الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِن لهوٍ كمزمار وشَبَّابة وعود، ولم يكن غناءً يتضمن رقية الفواحش وما حرَّم الله؛ فهذا لا يحرمه أحد. وتعلُّقُ أرباب السماع الفسقي به كتعلق من يستحل شرب الخمر المسكر قياسًا على أكل العنب وشرب العصير الذي لا يسكر، ونحوِ هذا من القياسات التي تشبه قياس الذين قالوا:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275].
ومنها: استماع النبي صلى الله عليه وسلم مدحَ المادحين له وتركُ الإنكار عليهم، ولا يصح قياس غيره عليه في هذا لما بين المدحَين
(1)
والممدوحَين من الفروق، وقد قال:«احْثُوا في وجوه المدَّاحين التراب»
(2)
.
ومنها
ما اشتملت عليه قصة الثلاثة الذين خلفوا من الحكم والفوائد الجمة
فنشير إلى بعضها:
فمنها: جواز إخبار الرجل عن تفريطه وتقصيره في طاعة الله ورسوله، وعن سبب ذلك وما آل إليه أمره. وفي ذلك من التحذير والنصيحة وبيان طرق الخير والشر وما يترتب عليها ما هو من أهم الأمور.
ومنها: جواز مدح الإنسان نفسَه بما فيه من الخير إذا لم يكن على سبيل الفخر والترفُّع.
ومنها: تسلية الإنسان نفسه عما لم يُقدَّر له من الخير بما قُدِّر له من نظيره أو خيرٍ منه
(3)
.
(1)
س، هامش ز، المطبوع:«المادحين» .
(2)
أخرجه مسلم (3002) من حديث المقداد بن الأسود بنحوه.
(3)
وذلك أن كعبًا قال في مطلع حديثه الطويل في «الصحيحين» ــ وقد سبق ولكن لم يسُق المؤلف هذا الجزء منه ــ: «لم أتخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلَّفت في غزوة بدر، ولم يعاتِب أحدًا تخلَّف عنها
…
ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحبُّ أنَّ لي بها مشهدَ بدرٍ وإن كانت بدرٌ أذكَرَ في الناس منها».
ومنها: أن بيعة العقبة كانت من أفضل مشاهد الصحابة حتى إن كعبًا كان لا يراها دون مشهد بدر.
ومنها: أن الإمام إذا رأى المصلحة في أن يستر عن رعيته بعضَ ما يهمُّ به ويقصده من العدو ويُورِّي عنه= استُحبَّ له ذلك أو تعيَّن بحسب المصلحة.
ومنها: أن الستر والكتمان إذا تضمن مفسدةً لم يجز.
ومنها: أن الجيش في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لهم ديوان
(1)
، وأولُ من دوَّن الديوان عمرُ بن الخطاب
(2)
، وهذا من سنته التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعها؛ وظهرت مصلحتُها وحاجة المسلمين إليها.
ومنها: أن الرجل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة فالحزم كلُّ الحزم في انتهازها والمبادرة إليها، والعجز في تأخيرها والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكُّنه من أسباب تحصيلها، فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلَّما تثبت، والله سبحانه يعاقب من فتح له بابًا من الخير فلم ينتهزه
(1)
وذلك أن كعبًا قال في حديثه ــ ولم يسبق في القدر الذي ساقه المؤلف ــ: «
…
والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ ــ يريد: الديوان ــ، فما رجل يريد أن يتغيَّب إلا ظنَّ أنْ سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي الله».
(2)
أخرجه عبد الرزاق (20036) وابن أبي شيبة (27258، 33535، 33569) وابن سعد (3/ 275) من طرق.
بأن يحول بين قلبه وإرادته فلا يمكِّنَه بعدُ مِن إرادته عقوبةً له.
فمن لم يستجب لله ورسوله إذا دعاه حال بينه وبين قلبه، فلا يُمْكنه الاستجابةُ بعد ذلك؛ قال تعالى:{(23) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ} [الأنفال: 24]. وقد صرح سبحانه بهذا في قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، وقال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، وهو كثير في القرآن.
ومنها: أنه لم يكن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحدُ رجالٍ ثلاثة: إما مغموص عليه في النفاق، أو رجل من أهل الأعذار، أو من خلَّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمله على المدينة أو خلفه لمصلحة.
ومنها: أن الإمام والمطاع لا ينبغي له أن يُهمل من تخلَّف عنه في بعض الأمور، بل يُذكِّره ليراجع الطاعة ويتوب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال بتبوك:«ما فعل كعب؟»
(1)
ولم يذكر سواه من المتخلِّفين استصلاحًا له ومراعاةً، وإهمالًا للقوم المنافقين.
ومنها: جواز الطعن في الرجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن حميَّةً أو ذبًّا عن الله ورسوله. ومِن هذا طعنُ أهل الحديث فيمن طعنوا فيه من الرواة.
(1)
كما في حديثه الطويل في «الصحيحين» ، وتمامه:«فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حَبَسه بُرداه ونظره في عِطفَيه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
ومن هذا طعن ورثة الأنبياء وأهل السنة في أهل الأهواء والبدع لله، لا لحظوظهم وأغراضهم.
ومنها: جواز الرد على هذا الطاعن إذا غلب على ظن الراد أنه وهم وغلط، كما قال معاذ للذي طعن في كعب:«بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا» ، ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على واحد منهما.
ومنها: أن السنة للقادم من السفر أن يدخل البلد على وضوء وأن يبدأ ببيت الله قبل بيته فيصلي فيه ركعتين ثم يجلس للمُسَلِّمين عليه، ثم ينصرف إلى أهله.
ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل علانية من أظهر الإسلام من المنافقين ويكل سريرته إلى الله، ويُجري عليه حكمَ الظاهر ولا يعاقبه بما يَعلم من سرِّه
(1)
.
ومنها: ترك الإمام والحاكم ردَّ السلام على من أحدث حدثًا تأديبًا له وزجرًا لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يُنقل أنه ردَّ على كعب بل قابل سلامه بتبسُّم المُغضَب
(2)
.
ومنها: أن التبسم قد يكون عن الغضب كما يكون عن التعجُّب والسرور، فإن كلًّا منهما يوجب انبساطَ دمِ القلب وثَوَرانَه، ولهذا تظهر
(1)
طبعة الرسالة: «بما لم يعلم من سرِّه» خلافًا للأصول والطبعة الهندية ومفسدًا للمعنى.
(2)
كذا في س، ث، ن وفاقًا للفظ الحديث. وفي سائر الأصول:«تبسُّم الغضب» ، ولعله تصحيف.
