الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: أن من عذره الله في التخلف عن الجهاد لمرضٍ أو عرج يجوز له الخروج إليه وإن لم يجب عليه، كما خرج عمرو بن الجموح وهو أعرج.
ومنها: أن المسلمين إذا قتلوا واحدًا منهم في الجهاد يظنونه كافرًا فعلى الإمام دِيَتهُ من بيت المال، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يَدِي اليمان أبا حذيفة فامتنع حذيفةُ مِن أخذ الدية وتصدَّق بها على المسلمين.
فصل
في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أُحُد
وقد أشار الله سبحانه إلى أمهاتها وأصولها في سورة آل عمران حيث افتتح القصة بقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] إلى تمام ستين آيةً.
فمنها: تعريفهم سوءَ عاقبة المعصية والفشل والتنازع، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152].
فلما ذاقوا عاقبةَ معصيتهم للرسول وتنازُعِهم وفشلِهم كانوا بعد ذلك أشدَّ حذرًا ويقظةً وتحرُّزًا من أسباب الخذلان.
ومنها: أن حكمة الله وسنَّته في رسله وأتباعهم جرت بأن يُدالوا مرةً ويدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة، فإنهم لو انتصروا دائمًا دخل معهم المؤمنون وغيرهم ولم يتميَّز الصادقُ من غيره، ولو انتُصِر عليهم دائمًا
لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة، فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتَّبعهم ويطيعهم للحق وما جاءوا به ممن يتَّبعهم على الظهور والغلبة خاصةً.
ومنها: أن هذا من أعلام الرسل، كما قال هرقل لأبي سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال يُدال علينا المرة وندال عليه الأخرى، قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة
(1)
.
ومنها: أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب
(2)
، فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يومَ بدرٍ وطار لهم الصيت دخل معهم في الإسلام ظاهرًا من ليس معهم فيه باطنًا، فاقتضت حكمةُ الله عز وجل أن سبَّب لعباده محنةً ميَّزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة وتكلَّموا بما كانوا يكتمونه، وظهرت مخبَّآتهم وعاد تلويحُهم تصريحًا، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقسامًا ظاهرًا، وعرف المؤمنون أن لهم عدوًّا في نفس دُورهم وهم معهم لا يفارقونهم فاستعَدُّوا لهم وتحرَّزُوا منهم. قال تعالى:{كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا} [آل عمران: 179].
أي ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين
(1)
كما في حديث ابن عباس عن أبي سفيان عند البخاري (7، 2804).
(2)
«الكاذب» ساقط من د، ز، ع.
حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق كما ميزهم بالمحنة يوم أحد {كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ} الذي يميز فيه بين هؤلاء وهؤلاء، فإنهم يتميَّزُون في غيبه وعلمه، وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزًا مشهودًا فيقع معلومُه الذي هو غيب شهادةً. وقوله:{اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا} استدراك لما نفاه من اطِّلاع خلقه على الغيب سوى الرسل، فإنه يطلعهم على ما يشاء من غيبه كما قال:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27]، فحظُّكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يُطْلِع عليه رسلَه، فإن آمنتم به وأيقنتم فلكم أعظمُ الأجر والكرامة.
ومنها: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السرَّاء والضرَّاء، وفيما يحبون وما يكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم
(1)
، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقًّا، وليسوا كمن يعبد الله على حرفٍ واحد من السرَّاء والنعمة والعافية.
ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائمًا، وأظفرهم بعدوِّهم في كل موطن، وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبدًا= لطغت نفوسُهم وشَمَخت وارتفعت، فلو بسط لهم النصر والظفر لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق، فلا يُصلح عبادَه إلا السرَّاءُ والضرَّاء والشدَّة والرخاء والقبض والبسط، فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته، إنه بهم خبير بصير.
ومنها: أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكَسْرَة والهزيمة ذَلُّوا وانكسروا وخضعوا، فاستوجبوا منه العزَّ والنصر، فإن خِلْعة النصرِ إنما تكون مع ولاية
(1)
«بهم» ساقط من م، ق، ب، ث.
الذل والانكسار؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]، وقال:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ} [التوبة: 25]، فهو سبحانه إذا أراد أن يُعِزَّ عبدَه ويجبرَه وينصرَه، كسَرَه أولًا، ويكون جَبْرُه له ونصرُه على مِقدار ذُلِّه وانكساره.
ومنها: أنه سبحانه هيَّأ لعباده المؤمنين منازلَ في دار كرامته لم تبلغها أعمالُهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمِحنة، فقيَّضَ لهم الأسبابَ التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها.
ومنها: أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغيانًا وركونًا إلى العاجلة، وذلك مرض يَعُوقها عن جدِّها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربُّها ومالكها وراحمها كرامته قيَّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواءً لذلك المرض العائق عن السَّير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمِحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليلَ الدواءَ الكريه ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه لغلبته الأدواءُ حتى يكون فيها هلاكه.
ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداءُ هم خواصُّه والمقرَّبُون من عباده، وليس بعد درجة الصدِّيقيَّةِ إلا الشهادة، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من أوليائه
(1)
شهداءَ تُراق دماؤهم في محبته ومرضاته ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.
(1)
النسخ المطبوعة: «عِباده» خلافًا للأصول.
ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءَه ويمحقهم قيَّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكَهم ومحقَهم، ومِن أعظمها بعدَ كفرِهم: بغيُهم وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتُهم وقتالهم والتسلُّط عليهم؛ فيتمحَّص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139 - 141]، فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم وإحياءِ عزائمهم وهِمَمِهم وبين حسن التسلية
(1)
.
وذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إدالةَ الكفار عليهم فقال: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} ، فقد استويتم في القرح والألم وتباينتم في الرجاء والثواب، كما قال:{تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ} [النساء: 104]، فما بالكم تضعفون وتَهِنون عند القرح والألم؟! وقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان، وأنتم أُصِبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي.
ثم أخبر أنه يداول أيام هذه الحياة الدنيا بين الناس وأنها عَرَض حاضر يَقْسِمها دُوَلًا بين أوليائه وأعدائه، بخلاف الآخرة فإن عزَّها ونصرها
(1)
ق، م، ب، ث:«حسن التعزية» .
ورخاءها
(1)
خالصًا
(2)
للذين آمنوا.
ثم ذكر حكمةً أخرى، وهي أن يتميَّز المؤمنون من المنافقين، فيَعْلَمَهم علمَ رؤيةٍ ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غَيبه، وذلك العلم الغيبي لا يترتَّب عليه ثواب ولا عقاب، وإنما يترتَّب الثواب والعقاب على المعلوم إذا صار مشاهَدًا واقعًا في الحس.
ثم ذكر حكمةً أخرى، وهي اتخاذُه سبحانه منهم شهداءَ، فإنه يحب الشهداءَ من عباده، وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلَها وقد اتخذهم لنفسه فلا بد أن يُنيلهم درجة الشهادة.
وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} تنبيه لطيفُ الموقع جدًّا على أن
(3)
كراهته وبغضَه للمنافقين الذين انخزلوا
(4)
عن نبيِّه يوم أحد فلم يشهدوه، ولم يتَّخذ منهم شهداء لأنه لا يحبُّهم، فأركسهم وردَّهم ليحرِمَهم ما خصَّ به المؤمنين في ذلك اليوم وما أعطاه من استُشهد منهم، فثبَّط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفَّق لها أحبابه وحزبه.
ثم ذكر حكمةً أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم، وهو تمحيص الذين آمنوا، وهو تنقيتهم وتخليصهم من الذنوب ومن آفات النفوس، وأيضًا فإنه خلَّصهم ومحَّصهم من المنافقين فتميزوا منهم؛ فحصل لهم تمحيصان: تمحيص في نفوسهم، وتمحيص من كان يظهر أنه منهم وهو عدوُّهم.
(1)
ص، د، ز، ث، ن، النسخ المطبوعة:«رجاءها» ، تصحيف.
(2)
في النسخ المطبوعة: «خالص» بالرفع، وما أثبت من الأصول صواب.
(3)
«أن» لا يأتي لها خبر ظاهر، ولو حُذفت لكان أولى.
(4)
ث، المطبوع:«انخذلوا» بالذال. ومعنى «انخزلوا» بالزاي: انقطعوا.
ثم ذكر حكمةً أخرى، وهي محق الكافرين بطغيانهم وبَغيهم وعُدوانهم.
ثم أنكر عليهم حُسبانهم وظنَّهم أن يدخلوا الجنة بدون الجهاد في سبيله والصبر على أذى أعدائه، وأن هذا ممتنع بحيث يُنكَر على من ظنَّه وحسبه، فقال:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، أي ولمَّا يقعْ ذلك منكم فيعلمَه، فإنه لو وقع لعَلِمه فجازاكم عليه بالجنة، فيكون الجزاءُ على الواقع المعلوم لا على مجرد العلم، فإن الله لا يَجزي العبدَ على مجرَّدِ علمه فيه دون أن يقع معلومه.
ثم وبَّخهم على هزيمتهم من أمر كانوا يتمنَّونه ويَوَدُّون لقاءَه، فقال:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143].
قال ابن عباس: لمّا أخبرهم الله تعالى على لسان نبيِّه بما فعل بشهداء بدرٍ من الكرامة رغبوا في الشهادة فتمنَّوا قتالًا يُستشهَدون فيه فيلحقون إخوانهم، فأراهم الله ذلك يومَ أحدٍ وسبَّبه لهم، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا مَن
(1)
شاء الله منهم، فأنزل الله تعالى:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}
(2)
.
ومنها: أن وقعة أحد كانت مقدِّمةً وإرهاصًا بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَنَّبهم ووبَّخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسوله أو قُتِل، بل
(3)
(1)
ق: «ما» .
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (3/ 776) من طريق العوفيين عن ابن عباس بنحوه ــ والمؤلف صادر عن «زاد المسير» (1/ 468) ــ. وروي عن مجاهد والسُّدِّي والربيع بن أنس نحوه. انظر: «تفسير الطبري» (6/ 94 - 95).
(3)
م، ق، ب، ث:«إذ» .
الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه أو يُقتَلوا، فإنهم إنما يَعبدون ربَّ محمدٍ وهو حي لا يموت، فلو مات محمد أو قُتِل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه وما جاء به، فكل نفس ذائقة الموت، وما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ليُخلَد لا هو ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لا بد منه، فسواء مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أو بقي، ولهذا وبَّخهم على رجوعِ من رجع منهم عن دينه لمَّا صرخ الشيطان بأن محمدًا قد قتل، فقال:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، والشاكرون هم الذين عرفوا قدرَ النعمة فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا، فظهر أثرُ هذا العتاب وحكمُ هذا الخطاب يومَ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدَّ من ارتد على عقبيه، وثبت الشاكرون على دينهم فنصرهم الله وأعزَّهم وظفرهم بأعدائهم وجعل العاقبة لهم.
ثم أخبر سبحانه أنه جعل لكل نفس أجلًا لا بد أن تستوفيَه ثم تلحقَ به، فيَرِدُ الناس كلُّهم حوضَ المنايا موردًا واحدًا وإن تنوعت أسبابه، ويَصْدُرون عن موقف القيامة مصادر شتَّى؛ فريق في الجنة وفريق في السعير.
ثم أخبر سبحانه أن جماعةً كثيرةً من أنبيائه قُتِلوا وقُتِل معهم أتباع لهم كثيرون
(1)
، فما وهن من بقي منهم لِما أصابهم في سبيله وما ضَعُفوا وما استكانوا. أو: ما وهنوا عند القتل ولا ضعفوا ولا استكانوا، بل تلقَّوا الشهادةَ
(1)
يشير إلى قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} على قراءة أبي عمرو التي كانت سائدة في بلاد الشام زمن المؤلف.
بالقوة والعزيمة والإقدام، فلم يُستَشهدوا مدبرين مستكينين
(1)
أذلةً، بل استُشهِدوا أعزةً كرامًا مُقبلين غيرَ مُدبرين. والصحيح: أن الآية تتناول الفريقين كليهما.
ثم أخبر سبحانه عما استنصرت به الأنبياء وأممهم على قومهم مِن اعترافهم وتوبتهم
(2)
واستغفارهم وسؤالِهم ربَّهم أن يثبِّت أقدامَهم وأن ينصرَهم على أعدائهم، فقال:{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 147 - 148].
لمّا علم القومُ أن العدوَّ إنما يُدال عليهم بذنوبهم، وأن الشيطان إنما يستزِلُّهم ويهزمهم بها، وأنها نوعان: تقصيرٌ في حقٍّ أو تجاوزٌ لحدٍّ، وأن النصرة مَنُوطة بالطاعة= قالوا:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} .
ثم علموا أن ربَّهم تبارك وتعالى إن لم يُثبِّت أقدامَهم وينصُرْهم لم يقدروا هم على تثبيت أقدامِ أنفُسِهم ونصرها على أعدائهم، فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم، وأنه إن لم يُثبِّت أقدامَهم وينصُرْهم لم يثبتوا ولم ينتصروا، فوَفَّوا المقامين حقَّهما: مقامَ المقتضي، وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه؛ ومقامَ إزالةِ المانع من النصرة، وهو الذنوب والإسراف.
ثم حذَّرهم سبحانه من طاعة عدوِّهم، وأخبر أنهم إن أطاعوهم خسروا
(1)
م، ق، ب، ث:«مستسلمين» .
(2)
«اعترافهم وتوبتهم» كذا في الأصل والمطبوع. وأخشى أن يكون تصحيفًا عن «اعترافهم بذنوبهم» ، فهو الذي يلائم لفظَ الآية.
الدنيا والآخرة، وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفروا يومَ أحد.
ثم أخبر أنه سبحانه هو مولى المؤمنين، وهو خير الناصرين، فمن والاه فهو المنصور.
ثم أخبرهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم الرعبَ الذي يمنعهم من الهجوم عليهم والإقدامِ على حربهم، وأنه يؤيِّد حزبَه بجُندٍ من الرعب ينتصرون به على أعدائهم
(1)
، وذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله، وعلى قدر الشرك يكون الرعب، فالمشرك بالله أشدُ شيءٍ خوفًا ورعبًا، والذين آمنوا ولم يلبسوا الإيمان بالشرك لهم الأمن والهدى والفلاح، والمشرك له الخوف والضلال والشقاء.
ثم أخبرهم أنه صَدَقهم وعدَه في نصرتهم على عدوِّهم
(2)
ــ وهو الصادق الوعد ــ، وأنهم لو استمروا على الطاعة ولزوم أمر الرسول لاستمرت نصرتهم، ولكن انخلعوا عن الطاعة وفارقوا مركزَهم، فانخلعوا عن عصمة الطاعة ففارقتهم النصرة، فصرفهم عن عدوِّهم عقوبةً وابتلاءً وتعريفًا لهم سُوءَ عواقب المعصية وحُسْنَ عاقبة الطاعة.
ثم أخبر أنه عفا عنهم بعد ذلك كلِّه، وأنه ذو فضلٍ على عباده المؤمنين. قيل للحسن: كيف يعفو عنهم وقد سلَّط عليهم أعداءَهم حتى قَتَلوا منهم من
(1)
م، ق، ب، ث:«أعدائه» .
(2)
من هنا يبدأ سقط كبير في نسخة (ب)، ويستمر إلى قوله:«ومن ظنَّ أنه لن يجمعهم بعد موتهم للثواب والعقاب في دارٍ يجازي» (ص 267).
قتلوا ومَثَّلوا بهم ونالوا منهم من
(1)
نالوه؟ فقال: لولا عَفْوُه عنهم لاستأصلهم، ولكن بعفوه دفع عنهم عدوَّهم بعد أن كانوا مُجمعين
(2)
على استئصالهم
(3)
.
ثم ذكَّرهم بحالهم وقت الفرار مُصْعِدين أي جادِّين في الهرب والذهاب في الأرض، أو صاعدين في الجبل، لا يلوون على
(4)
نبيهم ولا أصحابهم، والرسول يدعوهم في أخراهم:«إليَّ عبادَ الله! أنا رسول الله!»
(5)
.
فأثابهم بهذا الهرب والفرار غمًّا بعد غم: غمَّ الهزيمة والكسرة، وغمَّ صرخة الشيطان فيهم
(6)
بأن محمدًا قد قتل.
وقيل: جازاكم غمًّا بما غممتم رسولَه بفراركم عنه وأسلمتموه إلى عدوِّه، فالغم الذي حصل لكم جزاءً على الغم الذي أوقعتموه بنبيِّه
(7)
.
والقول الأول أظهر لوجوه:
أحدها: أن قوله: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا
(8)
عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا
(1)
ث، ن، المطبوع:«ما» .
(2)
م، ق، ث، ع:«مجتمعين» .
(3)
أخرجه الطبري (6/ 144).
(4)
زيد في المطبوع بعده: «أحد مِن» خلافًا للأصول.
(5)
روي نحوه عن ابن عباس والسدِّي والحسن وقتادة والربيع بن أنس. انظر: «تفسير الطبري» (6/ 147 - 149) و «تفسير ابن أبي حاتم» (3/ 790).
(6)
«فيهم» سقط من م، ق، ث.
(7)
وهو قول الزجاج في «معاني القرآن» (1/ 479). وانظر: «زاد المسير» (1/ 478).
(8)
في الأصول: {تَأْسَوْا} ، وهو وهم أو سبق قلم عن انتقال الذهن إلى آية سورة الحديد:{لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [23].
أَصَابَكُمْ} تنبيهًا
(1)
على حكمة هذا الغم بعد الغم، وهو أن يُنْسِيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح، فنسوا بذلك السَّلَب
(2)
، وهذا إنما يحصل بالغم الذي يَعقُبه غم آخر.
الثاني: أنه مطابق للواقع، فإنه حصل لهم غمُّ فوات الغنيمة، ثم أعقبه غمُّ الهزيمة، ثم غمُّ الجراح التي أصابتهم
(3)
، ثم غمُّ القتل، ثم غمُّ سماعِهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، ثم غمُّ ظهور أعدائهم على الجبل فوقَهم؛ وليس المراد غمَّين اثنين خاصةً، بل غمًّا متتابعًا لتمام الابتلاء والامتحان.
الثالث: أن قوله: {بِغَمٍّ} من تمام الثواب، لا أنه سببُ
(4)
الثواب، والمعنى: أثابكم غمًّا متصلًا بغمٍّ جزاءً على ما وقع منهم من الهرب
(5)
، وإسلامهم نبيَّهم صلى الله عليه وسلم وأصحابَهم، وتركِ استجابتهم له وهو يدعوهم، ومخالفتِهم له في لزوم مركزهم، وتنازعِهم في الأمر وفَشَلِهم؛ وكلُّ واحد من هذه الأمور يوجب غمًّا يخصُّه، فترادفت عليهم الغموم كما ترادفت منهم أسبابها وموجِباتُها، ولولا أن تدارَكهم بعفوه لكان أمرًا آخر.
ومِن لطفه بهم ورأفته أن هذه الأمور التي صدرت منهم كانت من
(1)
كذا في الأصول منصوبًا، ولعله على توهّم سبق «في» بعد «أن» .
(2)
أي الذي فاتهم، أو الذي سلبه العدو منهم. وفي طبعة الرسالة:«السبب» خلافًا للأصول والطبعة الهندية.
(3)
ص، ز، د، ع:«الذي أصابهم» .
(4)
في ص، ز كُتب:«جزاء» أولًا ثم ضرب عليه وكتب: «سبب» . وفي ث، ن، النسخ المطبوعة جُمع بينهما:«سبب جزاء الثواب» .
(5)
ص، ز، د:«على ما وقع من الهروب» .
موجِبات الطباع، وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النُّصرة المستقرة، فقيَّض لهم بلطفه أسبابًا أخرجها من القوة إلى الفعل فترتَّبت
(1)
عليها آثارُها المكروهة، فعلموا حينئذ أن التوبةَ منها والاحترازَ من أمثالِها ودَفْعَها بأضدادها أمرٌ متعيِّن لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة إلا به، فكانوا أشدَّ حذرًا بعدها ومعرفةً بالأبواب التي دخل عليهم منها.
