المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي فقه هذه القصة - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصلفي هديه في الجهاد والغزوات

- ‌فصلفي مبدأ الهجرة التي فرق الله فيها بين أوليائه وأعدائه

- ‌فصلفي بناء المسجد

- ‌فصلفي هديه في الأسارى

- ‌فصلفي هديه فيمن جسَّ عليه

- ‌ أنَّ من أسلم على شيءٍ في يده فهو له

- ‌فصلفي هديه في الأرض المغنومة

- ‌فصلفي ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقينمن حين بُعث(3)إلى حين لقي الله عز وجل

- ‌فصلفي سياق مغازيه وبعوثه على وجه الاختصار

- ‌فصلفي قتل كعب بن الأشرف

- ‌فصلفي غزوة أحد

- ‌فصلفيما اشتملت عليه هذه الغزاة من الأحكام والفقه

- ‌فصلفي ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أُحُد

- ‌فصلفي غزوة دُومة الجندل

- ‌ سنة خمس

- ‌فصلفي غزوة المُرَيسِيع

- ‌فصلفي غزوة الخندق

- ‌فصلفي سريّة نجد

- ‌فصلفي غزوة الغابة

- ‌ سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القَصَّة

- ‌ سرية زيد بن حارثة إلى الطَّرَف

- ‌ سريةُ عبد الرحمن بن عوف إلى دُومة الجندل

- ‌فصلفي قصة الحديبية

- ‌فصلفي بعض ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض الحكم التي تضمنتها هذه الهدنة

- ‌فصلفي غزوة خيبر

- ‌فصلفيما كان في غزوة خيبر من الأحكام الفقهية

- ‌ جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا استُغني عنهم

- ‌ جواز عتق الرجل أمتَه وجعلِ عتقها صداقًا لها

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌ سرية أبي بكر الصديق إلى نجد قِبَلَ بني فزارة

- ‌ سرية بَشير بن سعد الأنصاري إلى بني مُرَّة بفَدَكٍ

- ‌فصلفي سرية عبد الله بن حُذافة السَّهمي

- ‌فصلفي عمرة القضية

- ‌فصلفي غزوة مؤتة

- ‌ سنة ثمان

- ‌فصلفي غزوة ذات السُّلاسل

- ‌فصلفي سرية الخَبَط

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌ جواز أكل ميتة البحر

- ‌فصلفي الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحَرَمه الأمينواستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدًى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين

- ‌ذكر سرية خالد بن الوليد إلى بني جَذِيمة

- ‌فصلفي الإشارة إلى ما في هذه الغزوة من الفقه واللطائف

- ‌فصلفيما في خطبته العظيمة ثاني يوم الفتح من أنواع العلم

- ‌«إن مكة حرَّمها الله ولم يحرمها الناس»

- ‌«فلا يحل لأحد أن يسفك بها دمًا»

- ‌فصلفي غزاة حنين

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهيةوالنكت الحُكمية

- ‌ جواز انتظار الإمام بقَسْم الغنائمِ إسلامَ الكفار

- ‌فصلفي غزوة الطائف في شوال سنة ثمان

- ‌ سنةُ تسعٍ

- ‌فصلفي السرايا والبعوث في سنة تسع

- ‌ذكر سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم

- ‌فصلذكر سرية قُطبة بن عامر بن حَدِيدة إلى خَثْعَمَ

- ‌فصل(2)ذكر سرية الضحاك بن سفيان الكِلابي إلى بني كلاب

- ‌فصلذِكر سرية علقمة بن مُجَزِّزٍ المُدْلِجي إلى الحبشة

- ‌ذكر سرية علي بن أبي طالب إلى صنم طَيِّئٍ ليهدمه

- ‌ذكر قصة كعب بن زُهَير مع النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي غزوة تبوك

- ‌فصلفي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أُكَيدِرِ دُومةَ

- ‌فصلفي خطبته صلى الله عليه وسلم بتبوك وصلاته

- ‌فصلفي جمعه بين الصلاتين في غزوة تبوك

- ‌فصلفي رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك وما همَّ المنافقون به من الكيد به

