الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
فيما في خطبته العظيمة ثاني يوم الفتح من أنواع العلم
فمنها: قوله:
«إن مكة حرَّمها الله ولم يحرمها الناس»
(1)
، فهذا تحريم شرعي قدري سبق به قدره يومَ خلَقَ هذا العالم، ثم ظهر به أمره
(2)
على لسان خليلَيه
(3)
إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما كما في «الصحيح»
(4)
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم إن إبراهيم خليلَك حرَّم مكة وإني أحرِّم المدينة» ، فهذا إخبار عن ظهور التحريم السابق يوم خلق السماوات والأرض على لسان إبراهيم، ولهذا لم ينازع أحدٌ مِن أهل الإسلام في تحريمها وإن تنازعوا في تحريم المدينة، والصواب المقطوع به تحريمها إذ قد صحَّ فيه بضعة وعشرون حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مطعنَ فيها بوجه
(5)
.
ومنها: قوله:
«فلا يحل لأحد أن يسفك بها دمًا»
، هذا التحريم لسفك الدم المختصُّ بها هو
(6)
الذي يباح في غيرها ويَحرُم فيها لكونها حرمًا، كما
(1)
متفق عليه من حديث شريح العدوي، وقد سبق.
(2)
«أمره» سقط من المطبوع.
(3)
ث، س، ن، المطبوع:«خليله» .
(4)
للبخاري (3367، 4084، 7333) من حديث أنس بنحوه. وأخرجه مسلم (1360، 1361، 1374/ 475) من أحاديث عبد الله بن زيد بن عاصم، ورافع بن خَدِيج، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم بنحوه.
(5)
انظر: «الأحاديث الواردة في فضائل المدينة ــ جمعًا ودراسة» لصالح بن حامد الرفاعي (ص 45 - 116)، فقد جمع أحاديث الباب من مسند (24) صحابيًّا، منها بضعة عشر صحاحًا وحِسانًا.
(6)
النسخ المطبوعة: «وهو» ، زيادة اختلَّ بها السياق.
أن تحريم عضد الشجر بها واختلاء خلاها
(1)
والتقاط لُقطتها هو أمر يختصُّ بها وهو مباح في غيرها، إذ الجميع في كلام واحد ونظام واحد، وإلا بطلت فائدة التخصيص، وهذا أنواع:
أحدها ــ وهو الذي ساقه أبو شُرَيح العَدَوي لأجله ــ: أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة
(2)
الإمام لا تقاتل، لا سيما إن كان لها تأويل، كما امتنع أهل مكة من بيعة يزيد وبايعوا ابن الزبير، فلم يكن قتالهم ونصب المَنجَنيق عليهم وإحلالُ حرم الله جائزًا بالنص والإجماع.
وإنما خالف في ذلك عمرو بن سعيدٍ الفاسق وشيعتُه وعارض نصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه وهواه فقال: «إن الحرم لا يعيذ عاصيًا»
(3)
، فيقال له: هو لا يعيذ عاصيًا مِن عذاب الله، ولو لم يُعِذه مِن سفك دمه لم يكن حرمًا بالنسبة إلى الآدميين وكان حرمًا بالنسبة إلى الطير والحيوان البَهِيم! وهو لم يزل يعيذ العصاةَ مِن عهد إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وقام الإسلام على ذلك، وإنما لم يُعِذ مِقْيَس بن صُبابة وابنَ خطل ومن سُمِّي معهم
(4)
، لأنه في تلك الساعة لم يكن حرمًا بل حِلًّا، فلما انقضت ساعة الحرب عاد
(1)
النسخ المطبوعة: «خلائها» ، خطأ. و «الخَلَى» بالقصر: الرَّطب من الحشيش، واختلاؤه: قطعه. وسيأتي شرحهما عند المؤلف (ص 556).
(2)
الضبط المثبت من س، ن، والنسخ المطبوعة. والذي في سائر الأصول:«متابعة» .
(3)
كما في حديث أبي شريح المتفق عليه. وعمرو بن سعيد هو الأموي المعروف بالأشدق، كان واليًا على المدينة أيام يزيد بن معاوية، وكان يبعث البعوث إلى مكة لقتال ابن الزبير عندما ذكر له أبو شريح العدوي رضي الله عنه هذا الحديث، فردّ عليه بقوله هذا.
(4)
كذا في جميع الأصول عدا ن، ففيها:«معهما» .
إلى ما وضع عليه يوم خلق السماوات والأرض.
وكانت العرب في جاهليتها يرى أحدهم قاتلَ أبيه وابنه في الحرم فلا يهيجه وكان ذلك بينهم خاصِّيَّةَ الحرم التي صار بها حرمًا، ثم جاء الإسلام فأكَّد ذلك وقوَّاه، وعلم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن من الأمة من يتأسى به في إحلاله بالقتال والقتل فقطع الإلحاق وقال لأصحابه: «فإن أحد ترخص بقتال
(1)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك
(2)
».
وعلى هذا فمن أتى حدًّا أو قصاصًا خارج الحرم يوجب القتل ثم لجأ إليه لم يَجُز إقامتُه عليه فيه.
وذكر الإمام أحمد
(3)
عن عمر بن الخطاب أنه قال: «لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مَسِستُه حتى يخرج منه» .
وذكر عن عبد الله بن عمر أنه قال: «لو وجدتُ فيه قاتلَ عمر ما نَدَهتُه»
(4)
.
(1)
المطبوع: «لقتال» وهو لفظ البخاري، والمثبت من الأصول لفظ مسلم والترمذي وغيرهما.
(2)
ز، س:«لكم» وهو لفظ «الصحيحين» ، والمثبت من سائر الأصول لفظ الترمذي.
(3)
لم أجده في كتبه ومسائله المطبوعة. وقد أخرجه عبد الرزاق (9228) ــ ومن طريقه ابن المنذر في «تفسيره» (1/ 304) ــ والأزرقي في «أخبار مكة» (2/ 139) وكذا الفاكهي (3/ 365) من رواية عكرمة بن خالد عن عمر، وهو مرسل فإن عكرمة بن خالد لم يسمع من عمر، وقد سمع من ابنه، فلعل هذا مما سمعه منه.
(4)
أخرجه عبد الرزاق (9229) ــ ومن طريقه الخطابي في «غريب الحديث» (2/ 405) ــ والأزرقي (2/ 139) من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن ابن عمر. قوله: «ما ندهته» كذا في مصادر التخريج، أي: ما صِحتُ به ولا هِجتُه، يقال:«نده البعيرَ» إذا زجره وطرده بالصياح. وفي ف، ز، د، ن:«بدهته» أي: ما فجأته، وهو مهمل غير منقوط في سائر الأصول.
وعن ابن عباس أنه قال: «لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هِجته حتى يخرج منه»
(1)
.
وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم، بل لا يُحفظ عن تابعي ولا صحابي خلافُه، وإليه ذهب أبو حنيفة ومن وافقه من أهل العراق، والإمامُ أحمد ومن وافقه من أهل الحديث
(2)
.
