الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة حول خطبة الحاجة
الشيخ: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
هذه الخطبة مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح بها خطبه كلها وبخاصة يوم الجمعة ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، أن تكرار النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الافتتاحية لخطبه كلها والتي تسمى بخطبة الحاجة، كان من الحكمة في تكرارها أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بهذا التكرار لها أن يمكن من قلوب أصحابه قاعدة من قواعد الشريعة الإسلامية الهامة الكلية التي لا استثناء فيها ألا وهي قوله عليه الصلاة والسلام:«كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» يؤكد ابن تيمية رحمه الله أن مثل هذه العبارة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها على مسامع أصحابه دون أن يدخل فيها تخصيصاً ما، وبحديث آخر فذلك
مما يؤكد أن هذا العموم هو على إطلاقه وشموله فلا يجوز لمؤمن يشهد لله عز وجل بالوحدانية ولنبيه بالرسالة أن يعارض هذه الكلية فيقول: ليس كل بدعة ضلالة، وليس كل ضلالة في النار، أولاً: لأن مثل هذه العبارة العامة لا بد لها من تخصيص وليس لها تخصيص، وثانياً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا آنفاً كان يكررها في كل جمعة فلا يعقل أبداً أن يكرر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلية على مسامع أصحابه ثم لا يتبع بها يوماً تخصيصاً ما، هذا قرينة ما بعدها قرينة على بقاء هذه القاعدة على كليتها وشمولها وعمومها، وبخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كررها في بعض كتبه الأخرى كما روى أصحاب السنن أن خطبة الحاجة هذه التي ذكرناها فهي من حديث جابر رضي الله عنه وفي صحيح مسلم إلا أن زيادة:«وكل ضلالة في النار» هي من رواية الإمام النسائي في سننه الصغرى وإسنادها صحيح والحمد لله.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد كرر هذه الكلية في غير ما مناسبة أخرى منها ما أخرجه أصحاب السنن وفي مقدمتهم أبو داود والترمذي وصححه من حديث العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه قال: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: أوصنا يا رسول الله، قال: أوصيكم بالسمع والطاعة وإن ولي عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» .
فها أنتم ترون وتسمعون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كرر هذه القاعدة الكلية في قصة أخرى وموعظة ألقاها على أصحابه صلى الله عليه وسلم حتى جاء في رواية أن العرباض قال: «قلنا: يا رسول الله كأنها وصية مودع فأوصنا وصيةً لا نحتاج إلى أحد بعدك أبداً، فقال عليه الصلاة والسلام: أوصيكم بتقوى الله» إلى أن قال: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» .
إذا كان الأمر كذلك وأن الأمر في كل بدعة إنما هي ضلالة مهما كان أمرها ويظن بعض الناس الحسن فيها فذلك خطأ واضح من خالف في ذلك التحسين
لقوله عليه السلام كل بدعة ضلالة، ولقد أكد هذه الكلية بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم تصريحاً وبعضهم تلميحاً أو إشارة، فقد صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة.
وجاء ما يشير إلى هذا كما ألمحت آنفاً: قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً أيضاً: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة، والسبب في هذا واضح جداً عن أهل العلم؛ لأن المقتصد في السنة بالإمكان في بعضها مأجور إذا كان في ذلك مخلصاً عند الله تبارك وتعالى لا شك ولا ريب وليس كذلك في الابتداع في الدين فذلك مردود على صاحبه كما قال عليه الصلاة والسلام:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» .
لذلك كان قول ابن مسعود في منتهى الحكمة وفي منتهى الموعظة الحسنة حيث قال: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة، وهذا يعني أن المسلم منهي عن أن يشغل عقله وفكره بأن يحدث في الدين ما لم يكن منه ثم يجتهد هل هو حسن فيعمل فيه، لا ما أحد [يتجه] إلى ذلك لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من العبادات، هذه العبادات أفضل الناس ولو كان داود عليه الصلاة والسلام الذي روى الإمام البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم:«كان داود أعبد البشر» فلو كان داود عليه الصلاة والسلام من أمة النبي صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن ينهض بكل العبادات التي جاء بها عليه الصلاة والسلام تأكيداً لما جاء في حديثين اثنين:
الحديث الأول: ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يأمر أمته بخير ما يعلمه لهم» .
والحديث الثاني يتعلق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم ذاته حيث قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام الشافعي لسننه وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به، وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله ويقربكم إلى النار إلا ونهيتكم عنه» لذلك صح عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم عليكم بالأمر العتيق .. اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم،
أي: قد شرع لكم من العبادات ما يكفيكم ويزيد عليكم، فما عليكم إلا الاتباع .. اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم عليكم بالأمر العتيق.
