يتكلم أنه لا تعرف الرسول عليه الصلاة والسلام كيف كانت ..
الشيخ: المهم، شعرت أن الإمام صار تحت الأمر الواقع، وهو في اعتقادي كان يجب أن يستنكر إذا أراد أن يتقي الله عز وجل حيث لا يعتقد جواز الجمع للمطر، أن يقول: أنا مذهبي لا يسمح لي بالجواز فليتقدم أحد منكم، لكن هو خضع للأمر
الواقع وصلى، لكن الشوشرة التالية بعد الصلاة أفهمتني أي الحقيقة التي أنا شعرت بها من قبل، سمعت أحدهم يقول لي: يا شيخ! الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه» ، ولم أسمع متن الحديث لكن فهمت أن هذا المتكلم يقول: أن الجمع في مثل هذه الحالة مشروع، ما رأيت غير هذا الإمام ثار ثورةً كأنه يقاتل رجلاً كافراً، ومن صوته قام فذهب، ويقول له: أنت رأيت الرسول، أنت رأيت الرسول، الله أكبر، وقامت الشوشرة بين الناس وما فهمت عليهم.
أنا كنت بدأت بالأذكار والأوراد، حتى انتهت وانسللت انسلالاً، الهروب نصف الشجاعة، سبحان الله! هؤلاء الناس ما كان عندهم وعي، ولا عندهم ثقافة، ولا عندهم أدب، يتكلموا على جهل.
هذا الإمام يقول: أنت رأيت الرسول، مسكين، وهو يصلي هل رأى الرسول؟ لم يَرَ الرسول، الكلام الذي يوجهه لغيره يرجع له، فلو قيل له: يا ترى ماذا يفعل، سوف يقول: هكذا العلماء، هكذا العلماء عَلَّمونا، سيقول بعض الناس: إلى أين يا ترى مذهبه، أنه علماؤه قالوا: لا يوجد جمع للمطر، لكن فيه أناس آخرون يقولوا: علماؤنا قالوا: فيه جمع للمطر شافوا الرسول؟ شافوا الرسول؟ لم يروا الرسول.
إذاً: القضية قضية رواية، لماذا تنكر هذه القضية التي عليها الفقه الإسلامي كله من بعد الصحابة الأولين كل الفقهاء يقولون قائم على الرواية التي معناها، أن هؤلاء الرواة ما شافوا الرسول، جهل عميق يعني شديد جداً، يخجل الإنسان أن يحكيه عن مسلم ويتقدم ليؤم الناس.
صحيح نحن ما رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن الرسول من تمام رأفته ورحمته بأمته أنه خاطبهم بمناسبات شتى، بالنسبة للصلاة التي تتكرر كل يوم خمس مرات، قال:«صلوا كما رأيتموني أُصَلِّي» ، وقال:«فليبلغ الشاهد الغائب» ، فهو يعلم أن الذين سيأتون من بعده عليه الصلاة والسلام ما سمعوا صوته ولا شاهدوا عبادته وصلاته، لكنه يعلم أيضاً بأن أصحابه الذين شاهدوه ورأوا عباداته سينقلونها إلى من يأتون من بعده، فَحَضَّهم على ذلك، وقال: «فليبلغ
الشاهد الغائب»، حتى قال عليه الصلاة والسلام:«بلِّغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» .
«بلغوا عني ولو آية» ، هذه اللفظة ينبغي أن لا تُفْهم بمعنى الآية الاصطلاحي، أي: آية من آيات القرآن الكريم، ليس هذا هو المقصود، المقصود هنا جملة «بلغوا عني ولو جملة» ، هذا المعنى عربي أولاً، وفقهي ثانياً؛ لأنه يشمل الجملة من القرآن ومن حديث الرسول عليه الصلاة والسلام.
فليس المقصود بهذا الحديث الحض على تبليغ آية من القرآن فقط بل ولو جملة من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا توجيه عملي للرسول عليه الصلاة والسلام إلى الفكرة والعقيدة التي قدمها إلى أمته في أحاديث عديدة التي منها قوله عليه الصلاة والسلام:«تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما، كتاب الله وسنتي» .
فكما ينبغي للمسلم أن يبلغ الناس كتاب الله فكذلك ينبغي للمسلم أن يبلغ الناس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلًّا منهما من الكتاب والحديث متمم للآخر، وهذا ما أشار إليه ربنا عز وجل في قوله:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
فالشاهد أن العالم الإسلامي منذ عهد الصحابة الذين أدركهم التابعون، وهؤلاء التابعون الذين لم يدركوا الرسول يعيشون على أساس هذا المنهج، وهو «صلوا كما رأيتموني أصلي» إن كنتم أصحاباً رأيتموني فكما شاهدتموني وإن كنتم أتباعاً من بعدهم فكما نقل إليكم من شاهدني؛ ولذلك أكد هذا عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع حينما قال:«خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا» ماذا؟
مداخلة: «لا ألقاكم» .