وذهب مالك والشافعي إلى أنه يستوفى منه في الحرم كما يستوفى منه في الحل، وهو اختيار ابن المنذر
(3)
. واحتُجَّ لهذا القول بعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل مكان وزمان، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، وبما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًّا بدم ولا خَربة»
(4)
، وبأنه لو كان الحدُّ
(5)
والقصاص فيما دون النفس لم يُعِذه الحرم ولم يمنعه من إقامته عليه، وبأنه لو أتى فيه ما
(1)
أخرجه الفاكهي في «أخبار مكة» (2213) والطبري في «تفسيره» (5/ 603) والطحاوي في «أحكام القرآن» (1777) و «مشكل الآثار» (9/ 379).
(2)
انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (باب في إقامة الحد والقود في الحرم)، و «مختصر اختلاف العلماء» للطحاوي (2/ 242 - 243)، و «المغني» (12/ 409).
(3)
انظر: «النوادر والزيادات» (14/ 226)، و «نهاية المطلب» (16/ 306)، و «الإشراف» (7/ 377) و «الأوسط» (13/ 110) كلاهما لابن المنذر.
(4)
ليس بقول للنبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي كلام المصنف عليه.
(5)
س، المطبوع:«الحدود» .
يوجب حدًّا أو قصاصًا لم يعذه الحرم ولم يمنع من إقامته عليه فكذلك إذا أتاه خارجه ثم لجأ إليه إذ كونُه حرمًا بالنسبة إلى عصمته لا يختلف بين الأمرين، وبأنه حيوان أبيح قتله لفساده فلم يفترق الحال بين قتله لاجئًا إلى الحرم وبين كونه قد أوجب ما يبيح قتلَه فيه، كالحيَّة والحِدأة والكلب العقور، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خمسٌ فواسقُ يُقتَلن في الحلِّ والحرم»
(1)
، فنبَّه بقتلهن في الحل والحرم على العلة وهي فسقهن، ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعًا من قتلهن، فكذلك فاسق بني آدم الذي قد استوجب القتل.
قال الأولون: ليس في هذا ما يعارض ما ذكرنا من الأدلة، ولا سيما قولَه تعالى:{دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ} [آل عمران: 97]، وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخُلفِ في خبره تعالى، وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه، وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام، كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]، وقولهِ تعالى:{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]، وما عدا هذا من الأقوال الباطلة فلا يلتفت إليه كقول بعضهم: من دخله كان آمنًا من النار، وقولِ بعضهم: كان آمنًا من الموت على غير الإسلام ونحو ذلك، فكم ممَّن دخله وهو في قعر الجحيم!
وأما العمومات الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان، فيقال أولًا: لا تعرُّض في تلك العمومات لزمان الاستيفاء ولا مكانه،
(1)
أخرجه البخاري (3314) ومسلم (1198) من حديث عائشة رضي الله عنها.
كما لا تعرض فيها لشروطه وعدم موانعه، فإن اللفظ لا يدل عليها بوضعه ولا بتضمُّنه، فهو مطلق بالنسبة إليها، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع لم يُقَل: إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام، فلا يقول مُحَصِّل
(1)
: إن قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] مخصوص بالمنكوحة في عدَّتها أو بغير إذن وليها أو بغير شهود، فهكذا النصوص العامة في استيفاء الحدِّ
(2)
والقصاص لا تعرُّض فيها لزمنه ولا مكانه ولا شرطه ولا مانعه، ولو قُدِّر تناولُ اللفظ لذلك لوجب تخصيصه بالأدلة الدالة على المنع لئلا يَبطُل موجَبُها ووجب حمل اللفظ العام على ما عداها كسائر نظائره، وإذا خصصتم تلك العمومات بالحامل والمرضع والمريض الذي يُرجى برؤه والحال المُحرِّمة للاستيفاء كشدة المرض أو البرد أو الحَرِّ، فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة؟ وإن قلتم ليس ذلك تخصيصًا بل تقييدًا لمطلقها كِلنا لكم بهذا الصاع سواءً بسواء.
وأما قتل ابن خطل فقد تقدم أنه كان في وقت الحِلِّ وأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع الإلحاق ونصَّ على أن ذلك من خصائصه، وقولُه صلى الله عليه وسلم:«وإنما أحلت لي ساعةً من نهار» صريح في أنه إنما أُحِلَّ له سفك دمٍ حلال في غير الحرم في تلك الساعة خاصةً، إذ لو كان حلالًا في كل وقتٍ لم يختصَّ بتلك الساعة، وهذا صريح في أن الدم الحلال في غيرها حرامٌ فيها فيما عدا تلك الساعة.
وأما قوله: «إن الحرم لا يعيذ عاصيًا» فهو من كلام الفاسق عمرو بن سعيدٍ الأشدق يردُّ به حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين روى له أبو شريح الكعبي
(1)
أي: من حصَّل العلمَ، أي جمعه وأتقنه.
(2)
س، ن، المطبوع:«الحدود» .
هذا الحديث كما جاء مبينًا في «الصحيح» ، فكيف يقدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
وأما قولكم: لو كان الحد أو القصاص فيما دون النفس لم يُعِذه الحرم منه، فهذه المسألة فيها قولان للعلماء، وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد، فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها، ومن فرَّق قال: سَفْك الدم إنما ينصرف إلى القتل، ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريمُ ما دونه، لأن حرمة النفس أعظمُ والانتهاك بالقتل أشد. قالوا: ولأن الحد بالجلد والقطع
(1)
يجري مجرى التأديب، فلم يُمنَع منه كتأديب السيد عبدَه.
وظاهر المذهب
(2)
أنه لا فرق بين النفس وما دونها في ذلك؛ قال أبو بكر
(3)
: هذه مسألة وجدتها لحنبلٍ عن عمِّه: أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل، قال: والعمل على أن كلَّ جانٍ دخل الحرم لم يُقَم عليه الحد حتى يخرج منه.
قالوا: وحينئذ فنجيبكم بالجواب المركب، وهو أنه إن كان بين النفس وما دونها في ذلك فرق مؤثِّر بطل الإلزام، وإن لم يكن بينهما فرق مؤثِّر سوَّينا بينهما في الحكم وبطل الاعتراض؛ فتحقَّقَ بطلانُه على التقديرين.
(1)
ن، المطبوع:«أو القطع» .
(2)
أي: مذهب أحمد. في المطبوع: «وظاهر هذا المذهب» ، إقحام أفسد السياق وأضاع المعنى.
(3)
هو غلام الخلَّال عبد العزيز بن جعفر البغدادي (ت 363)، وقوله في «المغني» (12/ 410).
قالوا: وأما قولكم: إن الحرم لا يعيذ من انتهك فيه الحرمة إذا
(1)
أتى فيه ما يوجب الحد فكذلك اللاجئ إليه، فهو جمع بين ما فرق الله ورسوله والصحابة بينهما؛ فروى الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق
(2)
، حدثنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: «من سرق أو قتل في الحل ثم دخل الحرم فإنه لا يجالَس ولا يكلَّم ولا يُؤوى
(3)
حتى يخرج فيؤخذَ فيقامَ عليه الحد، وإن قتل أو سرق في الحرم أقيم عليه في الحرم».
وذكر الأثرم
(4)
عن ابن عباس أيضًا: «من أحدث حدثًا في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء» .
وقد أمر الله سبحانه بقتل من قاتل في الحرم فقال: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191].
والفرق بين اللَّاجئ والمُنتهِك فيه من وجوه:
(1)
س، المطبوع:«إذ» ، خطأ.
