المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي غزوة أحد - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصلفي هديه في الجهاد والغزوات

- ‌فصلفي مبدأ الهجرة التي فرق الله فيها بين أوليائه وأعدائه

- ‌فصلفي بناء المسجد

- ‌فصلفي هديه في الأسارى

- ‌فصلفي هديه فيمن جسَّ عليه

- ‌ أنَّ من أسلم على شيءٍ في يده فهو له

- ‌فصلفي هديه في الأرض المغنومة

- ‌فصلفي ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقينمن حين بُعث(3)إلى حين لقي الله عز وجل

- ‌فصلفي سياق مغازيه وبعوثه على وجه الاختصار

- ‌فصلفي قتل كعب بن الأشرف

- ‌فصلفي غزوة أحد

- ‌فصلفيما اشتملت عليه هذه الغزاة من الأحكام والفقه

- ‌فصلفي ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أُحُد

- ‌فصلفي غزوة دُومة الجندل

- ‌ سنة خمس

- ‌فصلفي غزوة المُرَيسِيع

- ‌فصلفي غزوة الخندق

- ‌فصلفي سريّة نجد

- ‌فصلفي غزوة الغابة

- ‌ سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القَصَّة

- ‌ سرية زيد بن حارثة إلى الطَّرَف

- ‌ سريةُ عبد الرحمن بن عوف إلى دُومة الجندل

- ‌فصلفي قصة الحديبية

- ‌فصلفي بعض ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض الحكم التي تضمنتها هذه الهدنة

- ‌فصلفي غزوة خيبر

- ‌فصلفيما كان في غزوة خيبر من الأحكام الفقهية

- ‌ جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا استُغني عنهم

- ‌ جواز عتق الرجل أمتَه وجعلِ عتقها صداقًا لها

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌ سرية أبي بكر الصديق إلى نجد قِبَلَ بني فزارة

- ‌ سرية بَشير بن سعد الأنصاري إلى بني مُرَّة بفَدَكٍ

- ‌فصلفي سرية عبد الله بن حُذافة السَّهمي

- ‌فصلفي عمرة القضية

- ‌فصلفي غزوة مؤتة

- ‌ سنة ثمان

- ‌فصلفي غزوة ذات السُّلاسل

- ‌فصلفي سرية الخَبَط

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌ جواز أكل ميتة البحر

- ‌فصلفي الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحَرَمه الأمينواستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدًى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين

- ‌ذكر سرية خالد بن الوليد إلى بني جَذِيمة

- ‌فصلفي الإشارة إلى ما في هذه الغزوة من الفقه واللطائف

- ‌فصلفيما في خطبته العظيمة ثاني يوم الفتح من أنواع العلم

- ‌«إن مكة حرَّمها الله ولم يحرمها الناس»

- ‌«فلا يحل لأحد أن يسفك بها دمًا»

- ‌فصلفي غزاة حنين

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهيةوالنكت الحُكمية

- ‌ جواز انتظار الإمام بقَسْم الغنائمِ إسلامَ الكفار

- ‌فصلفي غزوة الطائف في شوال سنة ثمان

- ‌ سنةُ تسعٍ

- ‌فصلفي السرايا والبعوث في سنة تسع

- ‌ذكر سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم

- ‌فصلذكر سرية قُطبة بن عامر بن حَدِيدة إلى خَثْعَمَ

- ‌فصل(2)ذكر سرية الضحاك بن سفيان الكِلابي إلى بني كلاب

- ‌فصلذِكر سرية علقمة بن مُجَزِّزٍ المُدْلِجي إلى الحبشة

- ‌ذكر سرية علي بن أبي طالب إلى صنم طَيِّئٍ ليهدمه

- ‌ذكر قصة كعب بن زُهَير مع النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي غزوة تبوك

- ‌فصلفي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أُكَيدِرِ دُومةَ

- ‌فصلفي خطبته صلى الله عليه وسلم بتبوك وصلاته

- ‌فصلفي جمعه بين الصلاتين في غزوة تبوك

- ‌فصلفي رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك وما همَّ المنافقون به من الكيد به

- ‌فصلفي أمر مسجد الضِّرار الذي نهى الله رسوله أن يقوم فيه

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من الفقه والفوائد

- ‌ ما اشتملت عليه قصة الثلاثة الذين خلفوا من الحكم والفوائد الجمة

- ‌فصلفي قدوم وفود العرب وغيرهم على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر وفد بني عامر ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم على عامر بن الطفيل وكفاية الله له(3)شرَّه وشرَّ أَرْبَدَ بن قيسٍ بعد أن عصم منهما نبيه

- ‌فصلفي قدوم وفد عبد القيس

- ‌فصلفي قدوم وفد بني حنيفة

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد طيِّئٍ على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد كِندة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم الأشعريين وأهل اليمن

- ‌فصلفي قدوم وفد الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني الحارث بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد هَمْدان عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد مُزَينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد دَوسٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بخيبر

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد نجران عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم رسول فروة بن عمرو الجُذامي ملك عربِ الروم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني سعد بن بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم طارق بن عبد الله وقومه على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد تُجيب

- ‌فصلفي قدومِ وفد بني سعدِ هُذَيمٍ من قُضاعة

- ‌فصلفي قدوم وفد بني فَزارة

- ‌فصلفي قدوم وفد بني أسد

- ‌فصلفي قدوم وفد بَهْراء

- ‌فصلفي قدوم وفد عُذْرة

- ‌فصلفي قدوم وفد بَلِيٍّ

- ‌فصلفي قدوم وفد ذي مُرَّة

- ‌فصلفي قدوم وفد خَولان

- ‌فصلفي قدوم وفد مُحارب

- ‌فصلفي قدوم وفد صُداءٍ في سنة ثمان

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد غسَّان

- ‌فصلفي قدوم وفد سَلامان

- ‌فصلفي قدوم وفد بني عَبْس

- ‌فصلفي قدوم وفد غامد

- ‌فصلفي قدوم وفد الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني المُنتفِق(1)على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد النَّخَع على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر هديه صلى الله عليه وسلم في مكاتباته إلى الملوك وغيرهم

- ‌فصلفي كتابه إلى الحارث بن أبي شِمر الغَسَّاني

الفصل: ‌فصلفي غزوة أحد

‌فصل

في غزوة أحد

ولما قتل اللهُ أشراف قريشٍ ببدر، وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها، ورَأَسَ فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم، وجاء كما ذكرنا إلى أطراف المدينة في غزوة السويق ولم يَنَلْ ما في نفسه= أخذ يُؤَلِّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ويجمع الجموع، فجمع قريبًا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش، وجاءوا بنسائهم لئلَّا يفرُّوا وليحاموا عنهن، ثم أقبل بهم نحو المدينة فنزل قريبًا من جبل أحد بمكان يقال له «عَيْنَين» ، وذلك في شوال من السنة الثالثة.

واستشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة؟ وكان رأيه أن لا يخرجوا من المدينة وأن يتحصَّنوا بها، فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة والنساءُ من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي عبدُ الله بن أُبَي، وكان هو الرأي.

فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يومَ بدرٍ وأشاروا عليه بالخروج وألحُّوا عليه في ذلك، وأشار عبد الله بن أُبَي بالمُقام في المدينة، وتابعه على ذلك بعضُ الصحابة، فألحَّ أولئك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهض ودخل بيته ولبس لَأْمَتَه وخرج عليهم، وقد انثنى عزمُ أولئك وقالوا: أَكْرَهنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، فقالوا: يا رسول الله، إن أحببتَ أن تمكث في المدينة فَافْعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما ينبغي لنبيٍّ إذا لبس لَأْمته أن يضعَها حتى يحكم الله بينه وبين عدوِّه»

(1)

.

(1)

أخرجه أحمد (14787) والدارمي (2205) والنسائي في «الكبرى» (7600) من حديث أبي الزبير عن جابر بنحوه، وأبو الزبير لم يذكر فيه سماعًا من جابر ولكن له شواهد يصحّ به، وقد علّقه البخاري مجزومًا به في كتاب الاعتصام، باب قول الله تعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} . وانظر: «تغليق التعليق» (5/ 330) و «أنيس الساري» (5/ 3185).

ص: 225

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألفٍ من الصحابة، واستعمل

(1)

ابنَ أمِّ مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة.

وكان رسول الله رأى رؤيا وهو بالمدينة، رأى أن في سيفه ثُلمةً، ورأى أن بقرًا تُذبَح، وأنه أدخل يدَه في درعٍ حصينةٍ؛ فتأول الثلمة في سيفه برجلٍ يُصاب من أهل بيته، وتأول البقرَ بنفرٍ من أصحابه يُقتَلون، وتأول الدرعَ بالمدينة

(2)

.

فخرج يوم الجمعة، فلما صار بالشَّوط بين المدينة وأحدٍ انخزل عبدُ الله بن أُبي بنحو ثُلث العسكر وقال: يخالفني ويسمع من غيري! فتبعهم عبدُ الله بن عمرو بن حرام والدُ جابرٍ يُوبِّخهم ويحضُّهم على الرجوع ويقول: تعالوا قاتِلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجِع! فرجع عنهم وسبَّهم.

وسأله قومٌ من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى

(3)

.

(1)

زِيد بعده في م، ق، ب، ث:«على المدينة» .

(2)

روي بنحوه في حديث جابر الذي سبق تخريجه آنفًا. وروي من حديث ابن عباس عند أحمد (2445) والحاكم (2/ 129) وغيرهما بإسناد حسن. وذكره موسى بن عقبة وابن إسحاق في مغازيهما ــ كما في «الدلائل» (3/ 207، 225) ــ بنحوه.

وهناك رؤيا أخرى أطول منها صحّت من حديث أبي موسى الأشعري عند البخاري (3622) ومسلم (2272)، والظاهر من سياقها أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها بمكة، فكان تأويلها الهجرة إلى المدينة وما وقع ببدر وأحد والفتح.

(3)

ذكره ابن إسحاق عن الزهري كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 64). وله شاهد من حديث أبي حميد الساعدي عند ابن سعد (2/ 45) وإسحاق بن راهويه ــ كما في «المطالب العالية» (4263) ــ والحاكم (2/ 122)، قال الحافظ: إسناده حسن.

ص: 226

وسلك حرة بني حارثة وقال: «من رجل يخرج بنا على القوم من كثب؟» ، فخرج به بعضُ الأنصار حتى سلك في حائطٍ لبعض المنافقين وكان أعمى، فقام يحثو التراب في وجوه المسلمين ويقول: لا أُحِلُّ لك أن تدخل في حائطي إن كنتَ رسول الله! فابتدره القوم ليقتلوه فقال: «لا تقتلوه، فهذا أعمى القلب أعمى البصر»

(1)

.

ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشِّعب من أُحُدٍ في عُدوة الوادي وجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرَهم.

فلما أصبح يومَ السبت تعبَّى للقتال، وهو في سبعمائة فيهم خمسون فارسًا، واستعمل على الرُّماة ــ وكانوا خمسين ــ عبدَ الله بن جبير وأمره وأصحابه أن يَلزموا مركزهم، وأن لا يُفارقوه ولو رَأَوا الطيرَ تتخطَّف العسكر

(2)

، وكانوا خلف الجيش، وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنَّبْل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم.

وظاهر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بين درعين

(3)

.

(1)

ذكره ابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 65). وانظر: «مغازي الواقدي» (1/ 218).

(2)

أخرجه البخاري (3039) من حديث البراء ولفظه: «إن رأيتمونا تخطفُنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمْنا القومَ وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» .

(3)

صحّ ذلك في غير ما حديث، منها حديث السائب بن يزيد عند أحمد (15722) وأبي داود (2590) والنسائي في «الكبرى» (8529) بإسناد صحيح.

ص: 227

وأعطى اللواء مصعبَ بن عميرٍ، وجعل على إحدى المُجَنِّبتين الزبيرَ بن العوام، وعلى الأخرى المنذر بن عمرٍو.

واستعرض الشباب يومئذ، فردَّ من استصغره عن القتال، وكان منهم: عبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وأُسَيد بن ظُهَير، والبراء بن عازب، وزيدُ بن أرقم، وزيد بن ثابت، وعَرابة بن أوس، وعمرو بن حزم؛ وأجاز من رآه مطيقًا، وكان منهم: سمرة بن جندب ورافع بن خَدِيج، ولهما خمس عشرة سنةً. فقيل: أجاز من أجاز لبلوغه، وجعلوا حدَّ البلوغ

(1)

بالسن خمس عشرة سنةً، ورَدَّ من ردَّ لصغره عن سن البلوغ.