- ‌فصلفي أمر مسجد الضِّرار الذي نهى الله رسوله أن يقوم فيه

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من الفقه والفوائد

- ‌ ما اشتملت عليه قصة الثلاثة الذين خلفوا من الحكم والفوائد الجمة

- ‌فصلفي قدوم وفود العرب وغيرهم على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر وفد بني عامر ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم على عامر بن الطفيل وكفاية الله له(3)شرَّه وشرَّ أَرْبَدَ بن قيسٍ بعد أن عصم منهما نبيه

- ‌فصلفي قدوم وفد عبد القيس

- ‌فصلفي قدوم وفد بني حنيفة

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد طيِّئٍ على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد كِندة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم الأشعريين وأهل اليمن

- ‌فصلفي قدوم وفد الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني الحارث بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد هَمْدان عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد مُزَينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد دَوسٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بخيبر

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد نجران عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم رسول فروة بن عمرو الجُذامي ملك عربِ الروم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني سعد بن بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم طارق بن عبد الله وقومه على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد تُجيب

- ‌فصلفي قدومِ وفد بني سعدِ هُذَيمٍ من قُضاعة

- ‌فصلفي قدوم وفد بني فَزارة

- ‌فصلفي قدوم وفد بني أسد

- ‌فصلفي قدوم وفد بَهْراء

- ‌فصلفي قدوم وفد عُذْرة

- ‌فصلفي قدوم وفد بَلِيٍّ

- ‌فصلفي قدوم وفد ذي مُرَّة

- ‌فصلفي قدوم وفد خَولان

- ‌فصلفي قدوم وفد مُحارب

- ‌فصلفي قدوم وفد صُداءٍ في سنة ثمان

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد غسَّان

- ‌فصلفي قدوم وفد سَلامان

- ‌فصلفي قدوم وفد بني عَبْس

- ‌فصلفي قدوم وفد غامد

- ‌فصلفي قدوم وفد الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني المُنتفِق(1)على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد النَّخَع على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر هديه صلى الله عليه وسلم في مكاتباته إلى الملوك وغيرهم

- ‌فصلفي كتابه إلى الحارث بن أبي شِمر الغَسَّاني

الفصل: ‌فصلفي فقه هذه القصة

‌فصل

في فقه هذه القصة

ففيها: جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين.

وفيها: تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفي مساجدهم أيضًا إذا كان ذلك عارضًا، ولا يمكَّنون من اعتياد ذلك.

وفيها: أن إقرار الكافر

(1)

الكتابي للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه نبي لا يدخله في الإسلام ما لم يلتزم طاعته ومتابعته، فإذا تمسك بدينه بعد هذا الإقرار لا يكون ردَّةً منه.

ونظير هذا قول الحَبرَين له وقد سألاه عن ثلاث مسائل، فلما أجابهم

(2)

قالا: نشهد أنك نبي، قال:«فما يمنعكما من اتباعي؟» قالا: إنَّا نخاف أن تقتلنا يهود

(3)

، ولم يلزمهما بذلك الإسلام.

(1)

النسخ المطبوعة: «الكاهن» ، تصحيف.

(2)

كذا في جميع الأصول. وفي النسخ المطبوعة: «أجابهما» .

(3)

أخرجه أحمد (18092) والترمذي وصححه (2733، 3144) والنسائي في «المجتبى» (4078) و «الكبرى» (3527) والحاكم (1/ 9) والضياء في «المختارة» (8/ 28 - 30) من حديث عمرو بن مرّة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان بن عسَّال رضي الله عنه، وفيه أنهما جاءا ليسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسع الآيات البينات التي آتاها الله موسى. وفي إسناده لين لأن عبد الله بن سلمة هذا مختلف فيه، وفي متنه نكارة. قال النسائي في «الكبرى» عقب الحديث:«هذا حديث منكر. حُكي عن شعبة قال: سألت عمرو بن مرّة عن عبد الله بن سلمة فقال: تعرف وتنكر» . وانظر: «تفسير ابن كثير» (الإسراء: 101) وتعليق محققي «المسند» (طبعة الرسالة).

ص: 806

ونظير ذلك شهادة عمِّه أبي طالب له بأنه صادق وأن دينه من خير أديان البرية

(1)

، ولم تُدخله هذه الشهادة في الإسلام.

ومن تأمل ما في السيرة والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام= علم أن الإسلام أمرٌ وراءَ ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهرًا وباطنًا.