حمرة الوجه لسرعة فَوَران
(1)
الدم فيه فينشأ عن ذلك السرور، والغضبُ تعجُّبٌ يتبعه ضحك وتبسُّم، فلا يغتَّر المغترُّ بضحك القادر عليه في وجهه، ولا سيما عند المَعْتَبة؛ كما قيل
(2)
:
إذا رأيت نيوب الليث بارزةً
…
فلا تظنَّنَّ أن الليث مبتسمُ
ومنها: معاتبة الإمام والمطاع أصحابَه ومن يَعِزُّ عليه ويَكرُم عليه، فإنه عاتب الثلاثة دون سائر من تخلَّف عنه. وقد أكثر الناس من مدح عتاب الأحبة واستلذاذه والسرور به، فكيف بعتاب أحبِّ الخلق على الإطلاق إلى المعتوب عليه؟! وللهِ ما كان أحلى ذلك العَتْبَ، وما أعظَمَ ثمرتَه وأجلَّ فائدتَه! وللهِ ما نال به الثلاثة من أنواع المسرات وحلاوة الرضا وخِلَع القبول!
ومنها: توفيق الله لكعبٍ وصاحبيه فيما جاؤوا به من الصدق، ولم يخذلهم حتى كذبوا واعتذروا بغير الحق فصلحت عاجلتُهم وفسدت عاقبتُهم كلَّ الفساد، والصادقون تعبوا في العاجلة بعضَ التعب فأعقبهم صلاح العاقبة والفلاحَ كلَّ الفلاح. وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة، فمرارات المبادي حلاوات في العواقب، وحلاوات المبادي مرارات في العواقب.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لكعب: «أما هذا فقد صدق» دليل ظاهر في التمسُّك بمفهوم اللقب عند قيام قرينةٍ تقتضي تخصيصَ المذكور بالحكم، كقوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا
(1)
د، المطبوع:«ثوران» .
(2)
البيت للمتنبِّي في «ديوانه» (ص 323) تحقيق عبد الوهاب عزَّام.
لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78 - 79]، وقولِه صلى الله عليه وسلم:«جعلت لي الأرض مسجدًا وتربتُها طهورًا»
(1)
وقولِه في هذا الحديث: «أما هذا فقد صدق» ، وهذا مما لا يشك السامع أن المتكلم قصد تخصيصه بالحكم.
وقول كعب: «هل لقي هذا معي أحد؟ فقالوا: نعم، مُرارة بن الربيع وهلال ابن أمية» فيه أن الرجل ينبغي له أن يردَّ
(2)
حرَّ المصيبة برَوح التأسِّي بمن لقي مثل ما لقي، وقد أرشد سبحانه عبادَه إلى ذلك بقوله:{تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ} [النساء: 104]. وهذا هو الروح الذي منعه الله سبحانه أهل النار فيها بقوله: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39].
وقوله: «فذكروا لي
(3)
رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، لي فيهما أسوة»، هذا الموضع مما عُدَّ من أوهام الزهري، فإنه لا يُحفَظ عن أحد من أهل المغازي والسير البتة ذكر هذين الرجلين في أهل بدر؛ لا ابن إسحاق، ولا موسى بن عقبة، ولا الأموي، ولا الواقدي، ولا أحد ممن عَدَّ أهل بدر. وكذلك ينبغي أن لا يكونا من أهل بدر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهجر حاطبًا ولا عاقبه وقد جسَّ عليه، وقال لعمر لما همَّ بقتله: «وما يدريك أن الله اطَّلع على
(1)
أخرجه مسلم (522) من حديث حذيفة بن اليمان بنحوه. هذا، وتمثيل المؤلف بهذا الحديث هنا يقتضي أن جواز التيمم مختصٌّ بالتراب كما هو مذهب الشافعي وأحمد، مع أن المؤلف نفسه قد قرّر فيما سبق (1/ 220) جواز التيمم بالرمل.
(2)
كذا في جميع الأصول، وأخشى أن يكون تصحيفًا عن:«يبرِّد» ، لاسيما وقد استعمل المؤلف نحو هذا الأسلوب في كتبه. انظر:«مفتاح دار السعادة» (2/ 987) و «مدارج السالكين» (2/ 37، 50).
(3)
في الأصول عدا ز، س، ن:«فذكرا لي» .
أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، وأين ذنب التخلُّف من ذنب الجس؟
(1)
.
قال أبو الفرج بن الجوزي
(2)
: ولم أزل حريصًا على كشف ذلك وتحقيقه حتى رأيت أبا بكر الأثرم
(3)
قد ذكر الزهري وذكر فضله وحفظه وإتقانه، وأنه لا يكاد يُحفَظ عليه غلط إلا في هذا الموضع، فإنه قال: إن مُرارة بن الربيع وهلال بن أمية شهدا بدرًا، وهذا لم يقله أحد غيره والغلط لا يُعصَم منه إنسان.
فصل
وفي نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر من تخلَّف عنه دليلٌ على صدقهم وكذب الباقين، فأراد هجر الصادقين وتأديبهم على هذا الذنب. وأما المنافقون فجُرمهم أعظم من أن يقابَل بالهجر، فدواء هذا المرض لا يعمل في مرض النفاق ولا فائدة فيه.
وهكذا يفعل الرب سبحانه بعباده في عقوبات جرائمهم، فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبُّه وهو كريم عنده بأدنى زلة وهفوة، فلا يزال مستيقظًا حذرًا، وأما من سقط من عينه وهان عليه فإنه يُخلِّي بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنبًا أحدث له نعمةً، والمغرورُ يظن أن ذلك من كرامته عليه، ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة وأنه يريد به العذاب الشديد والعقوبة التي لا
(1)
انظر: «فتح الباري» (7/ 311) حيث تعقَّب الحافظ على كلام المؤلف وغيره في هذه المسألة.
(2)
في «كشف المشكل من حديث الصحيحين» (2/ 127).
(3)
في «ناسخ الحديث ومنسوخه» كما في «كشف المشكل» ، وليس في القدر المطبوع.
عافية
(1)
معها، كما في الحديث المشهور:«إذا أراد الله بعبد خيرًا عجَّل له عقوبته في الدنيا، وإذا أراد بعبد شرًّا أمسك عنه عقوبته في الدنيا فيَرِد القيامة بذنوبه»
(2)
.
وفيه دليل أيضًا على هِجران الإمام والعالم والمطاع لمن فعل ما يستوجب العَتْب، ويكون هجرانه دواءً له بحيث لا يضعُف عن حصول الشفاء به ولا يزيد في الكيفية والكمية عليه فيهلكه، إذ المرادُ تأديبه لا إتلافه.
وقوله: «حتى تنكَّرت لي الأرض فما هي بالتي أعرف» ، هذا التنكُّر يجده الخائف والحزين والمهموم في الأرض وفي الشجر والنبات، حتى يجده فيمن لا يعلم حالَه من الناس، ويجده أيضًا المذنب العاصي بحسب جُرمه حتى في خُلُق زوجته وولده وخادمه ودابَّته، ويجده في نفسه أيضًا فتتنكَّر له نفسُه حتى ما كأنه هو، ولا كأن أهلَه وأصحابَه ومن يُشفق عليه بالذين يعرفهم، وهذا سرٌّ من الله لا يخفى إلا على ميت القلب
(3)
، وعلى حسب حياة القلب يكون إدراك هذا التنكر والوحشة.