وقالت طائفة: إنما أجاز من أجاز لإطاقته، وردَّ من ردَّ لعدم الطاقة

(2)

، ولا تأثير للبلوغ وعدمه في ذلك، قالوا: وفي بعض ألفاظ حديث ابن عمر: فلما رآني مطيقًا أجازني

(3)

.

وتعبَّت قريش للقتال، وهم في ثلاثة آلاف وفيهم مائتا فارس، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل.

ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفَه إلى أبي دُجانة سِماك بن خَرَشة، وكان شجاعًا بطلًا يختال عند الحرب

(4)

.

(1)

«وجعلوا حدَّ البلوغ» ساقط من المطبوع.

(2)

كذا في الأصول، وفي المطبوع:«لعدم إطاقته» .

(3)

لم أجده، ويخالفه ما أخرجه البخاري (2664) ومسلم (1868) عن نافع عن ابن عمر أنه قال:«عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزني، وعرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني» . وأخرجه البخاري (4107) عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: «أول يوم شهدته يوم الخندق» .

(4)

«وكان

الحرب» سقط من م، ق، ب، ث. والحديث أخرجه مسلم (2470) عن أنس، ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ سيفًا يوم أحد فقال:«من يأخذ مني هذا؟» فبسطوا أيديهم، كلُّ إنسان منهم يقول: أنا، أنا؛ قال صلى الله عليه وسلم:«فمن يأخذه بحقّه؟» فأحجم القوم، فقال أبو دجانة: أنا آخُذُه بحقه. قال أنس: فأخذه ففَلَق به هام المشركين. وانظر حديث قتادة بن النعمان عند الطبراني في «الكبير» (19/ 9).

ص: 228

وكان أول مَن بَدَر من المشركين يومئذ أبو عامرٍ الفاسق، واسمه عبدُ

(1)

عمرو بن صَيفي، وكان يسمى «الراهب» فسمّاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «الفاسق» ، وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شَرِق به وجاهر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة، فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يُؤلِّبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضُّهم على قتاله، ووعدهم بأن قومَه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه؛ فكان أول من لقي المسلمين، فنادى قومه وتعرَّف إليهم، فقالوا له: لا أنعم الله بك عينًا يا فاسق! فقال: لقد أصاب قومي بعدي شرّ، ثم قاتل المسلمين قتالًا شديدًا.

وكان شعار المسلمين يومئذ: «أَمِت أَمِت»

(2)

. وأبلى يومئذ أبو دجانة الأنصاري، وطلحة بن عبيد الله، وأسد الله وأسد رسوله حمزةُ بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، والنضر بن أنس

(3)

، وسعد بن الرَّبِيع

(4)

.

وكانت الدولةُ أول النهار للمسلمين على الكفار، فانهزم عدو الله وولَّوا

(1)

«عبد» ساقط من ص، ز، د.

(2)

ذكره الواقدي في «مغازيه» (1/ 234، 262) عن شيوخه، وابنُ هشام في «السيرة» (2/ 68).

(3)

هكذا في جميع الأصول، وكذا في الأصل الخطي من «الدرر في المغازي والسير» لابن عبد البر (ص 156) و «جوامع السيرة» لابن حزم (1/ 160) ــ والمؤلف صادر عن ثانيهما ــ، والصواب:«أنس بن النضر» كما في كتب الحديث والتراجم والمغازي، وسيأتي على الصواب بعد صفحتين.

(4)

استُشهد منهم يومئذ: حمزة، وأنس بن النضر، وسعد بن الربيع.

ص: 229

مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم، فلما رأى الرُّماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه وقالوا: يا قومُ الغنيمةَ الغنيمةَ

(1)

! فذكَّرهم أميرُهم عهدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلم يسمعوا وظنُّوا أن ليس للمشركين رجعةٌ، فذهبوا في طلب الغنيمة وأخلَو الثغر، وكرَّ فرسانُ المشركين فوجدوا الثغر خاليًا قد خلا من الرماة، فجازوا منه وتمكنوا حتى أقبل آخرهم فأحاطوا بالمسلمين، فأكرم الله من أكرم منهم بالشهادة وهم سبعون، وتولَّى الصحابةُ وخَلَص المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرحوا وجهَه، وكسروا رَباعيتَه اليمنى وكانت السفلى، وهَشَموا البيضة على رأسه، ورمَوه بالحجارة حتى وقع لشقِّه وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين، فأخذ عليٌّ بيده واحتضنه طلحة بن عبيد الله

(2)

.

وكان الذي تولَّى أذاه ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ عمرو بن قَمِئة

(3)

وعُتبة بن أبي وقاص. وقيل: إن عبدَ الله بن شهابٍ الزُّهري ــ عمَّ محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ــ هو الذي شجَّه.

وقُتِل مصعب بن عمير بين يديه، فدفع اللواء إلى علي بن أبي طالب.

(1)

«الغنيمة» وردت مرة واحدة في ص، د، ز، ث.

(2)

أي: حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في «الدرر» و «جوامع السيرة» .

(3)

كذا سُمِّي في «الدرر» (ص 157) و «جوامع السيرة» (ص 160). والذي عند الطبراني في «الكبير» (8/ 154) من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف، وعند عبد الرزاق (9648) من مرسل يعقوب بن عاصم= أن اسمه عبد الله بن قمئة، وكذا سمَّاه ابن هشام في «السيرة» (2/ 94). ويذكره موسى بن عقبة وابن إسحاق بـ «ابن قمئة» والواقدي بـ «ابن قَميئة» ولا يسمُّونه. انظر:«دلائل النبوة» (3/ 215) و «سيرة ابن هشام» (2/ 80) و «مغازي الواقدي» (1/ 245).

ص: 230

ونَشِبت حلقتان من حِلَق المِغْفَر في وجهه، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعَضَّ عليهما حتى سقطت ثَنيَّتاه مِن شدة غَوصهما في وجهه، وامتصَّ مالكُ بن سنان ــ والدُ أبي سعيد الخدري ــ الدمَ من وجنته. وأدركه المشركون يريدون ما الله حائل بينهم وبينه، فحال دونه نفر من المسلمين نحوُ عشرةٍ حتى قُتلوا، ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه، وترَّس أبو دجانة عليه بظهره والنبلُ يقع فيه وهو لا يتحرك.

وأصيبت يومئذ عينُ قتادةَ بنِ النعمان، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّها عليه بيده، وكانت أصحَّ عينيه وأحسنَهما

(1)

.

