المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي مبدأ الهجرة التي فرق الله فيها بين أوليائه وأعدائه - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصلفي هديه في الجهاد والغزوات

- ‌فصلفي مبدأ الهجرة التي فرق الله فيها بين أوليائه وأعدائه

- ‌فصلفي بناء المسجد

- ‌فصلفي هديه في الأسارى

- ‌فصلفي هديه فيمن جسَّ عليه

- ‌ أنَّ من أسلم على شيءٍ في يده فهو له

- ‌فصلفي هديه في الأرض المغنومة

- ‌فصلفي ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقينمن حين بُعث(3)إلى حين لقي الله عز وجل

- ‌فصلفي سياق مغازيه وبعوثه على وجه الاختصار

- ‌فصلفي قتل كعب بن الأشرف

- ‌فصلفي غزوة أحد

- ‌فصلفيما اشتملت عليه هذه الغزاة من الأحكام والفقه

- ‌فصلفي ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أُحُد

- ‌فصلفي غزوة دُومة الجندل

- ‌ سنة خمس

- ‌فصلفي غزوة المُرَيسِيع

- ‌فصلفي غزوة الخندق

- ‌فصلفي سريّة نجد

- ‌فصلفي غزوة الغابة

- ‌ سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القَصَّة

- ‌ سرية زيد بن حارثة إلى الطَّرَف

- ‌ سريةُ عبد الرحمن بن عوف إلى دُومة الجندل

- ‌فصلفي قصة الحديبية

- ‌فصلفي بعض ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض الحكم التي تضمنتها هذه الهدنة

- ‌فصلفي غزوة خيبر

- ‌فصلفيما كان في غزوة خيبر من الأحكام الفقهية

- ‌ جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا استُغني عنهم

- ‌ جواز عتق الرجل أمتَه وجعلِ عتقها صداقًا لها

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌ سرية أبي بكر الصديق إلى نجد قِبَلَ بني فزارة

- ‌ سرية بَشير بن سعد الأنصاري إلى بني مُرَّة بفَدَكٍ

- ‌فصلفي سرية عبد الله بن حُذافة السَّهمي

- ‌فصلفي عمرة القضية

- ‌فصلفي غزوة مؤتة

- ‌ سنة ثمان

- ‌فصلفي غزوة ذات السُّلاسل

- ‌فصلفي سرية الخَبَط

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌ جواز أكل ميتة البحر

- ‌فصلفي الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحَرَمه الأمينواستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدًى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين

- ‌ذكر سرية خالد بن الوليد إلى بني جَذِيمة

- ‌فصلفي الإشارة إلى ما في هذه الغزوة من الفقه واللطائف

- ‌فصلفيما في خطبته العظيمة ثاني يوم الفتح من أنواع العلم

- ‌«إن مكة حرَّمها الله ولم يحرمها الناس»

- ‌«فلا يحل لأحد أن يسفك بها دمًا»

- ‌فصلفي غزاة حنين

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهيةوالنكت الحُكمية

- ‌ جواز انتظار الإمام بقَسْم الغنائمِ إسلامَ الكفار

- ‌فصلفي غزوة الطائف في شوال سنة ثمان

- ‌ سنةُ تسعٍ

- ‌فصلفي السرايا والبعوث في سنة تسع

- ‌ذكر سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم

- ‌فصلذكر سرية قُطبة بن عامر بن حَدِيدة إلى خَثْعَمَ

- ‌فصل(2)ذكر سرية الضحاك بن سفيان الكِلابي إلى بني كلاب

- ‌فصلذِكر سرية علقمة بن مُجَزِّزٍ المُدْلِجي إلى الحبشة

- ‌ذكر سرية علي بن أبي طالب إلى صنم طَيِّئٍ ليهدمه

- ‌ذكر قصة كعب بن زُهَير مع النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي غزوة تبوك

- ‌فصلفي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أُكَيدِرِ دُومةَ

- ‌فصلفي خطبته صلى الله عليه وسلم بتبوك وصلاته

- ‌فصلفي جمعه بين الصلاتين في غزوة تبوك

- ‌فصلفي رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك وما همَّ المنافقون به من الكيد به

- ‌فصلفي أمر مسجد الضِّرار الذي نهى الله رسوله أن يقوم فيه

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من الفقه والفوائد

- ‌ ما اشتملت عليه قصة الثلاثة الذين خلفوا من الحكم والفوائد الجمة

- ‌فصلفي قدوم وفود العرب وغيرهم على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر وفد بني عامر ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم على عامر بن الطفيل وكفاية الله له(3)شرَّه وشرَّ أَرْبَدَ بن قيسٍ بعد أن عصم منهما نبيه

- ‌فصلفي قدوم وفد عبد القيس

- ‌فصلفي قدوم وفد بني حنيفة

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد طيِّئٍ على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد كِندة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم الأشعريين وأهل اليمن

- ‌فصلفي قدوم وفد الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني الحارث بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد هَمْدان عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد مُزَينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد دَوسٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بخيبر

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد نجران عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم رسول فروة بن عمرو الجُذامي ملك عربِ الروم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني سعد بن بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم طارق بن عبد الله وقومه على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد تُجيب

- ‌فصلفي قدومِ وفد بني سعدِ هُذَيمٍ من قُضاعة

- ‌فصلفي قدوم وفد بني فَزارة

- ‌فصلفي قدوم وفد بني أسد

- ‌فصلفي قدوم وفد بَهْراء

- ‌فصلفي قدوم وفد عُذْرة

- ‌فصلفي قدوم وفد بَلِيٍّ

- ‌فصلفي قدوم وفد ذي مُرَّة

- ‌فصلفي قدوم وفد خَولان

- ‌فصلفي قدوم وفد مُحارب

- ‌فصلفي قدوم وفد صُداءٍ في سنة ثمان

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد غسَّان

- ‌فصلفي قدوم وفد سَلامان

- ‌فصلفي قدوم وفد بني عَبْس

- ‌فصلفي قدوم وفد غامد

- ‌فصلفي قدوم وفد الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني المُنتفِق(1)على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد النَّخَع على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر هديه صلى الله عليه وسلم في مكاتباته إلى الملوك وغيرهم

- ‌فصلفي كتابه إلى الحارث بن أبي شِمر الغَسَّاني

الفصل: ‌فصلفي مبدأ الهجرة التي فرق الله فيها بين أوليائه وأعدائه

‌فصل

في مبدأ الهجرة التي فرق الله فيها بين أوليائه وأعدائه

،

وجعلها مبدأً لإعزاز دينه، ونصَرَ عبدَه ورسوله

(1)

قال الزهري

(2)

: حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان وغيرهما قالوا: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفيًا، ثم أعلن في الرابعة، فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافي الموسم كلَّ عام يتبع الحاجَّ في منازلهم، وفي المواسم

(3)

بعُكاظ ومَجَنَّة وذي المجاز؛ يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلِّغ رسالات ربِّه ولهم الجنة، فلا يجد أحدًا ينصره ولا يجيبه، حتى إنه لَيسأل عن القبائل ومنازلها قبيلةً قبيلةً ويقول: «يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا وتَمْلِكوا بها العرب

(1)

ص، ز:«ونُصرةِ رسوله» ، واستدرك «عبده» في هامش ز.

