المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي الإشارة إلى ما في هذه الغزوة من الفقه واللطائف - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصلفي هديه في الجهاد والغزوات

- ‌فصلفي مبدأ الهجرة التي فرق الله فيها بين أوليائه وأعدائه

- ‌فصلفي بناء المسجد

- ‌فصلفي هديه في الأسارى

- ‌فصلفي هديه فيمن جسَّ عليه

- ‌ أنَّ من أسلم على شيءٍ في يده فهو له

- ‌فصلفي هديه في الأرض المغنومة

- ‌فصلفي ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقينمن حين بُعث(3)إلى حين لقي الله عز وجل

- ‌فصلفي سياق مغازيه وبعوثه على وجه الاختصار

- ‌فصلفي قتل كعب بن الأشرف

- ‌فصلفي غزوة أحد

- ‌فصلفيما اشتملت عليه هذه الغزاة من الأحكام والفقه

- ‌فصلفي ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أُحُد

- ‌فصلفي غزوة دُومة الجندل

- ‌ سنة خمس

- ‌فصلفي غزوة المُرَيسِيع

- ‌فصلفي غزوة الخندق

- ‌فصلفي سريّة نجد

- ‌فصلفي غزوة الغابة

- ‌ سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القَصَّة

- ‌ سرية زيد بن حارثة إلى الطَّرَف

- ‌ سريةُ عبد الرحمن بن عوف إلى دُومة الجندل

- ‌فصلفي قصة الحديبية

- ‌فصلفي بعض ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض الحكم التي تضمنتها هذه الهدنة

- ‌فصلفي غزوة خيبر

- ‌فصلفيما كان في غزوة خيبر من الأحكام الفقهية

- ‌ جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا استُغني عنهم

- ‌ جواز عتق الرجل أمتَه وجعلِ عتقها صداقًا لها

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌ سرية أبي بكر الصديق إلى نجد قِبَلَ بني فزارة

- ‌ سرية بَشير بن سعد الأنصاري إلى بني مُرَّة بفَدَكٍ

- ‌فصلفي سرية عبد الله بن حُذافة السَّهمي

- ‌فصلفي عمرة القضية

- ‌فصلفي غزوة مؤتة

- ‌ سنة ثمان

- ‌فصلفي غزوة ذات السُّلاسل

- ‌فصلفي سرية الخَبَط

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌ جواز أكل ميتة البحر

- ‌فصلفي الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحَرَمه الأمينواستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدًى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين

- ‌ذكر سرية خالد بن الوليد إلى بني جَذِيمة

- ‌فصلفي الإشارة إلى ما في هذه الغزوة من الفقه واللطائف

- ‌فصلفيما في خطبته العظيمة ثاني يوم الفتح من أنواع العلم

- ‌«إن مكة حرَّمها الله ولم يحرمها الناس»

- ‌«فلا يحل لأحد أن يسفك بها دمًا»

- ‌فصلفي غزاة حنين

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهيةوالنكت الحُكمية

- ‌ جواز انتظار الإمام بقَسْم الغنائمِ إسلامَ الكفار

- ‌فصلفي غزوة الطائف في شوال سنة ثمان

- ‌ سنةُ تسعٍ

- ‌فصلفي السرايا والبعوث في سنة تسع

- ‌ذكر سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم

- ‌فصلذكر سرية قُطبة بن عامر بن حَدِيدة إلى خَثْعَمَ

- ‌فصل(2)ذكر سرية الضحاك بن سفيان الكِلابي إلى بني كلاب

- ‌فصلذِكر سرية علقمة بن مُجَزِّزٍ المُدْلِجي إلى الحبشة

- ‌ذكر سرية علي بن أبي طالب إلى صنم طَيِّئٍ ليهدمه

- ‌ذكر قصة كعب بن زُهَير مع النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي غزوة تبوك

- ‌فصلفي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أُكَيدِرِ دُومةَ

- ‌فصلفي خطبته صلى الله عليه وسلم بتبوك وصلاته

- ‌فصلفي جمعه بين الصلاتين في غزوة تبوك

- ‌فصلفي رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك وما همَّ المنافقون به من الكيد به

- ‌فصلفي أمر مسجد الضِّرار الذي نهى الله رسوله أن يقوم فيه

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من الفقه والفوائد

- ‌ ما اشتملت عليه قصة الثلاثة الذين خلفوا من الحكم والفوائد الجمة

- ‌فصلفي قدوم وفود العرب وغيرهم على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر وفد بني عامر ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم على عامر بن الطفيل وكفاية الله له(3)شرَّه وشرَّ أَرْبَدَ بن قيسٍ بعد أن عصم منهما نبيه

- ‌فصلفي قدوم وفد عبد القيس

- ‌فصلفي قدوم وفد بني حنيفة

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد طيِّئٍ على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد كِندة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم الأشعريين وأهل اليمن

- ‌فصلفي قدوم وفد الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني الحارث بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد هَمْدان عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد مُزَينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد دَوسٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بخيبر

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد نجران عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم رسول فروة بن عمرو الجُذامي ملك عربِ الروم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني سعد بن بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم طارق بن عبد الله وقومه على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد تُجيب

- ‌فصلفي قدومِ وفد بني سعدِ هُذَيمٍ من قُضاعة

- ‌فصلفي قدوم وفد بني فَزارة

- ‌فصلفي قدوم وفد بني أسد

- ‌فصلفي قدوم وفد بَهْراء

- ‌فصلفي قدوم وفد عُذْرة

- ‌فصلفي قدوم وفد بَلِيٍّ

- ‌فصلفي قدوم وفد ذي مُرَّة

- ‌فصلفي قدوم وفد خَولان

- ‌فصلفي قدوم وفد مُحارب

- ‌فصلفي قدوم وفد صُداءٍ في سنة ثمان

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد غسَّان

- ‌فصلفي قدوم وفد سَلامان

- ‌فصلفي قدوم وفد بني عَبْس

- ‌فصلفي قدوم وفد غامد

- ‌فصلفي قدوم وفد الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني المُنتفِق(1)على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد النَّخَع على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر هديه صلى الله عليه وسلم في مكاتباته إلى الملوك وغيرهم

- ‌فصلفي كتابه إلى الحارث بن أبي شِمر الغَسَّاني

الفصل: ‌فصلفي الإشارة إلى ما في هذه الغزوة من الفقه واللطائف

ألا أبلغ أبا سفيان عني

مُغَلغَلةً فقد بَرِح الخفاءُ

(1)

بأنَّ سيوفنا تركتك عبدًا

وعبدُ الدار سادَتُها الإماءُ

هجوت محمدًا فأجبت عنه

وعند الله في ذاك الجزاءُ

أتهجوه ولستَ له بكُفوٍ

فشرُّكما لخيركما الفداءُ

(2)

هجوت مباركًا بَرًّا حنيفًا

أمينَ الله شِيمتُه الوفاءُ

(3)

أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواءُ؟

فإنَّ أبي ووالدَه وعِرضي

لعرض محمدٍ منكم وِقاءُ

لساني صارم لا عيب فيه

وبحري لا تكدِّره الدِّلاءُ

(4)

‌فصل

في الإشارة إلى ما في هذه الغزوة من الفقه واللطائف

كان صلح الحديبية مقدمةً وتوطئةً بين يدي هذا الفتح العظيم، أمِن الناسُ به وكلَّم بعضُهم بعضًا وناظره في الإسلام، وتمكَّن من اختفى من

(1)

أبو سفيان هو ابن الحارث بن عبد المطلب، فالأبيات قيلت في هجائه قبل أن يسلم، وقد هجاه حسّان أيضًا بإذن النبي صلى الله عليه وسلم بداليته التي يقول فيها:

وإن سنام المجد من آل هاشم

بنو بنتِ مخزومٍ ووالدك العبدُ

كما في «صحيح مسلم» (2489) من حديث عائشة. وانظر: «ديوانه» (1/ 222). «والمغلغلة» : الرسالة. و «برح الخفاء» : زال.

(2)

وهذا البيت أيضًا لم يرد في حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم، لكنّها ذكرته في حديث آخر لها عند الأزرقي في «أخبار مكة» (2/ 10) وأبي يعلى (4640) والخطيب في «تاريخه» (5/ 223)، وإسناده لا بأس به.

(3)

رواية مسلم: «هجوتَ محمدًا برًّا حنيفًا» .

(4)

هذا البيت أيضًا لم يرد في حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم، وذكره موسى بن عقبة في مغازيه كما في «الدلائل» (5/ 49).