ولذلك جاء عن ابن مسعود أيضاً قصة رائعة جداً فيها تطبيق منه ابن مسعود أعني .. فيه تطبيق لما سبق من الأحاديث والآثار الموقوفة ذلك ما أخرجه الإمام الدارمي في سننه بسنده الصحيح أن أبا موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه جاء صباح يوم إلى ابن مسعود في داره فوجد الناس [متحلقين] فقال لهم متسائلاً: أخرج أبو عبد الرحمن .. كنية عبد الله بن مسعود أبو عبد الرحمن .. أخرج أبو عبد الرحمن؟ قالوا: لا، فجلس ينتظره إلى أن خرج فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، لقد رأيت في المسجد آنفاً شيئاً أنكرته والحمد لله لم أر إلا خيراً .. أرجوا الانتباه إلى الجمع بين قوله والحمد لله لم أر إلا خيراً، لكن قال: أنكرته، كيف ينكر الخير؟ لأنه [محدَث] كما سيأتيكم البيان في تمام القصة إن شاء الله تعالى.
قال ابن مسعود: وماذا رأيت؟ قال: إن عشت فستراه، رأيت في المسجد حلقاً حلقاً وفي وسط كل حلقة منها رجل يقول لمن حوله: سبحوا كذا أي: عدد، واحمدوا كذا وكبروا كذا، وأمام كل رجل منهم حصى يعد به التسبيح والتكبير والتحميد، قال ابن مسعود: أفلا أنكرت عليهم، قال: لا انتظار أمرك أو انتظار رأيك، فعاد ابن مسعود إلى داره وخرج متقنعاً لا يعرف حتى وقف على الحلقات التي وصفت له، فلما رآهم كما قيل له كشف عن وجهه اللثام والقناع وقال: ويحكم ما هذا الذي تصنعون؟ أنا صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التسبيح والتكبير والتحميد، قال: عدوا سيئاتكم وأنا الضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم ما أسرع هلكتكم هذه ثيابه صلى الله عليه وسلم لم تبل وهذه آنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده فإنكم لأهدى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو إنكم متمسكون بزمن ضلالة.
لا شك أن القضية الأولى مستحيلة أن يكون أهدى من الرسول عليه السلام فلم يبق إلا أنهم متمسكون بزمام ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا
الخير، وهذا لسان المبتدعة جميعهم ما يريدون إلا الخير ولكن شأنهم كما ستسمعون من كلام ابن مسعود الذي هو في منتهى الحكمة:
قال: وكم من مريد للخير لا يصيبه، كما قال الشاعر:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
وكم من مريد للخير لا يصيبه، إن محمداً صلى الله عليه وسلم حدثنا:«إن أقواماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم» أي: لا يصل إلى قلوبهم «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» .
قال راوي هذه القصة وهنا منتهى العبرة: فلقد رأينا أولئك الأقوام، أي: أصحاب حلقات الذكر، يقاتلوننا يوم النهروان، أي: أصبحوا من الخوارج الذين خرجوا على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن بقية الصحابة.
فاستنبطت من هنا فائدة قياساً على قول العلماء: الصغائر بريد الكبائر، استنبطت من هذه القصة نحو قولهم فقلت: صغائر البدع بريد الكبائر من البدع، ولذلك فالعبرة من هذه الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة وفي هذه القصة .. أو من هذه القصة بصورة خاصة هو أن لا يحتقرن المسلم بدعة ما يقول: ما فيها؟ هكذا يقول المبتدعة حينما نناقشهم ونقول لهم: اتقوا الله ولا تحدثوا في دين الله ما لم يكن ونذكر لهم بعض الأحاديث، فيقولون مثلاً: ما فيها؟ يستصغرون البدع .. ينظرون إليها بعقولهم .. يستحسنوها فلا يشعرون أبداً أنهم يقعون في [شعبة] من الاعتزال؛ ذلك لأن المعتزلة مما خالفوا فيه أهل السنة والجماعة حقاً هو قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين، هذا [ينسبه] العلماء [إلى] المعتزلة، ويعنون بهذه الجملة، أي: إن المعتزلة يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين، يعنون: أن المعتزلة يقولون: ما حكم العقل بحسنه فهو حسن، وما حكم العقل بقبحه فهو قبيح، أما أهل السنة كلهم دون اختلاف بينهم فيقولون: الحسن ما حسنه الشارع الحكيم والقبيح ما قبحه الشارع الحكيم، فلا مجال لإدخال العقل في [الشرع].
(رحلة النور: 19 ب/00: 22: 45)