(2)

في الأصول عدا ج، ن:«الترمذي» ، تصحيف، والمثبت منهما موافق لـ «سيرة الدمياطي» (ق 34) وهو مصدر المؤلف. وهو وهم من الدمياطي، والصواب أن القائل هو الواقدي كما في «طبقات ابن سعد» (1/ 184). ومنشأ الوهم ــ والله أعلم ــ أن ابنَ سعد روى الخبر عن شيخه الواقدي بعدة أسانيد له، فقال: «أخبرنا محمد بن عمر [الواقدي] قال: حدثني أيوب بن النعمان عن أبيه عن عبد الله بن كعب بن مالك (ح) قال: وحدثنا محمد بن عبد الله عن الزهري (ح) قال: وحدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان، وغير هؤلاء أيضا قد حدثني، قالوا: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم

». فللواقدي ثلاثة أسانيد للخبر، وهي مفصولة بـ (ح) التحويل، فلعل الحاء التي بعد الإسناد الثاني سقطت من النسخة التي نقل منها الدمياطي فتداخل الإسنادان هكذا: «

عن الزهري قال: حدثني محمد بن صالح

» إلخ.

(3)

ز، ع:«الموسم» .

ص: 52

وتَدين لكم العجمُ، فإذا آمنتم كنتم ملوكًا في الجنة»، وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب

(1)

،

فيردُّون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبحَ الرد ويؤذونه ويقولون: أُسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك؛ وهو يدعوهم إلى الله، ويقول:«اللهم لو شئتَ لم يكونوا هكذا» .

قال: وكان مَن سُمِّي لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم وعرض نفسه عليهم: بنو عامر بن صعصعة، ومُحارِب بن خَصَفة، وفَزارة، وغسّان، ومُرَّة، وحَنِيفة، وسُلَيم، وعَبْس، وبنو نَصْر

(2)

، وبنو البَكَّاء، وكِنْدة، وكلب، والحارث بن كعب، وعُذْرة، والحضارمة؛ فلم يستجب منهم أحد.

فصل

وكان مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن الأوس والخزرج كانوا يسمعون من حُلفائهم من يهود المدينة أن نبيًّا من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج،

(1)

صحّ من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف بسوق ذي المجاز ينادي: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» ، وأبو لهب وراءه يكذّبه ويأمر الناس بتكذيبه .. أخرجه أحمد (19004) والحاكم (1/ 15) من حديث ربيعة بن عِباد الدِّيلي. وأخرجه أحمد (16603) أيضًا عن شيخٍ من بني مالك بن كنانة حضر ذلك. وأخرجه ابن خزيمة (159) وابن حبان (6562) والحاكم (2/ 612) وغيرهم من حديث طارق بن عبد الله المحاربي بإسناد صحيح، وهو طرف من حديث طويل يأتي في فصل في قدوم وفد قومه على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 819).

(2)

المطبوع: «بنو النضر» ، وفي مطبوعة «الطبقات»:«بنو نضْر» ، كلاهما خطأ، إذ بنو النضر هم قريش، والمذكورون هنا غيرهم من القبائل، فالصواب «بنو نصر» بالصاد المهملة، من قبائل قيس عَيلان بن مُضر، شأن القبائل المذكورة قبلها عدا غسَّان وبني حنيفة. انظر:«جمهرة أنساب العرب» لابن حزم (ص 480 - 482).

ص: 53

فنتَّبعه ونقتلكم معه قتلَ عادٍ وإِرَم، وكان الأنصار يحجون البيت ــ كما كانت العرب تحجُّه ــ دون اليهود، فلما رأى الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله وتأمَّلُوا أحوالَه قال بعضهم لبعض: تعلمون ــ واللهِ يا قومُ ــ أن هذا الذي تَوَعَّدكم به يهود، فلا يَسبقُنَّكم إليه!

وكان سويد بن الصامت من الأوس قد قدم مكة فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُبْعِد ولم يُجِب

(1)

.

ثم قدم مكّة أنسُ بن رافع أبو الحَيْسَر في فِتيةٍ من قومه من بني عبد الأشهل يطلبون الحِلْف

(2)

، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال إياس بن معاذ ــ وكان شابًّا حدثًا ــ: يا قومِ، هذا والله خير مما جئنا له، فضربه أبو الحيسر وانتهره فسكت، ثم لم يتمَّ لهم الحلف فانصرفوا إلى المدينة

(3)

.

فصل

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عند العقبة في الموسم ستة نفرٍ من الأنصار كلهم من الخزرج، وهم: أبو أمامة أسعد بن زُرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقُطْبة بن عامر، وعُقْبة بن عامر، وجابر بن عبد الله بن

(1)

هذا والذي قبله أسنده ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 425، 428) و «دلائل النبوة» (2/ 419، 433) ــ عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه.

(2)

أي مِن قريش ليوالوا الأوس ــ وبنو عبد الأشهل منهم ــ فينصروهم على أعدائهم من الخزرج.

(3)

أسنده ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 427) و «الدلائل» (2/ 420) ــ بإسناد حسن عن محمود بن لَبِيد الأشهلي رضي الله عنه. والمؤلف صادر عن «جوامع السيرة» لابن حزم (ص 69) هنا وفي الفقرة السابقة.

ص: 54

رئاب؛ فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلموا.

ثم رجعوا إلى المدينة فدعَوا إلى الإسلام، ففشا الإسلام فيها حتى لم تبقَ دار إلا وقد دخلها الإسلام، فلما كان العام المقبل

(1)

جاء منهم اثنا عشر رجلًا: الستة الأُوَل

(2)

خلا جابرَ بن عبد الله، ومعهم: معاذ بن الحارث بن رفاعة أخو عوف المتقدم، وذكوان بن عبد قيس

(3)

ــ وقد أقام ذكوان هذا بمكة حتى هاجر إلى المدينة، فيقال: إنه مهاجري أنصاري ــ، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، وأبو الهيثم بن التَّيِّهان، وعُوَيمُ

(4)

بن مالك؛ هم

(5)

اثنا عشر

(6)

.

وقال أبو الزبير عن جابر: إن النبي صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في

(1)

ص، ز، ع:«القابل» .

(2)

ص، ز، ج:«الأولى» .

(3)

ز: «عبد الله بن قيس» ، خطأ.