ص: 513

المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام، ولهذا سمَّاه الله فتحًا في قوله:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]، نزلت في شأن الحديبية فقال عمر: يا رسول الله أَوَ فتح هو؟ قال: «نعم»

(1)

. وأعاد سبحانه ذكرَ كونه فتحًا فقال: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} إلى قوله: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27].

وهذا شأنه سبحانه أن يقدِّم بين يدي الأمور العظيمة مقدماتٍ تكون كالمدخل إليها المُنبِّهة عليها، كما قدم بين يدي قصة المسيح وخلقه من غير أبٍ قصةَ زكريا وخلقِ الولد له مع كونه كبيرًا لا يولد لمثله، وكما قدم بين يدي نسخ القبلة قصةَ البيت وبنائِه وتعظيمَه والتنويهَ به، وذكرَ بانيه وتعظيمَه ومدحَه، ووطَّأ قبل ذلك كله بذكر النسخ وحكمته المقتضية له وقدرته الشاملة له. وهكذا ما قدم بين يدي مبعث رسوله من قصة الفيل وبشارات الكهان به وغير ذلك، وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقدمةً بين يدي الوحي في اليقظة، وكذلك الهجرة كانت مقدمةً بين يدي الأمر بالجهاد. ومن تأمل أسرار الشرع والقدَر رأى من ذلك ما تبهر حكمتُه الألباب.

فصل

وفيها: أن أهل العهد إذا حاربوا مَن هُم في ذمة الإمام وجواره وعهده صاروا حربًا له بذلك، ولم يبقَ بينهم وبينه عهد، فله أن يبيِّتهم في ديارهم، ولا يحتاج أن يُعْلمهم على سواء، وإنما يكون الإعلام إذا خاف منهم الخيانة، فإذا تحقَّقها صاروا نابذين لعهده.

(1)

متفق عليه، وقد سبق.

ص: 514

فصل

وفيها: انتقاض عهد جميعهم بذلك رِدئهم ومباشرهم

(1)

إذا رضُوا بذلك وأقرُّوا عليه ولم ينكروه، فإن الذين أعانوا بني بكر من قريش بعضُهم، لم يقاتلوا كلهم معهم، ومع هذا فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّهم. وهذا كما أنهم دخلوا في عقد الصلح تبعًا، ولم ينفرد كل واحد منهم بصلح إذ قد رضوا به وأقروا عليه، فكذلك حكم نقضهم للعهد. هذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا شك فيه كما ترى.

وطرد هذا جريان هذا الحكم على ناقضي العهد من أهل الذمة إذا رضي جماعتهم به، وإن لم يباشر كلُّ واحدٍ منهم ما ينقض عهدَه، كما أجلى عمر يهود خيبر لما عدا بعضهم على ابنه ورمَوه من ظهر دارٍ ففدَعُوا يده

(2)

، بل قد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع مقاتلة بني قريظة ولم يسأل عن كل رجلٍ رجلٍ

(3)

منهم هل نقض العهد أم لا؟ وكذلك أجلى بني النضير كلَّهم، وإنما كان الذي همَّ بالقتل به رجلان، وكذلك فعل ببني قينقاع حتى استوهبهم منه عبد الله بن أُبيّ؛ فهذه سيرته وهديه الذي لا شك فيه.

وقد أجمع المسلمون على أن حكم الرِّدء حكمُ المباشر في الجهاد، ولا يشترط في قسمة الغنيمة ولا في الثواب مباشرةُ كل واحدٍ واحدٍ للقتال.

وهكذا حكم قُطَّاع الطريق، حكمُ ردئهم حكم مباشرهم، لأن المباشر إنما

(1)

س، المطبوع:«مباشريهم» .

(2)

أخرجه البخاري (2730). والفَدَع: اعوجاج في الأرساغ وغيرها من المفاصل وزوالها عن أماكنها من غير كسر.

(3)

«رجل» الثانية ساقطة من ب، ث، س، المطبوع.

ص: 515

باشر الإفساد بقوة الباقين، ولولاهم ما وصل إلى ما وصل إليه، وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه، وهو مذهب أحمد ومالك وأبي حنيفة

(1)

وغيرهم.

فصل

وفيها: جواز صلح أهل الحرب على وضع القتال عشر سنين، وهل يجوز فوق ذلك؟ الصواب أنه يجوز للحاجة والمصلحة الراجحة، كما إذا كان بالمسلمين ضعف وعدوُّهم أقوى منهم وفي العقد لما زاد على العشر مصلحة للإسلام.

فصل

وفيها: أن الإمام وغيرَه إذا سئل ما لا يجوز بذلُه أو لا يجب فسكت عن بذله لم يكن سكوته بذلًا له، فإن أبا سفيان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم تجديد العهد، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجبه بشيء، ولم يكن بهذا السكوت معاهِدًا له.

فصل

وفيها: أن رسول الكفار لا يقتل، فإن أبا سفيان كان ممن جرى عليه حكم انتقاض العهد، ولم يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان رسول قومه إليه.

فصل

وفيها: جواز تبييت الكفار ومُغافَصَتِهم

(2)

في ديارهم إذا كانت قد بلغتهم الدعوة، وقد كانت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبيِّتون الكفار ويُغيرون عليهم بإذنه بعد أن بلغتهم دعوته.

(1)

انظر: «الإنصاف» للمرداوي (27/ 19) و «شرح الزرقاني على مختصر خليل» مع حاشية البناني (8/ 194) و «المبسوط» (9/ 198).

(2)

أي: أَخْذهم على غِرَّة ومفاجأتهم.

ص: 516

فصل

وفيها: جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلمًا، لأن عمر رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل حاطب بن أبي بلتعة لما بعث يخبر أهل مكة بالخبر، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل قتله إنه مسلم، بل قال:«وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم» ، فأجاب بأن فيه مانعًا مِن قتله وهو شهوده بدرًا، وفي الجواب بهذا كالتنبيه على جواز قتل جاسوسٍ ليس له مثل هذا المانع.

وهذا مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يقتل، وهو ظاهر مذهب أحمد؛ والفريقان يحتجون بقصة حاطب

(1)

.

والصحيح: أن قتله راجع إلى رأي الإمام، فإن رأى في قتله مصلحةً للمسلمين قتله وإن كان إبقاؤه

(2)

أصلح استبقاه. والله أعلم.

فصل

وفيها: جواز تجريد المرأة كلِّها وتكشيفها للحاجة والمصلحة العامة، فإن عليًّا والمقداد قالا للظعينة: لتخرِجِنَّ الكتاب أو لنكشفنَّك، وإذا جاز تجريدها لحاجتها إلى ذلك حيث تدعو إليها، فتجريدها لمصلحة الإسلام والمسلمين أولى

(3)

.

(1)

سبقت المسألة (ص 136)، وثَمَّ العزو إلى كتب المذاهب.

(2)

د، المطبوع:«استبقاؤه» .

(3)

وقد بوّب بذلك البخاري على هذا الحديث (3081) فقال: «باب إذا اضطُرَّ الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة والمؤمنات إذا عصين الله، وتجريدهن» .

ص: 517

فصل

وفيها: أن الرجل إذا نسب المسلم إلى النفاق أو الكفر متأولًا وغضبًا لله ورسوله ودينه لا لهواه وحظِّه فإنه لا يكفر بذلك، بل لا يأثم به، بل يثاب على نيته وقصده

(1)

. وهذا بخلاف أهل الأهواء والبدع، فإنهم يُكفِّرون ويُبدِّعون لمخالفة أهوائهم ونحلهم، وهم أولى بذلك ممن كفروه وبدعوه.

فصل

وفيها: أن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تُكفَّر بالحسنة الكبيرة الماحية، كما وقع الجَسُّ من حاطبٍ مكفَّرًا بشهوده بدرًا؛ فإن ما اشتملت عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة، وتضمَّنته من محبة الله لها ورضاه بها وفرحه بها ومباهاته لملائكته بفاعلها= أعظمُ مما اشتملت عليه سيئة الجس من المفسدة وتضمنته من بغض الله لها، فغلب الأقوى على الأضعف فأزاله وأبطل مقتضاه.

وهذه حكمة الله سبحانه في الصحة والمرض الناشئين من الحسنات والسيئات الموجِبتَين

(2)

لصحة القلب ومرضه، وهي نظير حكمته تعالى في الصحة والمرض اللاحِقَين للبدن، فإنَّ الأقوى منهما يقهر المغلوب ويَصير الحكمُ له حتى يذهب أثر الأضعف؛ فهذه حكمته في خلقه وقضائه وتلك حكمته في شرعه وأمره.