(2)
وهو عنده في «المصنف» (9226)، ومن طريقه أخرجه ابن المنذر في «تفسيره» (1/ 305) و «الأوسط» (13/ 108) والبيهقي في «سننه» (9/ 214). وروي من طرق أخرى بنحوه. انظر:«أخبار مكة» للفاكهي (2202 - 2206) و «تفسير الطبري» (5/ 604 - 605) و «أحكام القرآن» للطحاوي (2/ 311 - 312).
(3)
زِيد في طبعة الرسالة بعده: «ولكنه يُناشَد» من «مصنف عبد الرزاق» ، وليس في شيء من الأصول ولا في الطبعة الهندية.
(4)
كما في «المغني» (12/ 413). وقد أخرجه أيضًا الطحاوي في «أحكام القرآن» (1776) وفي «مشكل الآثار» (9/ 377) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس بنحوه، وإسناده جيّد.
أحدها: أن الجاني فيه هاتك لحرمته بإقدامه على الجناية فيه، بخلاف مَن جنى خارجه ثم لجأ إليه، فإنه معظِّم لحرمته مستشعر بها بالتجائه إليه، فقياس أحدهما على الآخر باطل.
الثاني: أن الجاني فيه بمنزلة المفسد الجاني على بِساط المَلِك في داره وحرمه، ومن جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه بمنزلة من جنى خارج بساط السلطان وحرمه ثم دخل إلى حرمه مستجيرًا.
الثالث: أن الجاني في الحرم قد انتهك حرمة الله سبحانه وحرمةَ بيته وحرمه، فهو منتهك
(1)
لحُرمتَين بخلاف غيره.
الرابع: أنه لو لم يُقَم الحدُّ على الجُناة في الحرم لعمَّ الفساد وعَظُم الشر في حرم الله، فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى صيانة نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، ولو لم يُشرَع الحدُّ في حق من ارتكب الجرائم في الحرم لتعطَّلت حدود الله وعمَّ الضرر للحرم وأهله.
الخامس: أن اللاجئ إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصِّل المستجير ببيت الرب تعالى
(2)
المتعلِّقِ بأستاره، فلا يناسب حاله ولا حال حرمه وبيته أن يهاج، بخلاف المُقْدِم على انتهاك حرمته؛ فظهر سرُّ الفرق وتبيَّن أن ما قاله ابن عباس هو محض الفقه.
وأما قولكم: إنه حيوان مفسد فأبيح قتلُه في الحل والحرم كالكلب العقور، فلا يصح القياس، فإن الكلب العقور طبعُه الأذى فلم يُحرِّمه الحرم
ليدفع أذاه عن أهله، وأما الآدمي فالأصل فيه الحرمة وحرمتُه عظيمة، وإنما أبيح لعارضٍ فأشبه الصائلَ من الحيوانات المباحة من المأكولات فإن الحرم يعصمها.
وأيضًا فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور والحية والحِدَأَة كحاجة أهل الحل سواءً، فلو أعاذها الحرمُ لعَظُم الضررُ عليهم بها.
فصل
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يَعضِد بها شجرًا»
(1)
، وفي اللفظ الآخر:«ولا يُعضَد شوكها»
(2)
، وفي لفظ في «صحيح مسلم»
(3)
: «ولا يُخبَط شوكها» ؛ لا خلاف بينهم أن الشجر البري الذي لم يُنبته الآدميُّ على اختلاف أنواعه مرادٌ من هذا اللفظ، واختلفوا فيما أنبته الآدمي من الشجر في الحرم على ثلاثة أقوال، وهي في مذهب أحمد
(4)
:
أحدها: أن له قلعَه ولا ضمان عليه، وهذا اختيار ابن عقيل وأبي الخطاب وغيرهما.
والثاني: أنه ليس له قلعُه، وإن فعل ففيه الجزاء بكل حال، وهذا قول الشافعي
(5)
، وهو الذي ذكره ابن البناء في «خصاله»
(6)
.
(1)
كما في حديث أبي شريح عند البخاري (4295).
(2)
كما في حديث ابن عباس عند البخاري (1587) ومسلم (1353).
(3)
برقم (1355/ 448) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
انظر: «المغني» (5/ 185) و «الإنصاف» (9/ 49 - 52).
(5)
انظر: «المجموع» للنووي (7/ 447 - 450، 494).
(6)
لم أجده في القدر المطبوع منه.
والثالث: الفرق بين ما أنبته في الحل ثم غرسه في الحرم، وبين ما أنبته في الحرم أولًا، فالأول: لا جزاء فيه، والثاني: لا يُقلَع وفيه الجزاء بكل حال، وهذا قول القاضي.
وفيه قول رابع: وهو الفرق بين ما يُنبت الآدميُّ جنسَه كالجوز واللوز والنخل ونحوِه، وما لا ينبت الآدمي جنسه كالدَّوح والسَّلَم
(1)
ونحوه، فالأول يجوز قلعه ولا جزاء فيه، والثاني: فيه الجزاء
(2)
.
قال صاحب «المغني»
(3)
: والأولى الأخذُ بعموم الحديث في تحريم الشجر كله، إلا ما أنبته الآدميُّ من جنس شجرهم بالقياس على ما أنبتوه من الزرع والأهلي من الحيوان، فإننا إنما أخرجنا من الصيد ما كان أصله إنسيًّا دون ما تأنَّس من الوحشي، كذا هاهنا. وهذا تصريح منه باختيار هذا القول الرابع، فصار في مذهب أحمد أربعة أقوال.
والحديث ظاهر جدًّا في تحريم قطع الشَّوك والعَوسج
(4)
. وقال الشافعي
(5)
: لا يَحرُم قطعه، لأنه يؤذي الناس بطبعه [فـ]ـأشبه
(6)
السباع، وهذا اختيار أبي الخطاب وابن عَقِيل، وهو مروي عن عطاء ومجاهد وغيرهما
(7)
.
(1)
السَّلَم: شجر من العِضاه ذات الشوك وورقها القَرَظُ الذي يُدبَغ به الجلد، واحدته: سَلَمة.
(2)
في النسخ المطبوعة: «والثاني: لا يجوز وفيه الجزاء» .
(3)
(5/ 186).
(4)
العوسج: شجر من العضاه كثير الشوك، واحدته: العوسجة.
(5)
انظر: «البيان» للعمراني (4/ 262)، والمؤلف صادر عن «المغني» .
(6)
الفاء ساقطة من الأصول، وهي ثابتة في مصدر المؤلف وكذا في النسخ المطبوعة.
(7)
انظر: «الإشراف» لابن المنذر (3/ 400). والمؤلف صادر عن «المغني» .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يعضد شوكها» وفي اللفظ الآخر: «لا يختلى شوكها»
(1)
صريحٌ في المنع، ولا يصح قياسه على السباع العادية، فإن تلك تقصد بطبعها الأذى، وهذا لا يؤذي من لم يَدنُ منه.
والحديث لم يفرق بين الأخضر واليابس، ولكن قد جوَّزوا قطع اليابس؛ قالوا: لأنه بمنزلة الميت، ولا يعرف فيه خلاف، وعلى هذا فسياق الحديث يدل على أنه إنما أراد الأخضر، فإنه جعله بمنزلة تنفير الصيد، وليس في أخذ اليابس انتهاكُ حرمة الشجرة الخضراء التي تسبح بحمد ربها، ولهذا غرس النبي صلى الله عليه وسلم على القبرين غصنين أخضرين وقال:«لعله يُخفَّف عنهما ما لم ييبسا»
(2)
.