وصرخ الشيطان بأعلى صوته: إن محمدًا قد قُتِل، ووقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين، وفرَّ أكثرُهم؛ وكان أمر الله قدرًا مقدورًا

(2)

. ومر أنس بن النَّضْر بقومٍ من المسلمين قد ألقوا بأيديهم، فقال ما تنتظرون؟ فقالوا: قُتِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبَلَ الناس ولقي سعدَ بن معاذ فقال: يا سعدُ، إني لأجد ريح الجنة من دون أُحُد، فقاتل حتى قُتِل، ووجد به سبعون ضربةً

(3)

. وجُرِح يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحوًا من عشرين جراحةً.

(1)

أسنده ابن هشام (2/ 82) وغيره من طريق ابن إسحاق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة. وهو مرسل جيّد، فإن عاصمًا ثقة علَّامة بالمغازي، ولاسيما هذه القصة فإنها وقعت لجدّه.

(2)

وفيه نزل قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} الآية.

(3)

أخرجه البخاري (2805) من حديث أنس بنحوه، وفيه «بضعًا وثمانين ضربة». وانظر:«سيرة ابن هشام» (2/ 83) و «مغازي الواقدي» (1/ 280).

ص: 231

وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المسلمين، فكان أول من عرفه تحت المِغفر كعبُ بن مالك، فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأشار إليه أن: اسكُتْ، واجتمع إليه المسلمون ونهضوا معه إلى الشعب الذي نزل فيه، وفيهم: أبو بكر، وعمر، وعلي، والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم.

فلما أسندوا

(1)

إلى الجبل أدرك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أُبَيَّ بن خلف على جواد يقال له: العَوذ، زعم عدو الله أنه يقتل عليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمَّة فطعنه بها فجاءت في تَرقُوَتِه، فكرَّ عدو الله منهزمًا فقال له المشركون: واللهِ ما بك من بأس، فقال: واللهِ لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين؛ وكان يعلف فرسه بمكة ويقول: أقتل عليه محمدًا، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال:«بل أنا أقتله إن شاء الله» ، فلما طعنه تذكَّر عدو الله قوله: إنه قاتله فأيقن بأنه مقتول من ذلك الجرح، فمات منه في طريقه بسَرِف

(2)

مرجعَه إلى مكة

(3)

.

(1)

ص، د:«اشتدوا» ، تصحيف. وفي المطبوع:«استندوا» .

(2)

وادٍ في شمال مكة، يقطعه طريق مكة إلى المدينة على بُعد عشرة كيلومتراتٍ من التنعيم في قرية النَّوارية، ولا يزال الوادي معروفًا بهذا الاسم.

(3)

قصة قتل النبي صلى الله عليه وسلم أبيًّا ذكرها عروة (من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه) وموسى بن عقبة، كما في «الدلائل» (3/ 258، 211). ورواها ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 84) ــ عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مُرسلًا. وأسندها الواقدي في «مغازيه» (1/ 251) من حديث كعب بن مالك بنحوه. وأخرجها عبد الرزاق (9731) من حديث ابن عبَّاس بإسناد واهٍ، ومن مرسل الزهري بإسناد صحيح إليه.

ص: 232

وجاء عليٌّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء ليغسل عنه الدم، فوجده آجنًا فردَّه

(1)

.

وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلو صخرةً هنالك فلم يستطع لِما به، فجلس طلحة تحته حتى صعدها

(2)

. وحانت الصلاة فصلى بهم جالسًا. وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم تحت لواء الأنصار.

وشدَّ حنظلة الغسيل ــ وهو حنظلة بن أبي عامر ــ على أبي سفيان، فلما تمكَّن منه حمل على حنظلة شدَّادُ بن الأسود فقتله، وكان جنبًا فإنه سمع الصيحة وهو على امرأته فقام من فوره إلى الجهاد، فأخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن الملائكة تَغْسِله، ثم قال:«سلوا أهله ما شأنه؟» فسألوا امرأته فأخبرتهم الخبر

(3)

. وجعل الفقهاء هذا حجةً على أن الشهيد إذا قُتل جنبًا

(1)

كذا في جميع الأصول والطبعة الهندية، وأيضًا في «الفصول» لابن كثير (ص 117) وهو صادر عن المؤلف ــ وسياق طبعة الرسالة: «

بماء ليشرب منه فوجده آجنًا فردّه وغسل عن وجهه الدم وصبَّ على رأسه». وهو تغيير في السياق ليكون موافقًا لما في كتب الحديث والسيرة، فقد ثبت في «الصحيحين» ــ وسيأتي ــ من حديث سهل بن سعد أن فاطمة غسلت وجه النبي صلى الله عليه وسلم بالماء الذي جاء به عليٌّ، وفي «صحيح ابن حبان» (6979) من حديث الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يشرب منه فوجد له ريحًا فعافه، فغسل به الدم الذي في وجهه. وبنحوه ورد في مغازي عروة ــ كما في «الدلائل» (3/ 282 - 283) ــ من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه.

(2)

وحينئذ قال صلى الله عليه وسلم: «أوجب طلحةُ» أي الجنةَ. أخرجه أحمد (1417) والترمذي (1692) وابن حبان (6979) والحاكم (3/ 25) من حديث الزبير.

(3)

أخرجه ابن حبان (7025) والحاكم (3/ 204) من حديث عبد الله بن الزبير بنحوه. وقد روي غسل الملائكة لحنظلة من غير وجه.

ص: 233

يغسل اقتداءً بالملائكة

(1)

.

وقتل المسلمون حاملَ لواء المشركين، فرفعته لهم عَمْرةُ بنت علقمةَ الحارثية حتى اجتمعوا إليه. وقاتلت أم عُمارة وهي نَسِيبة بنت كعب المازِنية قتالًا شديدًا، وضربت عمرَو بن قمئة بالسَّيف ضرباتٍ فوَقَتْه درعان كانتا عليه، وضربها عمرو بالسيف فجرحها جرحًا عظيمًا على عاتقها.