وهذا كما أنه ثابت في محو السيئات بالحسنات لقوله تعالى: {إِنَّ

(1)

وقد بوّب البخاري بذلك في كتاب الأدب فقال: «باب من لم يَرَ إكفار مَن قال ذلك متأولًا أو جاهلًا» ، ثم أورد قصة حاطب معلَّقًا باختصار.

(2)

كذا في ف. وفي سائر الأصول: «الموجبين» .

ص: 518

الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وقولِه تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، وقولِه صلى الله عليه وسلم:«وأتبع السيئة الحسنة تمحُها»

(1)

= فهو ثابت في عكسه، لقوله

(2)

تعالى: {(263) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ} [البقرة: 264]، وقوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]، وقولِ عائشة عن زيد بن أرقم لما باع بالعينة:«إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب»

(3)

، وكقوله

(4)

صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في «صحيحه»

(5)

: «من ترك

(1)

أخرجه أحمد (21354) والترمذي (1987) والحاكم (1/ 54) من حديث ميمون بن أبي شبيب عن أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: حديث حسن.

وقد اختلف في إسناد الحديث على ميمون بن أبي شبيب، فروي عنه عن معاذ كما عند أحمد (21988، 22059) والترمذي (عقب السابق) وغيرهما، وكلاهما مرسل لأن ميمونًا لم يسمع من أبي ذر ولا معاذ. على أن للحديث عن كليهما ــ ولاسيما عن معاذ ــ شواهد ومتابعات تقويه وتعضده، وقد صححه الألباني بمجموعها. انظر:«الزهد» لهنّاد (1071، 1072، 1075) و «جامع العلوم والحكم» (الحديث 18) و «الصحيحة» (1373، 1475، 3320).

(2)

ز: «كقوله» .

(3)

أخرجه عبد الرازق (14812) وابن المنذر في «الأوسط» (10/ 365) والدارقطني (3002، 3003) والبيهقي في «السنن» (5/ 330)، وقد حسّنه المؤلف وقوّاه في «تهذيب السنن» (2/ 457، 469).

(4)

ب، ن:«ولقوله» .

(5)

برقم (594) من حديث بريدة بن الحُصيب الأسلمي.

ص: 519

صلاة العصر حبط عمله»، إلى غير ذلك من النصوص والآثار الدالة على تدافع الحسنات والسيئات وإبطال بعضها بعضًا وإذهابِ أثر القوي منها لِما دونه

(1)

، وعلى هذا مبنى الموازنة والإحباط.

وبالجملة فقوة الإحسان ومرض العصيان يتصاولان ويتحاربان، ولهذا المرض مع هذه القوة حالةُ تزايدٍ وترامٍ إلى الهلاك، وحالةُ انحطاطٍ وتناقصٍ ــ وهي خير حالات المريض ــ، وحالةُ وقوفٍ وتقابُلٍ إلى أن يقهر أحدهما الآخر. وإذا حلَّ

(2)

وقت البُحران

(3)

ــ وهو ساعة المناجزة ــ فحظ القلب إحدى الخُطَّتين

(4)

: إما السلامة وإما العطب، وهذا البحران يكون وقت فعل الموجِبات

(5)

التي توجب رضى الرب تعالى ومغفرتَه أو توجب سخطه وعقوبته، وفي الدعاء النبوي:«أسألك مُوجِباتِ رحمتك»

(6)

، وقال عن

(1)

كذا في ف، وفي سائر الأصول والمطبوع:«وذهاب أثر القوي منها بما دونه» ، إلا أن «منها» ساقطة من ص، د، ز. و «أذهب الشيءَ» و «ذهب به» بمعنى.

(2)

ث، س، المطبوع:«دخل» ، تصحيف.

(3)

وقت البُحران: هو ساعة الفصل في التدافع الحاصل بين طبيعة الإنسان والمرض، وعندئذ تتغير حال المريض دَفعةً إما إلى الصحة وإما إلى العطب، وإذا كان البُحران في الحمّى إلى الصحة فكثيرًا ما يصحبه عرق غزير وانخفاض سريع في درجة الحرارة. وهي كلمة سُريانية الأصل. انظر:«القول الأصيل فيما في العربية من الدخيل» للدكتور ف. عبد الرحيم.

(4)

ص، د، ز:«أحد الخَطَّين» .

(5)

ث، س، المطبوع:«الواجبات» ، تحريف لأنه سيأتي: «

أو توجب سخطه وعقوبته».

(6)

روي ذلك من حديث ابن أبي أوفى، وابن مسعود، وأنس، وشداد بن أوس؛ أشهرها حديث ابن أبي أوفى في صلاة الحاجة عند الترمذي (479) وابن ماجه (1384) وقال الترمذي: حديث غريب وفي إسناده مقال؛ وأسانيد الجميع واهية بمرّة عدا حديث شدّاد عند الطبراني في «الكبير» (7/ 279) بإسناد مقارِب. وانظر: «الصحيحة» (3228) و «الضعيفة» (2908).

ص: 520

طلحة يومئذ: «أوجب طلحة»

(1)

، ورُفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل وقالوا: يا رسول الله، إنه قد أوجب، فقال:«أعتقوا عنه»

(2)

.

وفي الحديث الصحيح: «أتدرون ما المُوجِبتان؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار»

(3)

.

يريد أن التوحيد والشرك رأس الموجبات وأصلها، فهما بمنزلة السم القاتل قطعًا والتِرياق المُنجي قطعًا.

وكما أن البدن قد تعرض له أسباب رديَّة لازمة توهن قوَّتَه وتُضعفها، فلا ينتفع معها بالأسباب الصالحة والأغذية النافعة، بل تحيلها تلك الموادُّ الفاسدة إلى طبعها وقوتها، فلا يزداد بها إلا مرضًا، وقد تقوم به موادُّ صالحةٌ وأسباب موافقة توجب قوته وتمكُّنه من الصحة وأسبابِها، فلا تكاد تضرُّه الأسباب الفاسدة، بل تحيلها تلك المواد الفاضلة إلى طبعها= فهكذا موادُّ

(1)

وذلك يوم أُحُد، وقد سبق تخريجه (ص 233)، وانظر:(ص 239).

(2)

تمامه: «يُعتق الله بكل عضوٍ منه عضوًا منه من النار» . وقوله: «أوجب» يعني: النارَ بالقتل، كما في رواية أبي داود .. والحديث أخرجه أحمد (16012، 16985) وأبو داود (3964) والنسائي في «الكبرى» (4870 - 4872) وابن حبان (4307) والحاكم (2/ 212) عن واثلة بن الأسقع، وإسناده ضعيف. انظر:«الضعيفة» (907).

(3)

أخرجه أحمد (15200) ومسلم (93/ 151) من حديث جابر إلا أن لفظه: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات

» إلخ.

ص: 521

صحةِ القلب وفساده.

فتأمل قوة إيمان حاطبٍ التي حملته على شهود بدرٍ وبذلِه نفسَه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثارِه اللهَ ورسولَه على قومه وعشيرته وأقاربه وهم بين ظهرانَي العدوِّ وفي بلدهم، ولم يَثْنِ ذلك عِنان عزمه، ولا فلَّ مِن حدِّ إيمانه ومواجهته بالقتال لمن أهلُه وعشيرته وأقاربه عندهم، فلما جاء مرض الجسِّ برزت إليه هذه القوة، فكان البحران صالحًا فاندفع المرض وقام المريض كأن لم يكن به قَلَبة

(1)

، ولما رأى الطبيب قوة إيمانه قد استعلت على مرض جسه وقَهَرتْه قال لمن أراد فَصْده: لا يحتاج هذا العارض إلى فِصاد، «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

وعكس هذا ذو الخويصرة التميمي وأضرابه من الخوارج الذين بلغ اجتهادهم في الصلاة والصيام والقراءة إلى حدٍّ يَحقر أحدُ الصحابة عملَه معه، كيف قال فيهم:«لئن أدركتهم لأقتلنَّهم قتلَ عادٍ»

(2)

، وقال:«اقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم»

(3)

، وقال:«شر قتلى تحت أديم السماء»

(4)

؛ فلم ينتفعوا بتلك الأعمال العظيمة مع تلك المواد الفاسدة المهلكة واستحالت فاسدةً.

(1)

أي كأن لم يكن به ألم ولا علّة. ولا يُستعمل «قلبة» إلا في النفي.

(2)

أخرجه البخاري (3344، 7432) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد.

(3)

أخرجه البخاري (3611، 5057، 6930) ومسلم (1066/ 154) من حديث علي.

(4)

أخرجه أحمد (22151، 22183، 22314) والترمذي وحسَّنه (3000) وابن ماجه (176) والطبراني في «الكبير» (8/ 142) والحاكم (2/ 149) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه بأسانيد حسان يشد بعضها بعضًا.