وما لجرح بميتٍ إيلامُ
(4)
(1)
س، ث، المطبوع:«عاقبة» .
(2)
أخرجه أحمد (16806) وابن حبان (2911) والحاكم (1/ 349) من حديث الحسن عن عبد الله بن مغفَّل رضي الله عنه بنحوه. ورجاله ثقات. وفي الباب حديث أنس عند الترمذي (2396) وأبي يعلى (4254) والحاكم (4/ 608) وفي إسناده لين، قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه.
(3)
طبعة الرسالة: «إلا على من هو ميت القلب» خلافًا للأصول والطبعة الهندية.
(4)
عجز بيت سائر للمتنبي، صدره: من يَهُن يسهُل الهوان عليه
ومن المعلوم أن هذا التنكر والوحشة كانا لأهل النفاق أعظم، ولكن لموت قلوبهم لم يكونوا يشعرون به، وهكذا القلب إذا استحكم مرضه واشتدَّ
(1)
بالذنوب والإجرام لم يجد هذه الوحشة والتنكر ولم يحسَّ بها، وهذا
(2)
علامة الشقاء وأنه قد أيس من عافية هذا المرض، وأعيا على الأطباء شفاؤه. والخوف والهم مع الرِّيبة والأمن، والسرور مع البراءة من الريب
(3)
.
فما في الأرض أشجع من بريءٍ
…
ولا في الأرض أخوف من مريب
(4)
وهذا القدر قد ينتفع به المؤمن البصير إذا ابتُلي به ثم راجع نفعًا عظيمًا من وجوه عديدة تفوت الحصر، ولو لم يكن منها إلا استثمارُه مِن ذلك أعلامَ النبوة وذوقُه نفسَ ما أخبر به الرسول، فيصير تصديقه ضروريًّا عنده، ويصير ما ناله من الشر بمعاصيه ومن الخير بطاعاته من أدلة صدق النبوة الذَّوقية التي لا يتطرق إليها الاحتمالات. وهذا كمن أخبرك أن في هذه الطريق من المعاطب والمخاوف كيت وكيت على التفصيل، فخالفتَه وسلكتها فرأيت عين ما أخبرك به، فإنك تشهد صدقه في نفس خلافك له. وأما إذا سلك طريقَ الأمن وحدها ولم يجد من تلك المخاوف شيئًا، فإنه وإن شهد صدق المخبِر بما ناله من الخير والظفر فيها مفصَّلًا، فإن علمه بتلك يكون مجملًا.
(1)
في النسخ المطبوعة: «اشتدَّ ألمه» ، إقحام مفسد للمعنى.
(2)
ن، المطبوع:«وهذه» .
(3)
ز، س، ث، ن:«الذنب» ، وكذا في المطبوع.
(4)
لعل البيت للمؤلف، وقد ذكره ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (2/ 32) بلا نسبة.
فصل
ومنها: أن هلالًا ومُرارة
(1)
قعدا في بيوتهما وكانا يُصلِّيان في بيوتهما ولا يحضران الجماعة، وهذا يدل على أن هِجران المسلمين للرجل عذرٌ يبيح له التخلُّف عن الجماعة.
أو يقال: من تمام هجرانه أن لا يحضر جماعة المسلمين، لكن يقال: فكعب كان يحضر الجماعة ولم يمنعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا عتب عليهما على التخلُّف، وعلى هذا فيقال: لما أُمِر المسلمون بهجرهم تُرِكوا: لم يؤمروا ولم يُنهَوا ولم يُكلَّموا، فكان من حضر منهم الجماعة لم يُمنَع، ومن تركها لم يُكلَّم.
أو يقال: لعلهما ضعُفا وعجَزا عن الخروج، ولهذا قال كعب: وكنت أنا أجلَدَ القوم وأشبَّهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين.
وقوله: «وآتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأسلِّم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول: هل حرك شفتيه برد السلام عليَّ أم لا؟» فيه دليل على أن الردَّ على من يستحقُّ الهجر غير واجب، إذ لو وجب الرد لم يكن بدٌّ مِن إسماعه.
وقوله: «حتى إذا طال ذلك عليَّ تسوَّرتُ جدار حائطِ أبي قتادة» فيه دليل على دخول الإنسان دار صاحبه وجاره إذا علم رضاه بذلك وإن لم يستأذنه.
(1)
في الأصول عدا ث: «وأميّة» ، وكذا في الطبعة الهندية، والظاهر أنه سبق قلم من المؤلف وقد أصلحه بعضهم في ن فوق السطر. وفي ث، وطبعة الرسالة:«هلال بن أمية ومرارة» .
وفي قول أبي قتادة له: «الله ورسوله أعلم» دليل على أن هذا ليس بخطاب ولا كلام له، فلو حلف لا يكلمه فقال مثل هذا الكلام جوابًا له لم يحنَث، ولا سيما إذا لم ينوِ به مكالمتَه، وهو الظاهر من حال أبي قتادة.
وفي إشارة الناس إلى النَّبَطي الذي كان يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ دون نطقهم له= تحقيق لمقصود الهجر، وإلا فلو قالوا له صريحًا:«ذاك كعب بن مالك» لم يكن ذلك كلامًا له، فلا يكونون به مخالفين للنهي، ولكن لفرط تحرِّيهم وتمسُّكهم بالأمر لم يذكروه له بصريح اسمه.
وقد يقال: إن في الحديث عنه بحضرته وهو يسمع نوعَ مكالمةٍ له، ولا سيما إذا جعل ذلك ذريعةً إلى المقصود بكلامه، وهي ذريعة قريبة، فالمنع من ذلك من باب منع الحيل وسد الذرائع؛ وهذا أفقه وأحسن.
وفي مكاتبة ملك غسان له بالمصير إليه ابتلاء من الله تعالى وامتحان لإيمانه ومحبته لله ورسوله، وإظهار للصحابة أنه ليس ممن ضعُف إيمانُه بهجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين له، ولا هو ممن تحمَّله الرغبةُ في الجاه والملك مع هجران الرسول والمؤمنين له على مفارقة دينه. وهذا فيه من تبرئة الله له من النفاق، وإظهارِ قوة إيمانه وصدقه لرسوله وللمسلمين= ما هو من تمام نعمة الله عليه ولطفه به وجبره لكسرته
(1)
. وهذا البلاء يُظهر لُبَّ الرجل وسرَّه وما ينطوي عليه، فهو كالكِير الذي يُخرج الخبيث من الطيب.