وكان عمرو بن ثابت المعروف بالأُصَيرم من بني عبد الأشهل يأبى الإسلام، فلما كان يومُ أحدٍ قذف الله الإسلام في قلبه للحسنى التي

(2)

سبقت له منه، فأسلم وأخذ سيفه ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فقاتل فأُثبِت بالجراح، ولم يَعلم أحد بأمره، فلما انجلت الحرب طاف بنو عبد الأشهل في القتلى يلتمسون قتلاهم فوجدوا الأُصَيرم وبه رمق يسير، فقالوا: واللهِ إن هذا الأُصَيرم، ما جاء به؟! لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر

(3)

، ثم سألوه: ما الذي جاء بك؟ أحَدَبٌ على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله ثم قاتلت مع رسول الله حتى أصابني ما ترون ومات من وقته، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«هو من أهل الجنة» . قال أبو هريرة: ولم يصل لله صلاةً قط

(4)

.

(1)

واحتجّ به أيضًا من قال: إنه لا يُغسل، لأن بني آدم لم يغسلوه. انظر:«الأصل» للشيباني (1/ 346) و «شرح التلقين» (3/ 1189) و «المغني» (3/ 469) و «المجموع» للنووي (5/ 260).

(2)

في الأصول: «الذي» ، إلا أنه أُصلح في ع إلى المثبت.

(3)

«لهذا الأمر» ليس في م، ق، ب، ث.

(4)

أسنده ابن إسحاق ــ ومن طريقه ابن هشام (2/ 90) وأحمد (23634) ــ بإسناد حسن.

ص: 234

ولما انقضت الحرب أشرف أبو سفيان على الجبل ونادى: أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه، فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه، فقال: أفيكم ابن الخطاب؟ فلم يجيبوه، ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام

(1)

الإسلام بهم، فقال: أمّا هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدوَّ الله، إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله لك ما يسوءك! فقال: قد كان في القوم مُثلة لم آمُر بها ولم تسؤني، ثم قال: اعْلُ هُبَل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تجيبوه

(2)

؟» قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجل» ، ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم! قال: «ألا تجيبوه؟» قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم»

(3)

.

فأمرهم بجوابه عند افتخاره بآلهته وبشِرْكِه تعظيمًا للتوحيد وإعلامًا بعزَّة من عبده المسلمون وقوةِ جانبه، وأنه لا يُغلَب ونحن حزبُه وجنده؛ ولم يأمرهم بإجابته حين قال: أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر؟ بل قد روي أنه نهاهم عن إجابته وقال: «لا تجيبوه»

(4)

، لأن كَلَبَهُم

(5)

لم يكن برد بعدُ في طلب القوم، ونارُ غيظهم بعدُ متوقِّدة؛ فلما قال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، حمي عمرُ بن الخطاب واشتد غضبه وقال: كذبتَ يا

(1)

د، المطبوع:«قوام» .

(2)

في المطبوع هنا وفي الموضع الآتي: «تجيبونه» خلافًا للأصول. و «تجيبوه» هكذا وقع في رواية أبي ذر الهروي لـ «صحيح البخاري» . انظر: «إرشاد الساري» للقسطلاني (5/ 160).

(3)

أخرجه البخاري (3039) من حديث البراء بن عازب.

(4)

كما في روايةٍ عند البخاري (4043) لحديث البراء السابق.

(5)

أي شدة حرصهم. في المطبوع: «كَلْمهم» ، تصحيف.

ص: 235

عدو الله! فكان في هذا الإعلام من الإذلال والشجاعة وعدمِ الجبن والتعرُّفِ إلى العدو في تلك الحال ما يؤذنهم بقوة القوم وبسالتهم، وأنهم لم يَهِنوا ولم يَضْعُفُوا، وأنه وقومه جديرون بعدم الخوف منهم، وقد أبقى الله لهم ما يسوءهم منهم، وكان في

(1)

الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة وهلةً بعد ظنِّه وظنِّ قومه أنهم قد أصيبوا من المصلحة وغيظ العدو وحزنه

(2)

والفَتِّ في عَضُده ما ليس في جوابه حين سأل عنهم واحدًا واحدًا، فكان سؤاله عنهم ونَعْيُهم لقومه آخرَ سهامِ العدو وكيده، فصبر له النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوفى كيدَه، ثم انتدب له عمر فردَّ سهامَه عليه؛ فكان تركُ الجواب أولًا أحسنَ، وذكرُه ثانيًا أحسنَ.

وأيضًا، فإن في ترك إجابته حين سأل عنهم إهانةً له وتصغيرًا لشأنه. فلما منَّتْه نفسُه موتَهم وظنَّ أنهم قد قُتِلوا، وحصل له بذلك من الكِبر والإعجاب

(3)

ما حصل= كان في جوابه إهانة له وتحقيرٌ وإذلال

(4)

، ولم يكن هذا مخالفًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تجيبوه» ، فإنه إنما نهى عن إجابته لمَّا سأل: أفيكم محمد؟

(5)

أفيكم فلان؟ ولم ينهَ عن إجابته لمَّا قال: أما هؤلاء فقد قُتلوا؛ وبكل حالٍ فلا أحسنَ مِن ترك إجابته أولًا، ولا أحسنَ مِن إجابته ثانيًا.

(1)

«في» ساقطة من ص، ز، د.

(2)

د، النسخ المطبوعة:«حزبه» ، تصحيف.

(3)

ن، النسخ المطبوعة:«والأشر» ، وكذا كان في ص، ثم كتب المثبت في الهامش مصححًا عليه.

(4)

في عامّة الأصول عدا م، ق، ث:«تحقيرًا وإذلالًا» ، خطأ.

(5)

«أفيكم محمد» ساقط من ق.

ص: 236

ثم قال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، والحرب سِجال، فأجابه عمر:«لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار»

(1)

.

قال ابن عباس

(2)

: ما نُصِر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في موطنٍ نَصْرَه يومَ أحدٍ، فأُنكر ذلك عليه، فقال: بيني وبين من ينكر كتاب الله، إن الله يقول:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152]. قال ابن عباس: والحَسُّ: القتل، ولقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أولَ النهار حتى

(3)

قُتل من أصحاب لواءِ

(4)

المشركين سبعة أو تسعة

وذكر الحديث.

وأنزل الله عليهم النعاس أمنةً منه في غزاة بدر وأحد، والنعاس في الحرب وعند الخوف دليل على الأمن، وهو من الله، وفي الصلاة ومجالس الذكر والعِلم من الشيطان

(5)

.

وقاتلت الملائكةُ يومَ أحدٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي «الصحيحين»

(6)

:

(1)

أخرجه أحمد (2609) والطبراني (10/ 364) والحاكم (2/ 297) والضياء في «المختارة» (11/ 143) من حديث ابن عباس. وهو صحيح بطرقه وشواهده.

(2)

في الحديث السابق.