ص: 522

وتأمل حالَ إبليس، لما كانت المادة المهلكة كامنةً في نفسه لم ينتفع معها بما سلف من طاعاته ورجع إلى شاكلته وما هو أولى به، وكذلك الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، وأضرابه وأشكاله؛ فالمُعوَّل على السرائر والمقاصد والنيات والهمم، فهي الإكسير الذي يقلب نحاس الأعمال ذهبًا أو يردُّها خَبَثًا، وبالله التوفيق.

ومن له لب وعقل يعلم قدر هذه المسألة وشدة حاجته إليها وانتفاعه بها ويطَّلع منها على باب عظيمٍ من أبواب معرفة الله سبحانه، وحكمته في خلقه وأمره وثوابه وعقابه، وأحكامِ الموازنة، وإيصال اللذة والألم إلى الروح والبدن في المعاش والمعاد، وتفاوتِ المراتب في ذلك بأسباب مقتضية بالغة ممن هو قائم على كل نفس بما كسبت.

فصل

(1)

وفي القصة: جواز مباغتة المعاهدين إذا نقضوا العهدَ والإغارةِ عليهم، وأن لا يُعلمهم بمسيره إليهم. وأما ما داموا قائمين بالوفاء بالعهد فلا يجوز ذلك حتى يَنبِذ إليهم على سواء.

فصل

وفيها: جواز بل استحباب إظهار

(2)

كثرة المسلمين وقوَّتهم وشوكتهم وهيئتهم لرسل العدو إذا جاؤوا إلى الإمام، كما يفعل ملوك الإسلام، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإيقاد النيران ليلة الدخول إلى مكة، وأمر العباسَ أن يحبس

(1)

مكانه بياض في ص، د. وكذا في خمسة الفصول الآتية.

(2)

«إظهار» سقط من المطبوع.

ص: 523

أبا سفيان عند خطم الجبل ــ وهو ما تضايق منه ــ حتى عُرضت عليه عساكر الإسلام وعصابة التوحيد وجند الله، وعرضت عليه خاصَكيةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم

(1)

وهم في السلاح لا يُرى

(2)

منهم إلا الحَدَق، ثم أرسله فأخبر قريشًا بما رأى.

فصل

وفيها: جواز دخول مكة للقتال المباح بغير إحرام، كما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وهذا لا خلاف فيه، ولا خلاف أنه لا يدخلها من أراد الحج أو العمرة إلا بإحرام، واختلف فيما سوى ذلك إذا لم يكن الدخول لحاجة متكررة كالحَشَّاش والحطَّاب على ثلاثة أقوال:

أحدها: لا يجوز دخولها إلا بإحرام، وهذا مذهب ابن عباس وأحمد في ظاهر مذهبه والشافعي في أحد قوليه.

والثاني: أنه كالحشَّاش والحطَّاب فيدخلها بغير إحرام، وهذا القول الآخر للشافعي ورواية عن أحمد.

والثالث: إن كان داخلَ المواقيت جاز دخولُه بغير إحرام، وإن كان خارج المواقيت لم يدخل إلا بإحرام، وهذا مذهب أبي حنيفة

(3)

.

(1)

الخاصكية: هم المقرّبون من الملك الملازمون له في خلواته، سمُّوا بذلك لخصوص القرب من الملك. انظر:«زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك» (ص 115) لخليل بن شاهين المملوكي (ت 873)، و «حدائق الياسمين في ذكر قوانين الخلفاء والسلاطين» (ص 108) لمحمد بن عيسى بن كنَّان (ت 1153).

(2)

«لا يُرى» سقط من المطبوع.

(3)

انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» باب من كره أن يدخل مكة بغير إحرام وباب من رخص أن تُدخل مكة بغير إحرام (13691 - 13702)، و «الموطأ» برواية الشيباني (ص 155) و «المدوّنة» (2/ 377)، و «الأم» (3/ 350 - 355) و «المجموع» (7/ 10)، و «مسائل أحمد» برواية عبد الله (ص 198) و «الإنصاف» (8/ 117).

ص: 524

وهديُ رسول الله صلى الله عليه وسلم معلوم في المجاهد ومريد النسك، وأما من عداهما فلا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله أو أجمعت عليه الأمة.

فصل

وفيها: البيان الصريح بأن مكة فتحت عَنوةً كما ذهب إليه جمهور أهل العلم، ولا يعرف في ذلك خلاف إلا عن الشافعي وأحمد في أحد قوليه، وسياق القصة أوضح شاهدٍ لمن تأمَّله لقول الجمهور. ولمَّا استهجن أبو حامد الغزالي القولَ بأنها فتحت صلحًا حكى قولَ الشافعي أنها فتحت عنوةً في «وسيطه»

(1)

وقال: هذا مذهبه.

قال أصحاب الصلح: لو فتحت عَنوةً لقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الغانمين، كما قسم خيبر وكما يقسم سائرَ الغنائم من المنقولات، فكان يُخمِّسها ويقسمها.

قالوا: ولما استأمن أبو سفيان لأهل مكة لما أسلم فأمَّنهم كان هذا عقدَ صلحٍ معهم.

قالوا: ولو فتحت عنوةً لملك الغانمون رِباعها ودورها، وكانوا أحقَّ بها من أهلها وجاز إخراجهم منها، فحيث لم يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بهذا الحكم، بل لم يَرُدَّ على المهاجرين دورهم التي أُخرِجوا منها وهي بأيدي

ص: 525

الذين أخرجوهم، وأقرَّهم على بيع الدور وشرائها وإجارتها وسكناها والانتفاع بها ــ وهذا مناف لأحكام فتوح العنوة ــ، وقد صرَّح بإضافة الدور إلى أهلها فقال:«من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن»

(1)

.

قال أرباب العنوة: لو كان قد صالحهم لم يكن لأمانه المقيَّد بدخول كُلِّ واحدٍ دارَه وإغلاقِه بابَه وإلقائه سلاحَه فائدةٌ، ولم يقاتلهم خالد بن الوليد حتى قتل منهم جماعةً ــ ولم ينكر عليه

(2)

ــ، ولَمَا قتل مِقْيَس بن صُبابة وعبد الله بن خطل ومن ذكر معهما؛ فإن عقد الصلح لو كان قد وقع لاستُثني فيه هؤلاء قطعًا، ولنُقِل هذا وهذا.

ولو فتحت صلحًا لم يقاتلهم وقد قال: «فإن أحدٌ ترخَّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك

(3)

»، ومعلوم أن هذا الإذن المختص برسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو الإذن في القتال لا في الصلح، فإن الإذن في الصلح عام.

وأيضًا: فلو كان فتحها صلحًا لم يقل: إن الله أحلها له ساعةً من نهار، فإنها إذا فتحت صلحًا كانت باقيةً على حُرمتها ولم تخرج بالصلح عن الحرمة، وقد أخبر بأنها في تلك الساعة لم تكن حرامًا، وأنها بعد انقضاء ساعة الحرب عادت إلى حرمتها الأولى.

(1)

لم يذكر المؤلف جواب: «فحيث لم يحكم

» إلخ، وتقديره:«دَّل على أنها فتحت صلحًا» أو نحوه.

(2)

«ولم ينكر عليه» جملة حالية أو معترضة لبيان الواقع، وليست واقعةً في جواب «لو» .

(3)

ز، ب، س، ن، المطبوع:«لكم» .

ص: 526

وأيضًا: فإنها لو فتحت صلحًا لم يُعَبِّ جيشَه خيَّالتَهم ورَجلَهم ميمنةً وميسرةً ومعهم السلاح، وقال لأبي هريرة:«اهتف لي بالأنصار» ، فهتف بهم فجاؤوا فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم؟» ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى: «احصدوهم حصدًا حتى توافوني بالصفا» ، حتى قال أبو سفيان: يا رسول الله، أبيحت خضراءُ قريش، لا قريش بعد اليوم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أغلق بابه فهو آمن» ، وهذا محال أن يكون مع الصلح، فإن كان قد تقدَّم صلح ــ وكلَّا! ــ فإنه ينتقض بدون هذا.

وأيضًا فكيف يكون صلحًا وإنما فتحت بإيجاف الخيل والركاب، ولم يحبس الله خيلَ رسوله وركابَه عنها كما حبسها عنها يومَ صلح الحديبية، فإن ذلك اليوم كان يومَ الصلح حقًّا، فإن القصواء لما بركت به قالوا: خلأت القصواء، قال:«ما خلأت، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل» ، ثم قال:«والله لا يسألوني خطةً يعظمون فيها حرمةً من حرمات الله إلا أعطيتهموها»

(1)

.

