الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهية
والنكت الحُكمية
كان الله عز وجل قد وعد رسوله ــ وهو الصادق الوعدِ ــ أنه إذا فتح مكة دخل الناس في دينه أفواجًا ودانت له العرب بأسرها، فلما تمَّ له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوبَ هوازن ومَن تبعها عن الإسلام وأن يجمعوا ويتألَّبُوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ ليَظهر أمرُ الله وتمامُ إعزازه لرسوله ونَصْرُه لدينه، ولتكون غنائمهم شكرانًا لأهل الفتح، وليُظهر الله سبحانه رسولَه وعبادَه وقَهْرَه لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلقَ المسلمون مثلها، فلا يقاومهم بعدُ أحدٌ من العرب، ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين وتبدو للمتوسمين.
واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولًا مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عَددهم وعُددهم وقوة شوكتهم، لتُطامِن
(1)
رؤوسًا رُفِعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعًا رأسه منحنيًا على فرسه حتى إن ذَقَنه تكاد أن
(2)
تَمَسَّ سرجه تواضعًا لربه
(3)
وخضوعًا
(1)
أي مرارة الهزيمة. وفي س، ن، المطبوع:«ليطامن» أي الله سبحانه وتعالى.
(2)
«أن» سقطت من ن، المطبوع. والأفصح والأكثر تجرُّد خبر «كاد» من «أَنْ» ، وبه جاء التنزيل.
(3)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 405) من رواية ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي حزم مرسلًا. وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم (3/ 47) وعنه البيهقي في «الدلائل» (5/ 68) إلا أن إسناده ضعيف. وانظر: «الكامل» لابن عدي (4/ 259).
لعظمته واستكانةً لعزته أن أحلَّ له حرَمَه وبلده ولم يُحلَّه لأحدٍ قبلَه ولا لأحدٍ بعدَه.
وليبيِّن سبحانه لمن قال: «لن نُغلَب اليوم مِن قلة»
(1)
أن النصر إنما هو من عنده، وأنه من ينصُرْه فلا غالبَ له ومن يخذُلْه فلا ناصرَ له غيره، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصرَ رسولِه ودينِه لا كثرتكم التي أعجبتكم، فإنها لم تُغنِ عنكم شيئًا فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبُهم أُرسِلت إليها خِلَعُ الجبر مع بريدِ
(2)
: {مُدْبِرِينَ
(3)
(25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا} [التوبة: 26]. وقد اقتضت حكمته أن خِلَع النصر وجوائزَه إنما تُفَضُّ
(4)
على أهل الانكسار؛ {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 - 6].
ومنها: أن الله سبحانه لمَّا منع الجيش غنائمَ مكةَ، فلم يغنموا منها ذهبًا ولا فضةً ولا متاعًا ولا سبيًا ولا أرضًا، كما روى أبو داود
(5)
عن وهب بن
(1)
كما في مرسل قتادة والسدِّي عند الطبري في «تفسيره» (11/ 387، 389) ومرسل الربيع بن أنس عند البيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 123). وقد ذكره ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 444) ــ والواقدي (3/ 889) وابن سعد (2/ 139).
(2)
«بريد» مضاف إلى الآية، أي: مع بريد الأمور المذكورة في هذه الآية. وفي النسخ المطبوعة: «مع بريد النصر» ، وهي زيادة ليست في شيءٍ من الأصول.
(3)
في الأصول: «فأنزل» ، سهو أو سبق قلم.
(4)
أي: تُوَزَّع وتُقسَّم، يُقال: فضَّ المال على القوم، أي فرَّقه وقسمه عليهم. وفي المطبوع:«تفيض» ، تصحيف.
(5)
برقم (3032)، وإسناده جيّد.
مُنبِّهٍ قال: «سألت جابرًا: هل غنموا يوم الفتح شيئًا؟ قال: لا» ، وكانوا قد فتحوها بإيجاف الخيل والركاب، وهم عشرة آلاف وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيش من أسباب القوة= فحرَّك
(1)
سبحانه قلوب المشركين لغزوهم، وقَذَف في قلوبهم إخراج أموالهم ونَعَمهم وشائِهم وسَبْيِهم معهم، نُزُلًا وضيافةً وكرامةً لحزبه وجنده.
وتمَّم تقديرَه سبحانه بأن أَطمَعَهم في الظَّفر وألاح لهم مبادئ النصر ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا. فلما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه، وبَرَدت
(2)
الغنائمُ لأهلها، وجرت فيها سهامُ الله ورسولِه= قيل: لا حاجة لنا في دمائكم ولا في نسائكم وذَراريِّكم، فأوحى سبحانه إلى قلوبهم التوبة والإنابة فجاؤوا مسلمين، فقيل: إنَّ مِن شُكران
(3)
إسلامكم وإتيانكم أن نرُدَّ عليكم نساءكم وأبناءكم وسبيكم و {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70].