وربَّما صحَّت الأجسامُ بالعِلَلِ
(2)
ثم إنه سبحانه تداركهم برحمته وخفَّف عنهم ذلك الغمَّ، وغيَّبه عنهم بالنعاس الذي أنزله عليهم أمنًا منه ورحمةً؛ والنعاسُ في الحرب علامة النصرة والأمن، كما أنزله عليهم يوم بدرٍ. وأخبر أن من لم يُصبه ذلك النعاسُ فهو ممن أهمَّته نفسُه، لا دينُه ولا نبيُّه ولا أصحابُه، وأنهم يظنون بالله غيرَ الحقِّ ظنَّ الجاهلية.
وقد فُسِّر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسولَه، وأن أمره سيضمحلُّ، وأنه يُسْلِمُه للقتل. وفُسِّر بأن
(3)
ما أصابهم لم يكن بقضائه
(4)
وقدره، ولا حكمة له فيه، ففُسِّر بإنكارِ الحكمة وإنكارِ القَدَر، وإنكارِ أن يُتمَّ أمرَ رسوله ويُظهره على الدين كلِّه، وهذا هو ظن السَّوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه في سورة الفتح حيث يقول: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ
(1)
ز، ع:«فترتَّب» .
(2)
عجز بيت سائر للمتنبي، صدره:«لعلَّ عَتْبَك محمودٌ عواقبُه» .
(3)
م، ق، ث، المطبوع:«بظنِّهم أن» .
(4)
م، ق:«بقضاء الله» .
السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6].
وإنما كان هذا ظنَّ السوء، وظنَّ الجاهلية المنسوبَ
(1)
إلى أهل الجهل، وظنَّ غيرِ الحق= لأنه ظنُّ غيرِ ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العُليا وذاته المبرَّأةِ من كلِّ عيبٍ وسوء، وخلافُ ما يليق بحكمته وحمده وتفرُّدِه بالربوبية والإلهيه، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يُخلفه وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم ولجنده بأنهم هم الغالبون؛ فمن ظن به أنه لا ينصر رسولَه ولا يُتم أمرَه، ولا يؤيده ويؤيد حزبَه ويُعليهم ويُظفرهم بأعدائه
(2)
ويُظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينَه وكتابَه، وأنه يُديل الشركَ على التوحيد والباطلَ على الحقِّ إدالةً مستقرةً يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالًا لا يقوم بعده أبدًا= فقد ظن بالله ظنَّ السَّوءِ ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزَّتَه وحكمته وإلهيتَه تأبى ذلك، وتأبى أن يُذِلَّ حزبَه وجندَه، وأن تكون النصرةُ المستقرة والظفرُ الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به؛ فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءَه وصفاتِه وكمالَه.
وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ولا عرف ربوبيته ومُلْكَه وعظمته، وكذلك من أنكر أن يكون قدَّر ما قدَّره مِن ذلك وغيرِه لحكمة بالغة وغايةٍ محمودة يستحقُّ الحمدَ عليها، وأن ذلك
(3)
إنما صدر عن مشيئة مجرَّدةٍ عن حكمة وغايةٍ مطلوبةٍ هي أحبُّ إليه مِن فوتها،
وأن تلك الأسباب المكروهةَ المفضيةَ إليها لا يَخرج تقديرُها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب وإن كانت مكروهةً له، فما قدَّرها سدًى ولا شاءَها
(1)
عبثًا ولا خلقها باطلًا، {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27].
وأكثر الناس يظنون بالله غيرَ الحق ظنَّ السَّوءِ فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءَه وصفاتِه، وعرف موجَب حمده وحكمته، فمن قنط من رحمته وأَيِس من رَوحه فقد ظن به ظن السوء.
ومن جوَّز عليه أن يُعذِّبَ أولياءَه مع إحسانهم وإخلاصهم ويُسوِّي بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه يترك خلقَه سدًى مُعَطَّلين عن الأمر والنهي، ولا يرسل إليهم رسله، ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هَمَلًا كالأنعام، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظنَّ أنه لن يجمعهم بعد موتهم للثواب والعقاب في دارٍ يجازي المُحسن فيها بإحسانه والمسيءَ بإساءته، ويبيّن لخلقه حقيقةَ ما اختلفوا فيه، ويُظهر للعالمين كلِّهم صِدقَه وصدق رُسُلِه، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين= فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه يُضِيع عليه عملَه الصالح الذي عمله خالصًا لوجهه على امتثال أمره، ويُبطله عليه بلا سبب من العبد، أو أنه يعاقبه بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه
(1)
النسخ المطبوعة: «أنشأها» .
به، أو ظنَّ به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءَه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءَه ورسله، ويُجريها على أيديهم يُضِلُّون بها عباده، وأنه يَحْسُن منه كلُّ شيءٍ حتى تعذيبُ من أفنى عمره في طاعته فيُخلِّده في الجحيم أسفل السافلين، وينعم من استنفد عمرَه في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحُسن سواء عنده
(1)
، ولا يُعرَف امتناعُ أحدِهما ووقوعُ الآخَر إلا بخبرٍ صادق، وإلا فالعقل لا يقضي بقُبح أحدهما وحُسنِ الآخر= فقد ظن به ظن السوء
(2)
.
ومن ظن به
(3)
أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطلٌ وتشبيه وتمثيل، وتَرَك الحقَّ لم يُخبر به، وإنما رمز إليه رموزًا بعيدةً، وأشار إليه
(4)
إشاراتٍ ملغزةً؛ لم يُصرِّح به وصرَّح دائمًا بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يُتعبوا
(5)
أذهانهم وقُواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه وتأويله على غير تأويله، ويتطلَّبوا له وجوهَ الاحتمالات المستكرهة
(6)
والتأويلاتِ التي هي بالألغاز والأحاجي أشبهُ منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على
(1)
م، ق، ب:«وكلا الأمرين عنده في الحسن سواء عنده» ، أي: بتكرار «عنده» .
(2)
يقصد به نفاة الحكمة والتعليل من الجهمية الجبرية ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم.
(3)
«به» ساقطة من م، ق، ب، ث.
(4)
«رمز إليه
…
أشار إليه» كذا في ص قبل التغيير، ن، النسخ المطبوعة. وفي ص بعد التغيير، ز، د: «إليهم
…
إليه». وفي سائر الأصول: «إليهم
…
إليهم».
(5)
ق: «ينصبوا» وهو بمعناه.
(6)
ز: «المستنكرة» .
كتابه، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامَه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يُصرِّح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويُريحَهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل بل سلك بهم خلافَ طريق الهدى والبيان= فقد ظن به ظن السوء؛ فإنه إن قال: إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبَّر به هو وسلفه فقد ظن بقدرته العجز؛ وإن قال: إنه قادر ولم يبين، وعَدَل عن البيان ــ عن
(1)
التصريح بالحق ــ إلى ما يُوهم بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد فقد ظن بحكمته ورحمته ظنَّ السوء، وظن أنه وسلَفَه عبَّروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم، وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهرُ كلام المتهوِّكين الحيارى هو الهدى والحق، وهذا من أسوأ الظن بالله؛ فكلُّ هؤلاء من الظانين بالله ظنَّ السوء ومن الظانين به غير الحق ظنَّ الجاهلية.
ومن ظن به أن يكون في مُلكه ما لا يشاء، ولا يقدر على إيجاده وتكوينه، فقد ظن به ظن السوء
(2)
.
ومن ظن به أنه كان معطَّلًا من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادرًا عليه بعد أن لم يكن قادرًا، فقد ظن به ظن السوء
(3)
.
ومن ظنَّ به أنه لا يسمع ولا يبصر، ولا يعلم الموجودات ولا عددَ
(1)
م، ق، ب، ث:«وعن» . والمثبت من سائر النسخ، ولا غبار عليه ..
(2)
يقصد به نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم.
(3)
يقصد به من منع تسلسل الحوادث في الأزل فأنكر دوام فاعلية الرب سبحانه وتعالى.
السماوات ولا النجوم، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئًا من الموجودات في الأعيان= فقد ظن به ظن السوء
(1)
.
ومن ظنَّ به أنه لا سَمْعَ له ولا بصر
(2)
، ولا علم ولا إرادة، ولا كلام يقوم
(3)
به، وأنه لم يكلِّم أحدًا من الخلق ولا يتكلم أبدًا، ولا قال ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به= فقد ظن به ظن السوء
(4)
.
ومن ظن به أنه ليس
(5)
فوق سماواته على عرشه بائنًا من خلقه، وأن نسبة ذاته تبارك وتعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين وإلى الأمكنة التي يُرغَب عن ذكرها، وأنه أسفل كما أنه أعلى، وأن من قال:«سبحان ربي الأسفل» كان كمن قال: «سبحان ربِّي الأعلى»
(6)
= فقد ظنَّ به أقبحَ الظنِّ وأسوأَه.
ومن ظن به أنه
(7)
يحب الكفر والفسوق والعصيان، ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح، فقد ظن به ظن السوء
(8)
.
(1)
يقصد به الفلاسفة كابن سينا وغيره الذين قالوا: إن الله يعلم الكُلِّيات دون الجزئيَّات.
(2)
زِيد بعده في ص، ز، د:«له» .
(3)
النسخ المطبوعة: «يقول» ، تصحيف.
(4)
المقصود به نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة.
(5)
«ليس» سقطت من المطبوع هنا وأُثبتت في الفقرة الآتية، ففسدت الفقرتان جميعًا.
(6)
«وأن من قال
…
الأعلى» ساقط من د، والمطبوع.
(7)
بعده في المطبوع: «ليس» خلافًا للأصول ومفسدًا للمعنى.
(8)
المقصود به الجبرية وبعض غلاة الصوفية ممن لم يفرِّق بين مشيئة الله الكونية وبين محبّته ورضاه، فظن أن كل ما شاء الله وقوعه في الكون فقد أحبَّه ورضيه!
ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى، ولا يغضب ولا يسخط، ولا يوالي ولا يُعادي، ولا يَقْرُب مِن أحدٍ من خلقه ولا يقرُب منه أحد، وأن ذوات الشياطين في القُرْب من ذاته كذوات الملائكة المقرَّبين وأوليائه المفلحين= فقد ظنَّ به ظن السوء.
ومن ظن به أنه يُسوِّي بين المتضادَّين، أو يفرِّق بين المتساويين من كل وجه، أو يُحبِط طاعاتِ العمر المديد الخالصةَ الصوابَ بكبيرةٍ واحدة تكون بعدها، فيُخلِّد فاعلَ تلك الطاعات في الجحيم أبدَ الآبدين لتلك الكبيرة ويُحبِط بها جميعَ طاعاته، ويُخلِّده في العذاب كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عينٍ واستنفد ساعاتِ عمره في مَساخطه
(1)
ومُعاداة رسله ودينه= فقد ظن به ظن السوء
(2)
.
وبالجملة فمن ظن به خلافَ ما وصف به نفسَه ووصفَتْه
(3)
به رسلُه، أو عطَّل حقائقَ ما وصف به نفسَه ووصفته به رسلُه، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أن له ولدًا أو شريكًا، أو أن أحدًا يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائطَ يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نصب لعباده أولياءَ من دونه يتقرَّبون بهم إليه ويتوسلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم فيدعونهم
(4)
ويخافونهم ويرجونهم= فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه.
(1)
م، ق، ب:«تساخطه» .
(2)
المقصود به الوعيدية من الخوارج وغيرهم.
(3)
م، ق، ب، ث، ع:«ووصفه به» هنا وفي السطر الآتي.
(4)
بعده في المطبوع: «ويحبُّونهم كحبّه» ، وليس في الأصول.
ومن ظن أنه يُنال ما عنده بمعصيته ومخالفته كما يُنال بطاعته والتقرُّبِ إليه فقد ظن به خلافَ حكمته وخلافَ موجَبِ أسمائه وصفاته، وهو مِن ظنِّ السوء.
ومن ظنَّ به أنه إذا ترك لأجله شيئًا لم يُعوِّضه خيرًا منه، ومن فعل لأجله شيئًا لم يُعطه أفضل منه، فقد ظن به
(1)
ظن السوء.
ومن ظنَّ به أنه يغضب على عبده ويعاقبه ويَحْرِمه بغير جرمٍ ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة ومحضِ الإرادة، فقد ظنَّ به ظنَّ السوء.
ومن ظن به أنه إذا صَدَقه في الرغبة والرهبة، وتضرَّع إليه وسأله، واستعان به وتوكَّل عليه، أنه يُخيبه ولا يُعطيه ما سأله، فقد ظن به ظن السوء، وظن به خلافَ ما هو أهلُه.
ومن ظن به أنه يُثيبه إذا عصاه بما يثيبه به إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه، فقد ظنَّ به خلافَ ما تقتضيه حكمتُه وحمدُه وخلافَ ما هو أهله، وما لا يفعله.
ومن ظن به أنه إذا أغضبه وأسخطه وأَوضَع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه وليًّا ودعا مِن دونه ملكًا أو بشرًا حيًّا أو ميتًا، يرجو بذلك أن ينفعه عند ربِّه ويُخلِّصه من عذابه= فقد ظن به ظن السوء، بل ذلك زيادةٌ في بُعده من الله وفي عذابه.
ومن ظن أنه يُسلِّط على رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم أعداءَه تسليطًا مستقرًّا دائمًا في حياته وفي مماته، وابتلاه بهم لا يفارقونه، فلمّا مات استبدُّوا بالأمر دون
(1)
«ظن به» ساقط من ص، ز، ث.
وَصِيِّه
(1)
، وظلموا
(2)
أهلَ بيته وسلبوهم حقَّهم وأذلُّوهم، وكانت العزَّة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائمًا من غير جُرم ولا ذنب لأوليائه وأهلِ الحق، وهو يرى قهرَهم لهم وغَصْبهم إياهم حقَّهم
(3)
وتبديلهم دينَ نبيِّه، وهو يقدر على نُصرة أوليائه وحزبه وجنده، ولا ينصرهم ولا يُديلهم، بل يديل أعداءَهم عليهم أبدًا، أو أنه لا يَقدِر على
(4)
ذلك، بل حصل هذا بغير قدرته ولا مشيئته، ثم جعل المُبدِّلين لدينه مُضاجِعِيه في حفرته تُسلِّم أمته عليه وعليهم في
(5)
كلِّ وقت، كما تظنُّه الرافضة= فقد ظن به أقبحَ الظن وأسوأَه، سواءٌ قالوا: إنه قادر على أن ينصرهم ويجعلَ لهم الدَّولة والظَّفَر أو أنَّه غيرُ قادرٍ على ذلك، فهم قادحون في قدرته أو في حكمته وحمده، وذلك مِن ظن السوء به. ولا ريب أن الربَّ الذي فعل هذا بغيض إلى من ظنَّ به ذلك غيرُ محمودٍ عندهم، وكان الواجب أن يفعل خلافَ ذلك، لكن رَفَوا
(6)
هذا الظن الفاسد بخَرْقٍ أعظمَ منه واستجاروا من الرمضاء بالنار فقالوا: لم يكن هذا بمشيئة الله، ولا له قدرة على دفعه ونصرِ أوليائه، فإنه لا يقدر على أفعال عباده ولا هي داخلة تحتَ قدرته، فظنُّوا به ظنَّ إخوانِهم المجوس والثَّنَويَّة بربِّهم.
(1)
م، ص، د، المطبوع:«وصيةٍ» ، تصحيف. والمراد بالوصيِّ عليٌّ رضي الله عنه على زعم الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إليه بالإمامة والخلافة بعده.
(2)
«وظلموا» ليس في م، ق، ب، ث.
(3)
«حقَّهم» ساقط من ص، د. واستُدرك في ز، ع بخط مغاير.
(4)
«على» ساقطة من ص، د، ز، ع. وضبط في ز:«لا يُقَدّر ذلك» .
(5)
«في» ساقطة من ق، ب.
(6)
رفا الثوب يرفُوه رَفوًا: أصلح ما به من شقٍّ أو خرقٍ بضم بعضه إلى بعض ..
وكلُّ مُبطلٍ وكافر ومبتدع مقهور مستذلٍّ فهو يظن بربه هذا الظن، وأنه أولى بالنصر والظفر والعلو من خصومه، فأكثر الخلق بل كلُّهم إلا من شاء الله يظنون بالله غيرَ الحق وظنَّ السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحقِّ ناقصُ الحظِّ، وأنه يستحقُّ فوقَ ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحِقُّه، ونفسُه تشهد عليه بذلك وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتَّش نفسه وتغلغل في معرفةِ دفائنها وطواياها رأى ذلك فيها كامنًا كُمُونَ النار في الزِّناد، فَاقدَحْ زِنادَ من شئتَ يُنبِئك شَراره عما في زناده، ولو فتَّشتَ مَن فتشتَه لرأيتَ عنده تعتُّبًا على القدَر وملامةً له واقتراحًا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمُستقِلٌّ ومستكثر، وفتِّشْ نفسك هل أنت سالم من ذلك؟
فإن تنجُ منها
(1)
تنجُ من ذي عظيمة
…
وإلا فإني لا إخالك ناجيَا
(2)
فليعتنِ اللبيبُ الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتُبْ إلى الله ويستغفرْه كلَّ وقت من ظنه بربه ظنَّ السوء، وليظن السوءَ بنفسه التي هي مأوى كلِّ سوء ومنبعُ كل شرٍّ، المركَّبةِ على الجهل والظلم؛ فهي
(3)
أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدلِ العادلين وأرحمِ الراحمين، الغنيِّ الحميد الذي له الغنى التام والحمدُ التام والحكمة التامة، المنزَّهِ عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاتُه لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته
(1)
م، ب، ث:«منه» . ق: «فإن أنت تنج» .
(2)
البيت للأسود بن سَرِيع التميمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في «البيان والتبيُّن» (1/ 367). وورد منسوبًا للفرزدق ولذي الرُّمة في بعض المصادر.
(3)
ص، ز، د، ن:«فهو» .
كذلك، وأفعالُه كلُّها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى.
فلا تَظْنُنْ بربك ظن سوء
…
فإن الله أولى بالجميلِ
ولا تَظنُنْ بنفسك قطُّ خيرًا
…
وكيف بظالم جانٍ جهولِ
وقل يا نفسُ مأوى كل سوء
…
أيرجى الخيرُ من ميت بخيلِ؟
وظُنَّ بنفسك السُّوأَى تجِدْها
…
كذاك وخيرُها كالمستحيلِ
وما يَكُ من تقًى فيها وخيرٍ
…
فتلك مواهب الرب الجليلِ
وليس بها ولا منها ولكنْ
…
من الرحمن فاشكُرْ للدليلِ
(1)
والمقصود: ما ساقنا إلى هذا الكلام من قوله تعالى: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]. ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظَنِّهم الباطل، وهو قولهم:{هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} ، وقولُهم:{لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} ، فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثباتَ القدر وردَّ الأمرِ كلِّه لله، ولو كان ذلك مقصودَهم لما ذُمُّوا عليه، ولما حَسُن الرد عليهم بقوله:{قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} ، ولا كان مصدرُ هذا الكلام ظنَّ الجاهلية. ولهذا قال غير واحد من المفسرين
(2)
: إن ظنهم الباطل هاهنا هو التكذيب بالقدر وظنُّهم أن الأمر لو كان إليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبعًا لهم يسمعون منهم= لما أصابهم القتلُ، ولكان النصر والظفر لهم، فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظنُّ الجاهلية، وهو الظن المنسوب إلى أهلِ الجهل الذين
يزعمون بعد نفاذ القضاء والقدر الذي لم يكن بُدٌّ من نفاذه أنهم كانوا قادرين على دفعه، وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء، فأكذبهم بقوله:{قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} ، فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدره وجرى به علمُه وكتابه السابق، وما شاء الله كان ولا بُدَّ، شاء الناس أم أبوا، وما لم يشأ لم يكن، شاءه الناس
(1)
أم لم يشاؤوه، وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى دفعه، سواءٌ كان لكم من الأمر شيء أم
(2)
لم يكن لكم، فإنكم
(3)
لو كنتم في بيوتكم وقد كتب القتل على بعضكم لخرج مَن كتب عليه القتلُ مِن بيته إلى مضجعه ولا بُدَّ، سواء كان له من الأمر شيء أم لم يكن. وهذا من أظهر الأشياء إبطالًا لقول القدرية النفاة الذين يُجوِّزون أن يقع ما لا يشاؤه الله، وأن يشاء ما لا يقع.