وكذلك جرى عقدُ الصلح بالكتاب والشهود ومحضرٍ من ملإ المسلمين والمشركين، والمسلمون يومئذ ألف وأربعمائة؛ أَفجرى

(2)

مثل هذا الصلح في يوم الفتح ولا يكتب ولا يُشهَد عليه ولا يحضره أحدٌ ولا تُنقَل كيفيته والشروط فيه؟! هذا من الممتنع البينِ امتناعُه.

(1)

أخرجه البخاري (2731) من حديث عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وقد سبق مطوّلًا عند ذكر غزوة الحديبية (ص 341).

(2)

همزة الاستفهام ساقطة من المطبوع، وكذا من ن ولكنه ضبط هكذا:«فَجَرْيُ» ، وفي س:«أيجري» .

ص: 527

وتأمل قوله: «إن الله حبس عن مكة الفيل وسلَّط عليها رسوله والمؤمنين» كيف يُفهَم منه أن قهرَ رسولِه وجندِه الغالبين لأهلها أعظمُ مِن قهر الفيل الذي كان يدخلها عليهم عَنوةً فحبسه عنهم، وسلَّط رسوله والمؤمنين عليهم حتى فتحوها بعِزِّ

(1)

القهر وسلطان العنوة وإذلال الكفر وأهله، وكان ذلك أجلَّ قدرًا، وأعظم خطرًا، وأظهر آيةً، وأتم نصرةً، وأعلى كلمةً= مِن أن يُدخلهم تحتَ رقِّ الصلح واقتراح العدوِّ وشروطهم، ويمنعَهم سلطانَ العنوة وعزَّها وظفرها في أعظم فتح فتحه على رسوله وأعزَّ به دينه وجعله آيةً للعالمين.

قالوا: وأما قولكم: إنها لو فتحت عنوةً لقسمت بين الغانمين، فهذا مبني على أن الأرض داخلة في الغنائم التي قسمها الله سبحانه بين الغانمين بعد تخميسها، وجمهورُ الصحابة والأئمة بعدهم على خلاف ذلك وأن الأرض ليست داخلةً في الغنائم التي تجب قسمتها، وهذه كانت سيرة الخلفاء الراشدين، فإن بلالًا وأصحابه لمَّا طلبوا من عمر بن الخطاب أن يَقسِم بينهم الأرض التي افتتحوها عنوةً ــ وهي الشام وما حولها ــ وقالوا له: خذ خُمُسَها واقسمها= فقال

(2)

عمر: «هذا غير المال

(3)

، ولكن أحبسه فيئًا يجري عليكم وعلى المسلمين»، فقال بلال وأصحابه: اقسمها بيننا، فقال عمر: «اللهم

(1)

النسخ المطبوعة: «فتحوها عنوةً بعد» ، إقحام وتحريف.

(2)

كذا في الأصول، والجادَّة عدم اقتران جواب «لمّا» بالفاء، على أنه قد ادَّعى بعضُهم جوازه. انظر:«ارتشاف الضَّرَب» (4/ 1897).

(3)

كذا في الأصول، وهو كذلك في مطبوعة كتاب «الأموال» لابن زنجويه، ووقع في مطبوعة كتاب «الأموال» لأبي عبيد و «تاريخ دمشق»:«هذا عين المال» .

ص: 528

اكفني بلالًا وذويه»، فما حال الحول ومنهم عين تَطرِف

(1)

.

ثم وافق سائر الصحابة عمرَ على ذلك. وكذلك جرى في فتوح مصرَ والعراقِ وأرضِ فارس وسائرِ البلاد التي فتحت عنوةً لم يقسم منها الخلفاء الراشدون قريةً واحدةً.

ولا يصح أن يقال: إنه استطاب نفوسَهم ووقفها برضاهم

(2)

، فإنهم قد نازعوه في ذلك وهو يأبى عليهم، ودعا على بلال وأصحابه.

وكان الذي رآه وفعله عينَ الصواب ومحض التوفيق، إذ لو قسمت لتوارثها ورثة أولئك وأقاربهم، فكانت القرية والبلد تصير إلى امرأةٍ واحدة أو صبيٍّ صغير والمقاتِلةُ لا شيء بأيديهم، فكان في ذلك أعظمُ الفساد وأكبره، وهذا هو الذي خاف منه عمر فوفَّقه الله سبحانه لترك قسمة الأرض وجَعْلِها

(1)

أخرجه أبو عبيد في كتاب «الأموال» (154) ــ ومن طريقه ابن زنجويه في كتاب «الأموال» (224) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (2/ 197) ــ عن الماجشون (عبد الله بن أبي سلمة) مرسلًا. وأخرجه أحمد في «فضائل الصحابة» (378) والبيهقي في «سننه» (9/ 138) من طريق جرير بن حازم عن نافع عن ابن عمر بنحوه. وهذا إسناد صحيح.

وأخرج البخاري (4235) عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ببَّانًا ليس لهم شيء ما فُتحت عليَّ قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها خِزانةً لهم يقتسمونها» . وفي لفظٍ عند ابن أبي شيبة (33648): «ولكن أردت أن يكون جِريةً تجري عليهم» . وفي رواية البيهقي (6/ 318) أنه قال ذلك عندما طلب بلال قسمة الأرض المفتتحة.

(2)

هذا قول الشافعي. انظر: «الأم» (5/ 687) و «معرفة السنن» (9/ 241، 13/ 165، 329).

ص: 529

وقفًا على المقاتلة يجري عليهم فيئُها

(1)

حتى يغزو منها آخر المسلمين، وظهرت بركةُ رأيه ويُمْنُه على الإسلام وأهله. ووافقه جمهور الأئمة وإن اختلفوا في كيفية إبقائها بلا قسمة، فظاهر مذهب الإمام أحمد

(2)

وأكثرُ نصوصه على أن الإمام مخيَّر فيها تخييرَ مصلحةٍ لا تخيير شهوة، فإن كان الأصلح للمسلمين قسمتَها قسمها، وإن كان الأصلح أن يقفها على جماعتهم وقفها، وإن كان الأصلح قسمةَ البعض ووقفَ البعض فعله؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الأقسام الثلاثة، فإنه قسم أرض قريظة والنضير، وترك قسمة مكة، وقسم بعض خيبر وترك بعضها لما ينوبه من مصالح المسلمين.

وعن أحمد رواية ثانية: أنها تصير وقفًا بنفس الظهور والاستيلاء عليها من غير أن ينشئ الإمامُ وقفها، وهي مذهب مالك

(3)

.

وعنه رواية ثالثة: أنه يقسمها بين الغانمين كما يقسم بينهم المنقول إلا أن يتركوا حقوقهم منها، وهي مذهب الشافعي

(4)

.

وقال أبو حنيفة: الإمام مخيَّرٌ بين القسمة، وبين أن يقرَّ أربابها فيها بالخراج، وبين أن يُجليهم عنها وينفذ إليها قومًا آخرين يضرب عليهم الخراج

(5)

.

(1)

غير محرّر في الأصول، يشبه:«فيها» . وسياق المطبوع: «تجري عليهم فيئًا» . ولعل الصواب ما أثبت.

(2)

انظر: «مسائل أحمد» برواية عبد الله (ص 405) وبرواية الكوسج (1/ 244)، و «المغني» (4/ 189) و «الإنصاف» (10/ 305).

(3)

انظر: «النوادر والزيادات» (3/ 360) و «البيان والتحصيل» (2/ 538).

(4)

انظر: «الأم» (5/ 687).

(5)

انظر: «الأصل» للشيباني (7/ 439، 529) و «معاني الآثار» (3/ 246).

ص: 530

وليس هذا الذي فعله عمر بمخالف للقرآن، فإن الأرض ليست داخلةً في الغنائم التي أمر الله بتخميسها وقسمتها، ولهذا قال عمر:«إنها غير المال» ، ويدل عليه أن إباحة الغنائم لم يكن لغير هذه الأمة، بل هو من خصائصها كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: «وأُحِلَّت لي الغنائم، ولم تحلَّ لأحدٍ

(1)

قبلي»

(2)

، وقد أحل الله سبحانه الأرض التي كانت بأيدي الكفار لمن قبلنا من أتباع الرسل إذا استولوا عليها عنوةً، كما أحلها لقوم موسى، ولهذا قال موسى لقومه:{يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21]، فموسى وقومه قاتلوا الكفار واستولَوا على دِيارهم وأموالهم، فجمعوا الغنائم فنزلت

(3)

النار من السماء فأكلتها، وسكنوا الأرض والديار ولم تَحْرُم عليهم، فعُلم أنها ليست من الغنائم وأنها لله يورثها من يشاء.