الشيخ: «لا ألقاكم بعد عامي هذا أبداً» ، فإذاً هو حض أصحابه على أن يتلقوا العلم مباشرة منه من جهة ومن جهة أخرى أمرهم أن يبلغوا ما أخذوا عنه إلى
الناس وبخاصة أنه قال عليه السلام: «رُب مبلِّغ أوعى له من سامع» ، ولذلك كان من فضل الله عز وجل على عباده المؤمنين الذين جاؤوا بعد أصحاب النبي الكريم أن وُجِدَ فيهم من صَدَقَ عليه هذا الشطر من الحديث الذي أشرت إليه:«رب مبلغ أوعى له من سامع» .
وأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام يعدون بالألوف المؤلفة لكن العلماء منهم يعني ما استطاع أهل العلم بعد البحث والفحص أن يرفعوا عددهم إلى ثلاثمائة، العلماء منهم، فنفهم من هذا أن عامة الصحابة ما كانوا من أهل العلم الذين يجوز لهم أن ينتصبوا أو يُنَصِّبوا أنفسهم لإفتاء الناس بما يقع لهم بل عامة الصحابة كانوا من الشطر الثاني الذي أخبر عنه ربنا عز وجل في الآية المعروفة:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] أكثر الصحابة الذين كانوا يُعَدُّون بالألوف المؤلفة هم كانوا من القسم الذين لا يعلمون، وتشملهم الآية هذه التي تأمرهم أن يسألوا أهل العلم منهم وأهل العلم منهم ما بلغوا ثلاثمائة عالم، لكن ما شاء الله، العلماء الذين جاؤوا في التابعين فمن بعدهم بلغوا الألوف المؤلفة، تأكيداً ومصداقاً لقوله عليه الصلاة والسلام:«فرب مبلغ أوعى له من سامع» ، ولقوله الآخر:«أمتي كالمطر لا يدرى الخير في أوله أم في آخره» ، هذا الحديث وذاك من البشائر التي خلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته وفي أحاديثه حتى يستمر دولاب العلم دائراً ومنطلقاً إلى يوم يرسل الله عز وجل تلك الريح الطيبة فتقبض روح كل مؤمن ولا يبقى على الأرض إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة.
فإذاً: من الجهل بل وجهالة المكان أن يخاطب من يتقدم ليؤم الناس فيقول: هل أنت رأيت الرسول؟ وبالاستفهام الاستنكاري وبحالة شديدة من الغضب جداً، لأن هذا يدل على جهل عميق.
كل من جاء بعد الصحابة كما قلنا آنفاً ما رأوا الرسول.
إذاً: هم لا يعرفون كيف يصلون، لا يعرفون كيف يتعبدون كل العبادات، يعرَّفون والحمد لله بالطريق الذي ألهم الله به طائفة من علماء المسلمين ألا وهم
علماء الحديث الذين سخرهم الله تبارك وتعالى لخدمة هذا الإسلام بعنايتهم أولاً بجمع أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام على مر القرون الأولى على الأقل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية، جمعوا أحاديث الرسول من مختلف البلاد والصدور؛ لأن حَمَلَة هذه الأحاديث النبوية من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، لم يكونوا مستقرين في بلدة واحدة حتى يتمكن العالم الحريص على جمع العلم أن يتلقى السنة من ذاك المكان الواحد، وإنما تفرقوا في البلاد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فكان أحدهم يتفرغ للسياحة في البلاد؛ لتلقي العلم من مختلف العلماء في كل تلك البلاد.
هذا تسخير من الله تبارك وتعالى لهؤلاء العلماء حتى جمعوا لنا أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام التي تفرقت في البلاد بتفرق حملتها.
فأنتم تتصورون معي بسهولة أن الرسول عليه الصلاة والسلام قضى في مكة عشر سنوات، وبقية الدعوة ثلاثة عشر سنة في المدينة المنورة، في المدينة كانوا يأتون إلى الرسول في مكة وفي المدينة هم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وهم حملة الأحاديث التي سمعوها، وتفقهون معي جيداً أيضاً بأن هؤلاء الصحابة في قلب حياته عليه الصلاة والسلام فضلاً عما بعد وفاته تفرقوا في البلاد، فقد كان يأتيه المكي إلى المدينة ليبايعه على الإسلام، من جدة من نجران من .. من مختلف البلاد ثم يعود إلى بلده وقد حمل منه عليه الصلاة والسلام بعض العلم، كما جاء في صحيح البخاري من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أنه جاء مع بعض أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمكث عنده نحو عشرين يوماً فيما أذكر، قال: ثم اشتقنا إلى أهالينا فاستأذنا الرسول عليه الصلاة والسلام في أن ننصرف فقال لهما: «إذا صليتما فليؤذن أحدكما وليؤمُّكما أكبركما سناً» ، وقال لمالك «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، فانطلق إلى قبيلته، فإذاً هذا الرجل من الذي يتمكن من رواية مثل هذا الحديث وذاك، هو الذي يذهب إليه، فإذاً ينبغي أن يذهب إلى هذه القبيلة ومن هذه القبيلة إلى هذه البلدة إلى هذه القرية وهكذا.
