الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في أمر مسجد الضِّرار الذي نهى الله رسوله أن يقوم فيه
فهدمه صلى الله عليه وسلم
(1)
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوكَ حتى نزل بذي أَوَان ــ وبينها وبين المدينة ساعة ــ، وكان أصحاب مسجد الضرار أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة الشاتية، وإنَّا نحبُّ أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال:«إني على جناح سفرٍ وحال شُغلٍ، ولو قَدِمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلَّينا لكم فيه» ، فلما نزل بذي أوان جاءه خبر المسجد من السماء، فدعا مالك بن الدُّخْشُم أخا بني سلمة بن عوف ومَعْن بن عدي العَجْلاني فقال:«انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهلُه فاهْدِماه وحرِّقاه» ، فخرجا سريعَين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعنٍ: أَنظِرْني حتى أخرجَ إليك بنارٍ من أهلي، فدخل إلى أهله فأخذ سَعَفًا من النخل فأشعل فيه نارًا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه ــ وفيه أهله ــ فحرَّقاه وهدماه فتفرقوا عنه، وأنزل الله سبحانه فيه:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107] إلى آخر القصة
(2)
.
(1)
ص، د: «
…
نهى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
». س، ث: «
…
فهدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم».
(2)
ذكره ابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 529) و «الدلائل» (5/ 259) و «عيون الأثر» (2/ 222)، والمؤلف صادر عن الأخيرين.
وذكر ابن إسحاق الذين بنوه: وهم اثنا عشر رجلًا منهم ثعلبة بن حاطب.
وذكر عثمان بن سعيد الدارمي
(1)
: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس في قوله:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدًا فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم واستمدُّوا ما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجندٍ من الروم فأخرج محمدًا وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحبُّ أن تصلي فيه وتدعو بالبركة، فأنزل الله عز وجل:{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} يعني: مسجد قباء {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} إلى قوله: {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} يعني: قواعده {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} يعني: الشك {إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 108 - 110] يعني: بالموت.
(1)
ومن طريقه البيهقي في «الدلائل» (5/ 262) وهو مصدر المؤلف. وأخرجه أيضًا الطبري (11/ 676) وابن أبي حاتم (6/ 1878) في «تفسيرهما» من طريق عبد الله بن صالح به. وإسناده لا بأس به، ونسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس معروفة، وهو وإن لم يسمع من ابن عباس إلا أنه أخذ تفسيره عن ثقات أصحابه كمجاهد وغيره، وقد اعتمده البخاري فيما يعلّقه عن ابن عباس. ويشهد له هنا تفسير ابن عباس المروي من طريق العوفيين، وكذا تفسير عروة ومجاهد والضحاك وابن زيد. انظر:«تفسير عبد الرزاق» (2/ 287) والطبري (11/ 677 - 680) وابن أبي حاتم (6/ 1880).
فصل
فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة خرج الناس لتلقيه، وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدرُ علينا
…
من ثنيَّات الوداع
وجب الشكر علينا
…
ما دعا لله داع
(1)
وبعض الرواة يهم في هذا ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه المدينةَ من مكة، وهو وهمٌ ظاهر لأن ثنيَّات الوَداع إنما هي من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام
(2)
.
فلما أشرف على المدينة قال: «هذه طابة، وهذا أُحُدٌ جبل يحبنا ونحبه»
(3)
.
ولما دخل قال العباس: يا رسول الله، ايذَنْ لي أمتدحك، فقال رسول الله
(1)
كذا في ف، ب. وفي سائر الأصول والمطبوع:«داعي» . والوزن يستقيم على الوجهين. والحديث أخرجه البيهقي في «الدلائل» (2/ 507، 5/ 266) عن ابن عائشة ــ وهو عبيد الله بن محمد بن حفص القرشي (ت 228) ــ معضلًا دون تعيين قدمة النبي صلى الله عليه وسلم التي قيل فيها ذلك. وقد ذكره البيهقي في الموضعين وقال في الثاني: «هذا يذكره علماؤنا عند مقدمه المدينة من مكة وقد ذكرناه عنده، لا أنه لمّا قدم المدينة من ثنية الوداع عند مقدمه من تبوك، والله أعلم، فذكرناه أيضًا هاهنا» .