(3)

ص، ز، د:«حين» ، والمثبت هو لفظ مصادر التخريج.

(4)

«لواء» ساقط من المطبوع.

(5)

قال ابن مسعود: «النعاس في القتال أمنة من الله، والنعاس في الصلاة من الشيطان» . أخرجه عبد الرزاق (4219) ومسدّد ــ كما في «المطالب العالية» (3562) ــ والطبري (6/ 163) بإسناد صحيح.

(6)

البخاري (4054) ومسلم (2306).

ص: 237

عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثيابٌ بِيض

(1)

كأَشدِّ القتال، ما رأيتهما قبلُ ولا بعدُ.

وفي «صحيح مسلم»

(2)

: أنه صلى الله عليه وسلم أُفرد يومَ أحدٍ في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رَهِقُوه قال:«من يردُّهم عنَّا وله الجنة ــ أو: هو رفيقي في الجنة ــ؟» فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قُتِل، ثم رَهِقوه أيضًا فقال:«من يردهم عنَّا وله الجنة ــ أو: هو رفيقي في الجنة ــ؟» فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قُتِل

(3)

، فلم يزل كذلك حتى قُتِل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما أنصفنا أصحابنا» . وهذا يُروى على وجهين: سكونِ الفاء ونصب «أصحابنا» على المفعولية، وفتحِ الفاء ورفعِ «أصحابنا» على الفاعلية.

ووجه النصب أن الأنصار لما خرجوا للقتال واحدًا بعد واحدٍ حتى قُتلوا ولم يخرج المهاجرون

(4)

قال ذلك، أي: ما أنصفتْ قريشٌ الأنصارَ.

ووجه الرفع أن يكون المراد بالأصحاب: الذين فرُّوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أُفرِد في النَّفَر القليل، فقُتِلوا واحدًا بعد واحدٍ، فلم ينصفوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ومن ثبت معه.

(1)

م، ق، ب:«بياض» ، والمثبت لفظ «الصحيحين» .

(2)

برقم (1789).

(3)

«ثم رهقوة

حتى قُتل» من ص، د، ن. وقد سقط من سائر الأصول لانتقال النظر.

(4)

ن: «القرشيين» .وفي ص كان: «القرشيُّون» ثم ضرب عليه وكتب المثبت. وفي النسخ المطبوعة: «القرشيَّان» .

ص: 238

وفي «صحيح ابن حبان»

(1)

عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق: لما كان يومُ أحدٍ انصرف الناس كلُّهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أوَّلَ من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت بين يديه رجلًا يقاتل عنه ويحميه، قلت: كُن طلحة فداك أبي وأمي! كن طلحة فداك أبي وأمي

(2)

! فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدةَ بنُ الجرَّاح وإذا هو يشتدُّ كأنه طير حتى لحقني، فدَفَعْنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا طلحة بين يديه صريعًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«دونكم أخاكم، فقد أوجب» ، وقد رُمِي النبي صلى الله عليه وسلم في جَبِينه، ورُمِي في وَجْنَته حتى غابت حلقة من حِلَق المِغْفَر في وجنته، فذهبتُ لأنزِعها

(3)

عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة: نشدتُك بالله يا أبا بكر إلّا تركتني! قال: فأخذ أبو عبيدة السهمَ بفيه فجعل يُنَضْنِضُه كراهة

(4)

أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استلَّ السهم بفيه فنَدَرَت ثنيةُ أبي عبيدة، قال أبو بكر: ثم ذهبتُ لآخذ الآخر فقال أبو عبيدة: نشدتُك بالله يا أبا بكر إلا تركتني! قال: فأخذه بفيه فجعل ينضنضه ثم استلَّه، فندرت ثنيةُ أبي عبيدة الأخرى، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دونكم أخاكم، فقد أوجب» ، قال: فأقبلنا على طلحة نُعالجه وقد أصابته بضعة عشر ضربةً.

(1)

برقم (6980) بنحوه، واللفظ المذكور إنما هو لهَيثم بن كُليب الشاشي في «مسنده» كما في «المختارة» للضياء (1/ 137) من طريقه. وأخرجه أيضًا الطيالسي (6) والبزّار (63) والحاكم (3/ 27) وقال: صحيح الإسناد، فتعقبه الذهبي بأن أحد رواته إسحاق بن يحيى بن طلحة متروك. وذكر ابن كثير في «تفسيره» (آل عمران: 153) أن علي ابن المديني قد ضعّف هذا الحديث من جهة إسحاق بن يحيى هذا.

(2)

سقطت جملة التفدية المكررة من ص، د، ز، ن.

(3)

ز، ع:«لأنتزعها» .

(4)

ز، ع:«كراهية» . والنضنضة: التحريك ..

ص: 239

وفي «مغازي الأموي»

(1)

: أن المشركين صعدوا على الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد:«احْتُتْهم»

(2)

ــ يقول: ارددهم ــ، فقال: كيف أَحُتُّهم وحدي؟ فقال ذلك ثلاثًا، فأخذ سعدٌ سهمًا من كنانته فرمى به رجلًا فقتله، قال: ثم أخذتُ سهمي أعرفه فرميتُ به آخر فقتلتُه، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته، فهبطوا من مكانهم، فقلت: هذا سهم مبارك، فجعلته في كنانتي، فكان عند سعد حتى مات ثم كان عند بنيه.

وفي «الصحيحين»

(3)

عن أبي حازم [عن سهل بن سعد] أنه سئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله إني لأَعرِف مَن كان يَغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان يَسْكُب الماء، وبما دُووِي؛ كانت فاطمة ابنتُه تغسله، وعليُّ بن أبي طالب يسكب الماء بالمِجَنِّ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدمَ إلا كثرةً أخذت قطعةً من حَصِير فأحرقتها فألصقتها فاستمسك الدم.

وفي «الصحيح»

(4)

: أنه كُسرت رَباعِيَتُه، وشُجَّ في رأسه فجعل يَسْلُتُ

(1)

لسعيد بن يحيى بن سعيد الأموي (ت 249)، يروي فيها عن أبيه عن ابن إسحاق، ويزيد فيها أشياء من روايته. انظر:«سير النبلاء» (9/ 139). والحديث أخرجه أيضًا أبو إسحاق الفزاري في «كتاب السير» (190) ــ ومن طريقه ابن أبي الدنيا في «مكارم الأخلاق» (181) ــ عن رجل من أهل المدينة عن محمد بن المنكدر مرسلًا.