(4)

ق، ب، ص، ز، ن، النسخ المطبوعة:«عُوَيمر» ، خطأ لأن عويمر بن مالك هو أبو الدرداء رضي الله عنه، وهو إنما أسلم يوم بدر أو بعده. والمذكور في مصادر السيرة هنا هو «عويم بن ساعدة» من بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، فما وقع هنا في اسم أبيه إما وهم من المؤلف أو أنه نسبه إلى جدّه الأعلى.

(5)

«هم» ليست في م، ق، ب.

(6)

المؤلف ذكر أحد عشر اسمًا وسقط عليه واحد، وهو:«العبّاس بن عُبادة بن نضلة» من بني عوف بن الخزرج. وهو أيضًا يقال له: مهاجري أنصاري، لأنه أقام بمكة حتى هاجر. وهؤلاء الاثنا عشر بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، وهي مثل بيعة النساء المذكورة في آخر الممتحنة. انظر:«سيرة ابن هشام» (1/ 428 - 433) و «طبقات ابن سعد» (1/ 185 - 187). وانظر حديث عبادة بن الصامت عند البخاري (18) ومسلم (1709) لصيغة البيعة.

ص: 55

منازلهم في الموسم ومَجَنَّة وعُكاظ ومنازلهم من منى: «من يؤويني، ومن ينصرني حتى أبلِّغ رسالاتِ ربي فله الجنة؟» ، فلا يجد أحدًا ينصره ولا يؤويه، حتى إن الرجل ليَرْحَل من مُضَر أو اليمن إلى ذي رَحِمه فيأتيه قومه فيقولون له: احذَرْ غلام قريش لا يفتنك

(1)

، ويمشي بين رحالهم

(2)

يدعوهم إلى الله وهم يشيرون إليه بالأصابع؛ حتى بعثنا الله من يثرب، فيأتيه الرجل منَّا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيُسْلمون بإسلامه، حتّى لم تبقَ دار من دُور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يُظهرون الإسلام، وبعثَنا اللهُ إليه، فائتمرنا واجتمعنا وقلنا: حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطرَد في جبال مكة ويُخاف، فرحلنا حتى قدِمنا عليه في الموسم فواعَدْنا بيعةَ العقبة

(3)

، فقال له عمُّه العباس: يا ابن أخي، ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك، إني ذو معرفة بأهل يثرب، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباسُ في وجوهنا قال: هؤلاء قوم لا نعرفهم، هؤلاء أحداث، فقلنا: يا رسول الله، على ما

(4)

نبايعك؟ قال: «على السمع والطاعة في النَّشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا

(5)

في الله لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدِمْتُ عليكم،

(1)

ز: «يفتنكم» ، وفي هامشه مثل المثبت وعليه «خ» .

(2)

م، ق، ن، النسخ المطبوعة:«رجالهم» بالجيم، خطأ.

(3)

وهي بيعة العقبة الثانية. ولفظ «المسند» : «فواعَدْناه شِعْبَ العقبة» .

(4)

في «المسند» وغيره: «علامَ» على الجادّة. والمثبت من الأصول لغة ضعيفة. انظر: «المحتسب» لابن جنِّي (2/ 347) و «شرح الشافية» للرضي (2/ 297) و «شواهد التوضيح» لابن مالك (ص 227) ط. دار الكمال المتحدة.

(5)

كذا في الأصول، وفي المصادر:«أن تقولوا» ..

ص: 56

وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم؛ ولكم الجنة»، فقمنا نبايعه فأخذ بيده أسعدُ بن زُرارة ــ وهو أصغر السبعين ــ فقال: رويدًا يا أهل يثرب، إنّا لم نضرب إليه أكباد المَطيِّ إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مفارقةُ العرب كافَّةً وقَتْلُ خياركم وأن تَعَضَّكم السيوفُ، فإما أنتم تصبرون

(1)

على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من

(2)

أنفسكم خيفةً فذروه، فهو أعذر لكم عند الله، فقالوا: يا أسعد أَمِطْ عنَّا يدك! فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها؛ فقمنا إليه رجلًا رجلًا فأخذ علينا يعطينا بذلك الجنة

(3)

.

ثم انصرفوا

(4)

إلى المدينة وبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم ومصعب بن عمير يُعلِّمان مَن أَسلَم منهم القرآن، ويدعوان إلى الله عز وجل،

(1)

ص، ز، ج، ع:«أن تصبروا» ، وهو لفظ ابن حبان، والمثبت من ق لفظ أحمد والبيهقي إلا أن عندهما زيادة «قوم» بعد «أنتم» .

(2)

ص، ز:«على» ، والمثبت هو لفظ المصادر، ويوضِّحه أن في بعض الروايات:«تخافون من أنفسكم جُبنًا» أو «جُبَينةً» .

(3)

أخرجه أحمد (14456، 14653) وابن حبان (6274) والحاكم (2/ 624) والبيهقي في «الدلائل» (2/ 442) من حديث ابن خُثيم عن أبي الزبير به، قال الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (4/ 399): هذا إسناد جيّد على شرط مسلم، وحسَّنه الحافظ ابن حجر في «الفتح» (7/ 222).

وأخرجه أحمد (15192) وأبو داود (4734) والترمذي (2925) والحاكم (2/ 612 - 613) من حديث سالم بن أبي الجعد عن جابر مختصرًا جدًّا. قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(4)

أي هؤلاء الاثنا عشر الذين بايعوه بيعة العقبة الأولى، المذكور خبرهم قبل حديث جابر السابق.

ص: 57

فنزلا على أبي أمامة أسعدَ بنِ زرارة

(1)

.

وكان مصعب بن عمير يؤمهم وجمَّع بهم لمّا بلغوا أربعين

(2)

.

فأسلم على يديهما بشر كثير، منهم: أُسَيد بن الحُضَير وسعد بن معاذ، وأسلم بإسلامهما يومئذٍ جميعُ بني عبد الأشهل الرجال والنساء، إلا الأُصَيرِم عمرو بن ثابت بن وَقْش، فإنه تأخر إسلامُه إلى يوم أحدٍ فأسلم حينئذ وقاتَل فقُتِل قبل أن يسجد لله سجدةً، فأُخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«عمل قليلًا وأُجِر كثيرًا»

(3)

.

(1)

انظر الخبر عند موسى بن عقبة كما في «دلائل النبوة» للبيهقي (2/ 430 - 433)، وابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 434)، والواقدي كما في «طبقات ابن سعد» (3/ 109 - 110). وانظر حديث البراء عند البخاري (3925).

(2)

ذكره أحمد في «مسائله» رواية الكوسج (2/ 577). وذكره أيضًا موسى بن عقبة عن الزهري ولكنّه لم يذكر عددهم، وذكر الواقديُّ أنهم كانوا اثني عشر رجلًا. ويخالفه ما رواه ابن إسحاق ــ كما عند ابن هشام (1/ 435) وأبي داود (1069) وغيرهما، وقد سبق (1/ 456) لفظه وتخريجه ــ من حديث كعب بن مالك: أن أسعد بن زرارة هو أوَّل من جمع بهم، وكانوا أربعين رجلًا. قال البيهقي في «الدلائل» (2/ 441): ويَحتمِل أن لا يخالف هذا قولَ الزهري، وكأن مصعبًا جمع بهم بمعونة أسعد بن زرارة فأضافه كعب إليه، والله أعلم. وانظر:«فتح الباري» لابن رجب (5/ 329) وما سيأتي (ص 75 - 76).