وفي الحديث دليل على أنه إذا انقلعت الشجرة بنفسها أو انكسر الغصن جاز الانتفاع به، لأنه لم يَعضِده هو، وهذا لا نزاع فيه.
فإن قيل: فما تقولون فيما إذا قلعها قالع ثم تركها، فهل يجوز له أو لغيره أن ينتفع بها؟ قيل: قد سئل الإمام أحمد عن هذه المسألة فقال: من شبَّهه بالصيد لم ينتفع بحطبها، وقال: لم أسمع إذا قطعه ينتفع به
(3)
.
وفيه وجه آخر: أنه يجوز لغير القاطع الانتفاعُ به، لأنه قُطِع بغير فعله فأبيح له الانتفاع به كما لو قلعته الريح، وهذا بخلاف الصيد إذا قتله مُحْرِم حيث يَحرُم على غيره، فإن قتل المحرم له جعله ميتةً.
(1)
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري (112) ومسلم (1355/ 447).
(2)
أخرجه البخاري (216) ومسلم (292) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
نقله في «المغني» (5/ 187).
وقوله في اللفظ الآخر: «ولا يخبط شوكها» صريحٌ أو كالصريح في تحريم قطع الورق، وهذا مذهب أحمد. وقال الشافعي: له أخذه
(1)
، ويُروى عن عطاء
(2)
. والأول أصح لظاهر النص والقياس، فإن منزلته من الشجرة منزلة ريش الطائر منه، وأيضًا فإن أخذ الورق ذريعة إلى يبس الأغصان فإنه لباسها ووقايتها.
فصل
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يختلى خلاها»
(3)
، لا خلاف أن المراد من ذلك ما نبت بنفسه دون ما أنبته الآدميون، ولا يدخل اليابس في الحديث، بل هو للرطب خاصةً، فإن الخَلَى بالقصر الحشيش الرطب ما دام رطبًا، فإذا يبس فهو حشيش، و «أَخْلت الأرض»: كَثُر خلاها، و «اختلاء الخلى»: قَطْعُه، ومنه الحديث: كان ابن عمر يختلي لفرسه
(4)
(5)
، ومنه سميت المِخلاة وهي وعاء الخلى.
والإذخر مستثنًى بالنص، وفي تخصيصه بالاستثناء دليل على إرادة العموم فيما سواه.
(1)
وذلك إذا كان الأخذ بسهولة دون الخبط الذي يضر بالشجرة. انظر: «البيان» للعمراني (4/ 259) و «المجموع» (7/ 447 - 449).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (15706) عنه. والمؤلف صادر عن «المغني» (5/ 187).
(3)
كما في حديث ابن عباس عند البخاري (1349) ومسلم (1353/ 445)، وحديث أنس عند مسلم (1367).
(4)
أخرجه أحمد (4600) وابن سعد (4/ 160) والفاكهي (2227).
(5)
زِيد في طبعة الرسالة بعده: «أي يقطع لها الخلى» ، وليس في شيء من الأصول ولا في الطبعة الهندية.
فإن قيل: فهل يتناول الحديث الرعي أم لا؟ قيل: هذا فيه قولان.
أحدهما: لا يتناوله فيجوز الرعي، وهذا قول الشافعي.
والثاني: يتناوله بمعناه وإن لم يتناوله بلفظه، فلا يجوز الرعي، وهو مذهب أبي حنيفة. والقولان لأصحاب أحمد
(1)
.
قال المحرمون: وأي فرق بين اختلائه وتقديمه للدابة وبين إرسال الدابة عليه ترعاه؟
قال المبيحون: لما كانت عادة الهدايا أن تدخل الحرم وتكثر فيه، ولم يُنقَل قط أنها كانت تُسَدُّ أفواهها= دل على جواز الرعي.
قال المحرمون: الفرق بين أن يرسلها ترعى ويسلِّطَها على ذلك وبين أن ترعى بطبعها من غير أن يسلطها صاحبُها، وهو لا يجب عليه أن يَسُدَّ أفواهها كما لا يجب عليه أن يَسُدَّ أنفه في الإحرام عن شم الطيب وإن لم يجز له أن يتعمَّد شمَّه، وكذلك لا يجب عليه أن يمتنع من السَّير خشيةَ أن يُوطئ صيدًا
(2)
في طريقه وإن لم يجز له أن يقصد ذلك، وكذلك نظائره.
فإن قيل: فهل يدخل في الحديث أخذ الكمأة والفَقْع
(3)
وما كان مغيَّبًا في الأرض؟ قيل: لا يدخل فيه لأنه بمنزلة الثمرة، وقد قال أحمد
(4)
: يُؤكل من
(1)
انظر: «كتاب اختلاف العراقيين - الأم» للشافعي (8/ 344) و «مختصر الطحاوي مع شرح الجصاص» (2/ 564) و «الإنصاف» للمرداوي (9/ 53).
(2)
أي: خشية أن يطأ الصيد براحلته أو فرسه. يقال: أوطأ فرسَه الصَّيد: حملها عليه فوطئته.
(3)
الفقع: ضرب من أردإ الكمأة.
(4)
في رواية حنبل، كما في «المغني» (5/ 188).
شجر الحرم الضَّغابيس والعِشْرِق
(1)
.
فصل
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يُنفَّر صيدها»
(2)
صريح في تحريم التسبُّب إلى قتل الصيد واصطياده بكل سبب، حتى إنه لا ينفره عن مكانه لأنه حيوان محترم في هذا المكان، قد سبق إلى مكان فهو أحق به، ففي هذا أن الحيوان المحترم إذا سبق إلى مكان لم يزعج عنه.
فصل
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يَلتقط ساقطتها إلا من عرَّفها»
(3)
، وفي لفظ:«لا تحل ساقطتُها إلا لمُنْشِد»
(4)
، فيه دليل على أن لقطة الحرم لا تُملَّك بحال، وأنها لا تلتقط إلا للتعريف لا للتمليك، وإلا لم يكن لتخصيص مكة بذلك فائدة أصلًا.
وقد اختُلف في ذلك، فقال مالك وأبو حنيفة: لقطة الحِلِّ والحرم سواء،
(1)
الضغابيس: صغار القثاء، واحده: ضُغبوس. والعِشرق: نبت يشبه السَّنا ــ ويقال: هو السَّنا المكي ــ له حبٌّ يؤكل، وهو نافع للبواسير، والمراد هنا أكل حبِّه دون قلعه أو قطع ورقه.
(2)
ورد ذلك في حديثي ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم المتفق عليهما.
(3)
أخرجه البخاري (1587، 1834، 3189) ومسلم (1353) عن ابن عباس بلفظ: «ولا يلتقط لُقَطَته إلا من عرَّفها» .
(4)
أخرجه البخاري (2434) ومسلم (1355/ 447) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي لفظ آخر لها: «ولا يلتقط ساقطَتها إلا مُنشد» . البخاري (6880) ومسلم (1355/ 448).
وهذا إحدى الروايتين عن أحمد وأحد قولي الشافعي
(1)
، ويروى عن ابن عمر وابن عباس وعائشة
(2)
.