ومنها: أن الله سبحانه افتتح غزو العرب بغزوة بدرٍ وختم غزوهم بغزاة حُنَين، ولهذا يُقرَن بين هاتين الغزاتين بالذكر فيقال:«بدر وحنين» وإن كان بينهما سبع سنين، والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزاتين، والنبي صلى الله عليه وسلم رمى وجوهَ المشركين بالحصباء فيهما، وبهاتين الغزاتين طفئت جمرةُ العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فالأُولى: خوَّفتهم وكسرت مِن
(1)
هو جواب «لمّا منع الجيش
…
» إلخ، والجادّة عدم اقتران جوابها بالفاء، ولعله سها لطول الفصل.
(2)
س، ن:«وبرزت» ، تصحيف.
(3)
المطبوع: «شكر» خلافًا للأصول.
حدهم، والثانية استفرغت قُواهم واستنفدت سهامهم وأذلَّت جميعَهم
(1)
حتى لم يجدوا بُدًّا من الدخول في دين الله.
ومنها: أن الله سبحانه جبر بها أهل مكة وفرَّحهم بما نالوه من النصر والمغنم، فكانت كالدواء لِما نالهم مِن كسرهم وإن كان عينَ جبرهم، وعرَّفهم تمام نِعَمه عليهم بما صرف عنهم من شرِّ هوازن وأنَّه لم يكن لهم بهم طاقة، وإنما نُصِروا عليهم بالمسلمين، ولو أُفردوا عنهم لأكلهم عدوُّهم.
إلى غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلا الله.
فصل
وفيها من الفقه: أن الإمام ينبغي له أن يبعث العيون ومن يدخل بين عدوِّه ليأتيه بخبرهم، وأن الإمام إذا سمع بقصد عدوِّه له وفي جيشه قوَّةٌ ومنَعةٌ لا يقعد ينتظرهم، بل يسير إليهم كما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوازن حتى لقيهم بحنين.
وفيها
(2)
: أن الإمام له أن يستعير سلاح المشركين وعُدَّتهم لقتال عدوه، كما استعار النبي صلى الله عليه وسلم أدراع صفوان وهو يومئذ مشرك.
ومنها: أن من تمام التوكل استعمال الأسباب التي نصبها الله لمسبَّباتها قدرًا وشرعًا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكملُ الخلق توكلًا وإنما كانوا يَلقَون عدوَّهم وهم متحصِّنون بأنواع السلاح.
ودخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة والبيضة على رأسه، وقد أنزل الله عليه:
(1)
المطبوع: «جمعَهم» ، وهما بمعنى.
(2)
س، المطبوع:«ومنها» .
{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. وكثير ممن لا تحقيق عنده ولا رسوخ في العلم يستشكل هذا، ويتكايس في الجواب تارةً بأن هذا فَعله تعليمًا للأمة، وتارةً بأن هذا كان قبل نزول الآية.
ووقعت مسألة في مصر سأل عنها بعض الأمراء وقد ذُكِر له حديث ذكره أبو القاسم بن عساكر في «تاريخه الكبير»
(1)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعد أن أهدت له اليهودية الشاة المسمومة لا يأكل طعامًا قُدِّم له حتى يأكل منه مَن قدَّمه. قالوا: وفي هذا أسوة للملوك في ذلك، فقال قائل: كيف يُجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ؟ فإذا كان الله سبحانه قد ضمن له العصمة، فهو يعلم أنه لا سبيل لبشر عليه
(2)
. فأجاب بعضهم بأن هذا يدل على ضعف الحديث، وبعضهم بأن هذا كان قبل نزول الآية، فلما نزلت لم يكن ليفعل ذلك بعدها.
ولو تأمل هؤلاء أن ضمان الله له العصمة لا ينافي تعاطيه لأسبابها
(1)
«تاريخ دمشق» (22/ 148)، وأخرجه أيضًا الخطيب في «تلخيص المتشابه» (1/ 252)، من حديث عمّار بن ياسر، وإسناده واهٍ، فيه علي بن محمد الحَبيبي، قال فيه الدارقطني: ضعيف جدًّا، وكذَّبه أبو عبد الله الحاكم.