فصل

وأما مكة فإن فيها شيئًا آخر يمنع من قسمتها ولو وجبت قسمة ما عداها من القرى، وهي: أنها لا تُملَك، فإنها دار النُّسُك ومُتعبَّد الخلق وحرم الرب تعالى الذي جعله للناس سواءً العاكفُ فيه والباد

(4)

، فهي

(5)

وقف من الله على العالمين، وهم فيها سواء، ومنًى مناخ من سبق

(6)

.

(1)

زيد بعده في ص، ز، د:«مِن» ، وليست في «الصحيحين» .

(2)

أخرجه البخاري (335) ومسلم (521) من حديث جابر رضي الله عنه.

(3)

ص، د، المطبوع:«ثم نزلت» .

(4)

ص، ز، د:«والبادي» . وبالوجهين قرئت آية الحج. انظر: «النشر» (2/ 327).

(5)

«فهي» سقط من د، س، واستُدرك في ص، ز بخط مغاير.

(6)

كما في حديث عائشة مرفوعًا، وسيأتي قريبًا.

ص: 531

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، والمسجد الحرام هنا المراد به الحرم لقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، فهذا المراد به الحرم كلُّه؛ وقولِه سبحانه:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]، وفي «الصحيح»

(1)

: أنه أسري به من بيت أم هانئ.

وقال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]، وليس المراد به حضور نفس موضع الصلاة اتفاقًا، وإنما هو حضور الحرم والقربُ منه، وسياق آية الحج يدل على ذلك فإنه قال:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، وهذا لا يختص مكان

(2)

الصلاة قطعًا، بل المراد: الحرم كلُّه، فالذي جعله للناس سواءً العاكفُ فيه

(1)

ليس كذلك، وإنما ذكره ابن إسحاق ــ كما في «تفسير الطبري» (14/ 414) ــ عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح باذان عن أم هانئ. وإسناده واهٍ بمرّة من أجل الكلبي، ولذا عدل ابن إسحاق عن التصريح به في بعض الروايات ــ كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 402) ــ فقال: «وكان فيما بلغني عن أم هانئ في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول

». وروي ذلك أيضًا من وجهين آخرين عن أم هانئ، وذلك عند ابن سعد (2/ 182 - 183) والطبراني في «الكبير» (24/ 432)، ولكنهما واهيان أيضًا. والذي في «الصحيح» من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به من بيته، وفي حديث مالك بن صعصعة أنه أسري به من عند البيت من الحطيم. أخرجهما البخاري (349، 3887) ومسلم (163، 164).

(2)

ز، س، ن:«بمكان» . وفي المطبوع: «بمقام» خلافًا لجميع الأصول.

ص: 532

والباد هو الذي توعَّد من صدَّ عنه ومن أراد الإلحاد بالظلم فيه، فالحرم ومشاعره كالصفا والمروة والمسعى ومنًى وعرفةَ ومزدلفةَ لا يختص بها أحد دون أحد، بل هي مشتركة بين الناس، إذ هي محل نسكهم ومتعبَّدهم، فهي مسجد من الله وقَفَه ووضعه لخلقه، ولهذا امتنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبنى له بيت بمنًى يُظِلُّه من الحر وقال:«منًى مناخ من سبق»

(1)

.

ولهذا ذهب جمهور الأئمة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز بيع أراضي مكة ولا إجارةُ بيوتها. هذا مذهب مجاهد وعطاء في أهل مكة، ومالكٍ في أهل المدينة، وأبي حنيفة في أهل العراق

(2)

، وسفيانَ الثوري والإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ وإسحاق بن راهويه

(3)

.

(1)

أخرجه أبو داود (2019) والترمذي (881) وابن راهويه (1286) والدارمي (1980) وابن خزيمة (2891) والحاكم (1/ 467) كلهم من طريق إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهَك، عن أمه مُسيكة عن عائشة. قال الترمذي: حديث حسن، وقال ابن خزيمة:«باب النهي عن احتصار المنازل بمنى إن ثبت الخبر، فإني لست أعرف مُسيكة بعدالة ولا جرح، ولست أحفظ لها راويًا إلا ابنها» ، وضعَّفه ابن القطان في «بيان الوهم» (3/ 468) بجهالة مُسيكة، وكذلك الألباني في «ضعيف سنن أبي داود - الأم» (2/ 190) وزاد علّة أخرى هي أن إبراهيم بن مهاجر ليّن الحفظ. قلتُ: الحديث يحتمل التحسين، فإن إبراهيم بن مهاجر صدوق على لين في حفظه وقد أخرج له مسلم في المتابعات، ومُسيكة تابعية كانت تخدم عائشة رضي الله عنها وقد أثنى عليها ابنُها خيرًا كما في رواية ابن راهويه في «مسنده» .

(2)

في هامش ف بخط الناسخ: «مذهب أبي حنيفة ومحمدٍ كراهة بيع أراضي مكة مع الجواز، ومذهب أبي يوسف جواز ذلك بلا كراهة، وروي ذلك عن أبي حنيفة» . كأنه تعقيب على ما نسبه إليه المؤلف من عدم الجواز.

(3)

انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (14899، 14900)، و «النوادر والزيادات» (2/ 501) و «التبصرة» للخمي (11/ 5085)، و «مختصر اختلاف العلماء» للطحاوي (3/ 67) و «بدائع الصنائع» (5/ 146)، و «المغني» (6/ 364) و «الإنصاف» (11/ 72) و «مسائل إسحاق» للكوسج (1/ 574).

ص: 533

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (14912) وابن ماجه (3107) والدارقطني (3019 - 3021) بإسناد صحيح عن علقمة بن نضلة، وهو مرسل فإن علقمة إما تابعي صغير (كما في «التقريب» لابن حجر) أو من أتباع التابعين (كما في «الثقات» لابن حبان)، فلم يُدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زمن أبي بكر وعمر.

(2)

كذا في الأصول والمطبوع، والصواب أنه: عبد الله بن عمرٍو، كما في مصادر التخريج.

(3)

أخرجه أبو عبيد في كتاب «الأموال» (173) وابن أبي شيبة (14903) والدارقطني (3016، 3017) من طرق عن عبيد الله بن أبي زياد، عن أبي نجيح، عن عبد الله بن عمرو موقوفًا. وهذا إسناد لا بأس به.

(4)

برقم (3015) وبرقم (3014) بنحوه، وأخرجه أيضًا أبو يوسف في «الآثار» (544) والحاكم (2/ 53) والسهمي في «تاريخ جرجان» (ص 212) والبيهقي في «السنن» (6/ 35)، كلهم من طريق أبي حنيفة عن عبيد الله بن أبي زياد به. وقد خالف أبو حنيفة وكيعًا وغيره من الثقات في رفعه، ولذا قال الدارقطني: إنه وهم في رفعه، والصحيح أنه موقوف.

ص: 534

وقال الإمام أحمد

(1)

: حدثنا معتمر

(2)

عن ليث عن عطاء وطاوس ومجاهد أنهم قالوا: يكره أن تباع رِباعُ مكة أو تُكرى بيوتها.

وذكر أحمد عن القاسم بن عبد الرحمن قال: من أكل من كراء بيوت مكة فإنما يأكل في بطنه نارًا

(3)

.

وقال أحمد: حدثنا هشيم، أخبرنا حجاج، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر

(4)

قال: «نُهي عن إجارة بيوت أهل

(5)

مكة وعن بيع رِباعها».

وذكر عن عطاء قال: نهي عن إجارة بيوت أهل مكة.

وقال أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، قال: حدثنا عبد الملك، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمير أهل مكة ينهاهم عن إجارة بيوت مكة، وقال: إنه حرام

(6)

.

(1)

لم أجده ــ ولا الآثار الآتية ــ في «مسائله» المطبوعة، وهذا الأثر رواه أيضًا ابن أبي شيبة (14909) عن معتمر به.

(2)

في الأصول والمطبوع: «معمر» ، وهو تصحيف، والإمام أحمد لم يدرك معمرًا قط، وإنما يروي عن عبد الرزاق عنه. وأما معتمر ــ وهو ابن سليمان بن طرخان التيمي ــ فمن شيوخ أحمد روى عنه في «المسند» وغيره.

(3)

رواه ابن أبي شيبة (14901) عن معتمر عن ليث عن القاسم.

(4)

«عبد الله بن عمر» لا إخاله إلا وهمًا أو تصحيفًا، فإن عبد الرزاق (9214) أخرجه عن ابن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمروٍ بنحوه. على أن كلا الإسنادين ضعيف، الأول لضعف حجاج بن أرطاة وتدليسه، والثاني لضعف ابن مجاهد. وقد خالفهما الأعمش وإبراهيم بن المهاجر، فرواه الأول عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، والثاني عنه من قوله مقطوعًا. انظر:«مصنف ابن أبي شيبة» (14898، 14899).