فصل
ثم أخبر سبحانه وتعالى عن حكمةٍ أخرى في هذا التقدير، وهي ابتلاء ما في صدورهم، وهو اختبار ما فيها من الإيمان والنفاق، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، والمنافق ومن في قلبه مرض لا بدَّ أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه.
ثم ذكر حكمةً أخرى، وهي تمحيص ما في قلوب المؤمنين، وهو تخليصه وتنقيته وتهذيبه، فإن القلوب يخالطُها بغَلَبات
(4)
الطباع وميلِ
(1)
د، ق، ب، ن:«شاء الناس» .
(2)
م، ق، ب، ث، ن:«أو» . وكذا في نظيره بعد سطرين.
(3)
ص، ز، د، ن:«وأنكم» ..
(4)
ص، د، ز:«تغلُّباتُ» ، تصحيف، فإن فاعل «يُخالطها» هو «ما يُضادّ
…
» الآتي.
النفوس وحُكمِ العادة وتزيينِ الشيطان واستيلاءِ الغفلة ما يضادُّ ما أُودِع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتُّقى، فلو تُرِكت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذا المُخالِط
(1)
ولم تتمحص منه، فاقتضت حكمة العزيز الرحيم أن قيّض لها من المِحَن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داءٌ إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده وإلا
(2)
خِيف عليه منه الفسادُ والهلاك، فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكسرة والهزيمة وقَتْلِ من قتل منهم تُعادل نعمتَه عليهم بنصرهم وتأييدهم وظَفَرهم بعدوِّهم، فله عليهم النعمةُ التامَّة في هذا وهذا.
ثم أخبر سبحانه عن تَوَلِّي مَن تولَّى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم، وأنه بسبب كسبهم وذنوبهم، فاستزلهم الشيطان بتلك الأعمال حتى تولوا، فكانت أعمالهم جندًا عليهم ازداد بها عدوُّهم قوةً، فإن الأعمال جندٌ للعبد وجند عليه ولا بُدَّ، فللعبد كلَّ وقتٍ سريةٌ من نفسه تهزمه أو تنصره، فهو يُمدُّ عدوَّه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتله بها، ويبعث إليه سريةً تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوَّه، فأعمالُ العبد تسوقه قسرًا إلى مقتضاها من الخير والشر والعبدُ لا يشعر، أو يشعر ويتعامى، ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه إنما هو بجندٍ من عمله بعثه له الشيطانُ واستزلَّه به.
ثم أخبر سبحانه أنه عفا عنهم، لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك، وإنما كان عارضًا عفا الله عنه، فعادت شَجاعةُ الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها.
(1)
د، ز:«هذه المخالطة» . ص، ن:«هذه المخالِط» .
(2)
«وإلا» كذا في الأصول والنسخ المطبوعة، وهو زائد، والكلام مستقيم دونه.
ثم كرر عليهم سبحانه أن هذا الذي أصابهم إنما أُتُوا فيه من قِبَل أنفسهم وبسبب أعمالهم، فقال:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]، وذكر هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السور المكية فقال:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، فالحسنة والسيئة هاهنا: النعمة والمصيبة، فالنعمة مَنٌّ مِن الله منَّ بها عليك، والمصيبة إنما نشأت من قِبَل نفسك وعملك، فالأول فضله والثاني عدله، والعبدُ يتقلَّب بين فضله وعدله؛ جارٍ عليه فضلُه، ماضٍ فيه حكمُه، عدلٌ فيه قضاؤه.
وختم الآية الأولى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} بعد قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} إعلامًا لهم بعموم قدرته مع عدلِه وأنه عادل قادر، وفي ذلك إثبات القَدَر
(1)
والسبب، فذكر السبب وأضافه إلى نفوسهم، وذكر عموم القُدرة وأضافها إلى نفسه، فالأول ينفي الجبر، والثاني ينفي القول بإبطال القَدَر، فهو يشاكل قوله:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28].
وفي ذكر قدرته هاهنا نكتة لطيفة، وهي أن هذا الأمر بيده وتحت قدرته، وأنه هو الذي لو شاء لصرفه عنكم، فلا تَطلُبوا كشفَ أمثاله من غيره ولا تتكلوا على سواه، وكشف هذا المعنى وأوضحه كلَّ الإيضاح بقوله: {وَمَا
(1)
زِيدت في ق هاء بخط مغاير فصار: «القدرة» .
أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 166]، وهو الإذن الكوني القدري لا الشرعيُّ الديني، كقوله في السحر:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102].
ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير، وهي أن يعلم المؤمنين من المنافقين علمَ عيانٍ ورؤيةٍ يتميز فيه أحد الفريقين من الآخر تميُّزًا ظاهرًا، وكان من حكمة هذا التقدير تكلُّم المنافقين بما في نفوسهم، فسمعه المؤمنون وسمعوا ردَّ الله عليهم وجوابَه لهم، وعرفوا موادّ النفاق
(1)
وما يؤول إليه، وكيف يُحرَم صاحبُه سعادةَ الدنيا والآخرة، ويعود عليه بفساد الدنيا والآخرة؛ فلِلّه كم من حكمةٍ في ضمن هذه القضيّة بالغة، ونعمةٍ على المؤمنين سابغة؛ وكم فيها من تحذيرٍ وتخويف وإرشاد وتنبيه، وتعريفٍ بأسباب الخير والشر ومآلِهما وعاقبتهما!
ثم عزَّى نبيه وأولياءه عمَّن قُتل منهم في سبيله أحسنَ تعزيةٍ وألطفَها وأدعاها إلى الرضى بما قضاه لها، فقال:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169 - 170]، فجمع لهم إلى الحياة الدائمة منزلةَ القُرْبِ منه وأَنَّهم عنده، وجريانَ الرزق المستمر عليهم، وفرحَهم بما آتاهم من فضله ــ وهو فوق الرضى، بل هو كمال الرضى ــ، واستبشارَهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يَتمُّ سرورُهم
(1)
طبعة الرسالة: «مؤدَّى النفاق» خلافًا للأصول والطبعة الهندية.
ونعيمُهم، واستبشارَهم بما تَجدَّدُ
(1)
لهم كلَّ وقت من نعمته وكرامته.
وذكَّرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو من أعظم مِنَنه
(2)
ونعمه عليهم التي إن قابلوا بها كلَّ محنةٍ تنالهم وبليةٍ تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة، ولم يبق لها أثر البتة، وهي منَّته عليهم بإرسال رسولٍ من أنفسهم إليهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وينقذهم من الضلال ــ الذي كانوا فيه قبل إرساله ــ إلى الهدى، ومِن الشقاء إلى الفلاح، ومن الظلمة إلى النور، ومن الجهل إلى العلم؛ فكلُّ بليةٍ ومحنةٍ تنال العبدَ بعد حصول هذا الخير العظيم له أمرٌ يسير جدًّا في جنب الخير الكثير، كما ينال الناسَ بأذى المطر في جنب ما يحصل لهم به من الخير.
فأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره ليُوحِّدوا ويتَّكلوا ولا يخافوا غيره، وأخبرهم بما له فيها من الحكم لئلا يتَّهموه في قضائه وقدره وليتعرَّف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته، وسلَّاهم بما أعطاهم مما هو أجلُّ قدرًا وأعظمُ خطرًا مما فاتهم من النصر والغنيمة، وعزَّاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته لينافسوهم فيه ولا يحزنوا عليهم؛ فله الحمد كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.
فصل
ولما انقضت الحرب انكفأ المشركون، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لأخذ الذراري والأموال، فشقَّ ذلك عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي
(1)
ص، د، المطبوع:«يجدد» .
(2)
د، م، ق:«منّته» .
نفسي بيده، لقد سُوِّمت لهم حجارة، لو صبَّحُوا بها كانوا كأمس الذاهب»
(1)
.
ولما عزموا على الرجوع إلى مكة أشرف على المسلمين أبو سفيان ثم ناداهم: موعدكم الموسم ببدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«قولوا: نعم قد فعلنا» ، قال أبو سفيان: فذلك الموعد، ثم انصرف هو وأصحابُه
(2)
.
فلما كان ببعض الطريق تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئًا، أصبتُم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فارجعوا حتّى نستأصل شأفتَهم، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
(1)
«والذي نفسي بيده
…
كأمس الذاهب» من ز، ع. وفي عامّة الأصول بياض في موضعه. والحديث المثبت ذكره ابن هشام (2/ 104) عن أبي عبيدة النحوي معضلًا. وذكره الواقدي (1/ 339) أيضًا في سياق الغزوة عن شيوخه. وأُلحق في (ن) في موضعه بخط مغاير ــ وهو الذي في النسخ المطبوعة ــ:«فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ وماذا يريدون؟ فإن هم جنَّبوا الخيلَ وامتطوا الإبلَ فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنَّ إليهم ثم لأُناجزنَّهم فيها. قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة» . وهو سياق ما ذكره ابن هشام في «السيرة» (2/ 94) عن ابن إسحاق. وذكره موسى بن عقبة في مغازيه ــ كما في «الدلائل» (3/ 213) ــ بنحوه، إلا أن الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم هو سعد بن أبي وقاص، وكذا عند الواقدي (1/ 298).
(2)
أخرجه البيهقي في «الدلائل» (3/ 215، 282) من مغازي موسى بن عقبة، ومن مغازي أبي الأسود عن عروة بن الزبير. وانظر:«سيرة ابن هشام» (2/ 94) و «مغازي الواقدي» (1/ 297).