وله شاهد من حديث عمر بن الخطاب عند الطبري في «تهذيب الآثار» (2/ 838) والبيهقي في «شعب الإيمان» (3569) بإسناد ضعيف، وأخرجه البزار (1413) والبيهقي في «الشعب» (5651) من الطريق نفسه إلا أن فيه عمار بن ياسر بدل عمر بن الخطاب. والحديث في إسناده ومتنه اختلاف كثير واضطراب، وليس في سائر طرقه ذكر موضع الشاهد. انظر:«تهذيب الآثار» (2/ 838 - 845) و «علل الدارقطني» (239، 511، 1119) و «أنيس الساري» (3399).
(2)
النسخ المطبوعة: «إليه» .
لأغناهم عن هذا التكلف، فإن هذا الضمان له من ربه تعالى لا يناقض احتراسه من الناس ولا ينافيه، كما أن إخبار الله سبحانه له بأنه يُظهر دينَه على الدين كله ويُعليه لا يناقض أمرَه بالقتال وإعدادِ العُدَّة والقوة ورباط الخيل والأخذِ بالجدِّ والحَذَر والاحتراس من عدوِّه ومحاربته بأنواع الحرب والتورية، فكان إذا أراد الغزوة وَرَّى بغيرها؛ وذلك لأن هذا إخبار من الله سبحانه عن عاقبة حاله ومآله بما يتعاطاه من الأسباب التي جعلها مُفضيةً إلى ذلك مقتضيةً له، وهو صلى الله عليه وسلم أعلم بربه وأتبع لأمره مِن أن يُعطِّل الأسباب التي جعلها الله بحكمته موجبةً لما وعده به من النصر والظفر وإظهار دينه وغلبته لعدوه. وهذا كما أنه سبحانه ضَمِن له حياته حتى يُبلِّغَ رسالاتِه ويظهر دينه، وهو يتعاطى أسباب الحياة من المأكل والمشرب والملبس والمسكن.
وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس، حتى آل ذلك ببعضهم إلى أن ترك الدعاء وأنه لا فائدة فيه ــ زَعَم ــ
(1)
لأن المسؤول إن كان قد قُدِّر ناله ولا بُدَّ
(2)
، وإن لم يقدَّر لم ينله، فأي فائدة في الاشتغال بالدعاء؟
(3)
ثم تكايس في الجواب بأن قال: الدعاء عبادة، فيقال لهذا الغالط: بقي عليك قسمٌ آخرُ وهو الحق: أنه قد قُدِّر له مطلوبُه بسببٍ إن تعاطاه حصل له المطلوب وإن عطَّل السبب فاته المطلوب، والدعاء من أعظم الأسباب في حصول المطلوب.
وما مثل هذا الغالط إلا مثل من يقول: إن كان الله قد قدَّر لي الشبع فأنا
(1)
طبعة الرسالة: «وزعم أنه لا فائدة فيه» خلافًا للأصول وللطبعة الهندية.
(2)
«ولابُد» سقط من ص، د، ز، س.
(3)
انظر في هذه المسألة: «الداء والدواء» للمؤلف (ص 26).
أشبع أكلتُ أو لم آكل، وإن لم يقدر لي الشبع لم أشبع أكلتُ أو لم آكل، فما فائدة الأكل؟ وأمثال هذه التُّرَّهات الباطلة المنافية لحكمة الله تعالى وشرعه، وبالله التوفيق.
فصل
وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرط لصفوان في العارية الضمان فقال: «بل عارية مضمونة» ، فهل هذا إخبار عن شرعه في العارية ووصف لها بوصفٍ شرعه الله فيها، وأن حكمها الضمان كما تُضمن الغُصُوب
(1)
، أو إخبار عن ضمانها بالأداء بعينها، ومعناه أني ضامن لك تأديتها وأنها لا تذهب بل أردُّها إليك بعينها؟
هذا مما اختلف فيه الفقهاء
(2)
، فقال الشافعي وأحمد بالأول وأنها مضمونة بالتلف. وقال أبو حنيفة ومالك بالثاني وأنها مضمونة بالرد، على تفصيل في مذهب مالك وهو أن العين إن كانت مما لا يُغاب عليه
(3)
كالحيوان والعقار لم تُضمَن بالتلف إلا أن يظهر كذبه، وإن كانت مما يُغاب عليه كالحُلِيِّ ونحوه ضمنت بالتلف إلا أن يأتي ببينةٍ تشهد على التلف، وسرُّ مذهبه أن العارية أمانة غير مضمونة كما قال أبو حنيفة، إلا أنه لا يُقبَل قوله فيما يخالف الظاهر، فلذلك فَرَّق بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه.
(1)
كذا في ف، ص، د، ث. وفي سائر الأصول والمطبوع:«يُضمن المغصوب» .
(2)
انظر: «الأم» (4/ 512)، و «الإنصاف» (15/ 88)، و «مختصر اختلاف العلماء» للطحاوي (4/ 185)، و «المدونة» (10/ 192) و «عقد الجواهر الثمينة» (2/ 732).