(5)

«أهل» ساقطة من المطبوع هنا وفي الآثر الآتي.

(6)

وأخرجه أيضًا أبو عبيد في «الأموال» (176) عن إسحاق بن يوسف به. وقد روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز من وجوه عديدة. انظر: «مصنف عبد الرزاق» (9212) و «مصنف ابن أبي شيبة» (14902) و «طبقات ابن سعد» (7/ 356) و «أخبار مكة» للأزرقي (2/ 163 - 164).

ص: 535

وحكى أحمد عن عمر أنه نهى أن يتخذ أهلُ مكة للدور أبوابًا لينزل البادي حيث شاء

(1)

، وحكى عن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه نهى أن تغلق أبواب دور مكة

(2)

؛ فنهى من لا بابَ لداره أن يتخذ لها بابًا ومن لداره باب أن يغلقه، وهذا في أيام الموسم.

قال المجوزون للبيع والإجارة: الدليل على جواز ذلك: كتابُ الله، وسنة رسوله، وعمل أصحابه وخلفائه الراشدين.

قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8]، وقال:{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [آل عمران: 195]، وقال {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة: 9] فأضاف الدور إليهم، وهذه إضافة تمليك.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد قيل له: أين تنزل غدًا بدارك من مكة

(3)

؟ فقال:

(1)

أخرجه عبد الرزاق (9211) ومسّدد ــ كما في «المطالب العالية» (1202) ــ من طريق مجاهد عن عمر، وابن أبي شيبة (14904) من طريق عطاء عن عمر، وكلاهما مرسل. ويعضدهما مرسل عمرو بن دينار عند الفاكهي في «أخبار مكة» (2180) بإسناد صحيح أنه قال:«أول من جعل على داره بابًا بنتُ سهيل بن عمرو، استأذنت عمرَ من أجل السَّرَق» .

(2)

أخرجه أبو عبيد في «الأموال» (177) وكذا ابن زنجويه (247) من طريقين عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر به.

(3)

ن، المطبوع:«بمكة» ، وهو لفظ «الصحيحين» وهو الذي سبق (ص 139).

ص: 536

«وهل ترك لنا عَقِيل من رِباع؟!»

(1)

، ولم يقل: إنه لا دار لي، بل أقرهم على الإضافة وأخبر أن عقيلًا استولى عليها، ولم ينزعها من يده.

وإضافة دورهم إليهم في الأحاديث أكثر من أن يُذكَر، كدار أم هانئ ودار خديجة ودار أبي أحمد بن جحش وغيرها، فكانوا يتوارثونها كما يتوارثون المنقول، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«وهل ترك لنا عَقِيل من منزل؟» وكان عقيل هو ورث أبا طالبٍ دُورَه

(2)

، فإنه كان كافرًا ولم يرثه عليٌّ لاختلاف الدين بينهما، فاستولى عقيل على الدور. ولم يزالوا قبل الهجرة وبعدها، بل قبل المبعث وبعده، من مات وَرِث

(3)

ورثتُه دارَه، وإلى الآن.

وقد باع صفوان بن أمية دارًا لعمر بن الخطاب بأربعة آلاف درهم فاتخذها سجنًا

(4)

.

وإذا جاز البيع والميراث فالإجارة أجوَز وأجوز.

فهذا موقف أقدام الفريقين كما ترى، وحججهم في القوة والظهور لا تُدفَع، وحجج الله وبيناته لا يُبطل بعضُها بعضًا بل يصدق بعضها بعضًا، ويجب العمل بموجَبها كلِّها، والواجب اتباع الحق أين كان، فالصواب: القول بموجب الأدلة من الجانبين وأن الدور تملك وتوهب وتورث وتباع، ويكون نقل الملك في البناء لا في الأرض والعرصة، فلو زال بناؤه لم يكن له

(1)

متفق عليه من حديث أسامة بن زيد، وقد سبق.

(2)

طبعة الرسالة: «ورث دورَ أبي طالب» خلافًا للأصول والطبعة الهندية.

(3)

«ورث» سقطت من المطبوع فاختل السياق.

(4)

علّقه البخاري مجزومًا به في «صحيحه» ، وقد سبق تخريجه (ص 139).

ص: 537

أن يبيع الأرض، وله أن يبنيها ويعيدها كما كانت، وهو أحق بها يَسكنها ويُسكن فيها من شاء، وليس له أن يُعاوِض على منفعة السكنى بعقد الإجارة، فإن هذه المنفعة إنما استحق أن يتقدّم فيها على غيره ويختص بها لسَبْقه وحاجته، فإذا استغنى عنها لم يكن له أن يعاوض عليها، كالجلوس في الرحاب والطرق الواسعة والإقامةِ على المعادن وغيرِها من المنافع والأعيان المشتركة التي من سبق إليها فهو أحقُّ بها ما دام ينتفع، فإذا استغنى لم يكن له أن يعاوض، وقد صرَّح أرباب هذا القول بأن البيع ونقل الملك في رباعها إنما يقع على البناء لا على الأرض، ذكره أصحاب أبي حنيفة

(1)

.

فإن قيل: فقد منعتم الإجارة وجوزتم البيع، فهل لهذا نظير في الشريعة؟ والمعهود في الشريعة أن الإجارة أوسعُ من البيع، فقد يمتنع البيع وتجوز الإجارة كالوقف والحُرِّ، فأما العكس فلا عهد لنا به.

قيل: كل واحد من البيع والإجارة عقد مستقل غير مستلزمٍ للآخر في جوازه وامتناعه، وموردهما مختلف وأحكامهما مختلفة. وإنما جاز البيع لأنه وارد على المحل الذي كان البائع أخصَّ به من غيره وهو البِناء. وأما الإجارة فإنما تَرِد على المنفعة وهي مشتركة، للسابق إليها حقُّ التقدُّمِ دون المعاوضة؛ فلهذا أجزنا البيع دون الإجارة. فإن أبيتم إلا النظير قيل: هذا المكاتَب يجوز لسيده بيعُه ويصير مكاتبًا عند مشتريه، ولا يجوز له إجارته إذ فيها إبطالُ منافعه وأكسابه التي ملكها بعقد الكتابة، والله أعلم.

على أنه لا يمتنع البيع وإن كانت منافع أرضها ورباعها مشتركةً بين

(1)

انظر: «الجامع الصغير» للشيباني (ص 481) و «بدائع الصنائع» (5/ 146).

ص: 538

المسلمين، فإنها تكون عند المشتري كذلك مشتركةَ المنفعةِ، إن احتاج سكن وإن استغنى أسكن كما كانت عند البائع، فليس في بيعها إبطال اشتراك المسلمين في هذه المنفعة، كما أنه ليس في بيع المكاتَب إبطالُ ملكه لمنافعه التي ملكها بعقد الكتابة.

ونظير هذا: جواز بيع أرض الخراج التي وقفها عمر على الصحيح الذي استقر عليه عملُ الأمة

(1)

قديمًا وحديثًا، فإنها تنتقل إلى المشتري خراجيَّةً كما كانت عند البائع، وحقُّ المقاتلة إنما هو في خراجها وهو لا يبطل بالبيع، وقد اتفقت الأمة على أنها تورث، فإن كان بطلان بيعها لكونها وقفًا فكذلك ينبغي أن تكون وقفيَّتُها مبطلةً لميراثها، وقد نصَّ أحمد

(2)

على جواز جعلها صداقًا في النكاح، فإذا جاز نقل الملك فيها بالصداق والميراث والهبة= جاز بالبيع

(3)

قياسًا وعملًا وفقهًا، والله أعلم.

فصل

فإن قيل

(4)

: فإذا كانت مكة قد فتحت عنوةً، فهل يُضرَب الخراج على مزارعها كسائر أرض العنوة؟ وهل يجوز لكم أن تفعلوا ذلك أم لا؟

قيل: في هذه المسألة قولان لأصحاب العنوة:

أحدهما: المنصوص المنصور الذي لا يجوز القول بغيره: أنه لا خراج

(1)

المطبوع: «استقر الحال عليه مِن عمل الأمة» ، إقحام لما لا حاجة إليه.

(2)

ص، د، ز:«الإمام أحمد» .

(3)

طبعة الرسالة: «جاز البيعُ فيها» خلافًا للأصول وللطبعة الهندية.

(4)

«فإن قيل» سقط من طبعة الرسالة مع ثبوته في الأصول والطبعة الهندية.