(3)

أخرجه البخاري (2808) من حديث البراء مختصرًا دون ذكر اسمه ولا تحديد الوقعة التي أسلم فيها وقُتل. وأخرجه ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 90) و «مسند أحمد» (23634) ــ وابن سعد في «الطبقات» (4/ 241) بإسنادين حسنَين عن أبي هريرة رضي الله عنه مطوّلًا، ولفظ النبي صلى الله عليه وسلم عند ابن إسحاق:«إنه لمن أهل الجنّة» .

ص: 58

وكثر الإسلام بالمدينة وظهر ثم رجع مصعب إلى مكة، ووافى الموسم ذلك العامَ خلقٌ كثير من الأنصار من المسلمين والمشركين، وزعيم القوم البراء بن مَعْرُور، فلما كانت ليلةُ العقبة ــ الثلثُ الأول من الليل ــ تسلَّل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم خُفيةً من قومهم ومن كفَّار مكة على أن يمنعوه ممَّا يمنعون منه نساءَهم وأبناءهم وأُزُرَهم

(1)

، فكان أول من بايعه ليلتئذ البراءُ بن معرور

(2)

، وكانت له اليد البيضاء إذ أكَّد العقدَ وبادر إليه، وحضر العباس عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكدًا لبيعته كما تقدم، وكان إذ ذاك على دين قومه. واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم تلك الليلة اثني عشر نقيبًا وهم: أسعد بن زُرارة، وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، ورافع بن مالك، والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر ــ وكان إسلامه تلك الليلة ــ، وسعد بن عُبادة، والمنذر بن عمرو، وعُبادة بن الصامت، فهؤلاء تسعة من الخزرج؛ ومن الأوس ثلاثة: أُسَيد بن الحُضَير، وسعد بن خيثمة، ورفاعة بن عبد المنذر، وقيل: بل أبو الهيثم بن التَّيهان مكانه.

وأما المرأتان: فأم عُمارة نُسَيبة بنت كعب بن عمرو ــ وهي التي قتل مسيلمة ابنَها حبيبَ بن زيد ــ، وأسماء بنت عمرو بن عدي.

(1)

أي أنفسهم، فإنه يُكنى عن النفس بالإزار. «النهاية» (أزر).

(2)

كذا في حديث كعب بن مالك وسيأتي تخريجه، وظاهر حديث جابر السابق أن أسعد بن زُرارة أول من بايع، وذكر ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 447) ــ أن بني النجار أيضًا يزعمون ذلك، وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان أول من بايع.

ص: 59

فلما تمَّت هذه البيعةُ استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يميلوا على أهل العقبة بأسيافهم، فلم يأذن لهم في ذلك. وصرخ الشيطان على العقبة بأبعد صوتٍ سُمع: يا أهل الأخاشب

(1)

، هل لكم في محمَّد والصُّباة معه قد اجتمعوا على حربكم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هذا أزبُّ العقبة، أما والله يا عدوَّ الله لأتفرَّغنَّ لك» ، ثم أمرهم أن ينفضُّوا إلى رحالهم

(2)

.

فلما أصبح القومُ غدت عليهم جِلَّة قريش وأشرافُهم حتى وصلوا

(3)

شِعبَ الأنصار فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه بلغنا أنكم لقيتم صاحبنا البارحة وواعدتموه أن تبايعوه على حربنا، وايمُ اللهِ ما حيٌّ من العرب أبغضَ إلينا أن ينشب بيننا وبينه

(4)

الحرب منكم، فانبعث من كان هناك من الخزرج من المشركين يحلفون لهم بالله: ما كان هذا وما علمنا، وجعل عبد الله بن أُبيٍّ يقول: هذا باطل وما كان هذا، وما كان قومي ليفتاتوا عليَّ بمثل هذا، لو كنتُ بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني، فرجعت قريش من عندهم.

ورحل البراء بن معرور فتقدم إلى بطن يَأجَجَ

(5)

، وتلاحق أصحابه من

(1)

هكذا في الأصول، وهو لفظ الواقدي، و «الأخاشب» هي الجبال، والمراد أهل مكة، فإن مكة وادٍ محيطٌ بالجبال. وفي المطبوع:«الجباجب» ، وهي رواية ابن إسحاق، وهي منازل بمنًى. انظر:«النهاية» (جبب).

(2)

صحَّ ذلك من حديث كعب بن مالك، وسيأتي تخريجه.

(3)

ج، ن:«دخلوا» .

(4)

ج، ع:«بينهم» .

(5)

ويقال أيضًا: «يأجِج» بكسر الجيم، وادٍ من أودية مكة شمال التنعيم، ووادي التنعيم يصب فيه، يعرف اليوم باسم «ياج» أو «وادي بئر مقيت». انظر:«معجم المعالم في السيرة» (ص 337) و «معجم معالم الحجاز» (ص 1847) كلاهما لعاتِق البلادي.

ص: 60

المسلمين. وتطلَّبتهم قريش

(1)

، فأدركوا سعد بن عبادة فجعلوا يدَه إلى عنقه بِنِسعةٍ، وجعلوا يضربونه ويجُرُّون شعرَه حتى أدخلوه مكة، فجاء مطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية فخلَّصاه من أيديهم، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكُرُّوا إليه، فإذا سعد قد طلع عليهم، فرحل

(2)

القوم جميعًا إلى المدينة

(3)

.

وأذِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين في الهجرة إلى المدينة، فبادر الناس إلى ذلك، فكان أولَ من خرج إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة، ولكنها احتبست دونه ومُنِعت من اللَّحاق به سنةً وحيل بينها وبين ولدها، ثم خرجت بعد السنة بولدها إلى المدينة وشيَّعها عثمان بن أبي طلحة

(4)

.

(1)

وذلك أن قريشًا تنطَّسوا الخبر ــ خبر مبايعة الأنصار ــ فعلموا أنه قد كان، فخرجوا في طلب القوم بعد أن قد نفروا من منى. «سيرة ابن هشام» (1/ 449).

(2)

ص، ز، ج، ن:«فوصل» . والمثبت من سائر الأصول موافق لما في «طبقات ابن سعد» و «سيرة الدمياطي» (ق 37 ب) نقلًا عنه، وهو مصدر المؤلف.

(3)

خبر بيعة العقبة الثانية أخرجه ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 440 - 443، 447 - 450) و «مسند أحمد» (15798) و «صحيح ابن حبان» (7011) و «دلائل النبوة» (2/ 444) ــ من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، بإسناد جيّد. وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» (1/ 188 - 190) عن الواقدي بأسانيده. وسياق المؤلف مجموع من الروايتين رواية ابن إسحاق ورواية الواقدي.

