الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الحرم، وإلا فهي من الحل باتفاقهم.
وقد اختلف أصحاب أحمد في المحصر إذا قدر على أطراف الحرم هل يلزمه أن ينحر فيه؟ فيه
(1)
وجهان لهم. والصحيح أنه لا يلزمه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه في موضعه مع قدرته على طرف الحرم، وقد أخبر الله سبحانه أن الهدي كان محبوسًا عن بلوغ مَحِلِّه
(2)
، ونصب {الْهَدْيَ} بوقوع فعل الصدِّ عليه، أي: صدُّوكم عن المسجد الحرام وصدُّوا الهدي عن بلوغ محله، ومعلوم أن صدهم وصد الهدي استمر ذلك العام ولم يَزُل، فلم يصلوا فيه إلى محل إحرامهم ولم يصل الهديُ إلى محل نحره. والله أعلم.
فصل
في غزوة مؤتة
وهي بأدنى البلقاء من أرض الشام، وكانت في جمادى الأولى
سنة ثمان
، وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي
(3)
أحد بني لِهْبٍ بكتابه إلى الشام إلى ملك الروم أو بُصرى
(4)
، فعرض له شُرَحبيل بن عمرو الغسَّاني فأوثقه رباطًا ثم قدمه فضرب عنقه، ولم يُقتَل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسولٌ غيره، فاشتد ذلك عليه حين بلغه الخبر، فبعث البعوث
(1)
«فيه» الثانية ساقطة من د، س، ث.
(2)
وذلك في قوله: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25].
(3)
ص، د، ز:«الأسدي الأزدي» ، إلا أنه وُضعت علامة الحذف «مـ» على «الأسدي» في ص، ز، ولم يفطَن لها ناسخ (د).
(4)
أي: أو إلى ملك بصرى، كما في «عيون الأثر» (2/ 153).
واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: «إن أصيب فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة»
(1)
.
فتجهز الناس وهم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم ودَّع الناسُ أمراءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلَّموا عليهم، فبكى عبد الله بن رواحة فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: «أما والله ما بي حبُّ الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آيةً من كتاب الله يذكر فيها النار {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]، فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود؟» ، فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم وردَّكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً
…
وضربةً ذاتَ فَرْغٍ
(2)
تقذف الزَّبَدا
أو طعنةً بيدَي حرَّانَ مُجهِزةً
…
بحربةٍ تَنفُذ الأحشاء والكَبِدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي
…
يا أرشد اللهُ من غازٍ وقد رَشَدا
ثم مضَوا حتى نزلوا مَعانَ
(3)
فبلغ الناس أن هرقل بالبلقاء في مائة ألفٍ من الروم، وانضم إليهم من لخمٍ وجُذام وبَلْقَين وبَهْراءَ وبَلِيٍّ مائةُ ألفٍ، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا
(1)
حديث التأمير هذا أخرجه البخاري (4261) من حديث ابن عمر بنحوه، واللفظ أشبه برواية ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة مرسلًا. انظر:«سيرة ابن هشام» (2/ 373).
(2)
أي: واسعة يسيل دمها، كضربةٍ فريغٍ، وطعنة فرغاء.
(3)
مدينة معروفة في المملكة الأردنية الهاشمية، تقع جنوب عمّان على (200) كلم.
بأمره فنمضي له، فشجَّع الناسَ عبدُ الله بن رواحة وقال: يا قومِ، والله إن الذي تكرهون لَلَّتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعددٍ ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلِقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظفر وإما شهادة.
فمضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم الجموع بقريةٍ يقال لها «مشارف» ، فدنا العدو وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فالتقى الناس عندها فتعبَّى المسلمون ثم اقتتلوا، والراية في يد زيد بن حارثة، فلم يزل يقاتل بها حتى شاط في رماح القوم وخرَّ صريعًا، فأخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه فعقرها، ثم قاتل حتى قُتِل، فكان جعفر أول من عقر فرسه في الإسلام عند القتال، فقطعت يمينه فأخذ الراية بيساره، فقطعت يساره فاحتضن الراية حتى قُتِل، وله ثلاث وثلاثون سنةً.
ثم أخذها عبد الله بن رواحة وتقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعضَ التردد ثم نزل، فأتاه ابنُ عم له بعرق من لحم فقال: شُدَّ بها صلبك فإنك قد لقيتَ أيامك هذه ما لقيت، فأخذها من يده فانتهس منها نهسةً ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فقال: وأنت في الدنيا؟! ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه وتقدم فقاتل حتى قُتِل.
ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني عجلان فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجلٍ منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم وحاشى بهم، ثم انحاز وانصرف بالناس
(1)
.