وقال أحمد في الرواية الأخرى والشافعي في القول الآخر: لا يجوز التقاطها للتمليك، وإنما يجوز لحفظها لصاحبها، فإن التقطها عرَّفها أبدًا حتى يأتي صاحبُها، وهذا قول عبد الرحمن بن مهدي وأبي عبيد، وهذا هو الصحيح والحديثُ صريح فيه. والمنشد: المُعرِّف، والناشد: الطالب، ومنه قوله
(3)
:
إصاخةَ الناشد للمنشد
وقد روى أبو داود في «سننه»
(4)
: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج، قال
(1)
انظر: «عقد الجواهر الثمينة» لابن شاس (3/ 81)، و «بدائع الصنائع» (6/ 202)، و «نهاية المطلب» للجويني (8/ 489)، و «الإنصاف» (16/ 238)، والمؤلف صادر عن «المغني» (8/ 305).
(2)
كذا في «المغني» ، والذي في «الأوسط» لابن المنذر (11/ 405 - 406) أنه يُروى ذلك عن عمر بن الخطاب (وليس ابن عمر). وقد أسند ابن المنذر آثارهم في ذلك، وليس في الأثر عن عمر وابن عبَّاس حجة لهذا القول، لأنهما أمرا الملتقط بالتصدُّق بها عن صاحبها إذا لم يجده بعد التعريف. وأما عائشة فإنها قالت للمرأة التي أصابت ضالَّة في الحرم وعرَّفَتْها فلم تجد أحدًا يعرفها:«استنفعي بها» . وإسناده صحيح، وأخرجه أيضًا الطحاوي في «معاني الآثار» (4/ 139) واحتجَّ به على مذهبه.
(3)
عجُز بيتٍ للمثقَّب العبدي وهو يصف إصاخة الثور ــ أي: استماعه ــ وتوجُّسه إذا أحس بشيء من أسباب القانص، وصدره:
يُصيخ للنَّبْأة أسماعَه
انظر: «ديوانه» (ص 41) و «البيان والتبيُّن» (2/ 288).
(4)
برقم (1719) من حديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه. والحديث عند مسلم في «صحيحه» (1724) دون قول ابن وهب.
ابن وهب: يعني يتركها حتى يجدها صاحبها.
قال شيخنا
(1)
: وهذا من خصائص مكة، والفرق بينها وبين سائر الآفاق في ذلك: أن الناس يتفرقون عنها إلى الأقطار المختلفة فلا يُمْكَن
(2)
صاحبُ الضالة من طلبها والسؤال عنها، بخلاف غيرها من البلاد.
فصل
وقوله صلى الله عليه وسلم في الخطبة: «ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يأخذ الدية»
(3)
فيه دليل على أن الواجب بقتل العمد لا يتعيَّن في القِصاص، بل هو أحد شيئين: إما القصاص وإما الدية.
وفي ذلك ثلاثة أقوال، وهي روايات عن الإمام أحمد:
أحدها: أن الواجب أحد شيئين إما القصاص أو الدية، والخِيَرة في ذلك إلى الولي بين أربعة أشياء: العفو مجَّانًا، والعفو إلى الدية، والقِصاص، ولا خلاف في تخييره بين هذه الثلاثة، والرابعُ: المصالحةُ على أكثر من الدية فيه وجهان: أشهرهما مذهبًا جوازه، والثاني: ليس له العفو على مال إلا الدية أو دونها، وهذا أرجح دليلًا. فإن اختار الدية سقط القَوَدُ ولم يملك طلبَه بعدُ، وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك.
والقول الثاني: أن موجَبَه القود عينًا، وأنه ليس له أن يعفو إلى الدية إلا
(1)
لم أجده في كتبه المطبوعة.
(2)
ن، المطبوع:«يتمكَّن» .
(3)
أخرجه البخاري (112، 2434، 6880) ومسلم (1355) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
برضى الجاني، فإن عفا
(1)
إلى الدية فلم يرض الجاني فقوده بحاله، وهذا مذهب مالك في الرواية الأخرى وأبي حنيفة.
والقول الثالث: أن موجَبَه القود عينًا مع التخيير بينه وبين الدية وإن لم يرض الجاني، فإذا عفا عن القصاص إلى الدية فرضي الجاني فلا إشكال، وإن لم يرض فله العَود إلى القِصاص
(2)
.
فإن عفا عن القود مطلقًا، فإن قلنا: الواجب أحد شيئين فله الدية، وإن قلنا: الواجب القصاص عينًا سقط حقُّه منهما.
فإن قيل: فما تقولون فيما لو مات القاتل؟
قيل: في ذلك قولان:
أحدهما: تسقط الدية، وهو مذهب أبي حنيفة، لأن الواجب عندهم القِصاص عينًا وقد زال محل استيفائه بفعل الله تعالى، فأشبه ما لو مات العبد الجاني، فإن أرش الجناية لا ينتقل إلى ذمة السيِّد، وهذا بخلاف تلف الرهن وموت الضامن، حيث لا يسقط الحقُّ لثبوته في ذمة الراهن والمضمون عنه، فلم يسقط بتلف الوثيقة.
وقال الشافعي وأحمد: تتعيَّن الدية في تركته، لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاطٍ فوجبت الدية لئلا يذهب حقُّ الورثة من الدم والدية مجانًا
(3)
.
(1)
النسخ المطبوعة: «عدل» .
(2)
انظر: «الإنصاف» (25/ 207 - 210)، و «الأم» (7/ 26 - 27)، و «المدونة» (11/ 370، 16/ 455) و «التبصرة» (13/ 6465)، و «بدائع الصنائع» (7/ 241).
(3)
انظر المصادر السابقة.
فإن قيل: فما تقولون لو اختار القصاص ثم اختار بعده العفو إلى الدية، هل له ذلك؟
قلنا: هذا فيه وجهان، أحدهما: أن له ذلك، لأن القصاص أعلى فكان له الانتقال إلى الأدنى. والثاني: ليس له ذلك، لأنه لمَّا اختار القصاص فقد أسقط الدية باختياره له، فليس له أن يعود إليها بعد إسقاطها.
فإن قيل: فكيف تجمعون بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم: «من قُتِل عمدًا فهو قَوَد»
(1)
؟
قيل: لا تعارض بينهما بوجه، فإن هذا يدل على وجوب القود بقتل العمد، وقوله:«فهو بخير النظرين» يدل على تخييره بين استيفاء هذا الواجب له وبين أخذ بدله وهو الدية، فأيُّ تعارض؟ وهذا الحديث نظير قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178]، وهذا لا ينفي تخيير المستحِقِّ له بين ما كتب له وبين بدله. والله أعلم.
فصل
وقوله صلى الله عليه وسلم في الخطبة: «إلا الإذخر»
(2)
بعد قول العباس له: «إلا الإذخر» يدل على مسألتين:
(1)
أخرجه النسائي (4790) وابن ماجه (2635) والدارقطني (3131 - 3133، 3136) من طرق فيها لين عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس مسندًا. وأخرجه أبو داود (4539) من طريق حماد بن زيد وسفيان بن عيينة كلاهما عن عمرو بن دينار عن طاوس مرسلًا، وهو الصواب. انظر:«العلل» للدارقطني (2108).
(2)
كما في حديثي ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم المتفق عليهما.