وقوله: «فتيمَّمتُ بالصحيفة التنور» فيه المبادرة إلى إتلاف ما يخشى منه الفساد والمضرَّة في الدين، وأن الحازم لا يَنتظر به ولا يؤخِّره، وهذا كالعصير
(1)
ص، ز، د، ن:«لكسره» .
إذا تخمَّر وكالكتاب الذي يُخشى منه الضرر والشر، فالحزم المبادرة إلى إتلافه وإعدامه.
وكانت غَسَّان إذ ذاك ــ وهم ملوك عرب الشام ــ حربًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يَنعَلون خيولَهم لمحاربته، وكان هذا لما بعث شُجاع بن وهب الأسدي إلى ملكهم الحارث بن أبي شِمر الغساني يدعوه إلى الإسلام
(1)
، وكتب معه إليه قال شجاع: فانتهيت إليه وهو بغوطة دمشق وهو مشغول بتَهيِئة الأنزال والألطاف لقيصر وهو جاءٍ من حِمصَ إلى إيلياء، قال: فأقمت على بابه يومين أو ثلاثةً فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فقال: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا، وجعل حاجبه
(2)
ــ وكان روميًّا اسمه مُرَيّ
(3)
ــ يسألني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه، فيرقُّ حتى يغلبه البكاء ويقول: إني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه، فأنا أؤمن به وأصدقه فأخاف من الحارث أن يقتلني وكان يكرمني ويحسن ضيافتي.
(1)
وهو أحد الرسل الستة الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وذلك لمّا رجع من الحديبية سنة ستٍّ. أخرج خبرهم ابن سعد في «الطبقات» (1/ 222 وما بعدها) عن شيخه الواقدي بأسانيده وقد دخل حديث بعضهم في بعض. وسياق المؤلف للخبر هو سياق ابن سعد، ولم يصدر فيه عن «عيون الأثر» (2/ 270) فإن لفظه يختلف عن لفظ ابن سعد، وإنما يشبه رواية ابن عائذ عن الواقدي كما يظهر من «تاريخ الإسلام» للذهبي (1/ 418).
(2)
في الأصول عدا س، ث:«صاحبه» خلافًا لـ «طبقات ابن سعد» .
(3)
كذا مضبوطًا في ف. وضبطه الحافظ في «الإصابة» (10/ 432) فقال: «بكسر أوّله مخفَّف» .
وخرج الحارث يومًا فجلس ووضع التاج على رأسه، فأذن لي عليه، فدفعت إليه كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه ثم رمى به وقال: من ينتزع مني ملكي؟! وقال: أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئته! عليَّ بالناس! فلم يزل يَفرِض
(1)
حتى قام، وأمر بالخيول تُنعَل ثم قال: أخبر صاحبك بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره خبري وما عزم عليه، فكتب قيصر إليه أن: لا تَسِر ولا تعبُر إليه، والْهُ عنه ووافِني بإيلياء؛ فلما جاءه جوابُ كتابه دعاني فقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ فقلت: غدًا فأمر لي بمائة مثقال ذهبٍ، ووصلني حاجبُه بنفقةٍ وكسوةٍ وقال: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال:«باد ملكُه» ، وأقرأتُه مِن حاجبه السلام وأخبرتُه بما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صدق» . ومات الحارث بن أبي شمر عام الفتح.
ففي هذه المدة
(2)
أرسل ملكُ غسَّانَ يدعو كعبًا إلى اللَّحاق به، فأبت له سابقةُ الحسنى أن يرغب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه.
فصل
وفي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الثلاثة أن يعتزلوا نساءهم لما مضى لهم أربعون ليلةً كالبشارة بمقدمات الفرج والفتح من وجهين:
(1)
طبعة الرسالة: «فلم تزل تُعرض» ، تحريف مخالف للأصول والطبعة الهندية ومصدر الخبر.
(2)
أي المدة التي كانت فيها غسان حربًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فالحارث بن أبي شمر كان قد هلك قبل غزوة تبوك كما سبق.
أحدهما: كلامه لهم وإرساله إليهم بعد أن كان لا يكلمهم بنفسه ولا برسوله.
الثاني: من خصوصية أمرهم باعتزال النساء، وفيه تنبيه وإرشاد لهم إلى الجد والاجتهاد في العبادة، وشدِّ المئزر واعتزال محل اللهو واللذة، والتعوُّض عنه بالإقبال على العبادة، وفي هذا إيذان بقرب الفَرَج وأنه قد بقي من العتب أمر يسير.
وفقه هذه القضية
(1)
أن زمن العبادات ينبغي فيه تجنُّبُ النساء، كزمن الإحرام وزمن الاعتكاف وزمن الصيام، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون آخر هذه المدة في حق هؤلاء بمنزلة أيام الإحرام والصيام في ترفُّهها
(2)
على العبادة، ولم يأمرهم بذلك من أول المدة رحمةً بهم وشفقةً عليهم، إذ لعلهم يضعُف صبرهم عن نسائهم في جميعها، فكان من اللطف بهم والرحمة أن أُمِروا بذلك في آخر المدة، كما يؤمر به الحاج من حين يُحرِم لا من حين يعزم على الحج.
وقول كعب لامرأته: «الحَقي بأهلك» دليل على أنه لا يقع بهذه اللفظة وأمثالها طلاقٌ ما لم ينوِه.
(1)
ث، ن، المطبوع:«القصة» .
(2)
ص، د:«ترفيهها» . ز، س:«ترفههما» . وفي النسخ المطبوعة: «توفُّرها» . والمثبت من سائر الأصول له نظير في «أعلام الموقعين» (2/ 112) حيث قال: «
…
فإنهم قصدوا ترفيه أنفسهم على العبادة». ومعنى «ترفهها على العبادة» أي: ترفههم وتنعمهم فيها بالعكوف على العبادة والإقبال عليها. والله أعلم.
والصحيح أن لفظ الطلاق والعتاق والحرية كذلك؛ إذا أراد به غير تسييب الزوجة وإخراجِ الرقيق عن ملكه لا يقع به طلاق ولا عتق، هذا هو الصواب الذي ندين الله به ولا نرتاب فيه البتة. فإذا قيل له: إن غلامك فاجر أو جاريتك تزني، فقال:«ليس كذلك، بل هو غلام عفيف حرٌّ وجارية عفيفة حرَّة» ، ولم يرد بذلك حرية العتق، وإنما أراد به
(1)
حرية العفة= فإن جاريته وعبده لا يَعتِقان بهذا أبدًا. وكذا إذا قيل له: كم لغلامك عندك سنةً؟ فقال: هو عتيق عندي، وأراد قدم ملكه له لم يَعتِق بذلك. وكذلك إذا ضرب امرأته الطلق، فسئل عنها فقال: هي طالق، ولم يخطر بقلبه إيقاع الطلاق وإنما أراد أنها في طلق الولادة لم تَطْلُق بهذا. وليست هذه الألفاظ مع هذه القرائن صريحة إلا فيما أريد بها ودلَّ السياق عليها، فدعوى أنها صريحة في الطلاق والعتاق مع هذه القرائن مكابرة ودعوى باطلة قطعًا.