وقد اختلف أئمة الإسلام في الكافر إذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله ولم يَزِد، هل يُحكم بإسلامه بذلك؟ على ثلاثة أقوال، وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد:

إحداها: يُحكم بإسلامه بذلك.

والثانية: لا يحكم بإسلامه حتى يأتي بشهادة أن لا إله إلا الله.

والثالثة: أنه إن كان مُقرًّا بالتوحيد حكم بإسلامه، وإن لم يكن مُقرًّا لم يحكم بإسلامه حتى يأتي به

(2)

.

وليس هذا موضع استيفاء هذه المسألة، وإنما أشرنا إليها إشارةً، وأهلُ الكتابين مُجمِعون على أن نبيًّا يخرج في آخر الزمان، وهم ينتظرونه، ولا يشك علماؤهم في أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وإنما يمنعهم من الدخول في الإسلام رئاستهم على قومهم وخضوعُهم لهم وما ينالونه منهم من المال والجاه.

(1)

وذلك في أبيات ذكرها عنه ابن إسحاق. انظر: «دلائل النبوة» (2/ 188).

(2)

انظر: «المغني» (12/ 289) و «الفروع» (10/ 197).

ص: 807

ومنها: جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته مِن إسلامِ مَن يُرجى إسلامه أو إقامةِ الحجة عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة، فليُوَلِّ ذلك أهلَه، وليُخَلِّ بين المطيِّ وحاديها والقوسِ وباريها، ولولا خشية الإطالة لذكرنا من الحجج التي تُلزم أهلَ الكتابين الإقرارَ بأنه رسول الله، بما في كتبهم، وبما يعتقدونه، وبما لا يمكنهم دفعه= ما يزيد على مائة طريقٍ، ونرجو من الله سبحانه إفرادها بمصنَّفٍ مستقل

(1)

.

ودار بيني وبين بعض علمائهم مناظرة في ذلك فقلت له في أثناء الكلام: لا يتم لكم القدح في نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم إلا بالطعن في الرب تبارك وتعالى، والقدحِ فيه ونسبته إلى أعظم الظلم والسَّفَه والفساد ــ تعالى الله عن ذلك ــ، فقال كيف يلزمنا ذلك؟ قلت: بل أبلغ من ذلك، لا يتم لكم ذلك إلا بجحوده وإنكار وجوده تعالى، وبيان ذلك: أنه إذا كان محمد عندكم ليس بنبيٍّ صادق، وهو بزعمكم ملك ظالم، فقد تهيَّأ له أن يفتري على الله ويتقوَّل عليه ما لم يقله، ثم يتمُّ له ذلك ويستمر حتى يُحرِّم ويحلِّل، ويفرض الفرائض، ويُشرِّع الشرائع، وينسخ الملل، ويضرب الرقاب، ويقتل أتباعَ الرسل وهم أهل الحق، ويسبي نساءهم وأولادهم، ويغنم أموالهم وديارهم، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض ويَنسب ذلك كلَّه إلى أمر الله له به ومحبته له، والربُّ تعالى يشاهده وما يفعل بأهل الحق وأتباع الرسل وهو مستمرٌّ في الافتراء عليه ثلاثًا وعشرين سنةً، وهو مع ذلك كلِّه يؤيده وينصره ويُعلي أمرَه، ويُمكِّن له من أسباب النصر الخارجةِ عن عادة البشر.

(1)

لم نجد له ذكرًا عند مترجميه، ولعل المؤلف لم يفرغ له، غير أنه ذكر طرفًا يسيرًا من تلك الطرق والدلائل في آخر «هداية الحيارى» (ص 430 - 450).

ص: 808

وأبلغ

(1)

من ذلك أنه يجيب دعواتِه ويُهلك أعداءَه من غير فعل منه نَفسِه ولا سببٍ، بل تارةً بدعائه وتارةً يستأصلهم سبحانه من غير دعاء منه صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك يقضي له كلَّ حاجةٍ سأله إياها، ويَعِده كلَّ وعد جميل ثم ينجز له وعده على أتمِّ الوجوه وأهنئها وأكملها. هذا وهو عندكم في غاية الكذب والافتراء والظلم، فإنه لا أكذب ممن كذب على الله واستمر على ذلك، ولا أظلم ممن أبطل شرائع أنبيائه ورسله وسعى في رفعها من الأرض وتبديلها بما يريد هو، وقتل أولياءه وحزبه وأتباع رسله واستمرَّت نصرته عليهم دائمًا، والله تعالى في ذلك كلِّه يُقرُّه ولا يأخذ منه باليمين ولا يقطع منه الوتين وهو يخبر عن ربه أنه أوحى إليه أنه لا أظلمَ ممن افترى على الله كذبًا، أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله

(2)

؛ فيلزمكم ــ معاشر من كذَّبه ــ أحدُ أمرين لا بد لكم منهما:

إما أن تقولوا: لا صانعَ للعالَم ولا مدبِّر، ولو كان للعالم صانع مدبر قدير حكيم لأخذ على يديه وقابَلَه أعظمَ مقابلةٍ وجعله نكالًا للصالحين

(3)

، إذ لا يليق بالملوك غيرُ هذا، فكيف بملك الأرض والسماوات وأحكم الحاكمين؟!

الثاني: نسبة الرب إلى ما لا يليق به من الجَور والسفه والظلم، وإضلالِ الخلق دائمًا أبد الآباد، ونُصرةِ الكاذب والتمكين له في الأرض، وإجابة

ص: 809

دعواته وقيامِ أمره من بعده، وإعلاءِ كلماته دائمًا، وإظهار دعوته والشهادة له بالنبوة قرنًا بعد قرن على رؤوس الأشهاد في كل مَجمعٍ ونادٍ؛ فأين هذا مِن فعل أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين؟! فلقد قدحتم في رب العالمين أعظمَ قدح وطعنتم فيه أشدَّ طعنٍ أو

(1)

أنكرتموه بالكلية.

ونحن لا ننكر أن كثيرًا من الكذابين قام في الوجود وظهرت له شوكة ولكن لم يتمَّ له أمره ولم تَطُلْ مُدَّته، بل سَلَّط عليه رُسُلَه وأتباعهم فمحقوا أثره وقطعوا دابره واستأصلوا شأفته. هذه سنته في عباده منذ قامت الدنيا وإلى أن يرث الأرض ومن عليها.

فلما سمع مني هذا الكلام قال: معاذ الله أن نقول إنه ظالم أو كاذب، بل كل مُنصفٍ من أهل الكتاب يقرُّ بأن من سلك طريقه واقتفى أثره فهو من أهل النجاة والسعادة في الأخرى. قلت له: فكيف يكون سالك طريق الكذَّاب ومقتفي أثره بزعمكم من أهل النجاة والسعادة؟ فلم يجد بُدًّا من الاعتراف برسالته ولكن لم يُرسَل إليهم. قلت: فقد لزمك تصديقُه ولا بد، وهو قد تواتر عنه الأخبار بأنه رسول رب العالمين إلى الناس كافَّةً كتابيِّهم وأُميِّهم، ودعا أهل الكتاب إلى دينه، وقاتل من لم يدخل في دينه منهم حتى أقرَّ بالصغار والجزية؛ فبُهت الكافر ونهض من فوره.

والمقصود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل في جدال الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم إلى أن توفي، وكذلك أصحابه من بعده، وقد أمر الله سبحانه

(1)

كذا في ف، ب، الطبعة الهندية. وفي سائر الأصول: واو العطف، وكذا في طبعة الرسالة.

ص: 810

بجدالهم بالتي هي أحسن في السور المكية والمدنية

(1)

، وأمره أن يدعوهم بعد ظهور الحجة إلى المباهلة. وبهذا قام الدين، وإنما جُعل السيف ناصرًا للحجة، وأعدل السيوف سيفٌ ينصر حجج الله وبيناتِه، وهو سيف رسوله وأمته.

فصل

ومنها: أن مَن عظَّم مخلوقًا فوق منزلته التي يستحقها بحيث أخرجه عن منزلة العبودية المحضة، فقد أشرك بالله وعبَدَ مع الله غيره، وذلك مخالف لجميع دعوة الرسل.