(2)

في النسخ المطبوعة: «اجنبهم» ، تصحيف. وهو غيرمحرَّر النقط في عامّة الأصول، والمثبت هو المنصوص عليه في كتب الغريب واللغة. وهو أمر مِن:(حتَّ الشيءَ يحُتُّه) إذا حكَّه وقشره، ومنه أيضًا:(تحاتَّ الشيءُ) إذا تناثر وتساقط. فالمعنى: أزِلْهم عنّا كما يُزال الشيء بالحك والقشر، أو اجعلهم يتحاتُّون أي يتساقطون.

(3)

البخاري (4075) ومسلم (1790)، وما بين الحاصرتين مستدرك منهما.

(4)

«صحيح مسلم» (1791) من حديث أنس، وعلّقه البخاري مختصرًا في المغازي، باب {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية.

ص: 240

الدم عنه ويقول: «كيف يفلح قوم شجُّوا نبيَّهم وكسروا رَباعيته وهو يدعوهم؟!» فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].

ولما انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ــ يعني: المسلمين ــ، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ــ يعني: المشركين ــ، ثم تقدَّم فلقيه سعد بن معاذ فقال: أين يا أبا عمر؟ فقال أنس: واهًا لريح الجنة يا سعد! إني أجده دون أُحُدٍ، ثم مضى فقاتل القوم حتى قُتِل، فما عُرِف حتى عرفتْه أختُه ببنانه وبه بضع وثمانون ما بين طعنةٍ برمح وضربةٍ بسيف ورميةٍ بسهم

(1)

.

وانهزم المشركون أول النهار كما تقدم، فصرخ فيهم إبليس: أي عباد الله أُخراكم! فرجعوا

(2)

من الهزيمة فاجتلَدوا، ونظر حذيفة إلى أبيه والمسلمون يريدون قتلَه وهم يظنونه من المشركين فقال: أي عباد الله، أبي! فلم يفهموا قولَه حتى قتلوه، فقال: يغفر الله لكم، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَدِيَه، فقال: قد تصدقتُ بدمه على المسلمين، فزاد ذلك حذيفة خيرًا عند النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (2805، 4048) ومسلم (1903) من حديث أنس بن مالك، وأنس بن نضر عمُّه وبه سُمِّي أنس بن مالك.

(2)

النسخ المطبوعة: «أي عباد الله أخزاكم الله فارجعوا» ، تحريف مخالف للأصول ولنصّ الحديث عند البخاري. وقول اللعين:«أخراكم!» أي عليكم بمَن وراءَكم فقاتِلوهم.

(3)

أخرجه البخاري (3290، 3824، 4065 ومواضع أخرى) من حديث عائشة، دون قوله: فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه

إلخ، فهو عند ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (ص 88) ــ عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد رضي الله عنه. وفي مرسل الزهري عند عبد الرزاق (18724) أن النبي صلى الله عليه وسلم وداه. وكذا ذكره موسى بن عقبة ــ كما في «الدلائل» (3/ 218) ــ عن الزهري عن عروة مرسلًا.

ص: 241

وقال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع وقال لي: «إن رأيته فأقرِه

(1)

مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟» قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيتُه وهو في آخر رمقٍ وبه سبعون ضربةً ما بين طعنة برمحٍ وضربةٍ بسيف ورمية بسهم، فقلت: يا سعدُ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول لك: خَبِّرْني

(2)

كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله السلام، قل له: يا رسول الله، أجدُ ريحَ الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عُذر لكم عند الله إن خُلِص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تَطْرِف؛ وفاضت نفسه من وقته

(3)

.

ومرَّ رجل من المهاجرين برجلٍ من الأنصار وهو يتشحَّطُ في دمه فقال: يا فلان، أشعرتَ أن محمدًا قد قُتِل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلَّغ، فقاتِلُوا عن دينكم، فنزل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ

(1)

كذا في الأصول بحذف الهمزة تخفيفًا، وأصله:«أقرِئْه» .

(2)

كذا في عامة الأصول و «المستدرك» . وفي ث، ن، والنسخ المطبوعة:«أخبرني» .

(3)

أخرجه الحاكم (3/ 201) ــ واللفظ له ــ من حديث زيد بن ثابت، وفي إسناده من لا يُعرَف. وأسنده ابن إسحاق ــ كما عند ابن هشام (2/ 94) ــ عن معمر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني مرسلًا بنحوه. وأخرجه مالك في «الموطأ» (1338) عن يحيى بن سعيد الأنصاري مرسلًا بنحوه.

ص: 242

الرُّسُلُ} الآية

(1)

[آل عمران: 144].

وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيتُ في النوم قبل أُحُدٍ مُبشِّرَ بن عبد المنذر يقول لي: أنت قادمٌ علينا في أيام، فقلت: وأين أنت؟ قال: في الجنة نسرح فيها كيف نشاء. قلت له: ألم

(2)

تُقتَل يوم بدر؟ قال: بلى ثم أُحْيِيت، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هذه الشهادة يا أبا

(3)

جابر»

(4)

.

وقال خيثمةُ أبو سعدِ بن خيثمة ــ وكان ابنه استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ــ: لقد أخطأتْني وقعةُ بدرٍ، وكنت والله عليها حريصًا حتى

(5)

ساهمتُ ابني في الخروج، فخرج سهمُه فرُزِق الشهادة، وقد رأيت ابني البارحةَ في النوم في أحسن صورةٍ يَسرح في ثمار الجنة وأنهارِها ويقول: الحَقْ بنا تُرافِقْنا في الجنة، فقد وجدتُ ما وعدني ربي حقًّا، وقد واللهِ ــ يا رسول الله ــ أصبحتُ مشتاقًا إلى مُرافقته في الجنة، وقد كَبِرت سِنِّي ورقَّ عظمي وأحببتُ

(1)

أخرجه آدم بن أبي إياس في «تفسير مجاهد وغيره» (1/ 137) ــ ومن طريقه البيهقي في «دلائل النبوة» (3/ 248) ــ عن أبي نجيح المكي مرسلًا. وأخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 99) عن الربيع بن أنس (راوية أبي العالية) قال: ذُكر لنا ــ والله أعلم ــ أن رجلًا من المهاجرين

إلخ.

(2)

ز، ع:«أَوَلم» .

(3)

«أبا» سقطت من م، ق، ب.