(3)
أي لا يُمكن إخفاؤه.
ومأخذ المسألة: أن قوله صلى الله عليه وسلم لصفوان: «بل عارية مضمونة»
(1)
هل أراد به أنها مضمونة بالرد أو بالتلف؟ أي أضمنها إن تلفت أو أضمن لك ردَّها؟ وهو يحتمل الأمرين، وهو في ضمان الرد أظهر لثلاثة أوجه:
أحدها: أن في اللفظ الآخر: «بل عاريةً مؤداة»
(2)
فهذا يبين أن قوله: «مضمونة» المرادُ به المضمونة بالأداء.
الثاني: أنه لم يسأله عن تَلَفها، وإنما سأله هل تأخذها مني أخْذَ غصبٍ تحول بيني وبينها؟ فقال: لا، بل أخْذَ عاريةٍ أؤدِّيها إليك. ولو كان سأله عن
(1)
هذا لفظ رواية ابن إسحاق عن شيوخه، ومرسل محمد بن باقر، وقد سبق تخريجه.
(2)
وصف العارية بالمؤداة في قصة صفوان روي من حديث ابن عباس عند الدارقطني (2951) والحاكم (2/ 47) والبيهقي (6/ 88) بإسناد واه، ولفظه أنه قال: يا رسول الله أعارية مؤداة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «عارية مؤداة» . وروي بنحوه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند الدارقطني (2952) إلا أن إسناده إلى عمرو بن شعيب ضعيف.
واللفظ الذي ذكره المؤلف ورد في حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ــ أي: ليعلى ــ: «إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعًا وثلاثين بعيرًا» ، فقال: يا رسول الله، أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ قال:«بل عارية مؤداة» . أخرجه أحمد (17950) وأبو داود (3566) والنسائي في «الكبرى» (5744) وابن حبان (4720) والدارقطني (2953) بإسناد رجاله رجال الشيخين، وهذا لفظ رواية النسائي، ولفظ أبي داود بنحوه. ولفظ سائر الروايات أنه قال: العارية مؤداة يا رسول الله؟ قال: «نعم» ، وهذا اللفظ أصح. ويبقى النظر في هذه القصة هل هي قصة أخرى غير قصة صفوان، أو أنها هي نفسها ولكن الرواة اضطربوا في تعيين صاحب القصة؟ والأظهر ــ والله أعلم ــ أن القصة لصفوان لتعدد مخارجها وإطباق أصحاب المغازي عليها، على أن ابن حزم يرى أن الصحيح في الباب حديث يعلى وأما ما سواه فلا يساوي الاشتغال به. انظر:«المحلى» (9/ 173).
تلفها وقال: أخاف أن تذهب، لناسب أن يقول: أنا ضامن لها إن تلفت.
الثالث: أنه جعل الضمان صفةً لها نفسها، ولو كان ضمانَ تلفٍ لكان الضمان لبدلها، فلما وقع الضمان على ذاتها دلَّ على أنه ضمانُ أداءٍ.
فإن قيل: ففي القصة أن بعض الدروع ضاع فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يضمنها، فقال: أنا اليوم في الإسلام أرغب
(1)
.
قيل: هل عرض عليه أمرًا واجبًا أو أمرًا جائزًا مستحبًّا الأولى فِعلُه، وهو من مكارم الأخلاق والشِّيم ومن محاسن الشريعة؟ وقد يترجح الثاني بأنه عرض عليه الضمان، ولو كان الضمان واجبًا لم يَعرِضه عليه، بل كان يفي له به ويقول: هذا حقُّك، كما لو كان الذاهب بعينه موجودًا فإنه لم يكن ليعرض عليه ردَّه، فتأمَّلْه.
فصل
وفيها: جواز عَقْر فرس العدو ومركوبه إذا كان ذلك عونًا على قتله، كما عقر عليٌّ بعير حامل راية الكفار، وليس هذا من تعذيب الحيوان المنهي عنه.
وفيها: عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عمَّن همَّ بقتله، ولم يعاجله بل دعا له ومسح صدره حتى عاد كأنه وليٌّ حميم.
ومنها: ما ظهر في هذه الغزاة من معجزات النبوة وآيات الرسالة من إخباره لشيبةَ بما أضمر في نفسه، ومن ثباته وقد تولى عنه الناس وهو يقول:
أنا النبي لا كذب
…
أنا ابن عبد المطلب
(1)
ورد ذلك في حديث صفوان الموصول، وفي الرواية عن أناس من آله مرسلًا، وقد سبق تخريجهما (ص 579).