وأما قوله: إنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى نجران: «باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب» ، فلا أظن ذلك محفوظًا، وقد كتب إلى هرقل:«بسم الله الرحمن الرحيم» ، وهذه كانت سنته في كتبه إلى الملوك كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقد وقع في هذه الرواية هذا، وقال: «وذلك قبل أن يُنزل الله عليه

(2)

: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين

(3)

(4)

. وذلك غلط على غلط، فإن هذه

(1)

سواءٌ كان الأمر باللفظ الصريح كقوله تعالى في سورة النحل ــ وهي مكية ــ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [125]، أو كان متضمِّنًا في الحجج التي أرشد الله رسوله وأمته إليها ليخاطبوا بها الكفار ويجادلوهم بها.

(2)

ث، س، المطبوع:«أن يَنزل عليه» .

(3)

ف، د، ث:«آيات القرآن المبين» ، سهو.

(4)

أي قبل أن تنزل عليه سورة النمل التي فيها قوله تعالى: {الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا} [29 - 30].

ص: 811

السورة مكية باتفاق، وكتابه إلى نجران بعد مرجعه من تبوك.

وفيها: جواز إهانة رسل الكفار وترك إكرامهم

(1)

إذا ظهر منهم التعاظم والتكبر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكلِّم الرسل ولم يردَّ السلام عليهم حتى لبسوا ثياب سفرهم وألقَوا حُلَلهم وحِلاهم.

ومنها: أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا بل أصرُّوا على العناد أن يُدعَوا إلى المباهلة. وقد أمر الله سبحانه بذلك رسولَه ولم يقل: إن ذلك ليس لأمتك من بعدك، ودعا إليه ابن عمِّه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع

(2)

ولم يُنكِر عليه الصحابة، ودعا إليه الأوزاعيُّ سفيانَ الثوريَّ في مسألة رفع اليدين

(3)

ولم ينكر عليه ذلك؛ وهذا من تمام الحجة.

ومنها: جواز صلح أهل الكتاب على ما يريد الإمام من الأموال مِن الثياب وغيرها، ويجرى ذلك مجرى ضرب الجزية عليهم، فلا يحتاج إلى أن يُفرِد كلَّ واحدٍ منهم بجزية، بل يكون ذلك المال جزيةً عليهم يقتسمونها كما أحبُّوا.

ولما بعث معاذًا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا

(4)

. والفرق بين الموضعين أن أهل نجران لم يكن فيهم مسلم، وكانوا أهلَ صلحٍ، وأما اليمن فكانت دارَ إسلامٍ وفيهم يهود، فأمره أن يضرب الجزية على كل واحد

(1)

ن، والنسخ المطبوعة:«كلامهم» .

(2)

انظر: «مصنف عبد الرزاق» (19024) و «سنن سعيد بن منصور» (37) و «الفقيه والمتفقه» للخطيب (749، 750).

(3)

أسنده البيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 82).

(4)

حديث صحيح، سبق تخريجه (ص 182).

ص: 812

منهم. والفقهاء يخصون الجِزية بهذا القسم دون الأول، وكلاهما جزية، فإنه مال مأخوذ من الكفار على وجه الصَّغار في كل عام.

وفيها: جواز ثبوت الحلل في الذمَّة، كما تثبت في الدية أيضًا

(1)

. وعلى هذا فيجوز ثبوتها في الذمة بعقد السَّلَم وبالضمان وبالتَّلَف، كما تثبت فيها بعقد الصَّداق والخُلع.

ومنها: أنه يجوز معاوضتهم على ما صالحوا عليه من المال بغيره من أموالهم بحسابه.

ومنها: اشتراط الإمام على الكفار أن يؤووا رسله ويُكرموهم ويضيفوهم أيامًا معدودةً.

ومنها: جواز اشتراطه عليهم عارية ما يحتاج المسلمون إليه من سلاح أو متاع وحيوان

(2)

، وأن تلك العارية مضمونة، لكن هل هي مضمونة بالشرط أو بالشرع؟ هذا محتمِل، وقد تقدم الكلام عليه في غزوة حنين

(3)

، وقد صرَّح هاهنا بأنها مضمونة بالرد، ولم يتعرض لضمان التلف.

ومنها: أن الإمام لا يقرُّ أهل الكتاب على المعاملات الربوية، لأنها حرام في دينهم. وهذا كما لا يقرُّهم على السُّكر ولا على اللواط والزنا، بل يحدُّهم على ذلك.