إحداهما: إباحة قطع الإذخر.
والثانية: أنه لا يشترط في الاستثناء أن ينويه من أول الكلام ولا قبل فراغه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان ناويًا لاستثناء الإذخر من أول كلامه أو قبل تمامه لم يتوقف استثناؤه له على سؤال العباس له ذلك وإعلامِه أنهم لا بد لهم منه لقَينهم وبيوتهم
(1)
.
ونظير هذا: استثناؤه صلى الله عليه وسلم لسهيل بن بيضاء من أُسارى بدر بعد أن ذكَّره به ابن مسعود؛ فقال: «لا ينفلتنَّ أحدٌ منهم إلا بفداء أو ضربة
(2)
عنق»، فقال ابن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام، فقال:«إلا سهيل بن بيضاء»
(3)
. ومن المعلوم أنه لم يكن قد نوى الاستثناء في الصورتين من أول كلامه.
ونظيره أيضًا: قول المَلَك لسليمان لمّا قال: «لأطوفن الليلة على مائة
(1)
القين: الحداد والصائغ، وفي رواية عند البخاري:«لصاغتنا» . وكان الصاغة يستعملونه وقودًا، وكان أهل مكة يجعلونه في سُقُف بيوتهم فوق الخشبات قبل أن يُطيِّنوا عليها ليسدُّوا الخلل فلا يسقط الطين، وكذا يجعلونه ــ وإلى يومنا هذا ــ بين اللَّبِنات في القبور. انظر:«الفتح» (4/ 49).
(2)
ز، د:«ضرب» .
(3)
أخرجه أحمد (3632) والترمذي (3084) وابن أبي شيبة (37845) والبيهقي في «سننه» (6/ 321) من حديث أبي عُبَيدة ــ وهو ابن عبد الله بن مسعود ــ عن أبيه في قصة مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أسارى بدر. قال الترمذي: «هذا حديث حسن، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه» . ولعله حسَّنه مع انقطاعه لأن أبا عُبيدة كان له فضل معرفة بحديث أبيه ــ كما سبق (ص 123/الهامش) ــ، ولأن أصل قصة المشاورة ثابت من حديث عمر، أخرجه مسلم (1763) وغيره.
امرأة، تلد كل امرأة غلامًا يقاتل في سبيل الله»، فقال له الملك: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو قال: إن شاء الله لقاتَلُوا في سبيل الله
(1)
أجمعون»
(2)
، وفي لفظ:«لكان دركًا لحاجته»
(3)
، فأخبر أن هذا الاستثناء لو وقع منه في هذه الحال لنفعه، ومن يشترط النية يقول: لا ينفعه.
ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «لأغزونَّ قريشًا، واللهِ لأغزون قريشًا» ثلاثًا ثم سكت ثم قال: «إن شاء الله»
(4)
، فهذا استثناء بعد سكوت، وهو يتضمن
(5)
إنشاء الاستثناء بعد الفراغ من الكلام والسكوت عليه. وقد نصَّ أحمد
(6)
على جوازه، وهو الصواب بلا ريب، والمصيرُ إلى موجَب هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة أولى. وبالله التوفيق.
(1)
زِيد في هامش النسختين ز، س:«فُرسانًا» ، وهو في «الصحيحين» .
(2)
أخرجه البخاري (2819، 6639) ومسلم (1654/ 25) من حديث الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
(3)
أخرجه البخاري (6720) ومسلم (1654/ 23، 24) من حديث طاوس عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
(4)
أخرجه أبو يعلى (2674، 2675) وابن حبان (4343) والطبراني في «الكبير» (11/ 282) و «الأوسط» (1004) من طرق عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس مسندًا. وإسناده ضعيف لأن سماكًا وإن كان صدوقًا إلا أنه مضطرب في الرواية عن عكرمة خاصةً، وقد اختلف عليه في هذا الحديث وصلًا وإرسالًا، فقد أخرجه عبد الرزاق (11306) وأبو داود (3285، 3286) عنه عن عكرمة مرسلًا. قال أبو حاتم: «وهو أشبه» . «العلل» لابنه (1322).
(5)
ص، ز، د:«متضمن» .
(6)
انظر: «المغني» (13/ 485).
فصل
وفي القصة: أن رجلًا من الصحابة يقال له أبو شاه قام فقال: اكتبوا لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اكتبوا لأبي شاه»
(1)
يريد خطبته، ففيه دليل على كتابة العلم ونسخ النهي عن كتابة الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من كتب عني شيئًا غير القرآن فليمحُه»
(2)
، وهذا كان في أول الإسلام خشيةَ أن يختلط الوحيُ الذي يتلى بالوحي الذي لا يتلى، ثم أذن في الكتابة لحديثه.
وصحَّ عن عبد الله بن عمرو أنه كان يكتب حديثَه
(3)
، وكان مما كتبه صحيفة تسمى «الصادقة»
(4)
، وهي التي رواها حفيده عمرو بن شعيب عن أبيه عنه
(5)
، وهي من أصح الأحاديث، وكان بعض أئمة الحديث يجعلها في
(1)
كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه.
(2)
أخرجه مسلم (3004) من حديث أبي سعيد الخدري. والحديث قد أعلّه بعض الأئمة كالبخاري وأبي داود بالوقف، قالوا: الصواب أنه من قول أبي سعيد موقوفًا عليه غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: «تقييد العلم» للخطيب (ص 36 - 38) و «تحفة الأشراف» (3/ 408) و «فتح الباري» (1/ 208).
(3)
صحَّ ذلك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري (113)، ومن حديث عبد الله بن عمرو نفسِه عند أحمد (6510، 6930) وأبي داود (3646) والدارمي (501) وابن خزيمة (2280) والحاكم (1/ 104 - 106) من طرق عنه.
(4)
كما أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (2/ 321 - 322) والدارمي (513) والخطيب في «تقييد العلم» (ص 84، 85) من طرق بعضها صحيح.
(5)
لم أجد ما يدل على أن الصحيفة التي رواها عمرو بن شعيب هي «الصادقة» بعينها، فإنها لو كانت كذلك لما اختلف أئمة الحديث في صحتها والاحتجاج بها، والله أعلم.
درجة أيوب عن نافع عن ابن عمر
(1)
، والأئمة الأربعة وغيرُهم احتجُّوا بها.
فصل
وفي القصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت وصلى فيه، ولم يدخله حتى محيت الصور منه، ففيه دليل على كراهة الصلاة في المكان المصوَّر، وهذا أحق بالكراهة من الصلاة في الحمام، لأن كراهة الصلاة في الحمام إما لكونه مظنة النجاسة، وإما لكونه بيتَ الشيطان وهو الصحيح، وأما محل الصور فمظنة الشرك، وغالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور.
فصل
وفي القصة: أنه دخل مكة وعليه عمامة سوداء
(2)
، ففيه دليل على جواز لبس السواد أحيانًا، ومِن ثَمَّ جعل خلفاء بني العباس السوادَ شعارًا لهم ولوُلاتهم وقُضاتِهم وخطبائهم، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يلبسه لباسًا راتبًا، ولا كان شعارَه في الأعياد والجُمَع والمجامع العظام البتة، وإنما اتفق له لباسُ العمامة السوداء يوم الفتح دون سائر الصحابة، ولم يكن سائر لباسه السواد يومئذ بل كان لواؤه أبيض
(3)
.
