الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر قصة كعب بن زُهَير مع النبي صلى الله عليه وسلم
-
وكانت فيما بين رجوعه من الطائف وغزوة تبوك.
قال ابن إسحاق
(1)
: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف كتب بُجَير بن زهير إلى أخيه كعب يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالًا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن مَن بقي مِن شعراء قريش ابنَ الزِّبَعْرى وهُبَيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فطِرْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقتل أحدًا جاءه تائبًا
(2)
وإن أنت لم تفعل فانجُ إلى نَجائك، وكان كعب قد قال:
ألا أبلغا عني بجيرًا رسالةً
…
فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
(3)
؟
فبيِّنْ لنا إن كنتَ لستَ بفاعلٍ
…
على أي شيءٍ غيرِ ذلك دلَّكا
على خُلق لم تُلفِ أُمًّا ولا أبًا
…
عليه ولا تُلفي عليه أخًا لكا
(4)
(1)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 501) و «مستدرك الحاكم» (3/ 583)، والمؤلف صادر عن «عيون الأثر» (2/ 208).
(2)
بعده في ف، ز، ن، المطبوع:«مسلمًا» ، إلا أنه عليه علامة الحذف في ف. وفي ب:«مسلمًا تائبًا» . وليس في مصادر التخريج.
(3)
أي: هل لك رأي فيما قلتَ، أي: هل قلته عن قصد واعتقاد أو قلته لأمرٍ ما؟
(4)
«أخًا لكا» في هامش ز مصححًا عليه: «أبًا لكا» ، وكذا في نسخة من «عيون الأثر» .
فإن أنت لم تفعل فلستُ بآسفٍ
…
ولا قائلٍ إما عثرت لعًا لكا
(1)
سقاك بها المأمونُ كأسًا رَوِيَّةً
…
فأَنْهَلَك المأمونُ منها وعلَّكا
(2)
قال: وبعث بها إلى بجير فلما أتت بُجيرًا كره أن يكتمها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأنشده إياها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سقاك بها المأمون، صدق وإنه لكذوب وأنا المأمون» ، ولما سمع:«على خُلقٍ لم تُلفِ أمًّا ولا أبًا عليه» قال: «أجل، لم يُلفِ عليه أباه ولا أمه» .
ثم قال بُجير لكعب:
مَن مُبلِغٌ كعبًا فهل لك في التي
…
تلوم عليها باطلًا وهي أحزمُ
إلى الله لا العزى ولا اللات وحده
…
فتنجو إذا كان النجاءُ وتَسْلَمُ
لدى يومَ لا ينجو وليس بمُفلتٍ
…
من الناس إلا طاهرُ القلب مسلمُ
فدِينُ زهيرٍ وهو لا شيء دينُه
…
ودينُ أبي سُلمى عليَّ مُحرَّمُ
فلما بلغ كعبًا الكتاب ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه، وأَرجَفَ به من كان في حاضره مِن عدوِّه فقال: هو مقتول، فلما لم يجد من شيء بُدًّا قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر خوفَه وإرجافَ الوُشاة به مِن عدوه، ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجلٍ كانت بينه وبينه معرفة من جُهَينة ــ كما ذُكِر لي ــ، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح فصلى
(1)
لعًا لك: دعاء للعاثر أن ينتعش من سقطته.
(2)
المأمون: النبي صلى الله عليه وسلم، كانت قريش تسمِّيه المأمون والأمين. رَويَّةً: فعيلة بمعنى مُفعِلة، أي: مُرْوِية. فأنهلك: سقاك النَّهَل، وهي السَّقْية الأولى. وعَلَّك: سقاك العَلَل، وهي السقية الثانية. ومراده أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي لقَّنك هذه المقالة التي تدعوني فيها إلى الإسلام حتى ارتويتَ بها وأُشرِبتها في قلبك.
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أشار له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا رسول الله فقم إليه واستأمنه، فذكر لي أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إليه فوضع يده في يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، فقال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائبًا مسلمًا، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«نعم» ، قال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير.