(4)

نسبه إلى جدِّه، هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري، ولم يكن رضي الله عنه مسلمًا يؤمئذ، وخبر تشييعه لأم سلمة أخرجه ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 469 - 470) ــ عن أم سلمة بإسناد حسن.

ص: 61

ثم خرج الناس أرسالًا يَتْبع بعضهم بعضًا، ولم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي ــ أقاما بأمره لهما ــ، وإلا من احتبسه المشركون كَرهًا. وقد أعدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج، وأعدَّ أبو بكر جهازه.

فصل

فلما رأى المشركون أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهَّزوا وخرجوا وحملوا وساقوا الذراريَّ والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج عرفوا أن الدار دارُ مَنَعة، وأن القوم أهلُ حلقة وبأس وشوكة، فخافوا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ولحوقَه بهم فيشتدُّ عليهم أمره، فاجتمعوا في دار الندوة ولم يتخلَّف أحدٌ من ذوي الرأي

(1)

والحِجا منهم ليتشاوروا في أمره، وحضرهم وليُّهم وشيخُهم إبليس ــ لعنه الله ــ في صورة شيخ كبير من أهل نجد مشتملِ الصمَّاء في كسائه، فتذاكروا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار كل أحدٍ منهم برأي، والشيخ يردُّه ولا يرضاه، إلى أن قال أبو جهل: قد فرق لي فيه رأي ما أراكم

(2)

وقعتم عليه، قالوا: ما هو؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلامًا نَهْدًا جَلْدًا ثم نُعطيه سيفًا صارمًا فيضربونه ضربةَ رجلٍ واحد، فيتفرَّق دمُه في القبائل، فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك ما تصنع، ولا يُمكنها معاداة القبائل كلِّها، ونسوق إليهم ديته، فقال الشيخ: للهِ درُّ الفتى! هذا والله الرأي، فتفرقوا على ذلك وأجمعوا عليه، وجاء جبريل بالوحي من عند ربِّه تبارك وتعالى فأخبره بذلك، وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك

(1)

ج، ن:«أهل الرأي» .

(2)

ز، ع:«رأي من آرائكم ما» . وفي ص مثله دون «ما» .

ص: 62

الليلة

(1)

.

وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر نصف النهار في ساعةٍ لم يكن يأتيه فيها متقنِّعًا فقال له: «أَخرِج مَن عندك» ، فقال: إنما هم أهلك يا رسول الله، فقال:«إن الله قد أذن لي في الخروج» ، فقال أبو بكر: الصحابةَ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» ، قال أبو بكر: فخذ بأبي وأمي إحدى راحلتيَّ هاتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بالثمن»

(2)

.

وأمر عليًّا أن يبيت في مضجعه تلك الليلة، واجتمع أولئك النفر من قريش يتطلَّعُون مِن صير الباب ويرصدونه يريدون بَيَاته ويأتمرون أيهم يكون أشقاها، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فأخذ حفنةً من البطحاء فجعل يذرُّه على رؤوسهم وهم لا يرونه وهو يتلو:{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9]، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر فخرجا من خوخةٍ في دار أبي بكر ليلًا، وجاء رجل فرأى القوم ببابه فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمَّدًا، قال: خبتم وخسرتم! قد والله مرَّ بكم وذرَّ على رؤوسكم التراب، قالوا: والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، وهم: أبو جهل، والحكم بن العاص، وعقبة بن أبي مُعَيط، والنضر بن الحارث، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، وطُعَيمة بن عدي،

(1)

أسنده ابن سعد (1/ 193 - 194) عن الواقدي بأسانيد له متعددة وقد دخل حديث بعضهم في بعض. وأسنده ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 480 - 482) ــ عن ابن عباس بنحوه، وإسناده ضعيف لأن ابن إسحاق أبهم اسم شيخه ولم يسمِّه.

(2)

أخرجه البخاري (2138، 5807) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 63

وأبو لهب، وأبيُّ بن خلف، ونُبَيه ومُنبِّه ابنا الحجاج. فلما أصبحوا قام عليٌّ عن الفراش، فسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا علم لي به.

ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى غار ثور فدخلاه، وضرب العنكبوت على بابه

(1)

.

وكانا قد استأجرا عبد الله بن أُريقِط اللَّيثي

(2)

وكان هاديًا ماهرًا بالطريق وكان على دين قومه، وأَمِناه على ذلك وسلَّما إليه راحلتيهما، وواعداه

(3)

غار ثور بعد ثلاثٍ.

(1)

نسج العنكبوت على فم الغار ذكره ابن سعد (1/ 195) ضمن خبر الهجرة الذي أسنده عن الواقدي عن شيوخه. وأسنده ابن سعد أيضًا والبزار (4344) والطبراني في «الكبير» (20/ 443) والبيهقي في «الدلائل» (2/ 482) من حديث أنس بن مالك، وزيد بن أرقم، والمغيرة بن شعبة. وإسناده واهٍ.

وله شاهد من حديث ابن عباس عند أحمد (3251) والطبري في «تفسيره» (11/ 136) وغيرهما. وفي إسناده عثمان الجزري، وليس بعثمان بن عمرو بن ساج كما ظنَّه غير واحد، فإن ذاك متأخر عن طبقة عثمان هذا، وإنما هو عثمان المشاهد، وهو لا يُعرف بضبط ولا عدالة، بل قال أحمد كما في «الجرح والتعديل» (6/ 174):«روى أحاديث مناكير، زعموا أنه ذهب كتابه» ، على أنَّ ابن كثير حسَّن إسناده في «البداية والنهاية» (4/ 451) وكذا ابنُ حجر في «الفتح» (7/ 236).

وله شاهد مرسل عن الحسن البصري في «مسند أبي بكر» لأبي بكر المروزي (73)، ولكن الإسناد إلى الحسن واه. وانظر:«الضعيفة» للألباني (1128، 1129).

(2)

كذا في الأصول والمطبوع، وكذا في موضع من «الطبقات» (1/ 196)، وفي سائر المواضع:«الدِّيلي» ، وهو الصواب الموافق لحديث عائشة عند البخاري (2263). ويظهر من «تاريخ الإسلام» (1/ 750) أنه تصحيف قديم في بعض الروايات.

(3)

م، ق، ب:«ووعداه» .

ص: 64

وجَدَّت قريش في طلبهما وأخذوا معهم القافة حتى انتهوا إلى باب الغار فوقفوا عليه، ففي «الصحيحين»

(1)

أن أبا بكر قال: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرَنا، فقال:«يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن، إن الله معنا» ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يسمعان كلامهم فوق رؤوسهما، ولكن الله سبحانه عمَّى عليهم أمرهما.