(1)
هو قول الإمام إسحاق بن راهويه، أسنده عنه الحاكم في «المستدرك» (1/ 105، 197) ثم عنه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 318).
(2)
كما في حديث جابر عند مسلم (1358)، ولم يسبق له ذكر عند المؤلف في سياق خبر الفتح، وإن كان قد ذكره في أول الكتاب في «فصل في ملابسه صلى الله عليه وسلم» .
(3)
روي ذلك من حديث جابر وابن عباس عند الترمذي (1679، 1681) وابن ماجه (2817، 2818) والحاكم (2/ 104، 105) وغيرهم، وهما ضعيفان كما أشار إلى ذلك الترمذي وغيره. وفي الباب مرسل عَمرة بنت عبد الرحمن ــ وكانت في حجر عائشة ــ عند ابن أبي شيبة (34298) و «مختصر الأحكام» للطوسي (1424) بإسناد جيّد. ويؤيده أن أصحاب المغازي ذكروا في غير ما غزوة أن لواء النبي صلى الله عليه وسلم كان أبيض. انظر:«سيرة ابن هشام» (1/ 612) و «طبقات ابن سعد» (2/ 7، 8، 9، 26، 100).
فصل
ومما وقع في هذه الغزوة إباحةُ متعة النساء، ثم حرَّمها قبل خروجه من مكة، واختُلف في الوقت الذي حُرِّمت فيه المتعة على أربعة أقوال:
أحدها: أنه يوم خيبر، وهذا قول طائفة من العلماء منهم الشافعي
(1)
وغيره.
والثاني: أنه عام فتح مكة، وهذا قول ابن عيينة وطائفة
(2)
.
والثالث: أنه عام حُنَين
(3)
، وهذا في الحقيقة هو القول الثاني لاتصال غزاة حنين بالفتح.
والرابع: أنه عام حجة الوداع، وهو وهم من بعض الرواة سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوداع، كما سافر وهمُ معاوية رضي الله عنه من عمرة الجِعرانة إلى حجة الوداع حيث قال:«قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمِشقص على المروة في حجته» ، وقد تقدم في الحج
(4)
. وسَفَر الوهم من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن واقعة إلى واقعة كثيرًا ما يعرض للحفاظ فمن دونهم.
(1)
انظر: «الأم» (8/ 434) و «اختلاف الحديث» (10/ 207 - مع الأم).
(2)
منهم: أبو عبيد القاسم بن سلّام. انظر ما سبق (ص 412).
(3)
كما في حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم (1405/ 18) وسيأتي نصُّه قريبًا.
(4)
انظر: (2/ 155، 168 - 171).
والصحيح: أن المتعة إنما حُرِّمت عام الفتح، لأنه قد ثبت في «صحيح مسلم»
(1)
أنهم استمتعوا عام الفتح مع النبي صلى الله عليه وسلم بإذنه، ولو كان التحريم زمن خيبر لزم النسخ مرتين، وهذا لا عهد بمثله في الشريعة البتة، ولا يقع مثله فيها.
وأيضًا: فإن خيبر لم يكن فيها مسلمات، وإنما كن يهودياتٍ، وإباحةُ نساء أهل الكتاب لم تكن ثبتت بعدُ، إنما أُبِحن بعد ذلك في سورة المائدة بقوله:{الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]، وهذا متصل بقوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وبقوله:{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة: 3]، وهذا كان في آخر الأمر بعد حجة الوداع أو فيها، فلم تكن إباحة نساء أهل الكتاب ثابتةً زمن خيبر، ولا كان للمسلمين رغبة في الاستمتاع بنساء عدوِّهم قبل الفتح، وبعد الفتح استُرِقَّ من استرق منهن وصِرن إماءً للمسلمين.
فإن قيل: فما تصنعون بما ثبت في «الصحيحين»
(2)
من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية، وهذا صحيح صريح؟
قيل: هذا الحديث قد صحت روايته بلفظين هذا أحدهما. والثاني:
(1)
(1406/ 20) من حديث سَبْرة بن مَعبد الجُهَني. ووقع في بعض طرق الحديث عند أحمد (15338) وغيره أن ذلك كان عام حجة الوداع، وهو وهم من بعض الرواة كما نبَّه عليه المؤلف آنفًا. وانظر: حاشية محققي «المسند» طبعة الرسالة.
(2)
البخاري (4216) ومسلم (1407).
الاقتصار على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر؛ هذه رواية ابن عيينة عن الزهري
(1)
. قال قاسم بن أصبغ: قال سفيان بن عيينة: «يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر لا عن نكاح المتعة» ، ذكره أبو عمر في
(2)
«التمهيد»
(3)
ثم قال: «على هذا أكثر الناس» انتهى، فتوهم بعض الرواة أن يوم خيبر ظرف لتحريمهن فرواه:«حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعة زمن خيبر والحمر الأهلية» ، واقتصر بعضهم على رواية بعض الحديث فقال:«حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعة زمن خيبر»
(4)
، فجاء بالغلط البيِّن.
فإن قيل: فأي فائدة في الجمع بين التحريمين إذا لم يكونا قد وقعا في وقت واحد، وأين المتعة من تحريم الحمر؟
قيل: هذا الحديث رواه علي بن أبي طالب محتجًّا به على ابن عمه عبد الله بن عباس في المسألتين، فإنه كان يبيح المتعة ولحوم الحمر، فناظره عليُّ بن أبي طالب في المسألتين وروى له التحريمين، وقيَّد تحريم الحمر بزمن خيبر وأطلق تحريم المتعة، فقال: «إنك امرؤ تائه؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجها الحميدي (37) ــ ومن طريقه ابن عبد البر في «التمهيد» (10/ 102) ــ وأحمد (592) والترمذي (1121) والنسائي (4334).
(2)
المطبوع: «وفي
…
» جملة مستأنفة، وهو خطأ مخالف للأصول.
(3)
(10/ 101 - 102)، وقاسم بن أصبغ إنما أسند قول سفيان عن محمد بن إسماعيل الترمذي عن الحميدي عنه، وهو في «مسند الحميدي» عقب الحديث (37) بلفظ: «
…
لا يعني نكاح المتعة» إلا أن «لا» سقطت من مطبوعة «التمهيد» .
(4)
كما في رواية عند النسائي (3367).
حرم المتعة، وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر»
(1)
، كما قاله سفيان بن عيينة وعليه أكثر الناس، فروى الأمرين محتجًّا عليه بهما، لا مقيدًا لهما بيوم خيبر، والله الموفق.
ولكن هاهنا نظر آخر، وهو: أنه هل حرَّمها تحريمَ الفواحش التي لا تباح بحال، أو حرَّمها عند الاستغناء عنها وأباحها للمضطر؟ هذا هو الذي نظر فيه ابن عباس وقال:«أنا أبحتُها للمضطر كالميتة والدم»
(2)
، فلما توسَّع فيها مَن توسع ولم يقف عند الضرورة أمسك ابن عباس عن الإفتاء بحلِّها ورجع عنه.
وقد كان ابن مسعود يرى إباحتها ويقرأ: {(86) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ} [المائدة: 87]، ففي «الصحيحين»
(3)
عنه قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا نساء فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله:{(86) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ} .