قال ابن إسحاق
(1)
: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه وثب عليه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، دعني وعدوَّ الله أضرِبْ عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دعه عنك فقد جاء تائبًا نازعًا»
(2)
، قال: فغضب كعب على هذا الحيِّ من الأنصار لِما صنع به صاحبهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير، فقال قصيدته اللامية يصف فيها محبوبته وناقته، التي أولها:
بانت سعادُ فقلبِي الْيَومَ مَتبولُ
…
مُتيَّمٌ عندها لم يُجْزَ مكبولُ
(3)
(1)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 503) و «مستدرك الحاكم» (3/ 584). وللقصيدة شواهد، فقد أخرجها الحاكم (3/ 579 - 581) ــ وعنه البيهقي في «الدلائل» (5/ 207 - 211) ــ من طريق الحجاج بن ذي الرُّقَيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير بن أبي سُلمى عن أبيه عن جده ــ والحجاج وأبوه مجهولان ــ، ومن مرسل علي بن زيد بن جُدعان، ومن مغازي موسى بن عقبة.
(2)
زيد في المطبوع بعده: «عمَّا كان عليه» نقلًا عن «سيرة ابن هشام» بلا تنبيه، وليست في شيء من الأصول، ولا في «عيون الأثر» مصدر المؤلف.
(3)
لفظ العجُز في المطبوع: «متيم إثرها لم يفدَ مكبول» خلافًا للأصول، وكذا في مطبوعة «عيون الأثر» خلافًا لأصوله الخطية. وفي الأبيات الآتية أيضًا شيء من مثل هذا التصرُّف والتغيير، أكتفي بهذا التنبيه عن التنصيص عليها في مواضعها.
وقوله: «بانت» أي: فارقتني. و «متبول» : أسقمه الحبُّ وأضناه. و «متيَّم» : مستعبَدٌ استعبده الحبُّ. و «لم يُجزَ» : لم يُفدَ من الأسر. و «مكبول» : مقيَّد.
إلى أن قال
(1)
:
يمشي الغُواة بجنبَيها وقولهمُ
…
إنك يا ابن أبي سُلمى لمقتولُ
وقال كلُّ صديقٍ كنت آمُلُه
…
لا أُلْهِينَّك إني عنك مشغولُ
فقلت خلُّوا طريقي لا أبًا لكمُ
…
فكل ما قدَّر الرحمن مفعولُ
(2)
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
…
يومًا على آلةٍ حدباءَ محمولُ
(3)
نُبِّئتُ أن رسول الله أوعدني
…
والعفو عند رسول الله مأمولُ
مهلًا هداك الذي أعطاك نافلة الـ
…
ـفرقان فيها مواعيظ وتفصيلُ
(4)
لا تأخذَنِّي بأقوال الوُشاة ولم
…
أُذنبْ ولو كثرت فيَّ الأقاويلُ
لقد أقوم مقامًا لو يقوم به
…
يرى ويسمع ما قد أَسمعُ الفيلُ
لظلَّ ترعد من خوفٍ بوادره
…
إن لم يكن من رسول الله تنويلُ
(5)
حتى وضعت يميني ما أنازعها
…
في كفِّ ذي نَقِمات قولُه القيلُ
(6)
(1)
«إلى أن قال» ساقط من المطبوع.
(2)
ف، هامش ص، هامش د:«مقبول» .
(3)
الآلة: سرير الميت. الحدباء: المرتفعة، ومنه: الحَدَب من الأرض.
(4)
النافلة: الزيادة، سمَّى الفرقان نافلة إشارة إلى أن الله أنعم على رسوله بالنبوة وبعلوم عظيمة علّمه إياها، وجعل القرآن زيادة له على ذلك، وبنحوه فسِّر قولُه تعالى:{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي: زيادة على الذي أحسنه موسى من العلم والحكمة.
(5)
معنى البيتين: لقد قمتُ بين يدي رسول الله مقامًا لو قام به الفيل يرى ويسمع ما أرى وأسمع= لظلَّ يرعد من الفزع إن لم يُنوِّلْني ــ أي: يعطيني ــ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمانًا منه.
(6)
ذو نَقِمات: رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه صاحب غزواتٍ ومعارك انتقم فيها من أعداء الله. قوله القيل: أي قوله هو القول التام المعتدّ به، لكونه ماضيًا نافذًا.