(1)

وذلك أن عمر رضي الله عنه لمَّا استخلف فرض مقادير الدية من كلٍّ من الذهب والوَرِق والبقر والشاء والحُلَل ما يُعادل المائة من الإبل، ففرض على أهل الحُلَل مائتَي حُلَّة. انظر:«سنن أبي داود» (4542) و «الأوسط» لابن المنذر (13/ 148 - 149).

(2)

ز، ن، المطبوع:«أو حيوان» .

(3)

(ص 598 - 600).

ص: 813

ومنها: أنه لا يجوز أن يؤخذ من الكفار رجلٌ بظلمِ آخرَ، كما لا يجوز ذلك في حق المسلمين وكلاهما ظلم.

ومنها: أن عقد العهد والذمة مشروط بنصح أهل العهد والذمة وإصلاحهم، فإذا غشُّوا المسلمين وأفسدوا

(1)

فلا عهد لهم ولا ذمة. وبهذا أفتينا نحن وغيرنا في انتقاض عهدهم لما حرَّقوا الحريق العظيم في دمشق حتى سرى إلى الجامع، وبانتقاض عهد من واطأهم وأعانهم بوجهٍ ما، بل ومن علم ذلك ولم يرفعه إلى ولي الأمر؛ فإن هذا من أعظم الغش والضرر بالإسلام والمسلمين

(2)

.

ومنها: بعث الإمام الرجل العالِم إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام، وأنه ينبغي أن يكون أمينًا، وهو الذي لا غرض له ولا هوى، وإنما مراده مجرَّد مرضاة الله ورسوله لا يشوبها بغيرها؛ فهذا هو الأمين حقَّ الأمين، كحال أبي عبيدة بن الجراح.

ومنها: مناظرة أهل الكتاب وجوابهم عمَّا سألوه عنه، فإن أشكل على المسؤول سأل أهل العلم.

ومنها: أن الكلام عند الإطلاق يُحمَل على ظاهره حتى يقوم دليل على خلافه، وإلا لم يشكل على المغيرة قوله تعالى:{يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28]، هذا وليس في الآية ما يدل على أنه هارون بن عمران حتى يَلزم الإشكال، بل المُورِد ضمَّ إلى هذا أنه هارون بن عمران، ولم يكتفِ بذلك

(1)

أُقحم في طبعة الرسالة بعده: «في دينهم» ، ولا وجود له في شيء من الأصول ولا في الطبعات السابقة.

(2)

انظر ما سبق (ص 162).

ص: 814

حتى ضمَّ إليه أنه أخو موسى بن عمران! ومعلوم أنه لا يدل اللفظ على شيء من ذلك، فإيراده إيرادٌ فاسد، وهو إما من سوء الفهم أو من فساد القصد.

وأما قول ابن إسحاق: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب إلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم، فقد يُظن أنه كلام متناقض لأن الصدقة والجزية لا تجتمعان. وأشكل منه ما ذكره هو وغيره

(1)

أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر وجُمادى الأولى

(2)

سنة عشرٍ إلى بني الحارث بن كعب بنجران وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثًا، فإن استجابوا فاقبَلْ منهم وإن لم يفعلوا فقاتِلْهم، فخرج خالد حتى قدم عليهم فبعث الركاب يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام فأسلم الناس ودخلوا فيما دُعُوا إليه، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقبِل، ويُقبل إليه بوفدهم. وقد تقدم أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالحوه على ألفَي حُلَّة، وكتب لهم كتاب أمن وأن لا يغيَّروا عن دينهم ولا يُحشَروا ولا يُعشَروا.

وجواب هذا: أن أهل نجران كانوا صنفين: نصارى وأميِّين، فصالح النصارى على ما تقدم، وأما الأميُّون منهم فبعث إليهم خالدًا فأسلموا، وقدم وفدهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟» قالوا: كنا نجتمع ولا نتفرَّق ولا نبدأ أحدًا بظلم، قال:«صدقتم» ، وأمَّر عليهم قيس بن الحصين، وهؤلاء هم بنو الحارث بن

(1)

كابن سعد في «الطبقات» ، وقد سبق (ص 783).

(2)

ث، والنسخ المطبوعة:«أو جمادى الأولى» ، وقد سبق أن المثبت هو لفظ ابن إسحاق كما نقله البيهقي وابن سيد الناس.

ص: 815