وقراءة عبد الله هذه الآية عقيب هذا الحديث يحتمل أمرين:
أحدهما: الرد على من يحرمها، وأنها لو لم تكن من الطيبات لما أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن يكون أراد آخِر الآية، وهو الرد على من أباحها مطلقًا، وأنه
(1)
أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 202) من طريق سفيان بن عيينة.
(2)
سبق تخريجه (ص 414).
(3)
البخاري (4615، 5075) ومسلم (1404).
معتدٍ
(1)
، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما رخَّص فيها للضرورة عند
(2)
الحاجة في الغزو عند عدم النساء وشدة الحاجة إلى المرأة؛ فمن رخَّص فيها في الحضر مع كثرة النساء وإمكان النكاح المعتاد فقد اعتدى، والله لا يحب المعتدين.
فإن قيل: فكيف تصنعون بما رواه مسلم في «صحيحه»
(3)
من حديث جابر وسلمة بن الأكوع قالا: خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لكم أن تستمتعوا» ، يعني: متعة النساء.
قيل: هذا كان زمن الفتح قبل التحريم، ثم حرَّمها بعد ذلك، بدليل ما رواه مسلم في «صحيحه»
(4)
عن سلمة بن الأكوع قال: «رخَّص رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثًا، ثم نهى عنها» . وعام أوطاس: هو عام الفتح، لأن غزاة أوطاسٍ متصلة بفتح مكة.
فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم في «صحيحه»
(5)
عن جابر بن عبد الله قال: «كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيقِ الأيامَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث» ، وفيما ثبت عن عمر أنه قال: «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما: متعة
(1)
غير محرَّر في ف، وتصحّف في عامّة الأصول إلى «مُقيَّد» ، والمثبت الموافق للمطبوع هو مقتضى السياق.
(2)
المطبوع: «وعند» ، هنا وفي الموضع الآتي.
(3)
برقم (1405/ 13)، وأخرجه البخاري (5117) أيضًا بنحوه.
(4)
برقم (1405/ 18). وقوله: «عام أوطاس» أي: عام غزوة حنين، فإن غزوة أوطاس هي غزوة حُنين بعينها، كما سيأتي في موضعه.
(5)
برقم (1405/ 16).
النساء ومتعة الحج»
(1)
؟
قيل: الناس في هذا طائفتان، طائفة تقول: إن عمر هو الذي حرَّمها ونهى عنها، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع ما سنَّه الخلفاء الراشدون، ولم تَرَ هذه الطائفةُ تصحيحَ حديث سَبْرة بن مَعبد في تحريم المتعة عامَ الفتح
(2)
، فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده، وقد تكلم فيه ابن معين
(3)
، ولم يَرَ البخاري إخراج حديثه في «صحيحه» مع شدة الحاجة إليه وكونه أصلًا من أصول الإسلام، ولو صحَّ عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به.
(1)
أخرجه أبو عوانة في «المستخرج» (3814) والبيهقي (7/ 206) من حديث جابر عن عمر بإسناد صحيح، وهو في «صحيح مسلم» (1217/ 145) بلفظ آخر يوضِّح أن مقصود عمر: أنهما كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظروف خاصّة ثم نسختا ولذا فإنه قال فيه: «إن الله كان يُحل لرسوله ما شاء بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازله، فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله، وأبِتُّوا نكاح هذه النساء، فلن أُوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة» .
(2)
أخرجه مسلم كما سبق.
(3)
سئل يحيى بن معين عن أحاديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جدّه، فقال:«ضِعاف» كما أسنده عنه ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/ 350)، ولكن لم ينفرد عبد الملك برواية هذا الحديث، بل قد تابعه عليه جملة من الثقات منهم: الزهري، والليث بن سعد، وعُمارة بن غَزيّة، وأخوه عبد العزيز بن الربيع بن سبرة؛ كل هؤلاء رووه عن الربيع بن سبرة عن أبيه بنحوه، ورواياتهم مخرجة في «صحيح مسلم» (1406)، فلا وجه لإعلاله بضعف عبد الملك.
قالوا: ولو صح حديث سبرة لم يخفَ على ابن مسعود حتى يروي أنهم فعلوها ويحتج بالآية.
قالوا: وأيضًا فلو صحَّ لم يقل عمر: إنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنها وأعاقب عليها، بل كان يقول: إنه صلى الله عليه وسلم حرمها ونهى عنها.
قالوا: ولو صحَّ لم تُفعَل على عهد الصديق وهو عهد خلافة النبوة حقًّا.
والطائفة الثانية: رأت صحةَ حديث سبرة، ولو لم يصح فقد صحَّ حديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم متعة النساء، فوجب حمل حديث جابر على أن الذي أخبر عنه
(1)
بفعلها لم يبلغه التحريم، ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمن عمر، فلما وقع فيها النزاع ظهر تحريمُها واشتهر، وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة فيها. وبالله التوفيق.
فصل
وفي قصة الفتح من الفقه جواز إجارة المرأة وأمانها للرجل والرجلين، كما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم أمانَ أم هانئ لحَمْوَيها.
وفيها من الفقه: جواز قتل المرتد الذي تغلَّظت ردَّتُه مِن غير استتابة، فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد أسلم وهاجر، وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد ولحق بمكة، فلما كان يومُ الفتح أتى به عثمان بن عفان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فأمسك عنه طويلًا ثم بايعه، وقال:«إنما أمسكت عنه ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» ، فقال له رجل: هلَّا أومأتَ إليَّ يا رسول الله؟ فقال: «ما
(1)
المطبوع: «عنها» ، خطأ.
ينبغي لنبيٍّ أن تكون له خائنة الأعين»
(1)
؛ فهذا كان قد تغلظ كفره بردَّته بعد إيمانه وهجرته وكتابة الوحي، ثم ارتد ولحق بالمشركين يطعن على الإسلام ويعيبه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله، فلما جاء به عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة لم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله حياءً من عثمان ولم يبايعه ليقوم إليه بعض أصحابه فيقتلَه، فهابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقْدموا على قتله بغير إذنه، واستحيى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عثمان، وساعد القدر السابق لِما يريد الله سبحانه بعبد الله مما ظهر منه بعد ذلك من الفتوح
(2)
،
فبايعه، وكان ممن استثنى الله بقوله:{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 86 - 89].
وقولُه صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغي لنبيٍّ أن تكون له خائنة الأعين» ، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف ظاهرُه باطنَه، ولا سرُّه علانيته، وإذا نفذ حكمَ الله وأمره لم يُومِ
(3)
به، بل صرَّح به وأعلنه وأظهره.
(1)
أخرجه أبو داود (2683، 4359) والنسائي (4067) والحاكم (3/ 45) والضياء في «المختارة» (3/ 248 - 251) من حديث سعد بن أبي وقاص بنحوه، وإسناده حسن. ولبعضه شاهد من حديث ابن عباس عند أبي داود (4358) والنسائي (4069) والحاكم (3/ 45) والضياء (12/ 295) بإسناد حسن.
(2)
فُتحت إفريقيَّةُ ــ وتسمى «تونس» اليوم ــ على يده في أيام عثمان رضي الله عنه ..
(3)
كذا في الأصول، مِن: أومَى يُومِي، لغة في أومأَ يومئُ.