فَلَهْوَ أخوفُ عندي إذْ أكلِّمه
…
وقيل: إنك منسوب ومسؤولُ
(1)
من ضيغمٍ بضراءِ الأرض مُخْدَرُهُ
…
في بطنِ عَثَّرَ غِيلٌ دونه غِيلُ
(2)
يغدو فيُلحِم ضِرغامَين عَيشُهما
…
لحمٌ من الناس مَعفورٌ خَراديلُ
(3)
إذا يساور قِرنًا لا يحلُّ له
…
أن يترك القِرْنَ إلا وهو مَفلولُ
(4)
منه تظل حميرُ الجوِّ نافرةً
…
ولا تمشَّى بِواديه الأراجِيلُ
(5)
ولا يزال بِواديه أخو ثقة
…
مضرَّجَ البزِّ والدِّرسَين مأكولُ
(6)
إن الرسول لنور يستضاء به
…
مُهنَّدٌ مِن سيوف الله مسلولُ
في عُصبةٍ من قريش قال قائلهمْ
…
ببطن مكة لما أسلموا: زُولوا
(7)
(1)
أي: وقد قيل لي قبل أن أقف بين يديه: إنك نُسبتَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمورٍ عظائمَ صدرت منك، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سائلك عنها.
(2)
الضراء: البراز والفضاء. المُخْدَر: عرين الأسد الذي يختدر فيه. عَثَّر: أرض باليمن معروفة بكثرة الأُسود. الغِيل: الشجر الملتف. والمراد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخوف عنده إذ يقف بين يديه من ليث غاباتٍ خرج من عرينه وبرز له في الفضاء.
(3)
أي: أن ذلك الضيغم يغدو ليطلب لحم الصيد لولديه، قُوتُهما خراديلُ ــ أي قِطَعٌ ــ من لحم الناس ملقًى على العَفَر وهو التراب.
(4)
المُساورة: المواثبة والمصارعة. القِرن: النظير في الشجاعة والإقدام. المفلول: المسكور المهزوم.
(5)
الجوّ: البرُّ الواسع. الأراجيل: جمع رجلٍ.
(6)
أخو ثقة: الشجاع الواثق بشجاعته .. مُضرَّج البزِّ: مُلَطَّخٌ ثيابُه بالدم، والرواية المشهورة:«مطرَّح البزِّ» أي: ملقى السلاح. الدِّرْس: الثوب الخَلَق. والمراد: أنه لا يزال الشجعان يقعون فَرسى لذلك الضَّيغم بواديه.
(7)
زُولُوا أي: انتقِلُوا من مكة إلى المدينة، يعني بذلك الهجرة.
زالوا فما زال أنكاس ولا كُشُفٌ
…
عِندَ اللقاء ولا مِيلٌ معازِيلُ
(1)
يمشون مشيَ الجِمال الزُّهْرِ يَعصِمهمْ
…
ضَرْبٌ إذا عرَّد السُّودُ التنابيلُ
(2)
شُمُّ العرانين أبطالٌ لَبوسُهُمُ
…
مِن نسج داود في الهَيجا سرابيلُ
بِيضٌ سوابغُ قد شُكَّت لها حَلَقٌ
…
كأنها حَلَق القفعاء مجدولُ
(3)
ليسوا مفاريحَ إن نالت رماحُهُمُ
…
قومًا وليسوا مجازيعًا إذا نِيلوا
لا يقع الطعنُ إلا في نحورهمُ
…
وما لهم عن حِياض الموت تَهلِيلُ
(4)
قال ابن إسحاق
(5)
: قال عاصم بن عمر بن قتادة: فلما قال كعب: «إذا عرَّد السُّود التنابيل» وإنما عنى معشر الأنصار لِما كان صاحبنا صنع به، وخص المهاجرين بمدحته= غضب عليه الأنصار، فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار قصيدتَه التي يقول فيها:
(1)
هذا البيت من س، هامش ز، ومصدر المؤلف، وقد أخلَّت به سائر الأصول.