وكان عامرُ بن فهيرة يرعى عليهما غنمًا لأبي بكر، ويتسمَّع ما يقال بمكة ثم يأتيهما بالخبر، فإذا كان السحر سرح مع الناس

(2)

.

قالت عائشة: وجهَّزناهما أحَثَّ الجهاز، وضعنا لهما سُفرةً في جراب، فقطَّعت أسماءُ بنت أبي بكر قطعةً من نطاقها فأوكت به الجراب، وقطَّعت الأخرى فصيَّرتها عصامًا لفم القربة، فبذلك لُقِّبت ذاتَ النطاقين

(3)

.

وذكر الحاكم في «مستدركه»

(4)

عن عمر قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى

(1)

البخاري (3653) ومسلم (2381) من حديث أنس بن مالك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.

(2)

الذي في حديث عائشة عند البخاري (3905) أن عبد الله بن أبي بكر هو الذي كان يتسمّع الأخبار ويأتيهما بها، وأما عامر بن فُهيرة فيُريح الغنم عليهما ليشربا من لبنها.

(3)

أخرجه البخاري (3905) بنحوه، والمؤلف صادر عن «سيرة الدمياطي» (ق 39) وهو عن «طبقات ابن سعد» (1/ 196).

(4)

(3/ 6) من طريق محمد بن سيرين عن عمر. رجاله ثقات إلا أنه مرسل؛ ابن سيرين لم يُدرك عمر. وله طريق آخر عن عمر عند اللالكائي في «شرح السنة» (2426) والبيهقي في «الدلائل» (2/ 476 - 477)، ولكنه ضعيف جدًّا. وله شاهد من مرسل ابن أبي مليكة عند أحمد في «فضائل الصحابة» (22) والفاكهي في «أخبار مكة» (2410) بإسناد صحيح.

ص: 65

الغار ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعةً بين يديه وساعةً خلفه، حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: يا رسول الله، أذكر الطَّلَب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرَّصَد فأمشي بين يديك، فقال:«يا أبا بكر، لو كان شيء، أحببتَ أن يكون بك دوني؟» قال: نعم والذي بعثك بالحق، فلمّا انتهى

(1)

إلى الغار قال أبو بكر

(2)

: مكانَك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فدخل واستبرأه حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الجُحْرة فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الجحرة، فدخل واستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل.

ومكثا في الغار ثلاث ليالٍ حتى خَمَدت عنهما نارُ الطلب، فجاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين فارتحلا، وأردف أبو بكر عامر بن فُهَيرة، وسار الدليلُ أمامهما، وعين الله تكلؤهما وتأييده يَصْحَبُهما وإسعادُه يُرْحِلُهما ويُنْزِلهما.

ولما يئس المشركون من الظفر بهما جعلوا لمن جاء

(3)

بهما دية كل واحدٍ منهما، فجدَّ الناسُ في الطلب، والله غالب على أمره، فلما مرُّوا بحي بني مدلج مُصْعِدين من قُدَيد

(4)

بصر بهم رجل من الحي فوقف على الحي وقال: لقد رأيت آنفًا بالساحل أسودةً ما أُراها إلا محمدًا وأصحابه، ففطن بالأمر سُراقة بن مالك فأراد أن يكون الظفر له خاصَّةً ــ وقد سبق له من

(1)

ث: «انتهيا» ، وهو لفظ الحاكم.

(2)

«أبو بكر» سقط من ص، ز، ج، ع.

(3)

ص، ز:«جاءهم» .

(4)

واد مشهور ــ ولا يزال يعرف بهذا الاسم ــ كثير العيون والقرى، يقطعه الطريق من مكة إلى المدينة على نحو من 125 كيلًا. انظر:«معجم معالم السيرة» (ص 249).

ص: 66

الظفر ما لم يكن في حسابه ــ، فقال: بل هما

(1)

فلان وفلان خرجا في طلب حاجة لهما، ثم مكث قليلًا، ثم قام فدخل خِباءه وقال لخادمه: اخرجي بالفرس من وراء الخباء وموعدُكِ وراء الأكمة، ثم أخذ رُمْحَه وخَفَض عاليَه يخطُّ به الأرض حتى ركب فرسه، فلما قَرُب منهم وسمع قراءةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ وأبو بكر يُكثر الالتفات، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت ــ قال أبو بكر: يا رسول الله، هذا سراقة بن مالك قد رَهِقَنا، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسه في الأرض، فقال: قد علمتُ أن الذي أصابني بدعائكما، فادعُوَا الله لي، ولكما عليَّ أن أرد الناس عنكما، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُطلِق، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتابًا، فكتب له أبو بكر بأمره في أديم، وكان الكتاب معه إلى يوم فتح مكة، فجاءه بالكتاب فوفى له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:«يوم وفاءٍ وبِرّ» .

وعرض عليهما الزاد والحُملان فقالا: لا حاجة لنا به ولكن عَمِّ عنا الطلبَ، فقال: قد كُفِيتم، ورجع فوجد الناس في الطلب فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر، وقد كفيتم ما هاهنا؛ فكان أول النهار جاهدًا عليهما وآخرَه حارسًا لهما

(2)

.

(1)

ص، ز، ج، ن:«هم»

(2)

أخرجه البخاري (3906، 3911) وابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 489 - 490) والواقدي كما في «طبقات ابن سعد» (1/ 148 - 149) والطبراني في «الكبير» (7/ 134، 135 - برقم 6602، 6603)، كلهم من حديث سراقة بن مالك بنحوه، إلا أن سياق البخاري مختصر ليس فيه ذكر مجيئه بالكتاب يوم الفتح وقول النبي صلى الله عليه وسلم له:«يوم وفاء وبر» . وأخرج البخاري بعضَه بنحوه من حديث البراء بن عازب عن أبي بكر رضي الله عنه (3615)، ومن حديث أنس (3911).

ص: 67

فصل

ثم مرّ في مسيره ذلك حتى نزل

(1)

بخيمتَي أمِّ معبد الخزاعية، وكانت امرأةً برزةً جلدةً تحتبي بفناء الخيمة ثم تُطعم وتَسقي من مرَّ بها، فسألاها هل عندها شيء؟ فقالت: واللهِ لو كان عندنا شيء ما أَعْوَزَكم القِرَى، والشاء عازب ــ وكانت سنةً شَهباء

(2)

ــ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاةٍ في كسر الخيمة، فقال:«ما هذه الشاة يا أم معبد؟» قالت: شاة خلَّفها الجهد عن الغنم، فقال:«هل بها من لبن؟» قالت: هي أجهد من ذلك، قال:«أتأذنين لي أن أحلُبها؟» قالت: نعم بأبي وأمي، إن رأيت بها حَلَبًا فاحلُبْها، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها وسمَّى الله ودعا فتفاجَّت عليه ودَرَّت، فدعا بإناءٍ لها يُرْبِض الرَّهط

(3)

، فحلب فيه حتى علته الرَّغوة، فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابَه حتى رووا ثم شرب، وحلب فيه ثانيًا حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها وارتحلوا.