فصل
وفي سجود كعب حين سمع صوت المبشر دليل ظاهر أن تلك كانت عادة الصحابة، وهي سجود الشكر عند النعم المتجددة والنقم المندفعة، وقد سجد أبو بكر الصديق لما جاءه قتل مسيلمة الكذاب
(2)
، وسجد علي بن أبي طالب حين وَجَد ذا الثُّدَيَّة مقتولًا في الخوارج
(3)
.
(1)
«به» ساقط من س، ث، والنسخ المطبوعة.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور كما سبق أن ذكره المؤلف في فصل في سجود الشكر (1/ 441). وعند عبد الرزاق (5963) وغيره أنه سجد «حين جاءه فتح اليمامة» .
(3)
أخرجه أحمد (848) وابن أبي شيبة (8502، 8508، 8510) والحاكم (2/ 154) من طرق يصحُّ الخبر بمجموعها.
وسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بشره جبريل أنه مَن صلَّى عليه مرةً صلى الله عليه بها عشرًا
(1)
، وسجد حين شفع لأمته فشفَّعه الله فيهم ثلاث مرات
(2)
، وأتاه بشير فبشَّره بظفر جند له على عدوهم ورأسه في حِجر عائشة فقام فخرَّ ساجدًا، وقال أبو بكرة: كان رسول الله إذا أتاه أمر يسرُّه خرَّ لله ساجدًا
(3)
. وهي آثار صحيحة لا مطعن فيها.
وفي استباق صاحب الفرس والراقي على سَلْعٍ ليبشِّرا كعبًا دليل على حرص القوم على الخير واستباقِهم إليه، وتنافسهم في مسرَّة بعضهم بعضًا.
وفي نزع كعب ثوبيه وإعطائهما للبشير دليل على أن إعطاء المبشِّرين من مكارم الأخلاق والشيم وعادة الأشراف. وقد أعتق العباس غلامه لما بشره أن عند الحجاج بن عِلاط من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يسرُّه
(4)
.
وفيه دليل على جواز إعطاء البشير جميع ثيابه.
وفيه دليل على استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية، والقيامِ إليه إذا أقبل ومصافحته؛ فهذا سنة مستحبة. وهو جائز لمن تجدَّدت له نعمة دنيوية، وأن الأولى أن يقال له: ليَهْنِك ما أعطاك الله وما منَّ الله به عليك، ونحوُ هذا
(1)
أخرجه أحمد (1662 - 1664) والحاكم (1/ 222، 550) وغيرهما من حديث عبد الرحمن بن عوف. وهو حديث حسن بمجموع طرقه. انظر ما سبق (1/ 439).
(2)
أخرجه أبو داود (2775) من حديث سعد بن أبي وقاص. وإسناده ضعيف، فيه راويان مجهولان. وقد سبق تخريجه مفصَّلًا.
(3)
هذا والذي قبله حديث واحد، فرواه بالسياق الأول أحمد (20455) والحاكم (4/ 291)، وبالثاني أبو داود (2774) والترمذي (1578) وابن ماجه (1394) والحاكم (1/ 276). وإسناده حسن في الشواهد، وقد سبق بيانُه (1/ 438).
(4)
سبق في أحداث غزوة خيبر (ص 404 - 407).
الكلام؛ فإن فيه توليةَ النعمة ربَّها والدعاءَ لمن نالها بالتهنِّي بها.
وفيه دليل على أن خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلَها يومُ توبته إلى الله وقبول الله توبته، لقوله صلى الله عليه وسلم:«أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك» . فإن قيل: فكيف يكون هذا اليوم خيرًا من يوم إسلامه؟ قيل: هو مكمِّل ليوم إسلامه ومِن تمامه، فيومُ إسلامه بداية سعادته ويومُ توبته كمالها وتمامها، فالله المستعان.
وفي سرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وفرحه به واستنارة وجهه دليل على ما جعل الله فيه من كمال الشفقة على الأمة والرحمة بهم والرأفة، حتى لعل فرحه كان أعظم من فرح كعبٍ وصاحبيه.
وقول كعب: «يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي» دليل على استحباب الصدقة عند التوبة بما قدر عليه من المال.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» دليل على أن من نذر الصدقة بكل ماله لم يلزمه إخراجُ جميعه، بل يجوز له أن يُبقي له منه بقيةً. وقد اختلفت الرواية في ذلك، ففي «الصحيحين» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«أمسك عليك بعض مالك» ، ولم يعين له قدرًا بل أطلق البعض ووكله إلى اجتهاده في قدر الكفاية، وهذا هو الصحيح، فإن ما نقص عن كفايته وكفاية أهله لا يجوز له التصدُّق به، فنذره لا يكون طاعةً فلا يجب الوفاء به، وما زاد على قدر كفايته وحاجته فإخراجه والصدقة به أفضل، فيجب إخراجه إذا نذره؛ هذا قياس المذهب ومقتضى قواعد الشريعة، ولهذا تُقدَّم كفايةُ الرجل وكفايةُ أهله على أداء الواجبات المالية، سواءٌ كانت حقًّا لله كالكفارات والحج أو حقًّا للآدميين كأداء الديون، فإنا نترك للمفلس ما لا
بد له
(1)
منه من مسكن وخادم وكسوة وآلةِ حرفةٍ أو ما يتَّجر به لمؤنته إن فُقدت الحرفة، ويكون حق الغرماء فيما بقي.
وقد نص الإمام أحمد
(2)
على أن من نذر الصدقة بماله كله أجزأه ثلثه، واحتج له أصحابُه بما روي في قصة كعب هذه أنه قال: يا رسول الله! إن من توبتي إلى الله ورسوله أن أخرج من مالي كلِّه إلى الله ورسوله صدقةً قال: «لا» ، قلت: فنصفه؟ قال: «لا» ، قلت: فثلثه؟ قال: «نعم» ، قلت: فإني أمسك سهمي
(3)
من خيبر، رواه أبو داود
(4)
. وفي ثبوت هذا ما فيه، فإن الصحيح في قصة كعب هذه ما رواه أصحاب «الصحيح» من حديث الزهري عن ولد كعب بن مالك عنه أنه قال:«أمسك عليك بعض مالك» من غير تعيين لقدره، وهم أعلم بالقصة من غيرهم فإنهم ولده وعنه نقلوها
(5)
.
فإن قيل: فما تقولون فيما رواه الإمام أحمد في «مسنده»
(6)
أن
(1)
«له» ساقطة من س، ن، والنسخ المطبوعة.
(2)
في رواية ابنه صالح (2/ 317) وأبي داود (ص 302) والكوسج (1/ 615).
(3)
غير محرّر في ف، يشبه «سهمين» ، وإليه تحرّف في ص، د.