(4)

ذكره الواقدي في «مغازيه» (1/ 266) عن شيوخه، ومن طريق الواقدي أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/ 204). ويشهد لبعضه ما أخرجه البخاري (1351) عن جابر قال: لمَّا حضر أُحُد دعاني أبي من الليل فقال: «ما أُراني إلا مقتولًا في أوَّلِ من يُقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

»، قال جابر: فأصبحنا فكان أوَّلَ قتيلٍ.

(5)

ص، ز، د، ع:«ثم» ، تصحيف.

ص: 243

لقاءَ ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقةَ سعدٍ في الجنة؛ فدعا له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقُتِل بأحد شهيدًا

(1)

.

وقال عبدُ الله بن جحش في ذلك اليوم: اللهم إني أُقسم عليك أن ألقى العدوَّ غدًا فيقتلوني ثم يَبقُرُوا بطني ويَجدَعُوا أنفي وأذني، ثم تسألني: بِمَ

(2)

ذلك؟ فأقول: فيك

(3)

.

وكان عمرُو بن الجَمُوح أعرجَ

(4)

شديدَ العَرَج، وكان له أربعة

(5)

بنين شبابٍ يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا، فلما توجَّه إلى أُحُد أراد أن يتوجَّه معه، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصةً، فلو قعدت فنحن نكفيك، فقد وضع الله عنك الجهاد، فأتى عمرو بن الجموح رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا

(1)

ذكره الواقدي في «مغازيه» (1/ 212)، ونقله عنه البيهقي في «الدلائل» (3/ 249).

(2)

م، ق، ب، ث، المطبوع:«فِيمَ» ، والمثبت من سائر الأصول لفظ «المستدرك» .

(3)

أخرجه الحاكم (3/ 200) ــ وعنه البيهقي في «الدلائل» (3/ 250) ــ من طريق ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب مرسلًا، وقال سعيد: إني لأرجو أن يُبِرَّ الله آخرَ قسمه كما أبرَّ أوَّله. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين لولا إرسال فيه. قلت: «عن يحيى بن سعيد» وهم من بعض الرواة، فإن الحديث مروي من طرق عن ابن عيينة عن ابن جُدعان عن ابن المسيب بنحوه، هكذا رواه ابن المبارك في «الجهاد» (85) وعبد الرزاق في «المصنف» (9552) والحسن بن الصبَّاح كما في «حلية الأولياء» (1/ 109)، وابن جُدعان فيه لين، ولكن له شاهد بنحوه من حديث سعد بن أبي وقاص أخرجه أبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (2096) والحاكم (2/ 76) وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 109) بإسناد حسن.

(4)

ص، د، ع:«عَرِج» . ز: «بعمرو بن الجموح عَرَجٌ» .

(5)

ص، د، ز، ع:«أربع» .

ص: 244

رسول الله، إن بنيَّ هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك، ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بِعَرْجتي هذه في الجنة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أمَّا أنت فقد وضع الله عنك الجهاد» ، وقال لبنيه: «وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل يرزقه

(1)

الشهادة» فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقُتِل يوم أحد شهيدًا

(2)

.

وانتهى أنس بن النضر إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقَوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا: قُتِل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعدَه؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتِل

(3)

.

وأقبل أُبيُّ بن خلفٍ عدوُّ الله وهو مُقنَّع في الحديد يقول: لا نجوتُ إن نجا محمد، وكان حلف بمكة أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبله مصعبُ بن عميرٍ فقُتِل مصعب، وأبصر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تَرقُوةَ أُبيِّ بن خلفٍ من فُرجةٍ بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه بحربته فوقع عن فرسه، فاحتمله أصحابه وهو يَخُور خُوارَ الثور، فقالوا: ما أجزعك؟ إنما هو خدش، فذكر لهم قولَ النبي

(1)

ز: «أن يرزقه» . ص، د، ع:«لعل الله عز وجل يرزقه الله» .

(2)

أسنده ابن إسحاق ــ ومن طريقه ابن هشام (2/ 91) والبيهقي في «الدلائل» (3/ 246) ــ عن أبيه عن أشياخ من بني سلمة (وهم رهط عمرو بن الجموح). ولبعضه شاهد من حديث أبي قتادة الأنصاري عند أحمد (22553) بإسناد حسن، وآخر من حديث جابر عند ابن حبان (7024) بإسناد حسن أيضًا.

(3)

أسنده ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 83) ــ فقال: وحدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عدي بن النجار (وهم رهط أنس بن النضر) قال: (فذكره بمثله). وقد سبق أن ذكر المؤلف خبره (ص 241) من وجهٍ آخر.

ص: 245

- صلى الله عليه وسلم: «بل أنا أقتله إن شاء الله» ، فمات برابغ

(1)

.

قال ابن عمر: إني لأسير ببطن رابغ بعد هَوِيٍّ من الليل إذا نارٌ تأجَّج لي، فيمَّمتُها

(2)

وإذا رجل يخرج منها في سلسلةٍ يجتذبها يصيح: العطش! وإذا رجل يقول: لا تَسْقِه، هذا قتيلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبي بن خلف

(3)

.

وقال نافع بن جبير: سمعت رجلًا من المهاجرين يقول: شهدت أحدًا فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحيةٍ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم وسطَها، كل ذلك يُصرَف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دُلُّوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد، ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان فقال: واللهِ ما رأيتُه، أحلف بالله إنه منا ممنوع، فخرجنا أربعةً فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك

(4)

.

(1)

سبق تخريجه (ص 232)، إلا أنه ذكر هناك أنه مات بسرف، وهو الذي ذكره ابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 84). وذكر الواقدي في «مغازيه» (1/ 252) عن ابن عمر أنه كان يقول: مات ببطن رابغ.

(2)

م، ق، ث، ن:«فتيمَّمتَها» .

(3)

ذكره الواقدي (1/ 252) بلا إسناد. وأخرج الطبراني في «الأوسط» (6560) عن ابن عمر نحوه إلا أن المعذَّب فيه هو أبو جهل، وإسناده واه. وأخرجه ابن أبي الدنيا في «كتاب القبور» (93) وفي «من عاش بعد الموت» (33، 34) وابن الأعرابي في «معجمه» (1381) والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» (257) بأسانيد واهية من غير تعيين المعذَّب.

(4)

أخرجه الواقدي (1/ 237) ــ ومن طريقه البيهقي في «الدلائل» (3/ 264) ــ بإسناد واه.

ص: 246