(1)
ما مضى من سياق الغزوة جلّه من مغازي ابن إسحاق؛ بعضه عنه عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة مرسلًا؛ وبعضه عنه عن يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عبَّاد، عن أبيه من الرضاعة وكان في تلك الغزاة.
انظر: «سيرة ابن هشام» (2/ 373 - 380) و «المعجم الكبير» للطبراني (14/ 383) و «دلائل النبوة» (4/ 358 - 364). والمؤلف صادر عن «عيون الأثر» (2/ 153).
وقد ذكر ابن سعد
(1)
أن الهزيمة كانت على المسلمين، والذي في «صحيح البخاري»
(2)
أن الهزيمة كانت على الروم. والصحيح ما ذكره ابن إسحاق
(3)
أن كل فئة انحازت عن الأخرى.
وأطلع اللهُ سبحانه على ذلك رسولَه من يومهم ذلك، فأخبر به أصحابه وقال: «لقد رُفعوا إليَّ في الجنة فيما يرى النائم على سُرُر مِن ذهب، فرأيت في سرير عبد الله ازوِرارًا عن سريرِ
(4)
صاحبَيه، فقلت: عمَّ هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى»
(5)
.
(1)
في «الطبقات» (2/ 120) من حديث أبي عامر الأشعري رضي الله عنه، وفي إسناده لين. وكذا ذكره الواقدي في «مغازيه» (2/ 763، 764، 769) من غير وجه. والمؤلف صادر عن «عيون الأثر» (2/ 155) في هذه الفقرة وما بعدها.
(2)
ص، د:«والذي صحح البخاري» . والحديث عند البخاري (1246، 2798، 3063، 3757، 4262) عن أنس مرفوعًا.
(3)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 381).
(4)
كذا في الأصول، وفي عامّة المصادر:«سريرَي» . والازوِرار: العدول عن الشيء والانحراف عنه.
(5)
أخرجه الطبراني في «الكبير» (14/ 383 - 386) ضمن حديث طويل في خبر الغزوة من طريق ابن إسحاق قال: حدثني يحيى بن عباد، عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير، قال: حدثني أبي الذي أرضعني وكان في تلك الغزاة. قال الهيثمي (6/ 163): «رجاله ثقات» . قلتُ: هو كذلك إلا أن هذا الحديث مدرج في ذاك الخبر الموصول، فإن ابن هشام (2/ 378 - 380) أخرج الخبر الموصول من طريق ابن إسحاق ثم قال: «قال ابن إسحاق: ولمّا أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني
…
» فذكره، فدل على أن هذا الحديث ليس موصولًا عند ابن إسحاق بل بلاغًا. وكذا أخرجه عنه بلاغًا البيهقيُّ في «الدلائل» (4/ 368)، وعليه فالحديث ضعيف لإعضاله.
وذكر عبد الرزاق
(1)
عن ابن عيينة عن ابن جُدعان عن ابن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُثِّل لي جعفرٌ وزيد وابن رواحة في خيمةٍ من دُرٍّ، كل واحد منهم على سرير، فرأيت زيدًا وابنَ رواحة في أعناقهما صدودًا
(2)
، ورأيت جعفرًا مستقيمًا ليس فيه صدود»، قال: «فسألت أو قيل لي: إنهما حين غشيهما الموتُ أعرضا ــ أو: كأنهما صدَّا بوجوههما
(3)
ــ، وأما جعفر فإنه لم يفعل».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جعفر: «إن الله أبدله بيدَيه جناحَين يطير بهما في الجنةِ حيث شاء»
(4)
.
(1)
برقم (9562)، ومن طريقه الطبراني في «الكبير» (14/ 387). وإسناده ضعيف لإرساله ولضعف ابن جُدعان هذا، وقد أخرج ابن خزيمة (1986) والحاكم (2/ 210) بإسناد صحيح عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى هؤلاء الثلاثة في المنام على شرفٍ (في الجنة) يشربون من خمرٍ لهم.
(2)
كذا في الأصول بالنصب.
(3)
ص، د:«بوجههما» .