فقلَّما لبثت أن جاء زوجُها أبو معبد يسوق أعنُزًا عِجافًا يتساوكن هزلًا، فلما رأى اللبن عَجِب وقال: من أين لك هذا والشاءُ عازب، ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: لا والله، إلا أنه مرَّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كَيت وكَيت، من حاله كذا وكذا، قال: والله إني لأراه صاحبَ قريشٍ الذي تطلبه، صِفِيه لي يا أم معبد، قالت: ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم

(1)

م، ق، ب، ث:«مرّ» .

(2)

و «الشاء عازب» أي في مرعًى بعيدٍ لكونها سنةً شهباء، أي سنةَ جدبٍ وقحط.

(3)

في هامش ص: «قوله: يربض الرهط، أي يرويهم حتى يناموا ويمتدّوا على الأرض» اهـ. انظر: «النهاية» (ربض).

ص: 68

تَعِبْه ثُجْلة، ولم تُزْرِ به صَعْلة

(1)

، وسيم قسيم، في عينيه دَعَج، وفي أشفاره وَطَف، وفي صوته صَحَل

(2)

، وفي عنقه سطع، أَحْوَرُ أكحل، أزجُّ أقرن

(3)

، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه مِن بعيد، وأحسنه وأحلاه مِن قريب، حُلْوُ المنطق فصلٌ لا نَزْرٌ ولا هَذْر، كأنّ مَنطِقَه خَرَزات نظمٍ يتحدَّرن، رَبْعة لا تقتحمه عينٌ مِن قصر ولا تَشنَؤُه من طول؛ غُصْن بين غصنين، فهو أنضر

(4)

الثلاثة منظرًا وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفُّون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود

(5)

،

لا عابس ولا مُفْنِد

(6)

. فقال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذي ذُكِر من أمره ما ذُكِر، ولقد هممتُ أن أصحَبَه، ولأفعلنَّ إن وجدتُ إلى ذلك سبيلًا.

(1)

أبلج الوجه: مُسفِره مُشرِقه. والثجلَة: عِظَم البطن، ويُروى:«نُحلة» أي: الدّقّة والضَّمَر. والصَّعلة: عِظم الرأس.

(2)

القسيم: مثل الوسيم، الحسن الوضيء. والدَّعَج: شدة السواد. والوَطَف: الطول. والصَّحَل: البُحَّة.

(3)

الأزج: دقيق الحاجبين مع طولهما. والأقرن: مقرون الحاجبين. ويخالفه وصفُ هند بن أبي هالة للنبي صلى الله عليه وسلم عند الترمذي في «الشمائل» (8) بإسناد ضعيف: «أزجُّ الحواجب، سوابغ في غير قرن، بينهما عِرق يُدرُّه الغضب» . ويمكن أن يُجمَع بينهما بأن يقال: كان بين حاجبيه صلى الله عليه وسلم فرجة دقيقة لا تتبيّن إلا لمتأمل. انظر: «جمع الوسائل في شرح الشمائل» للملا علي القاري (1/ 36).

(4)

ص، ز، ع، ن:«أنظر» ، تصحيف.

(5)

أرادت أن أصحابه يخدمونه ويجتمعون عليه ..

(6)

المُفْنِد: من تكلّم بالفَنَد، وهو الكذب، ثم قالوا للشيخ إذا هَرِم وخَرِف: قد أفند، لأنه يخلّط في كلامه. ويصحّ أن يُضبط:«مُفنَّد» ، أي الذي يُنسب إلى الفَنَد أو يُتَّهم به.

ص: 69

وأصبح صوتٌ بمكة عاليًا يسمعونه ولا يرون القائل:

جزى الله رب الناس خير جزائه

رفيقَين حلَّا خيمتي أمِّ مَعبدِ

هما نزلا بالبِرِّ وارتحلا به

فأفلح من أمسى رفيقَ محمدِ

فيا لَقُصَيٍّ ما زوى الله عنكم

به من فعال لا تُجازى وسُؤدَدِ

ليَهْنِ بني كعب مكانُ فتاتهم

ومقعدها للمؤمنين بمَرصَدِ

سلوا أختكم عن شاتها وإنائها

فإنكم إن تسألوا الشاةَ تشهد

(1)

قالت أسماء: ما درينا أين توجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذْ أقبل رجل من الجنِّ من أسفل مكة فأنشد هذه الأبيات، والناس يتبعونه يسمعون

(2)

صوته وما يرونه حتى خرج من أعلاها، قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن وَجْهَه إلى المدينة

(3)

.

(1)

أخرجه الطبراني في «الكبير» (3605) والآجري في «الشريعة» (1020) والحاكم (3/ 9) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (2265، 2266) والبيهقي في «الدلائل» (1/ 276 - 280)، كلهم من طريق حزام بن هشام عن أبيه عن جدّه حُبيش بن خالد رضي الله عنه، وهو أخو أم معبد رضي الله عنها. قال العلائي في «الفرائد المسموعة» (2/ 717): هذا حديث حسن محفوظ من رواية حزام بن هشام.

وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» (1/ 196 - 198) والحاكم (3/ 11) من حديث أبي معبد الخزاعي بمثله، ولكن إسناده واهٍ بمرَّة. انظر:«العلل» لابن أبي حاتم (2686).

تنبيه: وفي القصة ذكرُ أبياتٍ لحسّان بن ثابت جاوب بها الهاتف لم يذكرها المؤلف، وقد أثبتها ناسخ ز في الهامش، مطلعها:

لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم

وقُدِّس من يسري إليهم ويغتدي

(2)

م، ق، ع:«يستمعون» .

(3)

ذكره ابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 487)، قال: حُدِّثت عن أسماء. وأسند الواقدي كما في «طبقات ابن سعد» (1/ 196، 10/ 273) عن عبد الله بن كيسان مولى أسماء وعن غيره نحوَه إلا أن فيه: «ما شعرت قريش أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، وهو أولى إذ يَبعد أن لا تكون أسماء تدري أين توجه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مع أبيها.

ص: 70

فصل

وبلغ الأنصارَ مخرجُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وقصدُه المدينة، فكانوا يخرجون كلَّ يومٍ إلى الحرَّة ينتظرونه أولَ النهار، فإذا اشتدَّ حرُّ الشمس رجعوا إلى منازلهم، فلما كان يومُ الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على رأس ثلاثَ عشرةَ سنةً من نبوَّته خرجوا على عادتهم فلما حَمِي حرُّ الشمس رجعوا، فصعد رجل من اليهود على أُطُمٍ من آطام المدينة لبعض شأنه فرأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبيِّضين يزول بهم السراب، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قَيْلَةَ! هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدُّكم

(1)

الذي تنتظرونه

(2)

؛ فثار

(3)

الأنصار إلى السلاح ليتلقَّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسُمِعت الوَجْبَة

(4)

والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبَّر المسلمون فرحًا بقدومه وخرجوا للقائه، فتلقَّوه وحيَّوه بتحية النبوة، وأحدقوا به مُطِيفِين حولَه والسكينةُ تغشاه والوحي ينزل عليه، واللهُ

(5)

مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير،

(1)

أي: حظُّكم ودولتكم. وبنو قَيلة هم الأوس والخزرج، نَسَبَهما إلى أمِّهما، وهي قيلة بنتُ كاهل بن عُذْرة القُضاعيَّة.