(4)
برقم (3321) من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جدّه. وقد خالف فيه ابن إسحاق أصحاب الزهري الثقات الأثبات: عُقيلًا ويونس الأيليَّين ــ والحديث من طريقهما في «الصحيحين» ــ ومعمرًا وغيرهم، فكلهم يرويه بلفظ:«أمسك عليك بعض مالك» .
(5)
وحديث أبي داود أيضًا من طريق الزهري عن ولد كعب بن مالك، ولكن آفته من ابن إسحاق فإنه ليس بذاك الحافظ وقد خالف أصحاب الزهري في لفظه وسياقه.
(6)
برقم (15750)، وأخرجه أيضًا ابن حبان (3371) والحاكم (3/ 632). وفي إسناده ضعف واضطراب. انظر تعليق محققي «المسند» (ط. الرسالة) على الحديث.
أبا لُبابة بن عبد المنذر لما تاب الله عليه قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن أهجُر دار قومي وأساكنك، وأن أنخلع من مالي صدقةً لله عز وجل ولرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يجزئ عنك الثلث» ؟
قيل: هذا هو الذي احتج به أحمد
(1)
لا بحديث كعب، فإنه قال في رواية ابنه عبد الله
(2)
: «إذا نذر أن يتصدق بماله كلِّه أو ببعضه، وعليه دين أكثر مما يملكه، فالذي أذهب إليه أنه يجزئه من ذلك الثلث لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا لبابة بالثلث» . وأحمد أعلم بالحديث أن يحتج بحديث كعب هذا الذي فيه ذكر الثلث، إذ المحفوظ في هذا الحديث:«أمسك عليك بعض مالك» ، فكأنَّ أحمد رأى تقييد إطلاق حديث كعب هذا بحديث أبي لبابة.
وقوله فيمن نذر أن يتصدق بماله كله أو ببعضه وعليه دين يستغرقه: «إنه يجزئه من ذلك الثلث» دليلٌ على انعقاد نذره وعليه دين يستغرق ماله، ثم إذا قضى الدين أخرج مقدارَ ثلثِ ماله يومَ النذر. وهكذا قال في رواية ابنه عبد الله
(3)
: «إذا ذهب
(4)
ماله وقضى دينه واستفاد غيره، فإنما يجب عليه إخراج ثلث ماله يومَ حنثه» يريد بيوم حنثه يوم نذره، فينظر قدر الثلث ذلك اليوم فيخرجه بعد قضاء دينه.
(1)
كما في مسائل صالح وأبي داود والكوسج التي سبق العزو إليها.
(2)
ليست في المطبوع من «مسائله» ، وقد نقلها عنه أبو بكر غلام الخلال في «زاد المسافر» (4/ 494).
(3)
هو تتمة ما سبق نقله منها، ولفظه في «زاد المسافر»: «فإن نَفِد هذا المال واستفاد غيره وقضى دينه فإنما يجب
…
» إلخ بمثله.
(4)
في المطبوع: «وهب» ، تحريف.
وقوله: «أو ببعضه» يريد به إذا نذر الصدقة بمعيَّنٍ من ماله أو بمقدار كألف ونحوها فيجزئه ثلثه كنذر الصدقة بجميع ماله، والصحيح من مذهبه لزوم الصدقة بجميع المعين. وفيه رواية أخرى: أن المعين إن كان ثلث ماله فما دون لزمه الصدقةُ بجميعهُ، وإن زاد على الثلث لزمه منه بقدر الثلث، وهي أصح عند أبي البركات
(1)
.
وبعدُ، فإن الحديث ليس فيه دليل على أن كعبًا أو أبا لبابة نذرا نذرًا مُنْجَزًا، وإنما قالا: إن من توبتنا أن ننخلع من أموالنا، وهذا ليس بصريح في النذر، وإنما فيه العزم على الصدقة بأموالهما شكرًا لله على قبول توبتهما، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض المال يجزئ من ذلك، ولا يحتاجان إلى إخراجه كله، وهذا كما قال لسعد وقد استأذنه أن يوصي بماله كله فأذن له في قدر الثلث
(2)
.
فإن قيل: هذا يدفعه أمران، أحدهما: قوله: «يجزئك» والإجزاء إنما يستعمل في الواجب، والثاني: أن منعه من الصدقة بما زاد على الثلث دليل على أنه ليس بقربة إذ الشارع لا يمنع من القُرَب ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به.
قيل: أما قوله: «يجزئك» فهو
(3)
بمعنى يكفيك، فهو من الرُّباعي وليس من (جزى عنه) إذا قضى عنه، يقال:(أجزأني) إذا كفاني و (جزى عني) إذا قضى عني
(4)
، وهذا هو الذي يستعمل في الواجب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة في الأضحية:«تَجزي عنك ولن تَجزي عن أحد بعدك»
(5)
، والكفاية تستعمل في الواجب والمستحب.
وأما منعه من الصدقة بما زاد على الثلث، فهو إشارة منه عليه بالأرفق به وما يحصل له به منفعةُ دينه ودنياه، فإنه لو مكَّنه من إخراج ماله كله لم يصبر على الفقر والعدم، كما فعل بالذي جاءه بالصرة ليتصدَّق بها فضربه بها ولم يقبلها منه خوفًا عليه من الفقر وعدم الصبر
(6)
.
وقد يقال ــ وهو أرجح إن شاء الله ــ: إن النبي صلى الله عليه وسلم عامل كلَّ واحدٍ ممن أراد الصدقة بماله بما يَعلم من حاله، فمكن أبا بكر الصديق من إخراج ماله كلِّه وقال:«ما أبقيت لأهلك؟» فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، فلم ينكر عليه، وأقر عمر على الصدقة بشطر ماله
(7)
، ومنع صاحب الصرَّة من التصدق بها، وقال لكعب:«أمسك عليك بعض مالك» ، وهذا ليس فيه تعيين المُخرَج بأنه الثلث، ويَبعُد جدًّا بأن يكون الممسَك ضعفَي المخرَج في هذا اللفظ، وقال لأبي لبابة:«يجزئك الثلث» ؛ ولا تناقض بين هذه الأخبار.
وعلى هذا، فمن نذر الصدقة بماله كله أمسك منه ما يحتاج إليه هو وأهله، ولا يحتاجون معه إلى سؤال الناس مدَّةَ حياتهم من رأس مال أو عقار أو أرض يقوم مُغَلُّها بكفايتهم، وتصدَّق بالباقي. والله أعلم.
وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: يتصدَّق منه بقدر الزكاة ويمسك الباقي. وقال جابر بن زيد: إن كان ألفين فأكثر أخرج عُشرَه، وإن كان ألفًا فما دون فسُبْعَه، وإن كان خمسمائة فما دون فخمسه.