(4)
ذكره ابن سيد الناس في «عيون الأثر» (2/ 155) والمؤلف صادر عنه، ولم أجده بهذا اللفظ في كتب السنة. وفي معناه حديث أبي هريرة:«رأيت جعفر بن أبي طالب ملَكًا يطير مع الملائكة بجناحين في الجنة» . أخرجه الترمذي (3763) وأبو يعلى (6464) ــ واللفظ له ــ وابن حبان (7047) والحاكم (3/ 209)، وإسناده ضعيف كما ذكره الترمذي عقب الحديث والذهبيُّ في «تلخيص المستدرك» . وفي الباب عن ابن عباس والبراء وعلي، ولكن أسانيدها واهية أو معلولة. ولكن له أصل، فقد أخرج البخاري (3709) وغيره عن ابن عمر أنه كان إذا سلَّم على ابن جعفر قال:«السلام عليك يا ابنَ ذي الجناحين» ، فضلًا عن استفاضته عند أصحاب المغازي والسير. انظر:«الصحيحة» للألباني (1226) و «أنيس الساري» لنبيل البصارة (5/ 3164) و «سيرة ابن هشام» (2/ 378) و «مغازي الواقدي» (2/ 762، 767) و «طبقات ابن سعد» (4/ 34 - 36).
قال أبو عمر
(1)
: ورُوِّينا عن ابن عمر أنه قال: وجدنا ما بين صدر جعفر ومنكبه وما أقبل منه تسعين جراحةً ما بين ضربةٍ بالسيف وطعنةٍ بالرمح.
وقال موسى بن عقبة
(2)
: قدم يعلى بن مُنْية على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر أهل مؤتة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شئتَ فأخبِرْني، وإن شئتَ أخبرتُك» ، قال: فأخبرني يا رسول الله، فأخبره صلى الله عليه وسلم خبرهم كلَّه ووصفهم له، فقال: والذي بعثك بالحق ما تركتَ من حديثهم حرفًا واحدًا لم تذكره، وإن أمرَهم لكما ذكرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله رفع لي الأرض حتى رأيتُ معتركهم» .
واستشهد يومئذ: جعفر، وزيد بن حارثة، وابن رواحة، ومسعود بن الأوس، ووهب بن سعد بن أبي سرح، وعباد بن قيس، وحارث
(3)
بن النعمان، وسراقة بن عمرو بن عطية، وأبو كليب وجابر ابنَي
(4)
عمرو بن زيد، وعمرو وعامر ابنَي سعد
(5)
بن الحارث، وغيرهم.
(1)
في «الاستيعاب» (1/ 243) والمؤلف صادر عن «عيون الأثر» (2/ 155). وأثر ابن عمر أخرجه البخاري (4260، 4261) وابن سعد في «الطبقات» (4/ 35) ــ واللفظ به أشبه ــ من طرق عن نافع عن ابن عمر، وكان معهم في تلك الغزاة. ولفظ البخاري في الموضع الأول:«خمسين بين طعنة وضربة» وفي الثاني: «بضعًا وتسعين» .
(2)
أخرجه عنه البيهقي في «الدلائل» (4/ 365).
(3)
الأصول والمطبوع: «حارثة» ، تصحيف، والتصحيح من «عيون الأثر» (2/ 155) وهو مصدر النقل. وانظر:«سيرة ابن هشام» (2/ 388) و «الإصابة» (2/ 402).
(4)
كذا بالنصب في الأصول، وله وجه.
(5)
ن، المطبوع:«سعيد» ، تصحيف.
قال ابن إسحاق
(1)
: وحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حُدِّث عن زيد بن أرقم قال: كنت يتيمًا لعبد الله بن رواحة فخرج في سفره ذلك مُردفي على حقيبةِ رَحلِه، فوالله إنه ليسير ليلةً إذ سمعته وهو ينشد:
إذا أدنيتِني وحملتِ رحلي
…
مسيرةَ أربعٍ بعد الحِساء
فشأنَكِ فانعَمي وخَلَاك ذمٌّ
…
ولا أرجعْ إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني
…
بأرض الشام مشتهرِ الثَّواء
(2)
فصل
وقد وقع في الترمذي
(3)
وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعبد الله بن رواحة بين يديه ينشد:
خلوا بني الكفار عن سبيله
…
(الأبيات)
وهذا وهْم، فإن ابن رواحة قتل في هذه الغزوة وهي قبل الفتح بأربعة أشهر ــ وإنما كان يُنشَد بين يديه بشعر ابن رواحة ــ، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل النقل.
(1)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 376)، والمؤلف صادر عن «عيون الأثر» (2/ 154).
(2)
كذا في الأصول، والرواية عند ابن هشام وابن سيد الناس:«مشتَهِيَ الثواء» أي حال كونه يشتهي البقاء هناك ولا يريد رجوعًا. وذكر السُّهَيلي في «الروض الأنف» وجهًا آخر: «مُستَنهى الثواء» أي حيث انتهى مثواه. وفي «تاريخ الإسلام» للذهبي (1/ 329): «مشهور الثواء» .
(3)
الذي عنده (2847) من حديث أنس أن ذلك كان في عمرة القضاء، وانظر تعليق الترمذي عليه وتعقيب الحافظ في «الفتح» (7/ 502).