فنادى في الناس وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوِّهم، وقال:«لا يخرج معنا إلا من شهد القتال» ، فقال له عبد الله بن أُبَي: أركب معك؟ قال: «لا» ، فاستجاب له المسلمون على ما بهم من القَرح الشديد والخوف وقالوا: سمعًا وطاعةً، واستأذنه جابر بن عبد الله وقال: يا رسول الله، إني أحب أن لا تشهد مشهدًا إلا كنت معك، وإنما خلَّفني أبي على بناته، فأْذَنْ لي أسيرَ
(1)
معك؛ فأذِنَ له
(2)
.
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد
(3)
، وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم
(4)
، فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيُخَذِّلَه، فلحقه بالرَّوحاء ولم يعلم بإسلامه فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه قد تحرَّقوا عليكم وخرجوا في جمعٍ لم يخرجوا في مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم، فقال: ما تقول؟ قال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلُعَ أولُ الجيش من وراء هذه الأكمة، فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم، قال: فلا تفعل فإني لك ناصح، فرجعوا على أعقابهم إلى مكة، ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريد المدينة فقال: هل لك أن تُبْلِغَ محمدًا رسالةً وأُوقِرَ لك راحلتك زبيبًا إذا أتيت إلى مكة؟ قال: نعم، قال: أبلِغْ محمدًا أنا قد أجمعنا الكرةَ لنستأصله ونستأصل أصحابه، فلما بلغهم قوله قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ
(1)
م، ق، ب:«أسِرْ» .
(2)
ذكره موسى بن عقبة، كما في «دلائل النبوة» (3/ 217).
(3)
ومن هنا قيل لها: «غزوة حمراء الأسد» . وهي أرض بها جبل أحمر جنوب غربيِّ المدينة على قرابة عشرين كيلًا، ولا تزال معروفةً بهذا الاسم.
(4)
«فأسلم» ساقط من م، ق، ب. والذي ذكره ابن إسحاق أنه كان «يومئذ مشرك» ولم أجد من ذكر أنه أسلم يومئذ.
يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173 - 174]
(1)
.
فصل
وكانت وقعة أحد يوم السبت في سابع
(2)
شوال سنة ثلاث كما تقدم، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأقام بها بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم، فلما استهل هلالُ المحرَّم بلغه أن طُلَيحة
(3)
وسلمة ابنَي
(4)
خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعوان بني أسد بن خزيمةَ إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث أبا سلمة وعقد له لواءً، وبعث معه مائةً وخمسين رجلًا من الأنصار والمهاجرين، فأصابوا إبلًا وشاءً ولم يلقوا كيدًا، فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة
(5)
.
فصل
فلما كان خامس المحرم بلغه أن خالد بن سفيان الهُذَلي قد جمع له الجموع، فبعث إليه عبد الله بن أُنَيس فقتله ــ قال عبد المؤمن بن خَلَف
(6)
:
(1)
أسنده ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 102 - 103) و «دلائل النبوة» (3/ 315) ــ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم المدني ــ وهو ثقة عالم بالمغازي من صغار التابعين ــ مرسلًا. وانظر: «تفسير الطبري» (6/ 246 - 249).
(2)
م، ق، ب، ث:«مساء» ، تصحيف.
(3)
ص، ز، د، ن، النسخ المطبوعة:«طلحة» ، تصحيف.
(4)
ص، د، ع:«بن» .
(5)
انظر: «مغازي الواقدي» (1/ 340) و «طبقات ابن سعد» (2/ 46).
(6)
الدمياطي (ت 705) في «السيرة النبوية» (ق 83 - نسخة شستربيتي). ولعل المؤلف نسب هذه الجزئية إلى كتابه لأنه لم يجدها عند غيره، فلم يذكرها عروة، ولا موسى بن عقبة، ولا ابن إسحاق في مغازيهم. وإنما ذكرها الواقدي في «مغازيه» (2/ 533) ثم كاتبه ابن سعد في «طبقاته» (2/ 47)، والدمياطي صادر عنه.
وجاءه برأسه فوضعه بين يديه ــ، فأعطاه عصًا فقال:«هذه آية بيني وبينك يوم القيامة»
(1)
، فلما حضرته الوفاة أوصى أن تجعل معه في أكفانه، وكانت غيبته ثمان عشرة ليلةً، وقدم يوم السبت لسبعٍ بقين من المحرم.
فلما كان صفر قَدِم عليه قومٌ من عَضَلٍ والقارة، وذكروا أن فيهم إسلامًا، وسألوه أن يبعث معهم من يُعلِّمهم الدينَ ويقرئهم القرآن، فبعث معهم ستةَ نفرٍ في قول ابن إسحاق
(2)
ــ وقال البخاري
(3)
: كانوا عشرةً ــ وأمَّر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وفيهم خُبَيب بن عدي، فذهبوا معهم.
فلما كانوا بالرَّجيع ــ وهو ماء لهُذَيلٍ بناحية الحجاز
(4)
ــ غدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلًا، فجاءوا حتى أحاطوا بهم، فقتلوا عامَّتهم
(1)
أخرجه ابن إسحاق ــ ومن طريقه أحمد (16047) وأبو داود (1249) وابن خزيمة (982) وابن حبان (7160) والبيهقي في «الدلائل» (4/ 42) ــ عن عبد الله بن أنيس بإسناد حسن. وانظر خبر السرية عند عروة بن الزبير وموسى بن عقبة، كما في «الدلائل» للبيهقي (4/ 40، 41)، وليس عندهما قوله صلى الله عليه وسلم هذا.
(2)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 169).
(3)
ورد ذلك عنده في «صحيحه» (4086) ضمن حديث أبي هريرة الطويل في خبر القصة، وفيه أيضًا أنه أمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري، خلافًا لما ذكره المؤلف نقلًا عن ابن إسحاق.
(4)
ذكر عاتق البلادي بأنه يعرف اليوم بـ «الوطية» ، يقع شمال مكة على قرابة 70 كيلًا قبيل عُسفان في طرف قرية «الشامية» ، وقال: إنه ماء دائم لا يغور، تكرعه الإبل بأعناقها. انظر:«المعالم في السيرة» (ص 138) و «معجم معالم الحجاز» (ص 679).
واستأسروا خبيبَ بن عدي وزيدَ بن الدَّثِنَة، فذهبوا بهما فباعوهما بمكة، وكانا قتلا من رؤوسهم يوم بدر، فأما خبيب فمكث عندهم مسجونًا، ثم أجمعوا قتله
(1)
فخرجوا به من الحرم إلى التنعيم، فلما أجمعوا صَلْبَه
(2)
قال: دعوني حتى أركع ركعتين، فتركوه فصلّاهما، فلما سلَّم قال: والله لولا أن تقولوا: إنّ ما بي جزع، لزدت، ثم قال: اللهم أحصِهم عددًا واقتُلهم بددًا ولا تُبقِ منهم أحدًا، ثم قال:
لقد جمَّع الأحزابُ حولي وألَّبوا
…
قبائلَهم واستجمعوا كل مَجْمع
وقد قرَّبُوا أبناءَهم ونساءهم
…
وقُرِّبتُ من جذعٍ طويل مُمَنَّعِ
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي
…
وما أجمعَ الأحزابُ لي عند مضجعي
فذا العرش صبِّرْني على ما يراد بي
…
فقد بضَّعُوا لحمي وقد ياس مطمعي
وقد خيروني الكفر والموتُ دونه
…
وقد ذرفت عينايَ من غير مدمع
وما بي حِذارُ الموت إنّي لميّت
…
وإنّ إلى ربي إيابي
(3)
ومرجعي
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا
…
على أي شقٍّ كان في الله مضجعي
(4)
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
…
يبارك على أوصال شِلْوٍ مُمَزَّع
(5)
(1)
ق، ب، ن:«على قتله» .
(2)
م، ق، ب:«على صلبه» .
(3)
م، ق، ب:«مآلي» . والشطر الثاني عند ابن إسحاق: «ولكن حذاري حَجمُ نارٍ مُلفَّعِ» .
(4)
ز، ع:«مصرعي» ، وهو لفظ البخاري.
(5)
هذه الأبيات مع بيتين آخرين ذكرهما ابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام (2/ 176). قال ابن هشام: بعض أهل العلم بالشعر ينكر كونها لخُبيب. قلتُ: وقد صحَّ منها البيتان الأخيران (من المذكورة هنا) في حديث أبي هريرة عند البخاري.
فقال له أبو سفيان: أيسرُّك أن محمدًا عندنا تُضرَب عنقه وإنك في أهلك؟ فقال: والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمدًا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه!
(1)
.
وفي «الصحيح»
(2)
: أن خُبيبًا أول من سنَّ الركعتين عند القتل. وقد نقل أبو عمر بن عبد البر
(3)
عن الليث بن سعد أنه بلغه عن زيد بن حارثة أنه صلَّاهما في قصة ذكرها. وكذلك صلاهما حُجْر بن عَدي حين أمر معاويةُ بقتله بأرض عذراءَ من أعمال دمشق
(4)
.
ثم صلبوه ووكلوا به من يحرُس جثَّته، فجاء عمرو بن أمية الضمري فاحتمله بجذعه ليلًا
(5)
فذهب به فدفنه
(6)
.
(1)
ذكره عروة وموسى بن عقبة ــ كما في «الدلائل» (3/ 326) ــ، وليس فيه أن أبا سفيان هو القائل ذلك. وذكر ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة أن أبا سفيان قال ذلك لزيد بن الدَّثِنة حين أخرجوه من الحرم ليقتلوه. انظر:«سيرة ابن هشام» (2/ 172) و «طبقات ابن سعد» (2/ 53).
(2)
للبخاري (4086)، ضمن حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي سبقت الإشارة إليه.
(3)
في «الاستيعاب» (2/ 546 - 547).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (8895) والحاكم (3/ 469 - 470) عن ابن سيرين. وانظر: «طبقات ابن سعد» (8/ 339).
(5)
«ليلًا» ساقط من ص، د.