وقال أبو حنيفة: يتصدق بكُلِّ ماله الذي تجب فيه الزكاة، وما لا تجب فيه الزكاة ففيه روايتان، إحداهما: يخرجه، والثانية: لا يلزمه منه شيء.
وقال الشافعي: يلزمه الصدقةُ بماله كله. وقال مالك والزهري وأحمد: يتصدق بثلثه. وقالت طائفة: يلزمه كفارة يمينٍ فقط
(8)
.
فصل
ومنها: عظم مقدار الصدق، وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به، فما أنجى الله من أنجاه إلا بالصدق، ولا أهلك من أهلكه إلا بالكذب، وقد أمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين: سُعداء وأشقياء، فجعل السعداء هم أهل الصدق والتصديق، والأشقياءَ هم أهل الكذب والتكذيب، وهو
(1)
هو ابن تيمية الجدُّ في «المحرر» (2/ 199). وانظر: «الإنصاف» (28/ 193).
(2)
أخرجه البخاري (2742) ومسلم (1628).
(3)
«فهو» ساقط من ص، د.
(4)
انظر: «غريب الحديث» لابن قتيبة (2/ 4 - 5) و «تهذيب اللغة» (11/ 142 - 144) و «إصلاح غلط المحدثين» للخطابي (ص 52).
(5)
أخرجه البخاري (955) ومسلم (1961) من حديث البراء.
(6)
أخرجه أبو داود (1673) والدارمي (1700) وابن خزيمة (2441) وابن حبان (3372) والحاكم (1/ 413) من حديث جابر بإسناد حسن، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:«يعمد أحدكم إلى ماله لا يملك غيرَه فيتصدَّق به، ثم يقعد يتكفّف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى، خذ الذي لك لا حاجة لنا به» . هذا لفظ الدارمي.
(7)
أخرجه أبو داود (1678) والترمذي (3675) والدارمي (1701) والحاكم (1/ 414) والضياء في «المختارة» (1/ 173) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(8)
الأقوال السابقة كلُّها من «المغني» (13/ 629 - 630). وانظر: «الموطأ» (1386) و «الأم» (3/ 658) و «المبسوط» (4/ 134 - 135) و «الإنصاف» (28/ 189).
تقسيم حاصر مُطَّرد منعكس؛ فالسعادة دائرة مع الصدق والتصديق، والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب.
وأخبر سبحانه وتعالى أنه لا ينفع العباد يوم القيامة إلا صِدقهم
(1)
؛ وجعل عَلَم المنافقين الذي تميَّزوا به هو الكذب في أقوالهم وأفعالهم، فجميع ما نعاه عليهم أصلُه الكذب في القول والفعل؛ فالصدق بريد الإيمان ودليله ومركبه وسائقه وقائده وحِليته ولباسه، بل هو لُبُّه وروحه، والكذب بريد الكفر والنفاق ودليل ذلك ومركبه وسائقه وقائده وحِليته ولباسه ولُبُّه، فمضادة الكذب للإيمان كمضادة الشرك للتوحيد، فلا يجتمع الكذب والإيمان إلا ويطرد أحدُهما صاحبَه ويستقرُّ موضعَه.
والله سبحانه نجَّى الثلاثة بصدقهم وأهلك غيرهم من المتخلِّفين
(2)
بكذبهم، فما أنعم الله على عبدٍ بعد الإسلام بنعمة أفضلَ من الصدق الذي هو غذاء الإسلام وحياته، ولا ابتلاه ببليَّة أعظم من الكذب الذي هو مرض الإسلام وفساده، والله المستعان.
وقوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ تَزِيغُ
(3)
قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ
(1)
يشير إلى قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119]
(2)
ن، المطبوع:«المخلِّفين» .
(3)
كذا مضبوطًا بالتاء في ز، ث، س على قراءة أبي عمرو التي كانت سائدة في الشام آنذاك، وهي قراءة سائر العشرة عدا حفصًا عن عاصم وحمزة، فقرآ بالياء. انظر:«النشر» (2/ 281).
بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، هذا من أعظم ما يعرِّف العبد قدر التوبة وفضلَها عند الله وأنها غاية كمال المؤمن، فإنه سبحانه أعطاهم هذا الكمال بعد آخر الغزوات بعد أن قضوا نحبهم وبذلوا نفوسهم وأموالهم وديارهم لله، وكان غاية أمرهم أن تاب عليهم، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم توبة كعبٍ خيرَ يوم مرَّ عليه منذ ولدته أمُّه إلى ذلك اليوم. ولا يعرف هذا حقَّ معرفته إلا من عرف الله، وعرف حقوقه عليه، وعرف ما ينبغي له من عبوديته، وعرف نفسه وصفاتِها وأفعالَها، وأن الذي قام به من العبودية بالنسبة إلى حق ربه عليه كقطرة في بحرٍ، هذا إذا سلم من الآفات الظاهرة والباطنة، فسبحان من لا يسع عبادَه غيرُ عفوه ومغفرته وتغمُّده لهم برحمته، وليس إلا ذلك أو الهلاك، فإن وضع عليهم عدله فعذَّب أهل سماواته وأرضه عذَّبهم وهو غير ظالم لهم، وإن رحمهم فرحمته خير لهم من أعمالهم، ولا ينجي أحدًا منهم عملُه.
فصل
وتأمل تكريره سبحانه توبته عليهم مرتين في أول الآية وآخرها، فإنه تاب عليهم أولًا بتوفيقهم للتوبة، فلما تابوا تاب عليهم ثانيًا بقبولها منهم، وهو الذي وفَّقهم لفعلها وتفضَّل عليهم بقبولها، فالخير كلُّه منه وبه وله وفي يديه، يعطيه من شاء
(1)
إحسانًا وفضلًا، ويحرمه من شاء حكمةً وعدلًا.
فصل
وقوله: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] قد فسرها كعب
(1)
س، والنسخ المطبوعة:«يشاء» ، وكذا في الموضع الآتي.
بالصواب، وهو أنهم خُلِّفوا من بين من حلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذر من المخلَّفين
(1)
، فخُلِّف هؤلاء الثلاثة عنهم وأُرجي أمرُهم دونهم
(2)
، وليس ذلك تخليفَهم
(3)
عن الغزو، لأنه لو أراد ذلك لقال: تخلَّفُوا، كما قال تعالى:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120]، وذلك لأنهم تخلَّفوا بأنفسهم، بخلاف تخليفهم عن أمر المخلَّفين سواهم، فإن الله سبحانه هو الذي خلفهم عنهم ولم يتخلفوا فيه بأنفسهم. والله أعلم
(4)
.
فصل
في حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنة تسع بعد مقدمه من تبوك
قال ابن إسحاق
(5)
: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مُنصرَفَه من تبوكَ بقية رمضان وشوالَ
(6)
وذا القَعدة، ثم بعث أبا بكر أميرًا على الحج سنة تسع ليقيم للمؤمنين حجَّهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم فخرج أبو بكر والمؤمنون.