(2)

م، ق، ب، ج، ث:«تنتظرون» .

(3)

ص، ز، ج، ع، ن:«فبادر» . والمثبت من باقي الأصول هو لفظ البخاري.

(4)

الوجبة: صوت الساقط إذا سقط فتُسمع له هَدَّة.

(5)

في المطبوع: «{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ

} [التحريم: 4]» خلافًا للأصول، ولا يصحّ البتة، فإن الآية لم تنزل إلا بعد ذلك بسنوات، والمؤلف لم يقصد إيرادها وإنما اقتبس منها فصاغ ما يناسب المقام ..

ص: 71

فسار حتى نزل بقباء في بني عمرو بن عوف فنزل على كلثوم بن الهِدْم، وقيل: بل على سعد بن خيثمة، والأول أثبت، فأقام في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلةً وأسَّس مسجد قباء، وهو أول مسجدٍ أُسِّس بعد النبوة

(1)

.

فلما كان يومُ الجمعة ركب بأمر الله له فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمَّع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي.

ثم ركب فأخذوا بخطام راحلته: هلمَّ إلى العدد والعُدَّة والسلاح والمنعة، فقال:«خلُّوا سبيلها فإنها مأمورة» ، فلم تزل ناقته سائرةً به لا تمرُّ بدار من دور الأنصار إلا رغبوا إليه في النزول عليهم، ويقول:«دعوها فإنها مأمورة» ، فسارت حتى وصلت إلى موضع مسجده اليوم بركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلًا ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها وذلك في بني النجار أخوالِه صلى الله عليه وسلم

(2)

. وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أن ينزل على أخواله يكرمهم بذلك.

فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب

(1)

أخرجه ابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 492 - 494) والواقدي كما في «طبقات ابن سعد» (1/ 200) بأسانيدهما. وهو عند البخاري (3906) عن عروة بن الزبير بنحوه دون ذكر من نزل عليه النبي صلى الله عليه وسلم من بني عمرو بن عوف.

(2)

انظر الخبر عند موسى بن عقبة كما في «دلائل النبوة» للبيهقي (2/ 501)، وعند ابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 494 - 495). وأخرجه ابن سعد (1/ 203) بنحوه من مرسل شُرَحبيل بن سعد. وروي نحوه من حديث أنس وابن عمر ولكن إسناديهما واهيان بمرّة. انظر:«الضعيفة» (6508) و «أنيس الساري» (2076).

ص: 72

الأنصاري إلى رَحْلِه فأدخله بيته، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«المرء مع رحله»

(1)

، وجاء أسعد بن زُرارة فأخذ بزِمام راحلته فكانت عنده.

وأصبح كما قال قيس بن صِرمة

(2)

الأنصاري ــ وكان ابن عباس يختلف إليه يتحفظ هذه الأبيات ــ:

ثَوَى في قريش بضعَ عشرةَ حِجّةً

يُذَكِّر لو يلقى حبيبًا مُواتيا

ويَعْرِض في أهل المواسم نفسَهُ

فلم يَرَ من يؤوي ولم ير داعيا

فلما أتانا واستقرت به النَّوى

وأصبح مسرورًا بطَيْبةَ راضيا

وأصبح لا يخشى ظُلامة ظالمٍ

بعيد، ولا يخشى من الناس باغيا

بذلنا له الأموالَ مِن جُلِّ

(3)

مالنا

وأنفُسَنا عند الوغى والتآسيا

نُعادي الذي عادى من الناس كلِّهمْ

جميعًا وإن كان الحبيبَ المُصافيا

ونعلم أن الله لا ربَّ غيرُه

وأن كتابَ الله أصبح هاديا

(4)

(1)

أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (1/ 203) عن الواقدي. وله شاهد من حديث ابن الزبير عند الطبراني في «الأوسط» (3544) والبيهقي في «الدلائل» (2/ 509)، وإسناده ضعيف. انظر:«مجمع الزوائد» (6/ 66).

(2)

كذا في جميع الأصول، وهو وهم أو سبق قلم، وإنما هو: أبو قيس، صرمة بن قيس.

(3)

ج، ث، ن:«حِلِّ» . وكذا في بعض المصادر.

(4)

أخرجها الأزرقي في «أخبار مكة» (2/ 147) والدينَوَري في «المُجالسة» (3/ 148 - 149) والحاكم (2/ 626 - 267) والبيهقي في «الدلائل» (2/ 513 - 514) من طرق عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري. قال: سمعت عجوزًا من الأنصار تقول: رأيت ابن عبّاس يختلف إلى صِرمة بن قيس يتعلّم منه هذه الأبيات.

وذكرها ابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 512) مع اختلاف يسير، ومجموعها أربعة عشر بيتًا.

ص: 73

قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأُمِر بالهجرة وأُنزِل عليه: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]

(1)

.

قال قتادة: أخرجه الله من مكة إلى المدينة مُخْرَجَ صدقٍ

(2)

. ونبيُّ الله يعلم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل الله سلطانًا نصيرًا، وأراه الله عز وجل دار الهجرة وهو بمكة، فقال:«أُرِيت دارَ هجرتكم سَبْخةً ذاتَ نخلٍ بين لابتين»

(3)

.

وذكر الحاكم في «صحيحه»

(4)

عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: «من يهاجر معي؟» قال: أبو بكر الصديق.

قال البراء: أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مصعبُ بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يُقرئان الناس القرآن، ثم جاء عمَّار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين راكبًا، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم،

(1)

أخرجه أحمد (1948) والترمذي (3139) والحاكم (2/ 243) وصححه، وقال الترمذي: حسن صحيح.

(2)

أخرجه الطبري (15/ 55).

(3)

أخرجه البخاري (2297) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

(3/ 5) وقال: صحيح الإسناد والمتن. قلتُ: كذا قال مع أن شيخه فيه أبو أحمد علي بن محمد بن عبد الله المروزي، وقد قال عنه هو نفسه لمَّا سئل عنه ــ كما في «لسان الميزان» (6/ 22) ــ: هو أشهر في اللِّين من أن تسألني عنه، وقال أيضًا: كان يكذب. وقال الدارقطني كما في «سؤالات السهمي» (407): ضعيف جدًّا. وله طريقان آخران عند ابن عدي في «الكامل» (6/ 289) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (38/ 168) لكنّهما أيضًا واهيان.

ص: 74