(6)
ذكره موسى بن عقبة فقال: زعموا أن عمرو بن أمية دفن خبيبًا، كما في «الدلائل» (3/ 327). وأما ابن هشام فذكر أن عمرو بن أمية لمّا احتمله بخشبته خرج الحرس وراءَه حتى أتى جُرفًا فرمى بالخشبة في الجُرف فغيّبه الله عنهم فلم يقدروا عليه. وانظر:«مسند أحمد» (17252).
ورُئي خبيب وهو أسير يأكل قِطْفًا من العنب وما بمكة ثمرة
(1)
.
وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه.
وأما موسى بن عقبة
(2)
فذكر سبب هذه الوقعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث هؤلاء الرهط يتجسَّسون
(3)
له أخبار قريش فاعترضهم بنو لحيان.
فصل
وفي هذا الشهر بعينه ــ وهو صفر من السنة الرابعة ــ كانت وقعة بئر معونة، ومُلخَّصُها أن أبا براء عامرَ بن مالك المدعوَّ «ملاعب الأسِنَّة» قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدعاه إلى الإسلام، فلم يسلم ولم يبعُد فقال: يا رسول الله، لو بعثتَ أصحابك إلى أهل نجدٍ يدعونهم إلى دينك لرجوتُ أن يجيبوهم، فقال:«إني أخاف عليهم أهل نجد» ، فقال أبو براء: أنا جار لهم، فبعث معه أربعين رجلًا في قول ابن إسحاق
(4)
ــ وفي «الصحيح»
(5)
أنهم كانوا سبعين، والذي في «الصحيح» هو الصحيح ــ، وأمَّر عليهم المنذر بن
(1)
جاء ذلك في حديث البخاري مسندًا عن الزهري عن عبد الله بن عياض عن ابنة الحارث بن نوفل ــ وكان خبيب أسيرًا عند بني الحارث ــ أنها رأتْه يأكل منه.
(2)
كما نقله البيهقي عنه في «الدلائل» (3/ 326). وكذا في حديث البخاري أنه بعثهم «عَينًا» .
(3)
كذا في أكثر الأصول بالجيم. وفي المطبوع بالحاء: «يتحسّسون» ، وهما متقاربان في المعنى.
(4)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 183) و «الدلائل» (3/ 339).
(5)
للبخاري (2801) من حديث أنس.
عمرٍو أحدَ بني ساعدة الملقَّبَ بـ «المُعْنِق ليموت»
(1)
وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم.
فساروا حتى نزلوا بئر معونة، وهي بين أرض بني عامرٍ وحرَّةِ بني سُلَيم، فنزلوا هناك ثم بعثوا حرام بن مِلحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل فلم ينظر فيه وأمر رجلًا فطعنه بالحربة خلفَه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال: فزت وربِّ الكعبة! ثم استنفر عدوُّ الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سُلَيم فأجابته عُصيَّة ورِعْلٌ وذكوان، فجاءوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا حتى قُتِلوا عن آخرهم إلا كعبَ بن زيد بن النجار، فإنه ارْتُثَّ
(2)
مِن بين القتلى فعاش حتى قُتِل يوم الخندق.
وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن محمد بن عقبة في سَرْح المسلمين، فرأيا الطيرَ تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذر بن محمد فقاتل المشركين حتى قُتِل مع أصحابه، وأُسِر عمرو بن أمية الضمري، فلما أَخبر أنه من مُضَر جزَّ عامرٌ ناصيتَه وأعتقه عن رقبةٍ كانت على أمه، ورجع عمرو بن أمية، فلما كان بالقرقرة من صدرِ قناةَ
(3)
نزل في ظلِّ شجرةٍ، وجاء
(1)
روي في سبب تلقيبه أنه لمّا قُتل أصحابه ــ كما سيأتي ــ وبقي هو قالوا له: إن شئتَ آمنّاك، فأبى وقاتلهم حتى قُتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا بلغه ذلك:«أعنق ليموت» أي أسرع إلى الموت وتقدّم إليه. انظر: «الدلائل» (3/ 342) عن موسى بن عقبة، و «مغازي الواقدي» (1/ 348) و «طبقات ابن سعد» (2/ 49).
(2)
أي: حُمل من المعرفة رَثِيثًا ــ أي جريحًا ــ وبه رَمَق.
(3)
القرقرة: أرض مطمئنة وسط القاع. و «قناة» : وادٍ فحل يستسيل مناطق شاسعة من شرق الحجاز. انظر: «معجم المعالم الجغرافية في السيرة» (ص 257).
رجلان من بني كلاب فنزلا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو وهو يرى أنه قد أصاب ثأرًا من أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به، فلما قَدِم أخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما فعل، فقال:«لقد قتلتَ قتيلين لأَدِيَنَّهما»
(1)
.
فكان هذا سببَ غزوة بني النضير، فإنه خرج إليهم ليعينوه في ديتهما لِما بينه وبينهما
(2)
من الحِلف، فقالوا: نعم، وجلس هو وأبو بكر وعمر وعليٌّ وطائفة من أصحابه، فاجتمع اليهود وتشاوروا وقالوا
(3)
: من رجل يلقي هذا الرَّحى على محمد فيقتله؟ فانبعث أشقاها عمرو بن جحاش لعنه الله، ونزل جبريلُ من عند رب العالمين على رسوله يُعْلمه بما همُّوا به، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقته راجعًا إلى المدينة، ثم تجهَّز وخرج بنفسه لحربهم، فحاصرهم ستَّ ليال
(4)
، واستعمل على المدينة ابنَ أم مكتوم، وذلك في ربيع الأول
(5)
.
(1)
أسند الخبر بطوله ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 183) و «الدلائل» (3/ 338) ــ عن أبيه عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث، وعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعن غيرهما من أهل العلم مرسلًا. وانظر الخبر عند موسى بن عقبة في «الدلائل» (3/ 341)، والواقدي في «مغازيه» (1/ 346). وقد أخرجه البخاري (2801، 4091) ومسلم (677/ 147 - ج 3/ 1511) من حديث أنس مختصرًا.
(2)
كذا في عامة الأصول، أي: بينه وبين العامريَّين. وفي ن، النسخ المطبوعة:«وبينهم» ، أي: بينه وبين اليهود، وله وجه.
(3)
«وقالوا» ساقط من ص، ز، د.
(4)
كذا قال ابن هشام في «السيرة» (2/ 191). وخالفه الواقدي (1/ 374) وابن سعد (2/ 54) فذكرا أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصرهم خمسة عشر يومًا.
(5)
وقد سبق (ص 150 - 153) خبر بني النضير بأطول مما هنا.
قال ابن حزم
(1)
: وحينئذ حرمت الخمر.
فنزلوا على أن لهم ما حملت إبلُهم غيرَ السلاح ويرحلون من ديارهم، فترحَّل
(2)
أكابرهم كحُيَيِّ بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق إلى خيبر، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، وأسلم منهم رجلان فقط: يامين بن عمرو
(3)
وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما.
وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين الأولين خاصةً، لأنها كانت مما لم يُوجِف المسلمون عليه بخيلٍ ولا ركاب، إلا أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف الأنصاريين لفقرهما. وفي هذه الغزوة نزلت سورة الحشر.
هذا الذي ذكرناه هو الصحيح عند أهل المغازي والسير. وزعم
(1)
«جوامع السيرة» (ص 181)، وقد تبع ابن حزم في ذلك ما ذكره ابن هشام في «السيرة» (2/ 191). وفي وقت تحريمها أقوال أخرى، ورجّح الحافظ ابن حجر أنها حُرِّمت عام الفتح. انظر:«فتح الباري» (8/ 279، 10/ 31).
(2)
م، ق، ث:«فرحل» . ب: «فرحلت» .
(3)
كذا في الأصول والمطبوع. وإنما هو: «يامين بن عُمَير» . انظر: «سيرة ابن هشام» (2/ 192) و «مغازي الواقدي» (1/ 373) و «الدرر» لابن عبد البر (ص 175) و «الاستيعاب» له (4/ 1589) و «جوامع السيرة» (ص 182) ــ وهو مصدر المؤلف ــ و «الإصابة» (11/ 378).
تنبيه: وقع في مطبوعة «سيرة ابن هشام» وكتابَي النَّمَري و «جوامع السيرة» : «يامين بن عمير بن كعب بن عمرو بن جحاش» ، وهو تصحيف، والصواب:«يامين بن عمير بن كعب ابنُ عمِّ عمرو بن جحاش» ، كما يدلّ عليه سياق الخبر، وكما ورد عند ابن كثير في «البداية والنهاية» (5/ 538) نقلًا عن ابن إسحاق.
محمد بن شهاب الزهري أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة أشهر
(1)
. وهذا وهم منه أو غلط عليه، بل الذي لا شك فيه أنها كانت بعد أحدٍ، والتي كانت بعد بدر بستة أشهر هي غزوة بني قينقاع
(2)
، وقريظةُ بعد الخندق، وخيبر بعد الحديبية؛ فكان له مع اليهود أربع غزوات:
أولها: غزوة بني قينقاع بعد بدر.
والثانية: بنو النضير بعد أُحُد.
والثالثة: قريظة بعد الخندق.
والرابعة: خيبر بعد الحديبية
(3)
.
فصل
وقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو على الذين قتلوا القراء أصحابَ بئر معونة بعد الركوع
(4)
. ثم تركه لما جاؤوا تائبين مسلمين.
فصل
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه غزوةَ ذاتِ الرقاع، وهي غزوة نجد، فخرج في جمادى الأولى من السنة الرابعة ــ وقيل: في المحرم ــ يريد مُحارب وبني
(1)
أخرجه البيهقي في «الدلائل» (3/ 176) من قوله. وعلّقه البخاري في «صحيحه» عن الزهري عن عروة بن الزبير، وقد سبق (ص 150).
(2)
سبق (ص 149) أن ذكر المؤلف أنها كانت في شوال، أي: بعد شهر من غزوة بدر، وهو قول الواقدي وابن سعد. وانظر أيضًا ما سبق (ص 222) والتعليق عليه.