(1)
س، والنسخ المطبوعة:«المتخلفين» .
(2)
كذا ضبطت العبارة في ن، ويصحّ:«فخلَّف [أي: النبي صلى الله عليه وسلم] هؤلاء الثلاثة عنهم وأرجى أمرَهم دونهم» .
(3)
س، والنسخ المطبوعة:«تخلُّفهم» .
(4)
هنا تنتهي نسخة المصلَّى (ص) في هذا المجلَّد.
(5)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 543) و «دلائل النبوة» (5/ 293) وهو مصدر النقل.
(6)
كذا في الأصول، والجادّة «شوالًا» لأنه منصرف.
قال ابن سعد
(1)
: فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنةً قلَّدها وأشعرها بيده
(2)
، عليها ناجيةُ بن جُندَب الأسلمي
(3)
، وساق أبو بكر خمس بدنات.
قال ابن إسحاق: فنزلت (بَرَاءَةٌ) في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه، فخرج علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العَضباء. قال ابن سعد: فلما كان بالعَرْج ــ وابنُ عائذٍ
(4)
يقول: بضَجْنان
(5)
ــ لحقه علي بن أبي طالب على العضباء، فلما رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور؟ قال: لا بل مأمور، ثم مضيا.
وقال ابن سعد: فقال له أبو بكر: أستعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أقرأ (بَرَاءَةٌ) على الناس وأنبذ إلى كل ذي عهدٍ عهدَه.
فأقام أبو بكر للناس حجَّهم، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذَّن في الناس عند الجمرة بالذي أمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ونبذ إلى كل
(1)
في «الطبقات» (2/ 153)، والمؤلف صادر عن «عيون الأثر» (2/ 231).
(2)
ثبت تقليد النبي صلى الله عليه وسلم لهديه بيده وبعثُه مع أبي بكر عند البخاري (1700) ومسلم (1321/ 369) من حديث عائشة رضي الله عنها، ولم تذكر عدد البُدن.
(3)
كما في حديثه عند أحمد (18943) وأبي داود (1762) والترمذي وصححه (910) وابن خزيمة (2577) وابن حبان (4023).
(4)
كما في «عيون الأثر» (2/ 231).
(5)
العرج: وادٍ جنوب المدينة على (115) كيلًا تقريبًا، وهو غير وادي العَرْج الواقع جنوب الطائف. وضَجنان ــ بفتح الجيم وسكونها ــ: حرَّة شمال مكة على مسافة (54) كيلًا. انظر: «معجم معالم السيرة» (ص 203، 183).
ذي عهد عهده، وقال: أيها الناس! لا يدخل الجنة كافر، ولا يحجُّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته
(1)
.
وقال الحميدي
(2)
: حدثنا سفيان قال: حدثني أبو إسحاق الهَمْداني عن زيد بن يُثَيع قال: سألنا عليًّا بأي شيء بُعثت في الحجة؟ قال: بعثت بأربع: «لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عُريان، ولا يجتمع مؤمن
(3)
وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهدٌ فعهده إلى مدَّته، ومن لم يكن له عهد فأَجَلُه إلى أربعة أشهر».
وفي «الصحيحين»
(4)
عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذِّنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنًى أن «لا يحجَّ بعد هذا العام مشرك
(1)
هذا لفظ ابن إسحاق كما في «الدلائل» (5/ 295)، عدا ما تخلَّله من النقل عن ابن سعد بواسطة «عيون الأثر» . وللخبر شواهد موصولة، منها حديث أبي هريرة في «الصحيحين» وسيأتي قريبًا، وحديثه من وجهٍ آخر عند أحمد (7977) والدارمي (1470) والنسائي (2958) وابن حبان (3820) والحاكم (2/ 331)، وحديث ابن عباس عند الترمذي (3091) والحاكم (3/ 52)، وحديث جابر عند الدارمي (1956) والنسائي (2993) وابن حبان (6645) وفي بعض ألفاظه نكارة.
(2)
في «مسنده» (48)، ومن طريقه أخرجه الحاكم (3/ 52) ثم عنه البيهقي في «الدلائل» (5/ 297) وهو مصدر المؤلف. وأخرجه أيضًا أحمد (594) عن سفيان بن عيينة به، وأخرجه الدارمي (1960) والترمذي (3092) وأبو يعلى (452) والضياء في «المختارة» (2/ 84) من طرق عن سفيان به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3)
في النسخ المطبوعة: «مسلم» خلافًا للأصول ومصدر المؤلف.
(4)
البخاري (369، 4655، 4656) ــ واللفظ له ــ ومسلم (1347).
ولا يطوفَ بالبيت عريانٌ»، ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن بـ (براءةَ)
(1)
، قال: فأذَّن معنا عليٌّ في أهل منًى يوم النحر بـ (براءةَ)، وأن «لا يحجَّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عُريان» .
وفي هذه القصة دليل على أن يومَ الحج الأكبر يومُ النحر.
واختُلف في حجَّة الصديق هذه: هل هي التي أسقطت الفرض أو المُسقطة هي حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ على قولين، أصحهما الثاني، والقولان مبنيان على أصلين:
أحدهما: هل كان الحج فُرِض قبلَ عام حجة الوداع أو لا؟
والثاني: هل كانت حجة الصديق في ذي الحجة أو وقعت في ذي القعدة من أجل النسيء الذي كان الجاهلية يؤخرون له الأشهر ويقدمونها؟ على قولين، والثاني قول مجاهد
(2)
وغيره.
وعلى هذا فلم يؤخر النبي صلى الله عليه وسلم الحج بعد فرضه عامًا واحدًا، بل بادر إلى الامتثال في العام الذي فرض فيه، وهذا هو اللائق بهديه وحاله صلى الله عليه وسلم، وليس بيد من ادعى تقدُّم فرض الحج سنة ستٍّ أو سبعٍ أو ثمانٍ أو تسعٍ دليلٌ واحد. وغاية ما احتجَّ به من قال: فرض سنة ست قولُه تعالى: {(195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
(1)
هكذا الرواية في الحديث (4655، 4656) عند البخاري جرًّا بالفتحة على أنه عَلَم للسورة. وفي الحديث (369) مرفوع منون على الحكاية. انظر: الطبعة السلطانية (1/ 83، 6/ 64، 65).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 275) والطبري (11/ 455). وقول مجاهد هذا فيه نظر، انظر تعقُّب ابن كثير عليه في «تفسيره» (التوبة: 36).
لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وهي نزلت بالحديبية سنة ستٍّ. وهذا ليس فيه ابتداء فرض الحج، وإنما فيه الأمر بإتمامه إذا شرع فيه، فأين هذا من وجوب ابتدائه؟! وآية فرض الحج هي قولُه تعالى:{عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ} [آل عمران: 97]، وهي نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع.
* * *