ص: 539

على مزارعها وإن فتحت عنوةً، فإنها أجلُّ وأعظم من أن يضرَب عليها الخراج، لا سيما والخراج هو جِزية الأرض، وهو على الأرض كالجزية على الرؤوس، وحَرَمُ الربِّ أجلُّ قدرًا وأكبر من أن يُضرَب عليه جزية، ومكة بفتحها عادت إلى ما وضعها الله عليه من كونها حرمًا آمنًا يشترك فيه أهل الإسلام، إذ هو موضع مناسكهم ومتعبَّدُهم وقبلةُ أهل الأرض.

والثاني ــ وهو قول بعض أصحاب أحمد ــ: أن على مزارعها الخراج، كما هو على مزارع غيرها من أرض العنوة. وهذا فاسد مخالف لنص أحمد ومذهبه ولفعلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين من بعده، فلا التفات إليه، والله أعلم.

وقد بنى بعض الأصحاب [منعَ]

(1)

بيعِ رباع أهلِ

(2)

مكةَ على كونها فتحت عنوةً

(3)

، وهذا بناء غير صحيح، فإن مساكن أرض العنوة تباع قولًا واحدًا فظهر بطلان هذا البناء. والله أعلم.

فصل

(4)

وفيها: تعيين قتل الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن قتلَه حدٌّ لا بد من استيفائه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمِّن مِقْيَس بن صُبابة وابنَ خَطَل والجاريتين اللتين كانتا تغنيان بهجائه، مع أن نساء أهل الحرب لا يُقتلن كما لا تُقتل

(1)

زيادة لازمة لاستقامة السياق، وهي في هامش ن بخط مغاير. وفي النسخ المطبوعة: «تحريم بيع

».

(2)

«أهل» ساقطة من س، ث، المطبوع.

(3)

انظر: «المستوعب» (1/ 579، 2/ 451) و «الإنصاف» (11/ 72).

(4)

«فصل» ساقط من ص، د، ن، المطبوع.

ص: 540

الذرية، وقد أمر بقتل هاتين المرأتين

(1)

، وأهدر دم أُمِّ ولد الأعمى لمَّا قتلها سيدُها لأجل سبِّها النبيَّ صلى الله عليه وسلم

(2)

، وقتل كعب بن الأشرف اليهودي وقال:«مَن لكعبٍ، فإنه قد آذى الله ورسوله»

(3)

وكان يسبه.

وهذا إجماع من الخلفاء الراشدين ولا يُعلَم لهم في الصحابة مخالف، فإن الصديق قال لأبي برزة الأسلمي وقد همَّ بقتل من سبه:«لم تكن هذه لأحدٍ غير رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(4)

، ومرَّ عمرُ براهبٍ فقيل له: هذا يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«لو سمعته لقتلته، إنَّا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا صلى الله عليه وسلم»

(5)

.

ولا ريب أن المحاربة بسبِّ نبينا أعظمُ أذيةً ونكايةً لنا من المحاربة باليد

(1)

المطبوع: «الجاريتين» .

(2)

أخرجه أبو داود (4361) والنسائي (4070) والدارقطني (3195) والضياء في «المختارة» (12/ 147) من حديث ابن عباس بإسناد جيِّد كما قال ابن عبد الهادي في «تنقيح التحقيق» (4/ 621).

(3)

متفق عليه من حديث جابر، وقد سبق تخريجه (ص 223).

(4)

أخرجه أحمد (54) وأبو داود (4363) والنسائي (4071 - 4077) وأبو يعلى (79 - 82) والحاكم (4/ 354) والضياء في «المختارة» (1/ 104 - 109) من طرق عن أبي برزة الأسلمي به.

(5)

لم أجده عن عمر، وإنما أخرجه أحمد ــ ومن طريقه الخلَّال في «الجامع» (731 - أحكام أهلل الملل) ــ ومسدّد بن مُسَرهَد في «مسنده» كما في «المطالب العالية» (2031)؛ كلاهما عن هُشَيم، عن حُصَين بن عبد الرحمن، عمَّن أخبره عن ابن عمر. وأخرجه أيضًا الحارث بن أبي أسامة بنحوه كما في «بغية الباحث» (510) و «المطالب» .

ص: 541

ومنعِ دينارِ جزيةٍ في السنة، فكيف ينتقض عهدُه ويُقتل بذلك دون السبِّ؟! وأي نسبةٍ لمفسدة منعه دينارًا في السنة إلى مفسدة مجاهرته

(1)

بسبِّ نبينا أقبحَ سبٍّ على رؤوس الأشهاد؟ بل لا نسبة لمفسدة محاربته باليد إلى مفسدة محاربته بالسب، فأولى ما انتقض به عهده وأمانه سبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينتقض عهده بشيءٍ أعظمَ منه إلا مسبَّةَ

(2)

الخالق سبحانه؛ فهذا محض القياس ومقتضى النصوص وإجماعُ الخلفاء الراشدين، وعلى هذه المسألة أكثر من أربعين دليلًا

(3)

.

فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل عبد الله بن أُبيٍّ وقد قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل

(4)

، ولم يقتل ذا الخويصرة التميمي وقد قال له: اعدل فإنك لم تعدل

(5)

، ولم يقتل من قال له: يقولون إنك تنهى عن الغَيِّ وتستخلي

(6)

به

(7)

، ولم يقتل القائلَ له: إن هذه لقسمةٌ ما أريد بها وجه

(1)

المطبوع: «إلى مفسدة منع مجاهرته» ، إقحام مفسد للمعنى.

(2)

ز، س، ن:«بسبِّه» . وفي المطبوع: «سبّه» .

(3)

انظر جملة صالحة منها في «الصارم المسلول على شاتم الرسول» لشيخ الإسلام.

(4)

أخرجه البخاري (3519) ومسلم (2584/ 63) من حديث جابر.

(5)

وذلك عند قسم غنائمِ حنينٍ بالجعرانة. أخرجه البخاري (3138) ومسلم (1063) والحميدي (1308) وابن ماجه (172) وغيرهم من حديث جابر، وليس في «الصحيحين» قوله:«فإنك لم تعدل» .

(6)

ص، ز، د، س:«تستحل» ، تصحيف.

(7)

أخرجه عبد الرزاق (18891) وأحمد (20017، 20019) والروياني (933) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه. وأخرجه أبو داود (3631) والترمذي (1417) مختصرًا دون موضع الشاهد. قال الترمذي: حديث حسن.

ص: 542

الله

(1)

، ولم يقتل من قال له لما حكم للزبير بتقديمه في السقي: أن كان ابنَ عمتك

(2)

، وغير هؤلاء ممن كان يبلغه عنهم أذًى له وتنقُّص.

قيل: الحق كان له، فله أن يستوفيه وله أن يسقطه، وليس لمن بعده أن يُسقط حقَّه، كما أن الرب تعالى له أن يستوفي حقه وله أن يسقطه، وليس لأحد أن يسقط حقه تعالى بعد وجوبه، كيف وقد كان في ترك قتل من ذكرتم وغيرِهم مصالحُ عظيمة في حياته زالت بعد موته مِن تأليف الناس وعدم تنفيرهم عنه، فإنهم لو بلغهم أنه يقتل أصحابه لنفروا، وقد أشار إلى هذا بعينه وقال لعمر لما أشار عليه بقتل

(3)

عبد الله بن أبي: «لا يبلغ الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»

(4)

.

ولا ريب أن مصلحة هذا التأليف وجمعِ القلوب عليه كانت أعظمَ عنده وأحبَّ إليه من المصلحة الحاصلة بقتل من سبَّه وآذاه، ولهذا لما ظهرت مصلحة القتل وترجحت جدًّا قتل الساب، كما فعل بكعب بن الأشرف فإنه جاهر بالعداوة والسب، فكان قتلُه أرجحَ مِن إبقائه، وكذلك قتلُ ابنِ خطل ومقيسٍ والجاريتين وأمِّ ولدِ الأعمى، فقتل للمصلحة الراجحة وكفَّ للمصلحة الراجحة، فإذا صار الأمر إلى نُوَّابه وخلفائه لم يكن لهم أن يسقطوا حقَّه.

(1)

أخرجه البخاري (3405) ومسلم (1062) من حديث ابن مسعود.

(2)

أخرجه البخاري (2359) ومسلم (2357) من حديث عبد الله بن الزبير.

(3)

ص، د، ز:«بقتله» .

(4)

كما في حديث جابر المتفق عليه الذي سبق تخريجه في أول الفقرة السابقة، ولفظه في «الصحيحين»: «لا يتحدّث الناس

».

ص: 543