لذلك كان من فضل الله عز وجل أن سخر علماء الحديث ليرحلوا إلى مختلف البلاد ليجتمعوا بمن يعلمون أنه عنده ولو حديث واحد، ليسمعوه مباشرة منه، حتى لقد كان في هؤلاء بعض أصحابه عليه الصلاة والسلام، أحدهم اسمه عقبة بن عامر بلغه أن جابراً بن عبد الله الأنصاري المشهور عنده حديث وكان في مصر، فسافر من بلده أظنه يومئذ كان في المدينة إلى مصر، لماذا؟ ليسمع ذاك الحديث الذي قيل لهم إنه سمعه جابر من الرسول عليه الصلاة والسلام.
فخرج إليه جابر وتلقاه، واحتضن أحدهما الآخر، قال: أنا ما أريد منك شيء، إلا أنه بلغني أنك سمعت حديثاً عن الرسول عليه الصلاة والسلام ونَصُّ الحديث فيما أذكر منه الآن «أن الله عز وجل ينادي يوم القيامة بِصَوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بَعُد» ، وهذا الحديث من الأحاديث التي يتمسك بها أهل السنة حقاً وأعني بهم أهل الحديث الذين لا يتعصبون لمذهب في العقيدة كالماتريدية أو الأشعرية أو المعتزلة أو الجبرية، كما أنهم لا يتعصبون لمذهب في الأحكام الشرعية، المذهب الحنفي أو المالكي أو الشافعي أو الحنبلي فضلاً عن مذاهب أخرى تبتعد كل البعد عن المذاهب الأولى أهل الحديث لا يتعصبون إلا للحديث، ولذلك نُسِبوا إليه وانتموا إليه، كما قال قائلهم:
أهل الحديث هم أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
وهذا جواب هذا الجاهل الذي قال: أنت أدركت الرسول، ما أدركوا الرسول، لكن الذين يشتغلون بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام كأنما هم يعيشون معه.
أهل الحديث هم أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
ولذلك أصبح معروفاً عند العلماء كافة لا نُحاشي ولا نستثني فقهاء ومفسرين كلهم قالوا: مما دل عليه حديث الرسول عليه الصلاة والسلام القائل: «نَضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورُبَّ مُبلغ أوعى له من سامع» .
يقول العلماء كافة: ولذلك نرى النُّضْرة في أهل الحديث؛ لأنهم يشتغلون بكلام
الرسول عليه الصلاة والسلام ليلاً نهاراً، فصدق فيهم قول ذلك الشاعر العالم:
أهل الحديث هم أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
هذا الحديث حديث جابر لعقبة بن عامر يتمسك [به أهل السنة في رد] ما يقول الأشاعرة والماتريدية إن كلام الله ومنه القرآن الكريم هو كلام نفسي، يعنون بأنه ليس بالكلام اللفظي يَعْنُون بأنه ليس بالكلام المسموع، هذا الحديث يبطل دعواهم ويؤكد قول الله عز وجل لموسى:{فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه: 13]{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].
{فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه: 13] معناها: أن ربنا عز وجل حينما كلم موسى كما قال في القرآن الكريم، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] كان موسى يسمع كلام الله عز وجل.
أما تأويل الكلام الإلهي بأنه كلام نفسي فهو تعطيل للقرآن الكريم ولأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام ومنها هذا الحديث الذي شد من أجله الرحلة أحد الصحابة إلى راويه الصحابي الذي سمعه من الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذاً: لا ينبغي للمسلم أن يتشكك في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام فضلاً عن أنه لا يجوز له أن يُشَكِّك أهل الحديث ولو كانوا من العامة بقوله: أنت رأيت الرسول! لم نَرَ الرسول ولكننا بلغنا كلام الرسول عليه الصلاة والسلام بواسطة الثقات من العلماء، وفي القرآن الكريم قال تعالى:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] أُنْذركم أنتم معشر السامعين تلاوتي للقرآن مباشرة ومن بلغه القرآن أيضاً، فالنذارة قائمة سواء على من سمع القرآن منه عليه الصلاة والسلام مباشرة أو من سمعه ممن سمعه من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهكذا دواليك.
ولذلك: قال عليه الصلاة والسلام: «ما من رجل من هذه الأمة من يهودي أو نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» ، لا يقول: لقيني وسمع مني لا، «سمع بي» ، أي: سمع بدعوته عليه الصلاة والسلام دعوة الحق دعوة الإسلام، «إن