(3)
ذكر الرابعة ساقط من م، ق، ب.
(4)
أخرجه البخاري (3064 ومواضع) ومسلم (677) من حديث أنس.
ثعلبة بن سعد بن غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري ــ وقيل: عثمان بن عفان ــ، وخرج في أربعمائة من أصحابه ــ وقيل: سبعمائة ــ، فلقي
(1)
جمعًا من غطفان، فتواقفوا ولم يكن بينهم قتال، إلا أنه صلى بهم يومئذٍ صلاةَ الخوف.
هكذا قال ابن إسحاق وجماعة من أهل السير والمغازي في تاريخ هذه الغزاة وصلاةِ الخوف بها
(2)
، وتلقاه الناس عنهم. وهو مشكل جدًّا، فإنه قد صح أن المشركين حبسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غابت الشمس
(3)
.
وفي «السنن» و «مسند أحمد» و «الشافعي»
(4)
أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعًا، وذلك قبل نزول صلاة الخوف. والخندق بعد ذات الرقاع سنة خمس.
والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم أول صلاة صلاها للخوف بعُسفان، كما قال أبو عياش الزُّرَقي: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان فصلى بنا الظهر، وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد، فقالوا: لقد أصبنا منهم غفلةً، ثم قالوا: إن
(1)
م، ق، ب:«وأتى» .
(2)
انظر: «سيرة ابن هشام» (2/ 203) و «مغازي الواقدي» (1/ 395) و «طبقات ابن سعد» (2/ 57) و «الدرر» (ص 176) و «جوامع السيرة» (ص 182).
(3)
أخرجه البخاري (945) ومسلم (631) من حديث جابر رضي الله عنه.
(4)
أخرجه الشافعي في «الأم» (2/ 192) ــ وهو في «مسنده» بترتيب سنجر (153) وبترتيب السندي (553) ــ وأحمد (11198، 11465) والنسائي (661) وابن خزيمة (996، 1703) وابن حبان (2890) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
لهم صلاةً بعد هذه هي أحبُّ إليهم من أموالهم وأبنائهم، فنزلت صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلى بنا العصر ففرَّقنا فِرقتين
…
» وذكر الحديث. رواه أحمد وأهل السنن
(1)
.
وقال أبو هريرة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلًا بين ضَجْنان وعُسفان فحاصر المشركين، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاةً هي أحبُّ
(2)
إليهم من أبنائهم وأموالهم، أَجمِعوا أمركم ثم مِيلوا عليهم مَيلةً واحدةً، فجاء جبريل فأمره أن يَقْسِم أصحابَه نصفين
…
» وذكر الحديث. قال الترمذي: حديث حسن صحيح
(3)
.
ولا خلاف بينهم أن غزوة عُسفان كانت بعد الخندق، وقد صح عنه أنه صلَّى صلاة الخوف بذات الرقاع= فعُلِم أنها بعد الخندق وبعد عسفان.
ويؤيِّد هذا أن أبا هريرة وأبا موسى الأشعري شهدا ذاتَ الرقاع، كما في «الصحيحين»
(4)
عن أبي موسى أنه شهد غزوة ذات الرقاع، وأنهم كانوا يلفُّون على أرجلهم الخِرَق لمّا نَقِبَت، فسمّيت غزوة ذاتِ الرقاع
(5)
. وأما أبو هريرة
(1)
أحمد (16580) وأبو داود (1236) والنسائي (1550) ــ واللفظ به أشبه ــ، وأخرجه أيضًا ابن حبان (2875، 2876) والحاكم (1/ 337). وإسناده صحيح.
(2)
ص، ز، د، ن:«أهمّ» . والمثبت لفظ «السنن» .
(3)
«جامع الترمذي» (3035). وأخرجه أيضًا أحمد (10765) والنسائي (1544) ــ واللفظ به أشبه ــ وابن حبان (2872).
(4)
البخاري (4128) ومسلم (1816). وقوله: «لمّا نَقِبَت» أي لما تشققت.
(5)
«فسميت غزوة ذات الرقاع» ساقط من طبعة الرسالة مع ثبوته في الأصول والطبعة الهندية.
ففي «المسند» و «السنن»
(1)
أن مروان بن الحكم سأله: هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ قال: نعم، قال: متى؟ قال: عام غزوة نجد.
وهذا يدل على أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر، وأن مَن جعلها قبل الخندق فقد وهم وهمًا ظاهرًا. ولما تفطَّن
(2)
بعضُهم
(3)
لهذا ادَّعى أن غزوة ذات الرقاع كانت مرتين، فمرةً قبل الخندق ومرةً بعدها
(4)
؛ على عادتهم في تعديد الوقائع إذا اختلفت ألفاظُها أو تاريخها. ولو صح لهذا القائل ما ذكره ــ ولا يصح ــ لم يمكن أن يكون قد صلى بها صلاةَ الخوف في المرة الأولى، لِما تقدم من قصة عسفان وكونِها بعد الخندق. ولهم أن يجيبوا عن هذا بأن تأخيرَ يوم الخندق جائز غيرُ منسوخ، وأن في حال المُسايفة يجوز تأخير الصلاة إلى أن يتمكَّن من فِعلها ــ وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره ــ، لكن لا حيلة لهم في قصة عسفان وأن أول صلاة صلاها للخوف بها، وأنها بعد الخندق.
فالصواب تحويل غزوة ذات الرقاع من هذا الموضع إلى بعد الخندق، بل بعد خيبر. وإنما ذكرناها هاهنا تقليدًا لأهل المغازي والسير، ثم تبيَّن لنا وهمهم، وبالله التوفيق.
(1)
أحمد (8260) وأبو داود (1240) والنسائي (1543)، وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (1361) وابن حبان (2878) والحاكم (1/ 338).
(2)
غيّر بعضهم السياق في ن إلى: «ولمّا لم يفطن» ، وكذا جاء في النسخ المطبوعة. وهو إقحام مفسد للمعنى المقصود.
(3)
لعل المؤلف يعني به: البيهقي. انظر: «الدلائل» (3/ 369 - 372) ..
(4)
د، ب:«بعده» .
ومما يدل على أن غزوة ذات الرقاع بعد الخندق ما رواه مسلم في «صحيحه»
(1)
عن جابر قال: «أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كُنَّا بذاتِ الرقاع ــ قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ــ فجاء رجل من المشركين وسَيفُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم معلَّق بالشجرة، فأخذ السيفَ فاخترطه
…
» فذكر القصة وقال: «فنودي بالصلاة فصلى بطائفةٍ ركعتين ثم تأخَّروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعُ ركعات وللقوم ركعتان» . وصلاة الخوف إنما شُرعت بعد الخندق، بل هذا يدل على أنها بعد عُسفان، والله أعلم.
وقد ذكروا أن قصة بيعِ جابر جملَه من النبي صلى الله عليه وسلم كانت في غزوة ذات الرقاع
(2)
. وقيل: في مرجعه من تبوك
(3)
، ولكن في إخباره للنبي صلى الله عليه وسلم في تلك القصة أنه تزوج امرأةً ثيبًا تقوم على أخواته وتُكَلِّفهنَّ
(4)
إشعارٌ بأنه بادر إلى ذلك بعد مقتل أبيه ولم يؤخره إلى عام تبوك، والله أعلم.
(1)
برقم (843).
(2)
أسند ذلك ابن إسحاق ــ ومن طريقه ابن هشام (2/ 206) وأحمد (15026) ــ بإسناد جيد عن جابر قال: «خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع مرتحلًا على جمل لي ضعيف
…
» إلخ القصة. وكذلك ذكر الواقدي (1/ 400) القصة في أحداث غزوة ذات الرقاع.
(3)
ورد ذلك في رواية علّقها البخاري عقب الحديث (2718) ضمن الروايات المختلفة في ثمنه، وروي أيضًا عن جابر عند أبي يعلى (1793) بإسناد ضعيف.
(4)
م، ق، ث، ن، النسخ المطبوعة:«تَكْفَلهن» . والمثبت من سائر الأصول، ومعنى «تُكلِّفهن»: تجهّزهن وتُزيّنهن، كما في «تكملة المعاجم العربية» (9/ 130). ولفظ جابر المتفق عليه:«فأحببت أن أتزوج امرأة تَجمعهن وتَمشُطُهن» .
وفي مرجعهم من غزوة ذات الرقاع سَبَوا امرأةً من المشركين، فنذر زوجُها أن لا يرجع حتى يهريق دمًا في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء ليلًا وقد أرصد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين ربيئةً
(1)
للمسلمين من العدو وهما: عبّاد بن بشر وعمار بن ياسر، فضرب عبادًا وهو قائم يصلي بسهمٍ، فنزعه ولم يبطل صلاتَه، حتى رشقه بثلاثة أسهم فلم ينصرف منها حتى سلَّم فأيقظ صاحبه، فقال: سبحان الله! هلَّا أنبهتني؟ فقال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها
(2)
.
وقال موسى بن عقبة في «مغازيه»
(3)
: ولا يُدرى متى كانت هذه الغزوة، قبل بدرٍ أو بعدها، أو فيما بين بدر وأحد، أو بعد أحد.
ولقد أبعد جدًّا إذ جوز أن تكون قبل بدرٍ وهذا ظاهر الإحالة، ولا قبل أحد، ولا قبل الخندق كما تقدم بيانه.
فصل
قد تقدَّم
(4)
أن أبا سفيان قال عند انصرافه من أحد: موعدكم وإيانا العام القابلَ بدرٌ، فلما كان شعبان ــ وقيل: ذو القعدة ــ من العام القابل خرج
(1)
الربيئة: عين القوم يرقب العدو من مربأ (مكان عال) لئلا يدهم قومَه.
(2)
أخرجه ابن هشام (2/ 208) وأحمد (14704) وأبو داود (198) وابن خزيمة (36) وابن حبان (1096) من حديث جابر رضي الله عنه دون تسمية الصحابيين، لكنه ذكر أن أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار. وسمّاهما الواقدي (1/ 397) وابن هشام.
(3)
ونقله عنه أيضًا الحافظ في «الفتح» (7/ 417).
(4)
(ص 281).