والأنكاس: جمع نِكْس وهو الرجل الضعيف المهين. والكشف: جمع أكشف وهو الذي لا ترس معه في الحرب. والمِيل: جمع أمْيَل وهو الذي لا سيف معه أو الذي لا يُحسن الركوب. والمعازيل: جمع مِعْزَل وهو الذي لا سلاح معه. والمراد: أنهم انتقلوا من مكة وليس فيهم مَن هذه صفته، بل هم أقوياء ذوو سلاح فرسان عند اللقاء.
(2)
الزُّهر: البِيض. وعَرَّد: فرَّ وهرب. التنابيل: جمع تِنْبال وهو القصير. والمراد مدح الصحابة بالوقار والسؤدد والشجاعة عند اللقاء.
(3)
القفعاء: بقلة تنبسط على وجه الأرض، يُشبَّه بورقها حَلَقُ الدُّرُوع. والمجدول: المحكم الصنعة.
(4)
التهليل: التأخير. والمراد وصفهم بالإقدام في الحرب وعدم الفرار.
(5)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 514) وعنه في «عيون الأثر» (2/ 212).
من سرَّه كرمُ الحياة فلا يزل
…
في مِقْنَبٍ من صالحي الأنصارِ
(1)
ورثوا المكارم كابرًا عن كابرٍ
…
إن الخيار همُ بنو الأخيارِ
الباذلين نفوسهم لنبيِّهم
…
يومَ الهِياج وفتنةِ الأحبار
(2)
والذائدين الناس عن أديانهم
…
بالمَشْرَفِيِّ وبالقَنا الخَطَّارِ
(3)
والبائعين نفوسهم لنبيِّهم
…
للموت يوم تعانُقٍ وكِرارِ
يتطهرون يرونه نُسُكًا لهم
…
بدماءِ من عَلِقوا من الكفارِ
وإذا حللت ليمنعوك إليهمُ
…
أصبحتَ عند معاقل الأغفارِ
(4)
قوم إذا خَوَتِ النجوم فإنهم
…
للطارقين النازلين مقاري
(5)
وكعب بن زهير من فحول الشعراء هو، وأبوه، وابنه عقبة، وابن ابنه العوَّام بن عقبة.
ومما يستحسن لكعب قوله
(6)
:
لو كنتُ أعجب من شيءٍ لأعجبني
…
سعيُ الفتى وهو مخبوءٌ له القَدَرُ
(1)
المقنب: جماعة من الفرسان.
(2)
المطبوع: «وسطوة الجبار» خلافًا للأصول ومصدر المؤلف. ولعل المراد بـ «فتنة الأحبار» الفتن التي أثارتها يهود المدينة وقتال النبي صلى الله عليه وسلم لهم.
(3)
المشرفي: السيف، والقنا الخطار: الرمح المهتز.
(4)
الأغفار: جمع غُفْر، وهو ولد الوعل. المراد مدح الأنصار بأن من يلجأ إليهم يكون محصَّنًا وممتنعًا كامتناع الوعول في قُلَل الجبال.
(5)
المقاري: جمع المِقْرَى أو المِقراء، وهو الذي يقري الضيف.
(6)
انظر: «شرح ديوان كعب بن زهير» صنعة أبي سعيد السُّكَّري (ص 229) ط. دار الكتب والوثائق القومية.
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها
…
فالنفس واحدة والهمُّ منتشرُ
(1)
والمرء ما عاش ممدود له أملٌ
…
لا تنتهي العينُ حتى ينتهي الأثر
ويستحسن له أيضًا قوله في النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
:
تُحْدى به الناقةُ الأَدماء مُعتجِرًا
…
بالبُرْدِ كالبدر جَلَّى ليلةَ الظُّلَمِ
(3)
ففي عِطافَيه أو أثناءِ بُردته
…
ما يعلم الله مِن دينٍ ومن كرم
* * *
(1)
«فالنفس» غير محرّرة في ف، ب، وتصحّف في ص، د، ث إلى «كالنفس» .
(2)
كما في «زهر الآداب» للقيرواني (4/ 1161) و «العمدة» لابن رشيق (2/ 136) مع اختلاف يسير في الرواية، ولم أجده في «ديوانه» صنعة أبي سعيد السكري.
(3)
الناقة الأدماء: أي مشرَبٌ لونها بياضًا. والأُدمة في الناس شربة من سواد، وفي الإبل والظباء من بياض.