(2)
يدل عليه حديث السائب بن يزيد ــ وهو من صغار الصحابة ــ قال: «خرجت مع الصبيان نتلَقَّى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدمَه من غزوة تبوك» . أخرجه البخاري (4427). ووهم الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث في «الفتح» (8/ 128) فنسب إلى المؤلف عكس ما قرَّره هنا.
(3)
أخرجه البخاري (4422) ومسلم (1392) من حديث أبي حميد الساعدي.
- صلى الله عليه وسلم: «قل، لا يفضض الله فاك» ، فقال:
مِن قبلها طِبتَ في الظِّلال وفي
…
مستودَع حيث يُخصَف الوَرَقُ
(1)
ثم هبطتَ البلاد لا بَشَرٌ
…
أنت ولا مضغةٌ ولا علقُ
بل نطفةٌ تركب السفينَ وقد
…
أَلجَمَ نسرًا وأهلَه الغرقُ
تُنقَلُ من صالب إلى رحمٍ
…
إذا مضى عالَم بدا طَبَقُ
حتى احتوى بيتُك المهيمنُ مِن
…
خِنْدِفَ عَلْياءَ تحتها النُّطُقُ
(2)
وأنت لما وُلدتَّ أشرقتِ الْـ
…
ـأرضُ وضاءت بنورك الأفقُ
فنحن من ذلك النور في الضـ
…
ـياء وسبلِ الرشاد نَخترِقُ
(3)
(1)
أي: طبتَ في أصلاب الرجال من لدن كنتَ في صلب آدم وهو في الجنة حيث خصف فيها هو وحواء عليهما من الورق.
(2)
النُّطُق: جمعِ نطاقٍ وهي أَعراض ونواحٍ من جِبال بعضها فوق بعض. المعنى: أن بيت النبي صلى الله عليه وسلم ــ أي: شرفه ــ قد احتلّ المكان العالي من نسب خِندِف، وسائر الناس دونه. وقبائل خندف هي التي ينتهي نسبها إلى إلياس بن مضر، وخندف لقب امرأته، فنُسبوا إلى أمِّهم، ومن قبائل خندف: قريش وهذيل وتميم وخزاعة وغيرها.
(3)
ز، ن، المطبوع: «فنحن في ذلك الضياء وفي النـ
…
ـنور وسبل الرشاد نخترق» وهو كذلك في عامة مصادر التخريج. والمثبت من سائر الأصول هو لفظ «الدلائل» مصدر المؤلف، وفي صدره كسر في الوزن.
والحديث أخرجه الطبراني في «الكبير» (4/ 213) والحاكم (3/ 326) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (2520) والبيهقي في «الدلائل» (5/ 267 - 268) من طريق أبي السكين زكريا بن يحيى بن عمر بن حِصن ــ وهو صدوق ــ، عن عمِّ أبيه زَحر بن حِصن، عن جدِّه حميد بن مَنهَب، عن جدِّه خُرَيم بن أوس الطائي رضي الله عنه. وفي إسناده لين لجهالة حال زَحر بن حِصن وجدِّه حميد، إلا أن الحاكم قال: هذا حديث تفرَّد به رواتُه الأعراب عن آبائهم، وأمثالُهم من الرواة لا يضعون.
فصل
ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس للناس، فجاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعةً وثمانين رجلًا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله
(1)
.
وجاءه كعب بن مالك فلما سلم عليه تبسَّم تبسُّمَ المُغضَب، ثم قال له:«تعال» ، قال: فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال لي:«ما خلَّفك، ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر ولقد أُعطِيتُ جدلًا، ولكني والله لقد علمتُ إنْ حدثتك اليوم حديث كذبٍ ترضى به عليَّ ليوشكَنَّ اللهُ أن يُسخطك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدقٍ تجد عليَّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذرٍ، والله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك» ، فقمت وثار رجال من بني سلِمة فاتبعوني يؤنبوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، ولقد عجَزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلَّفون، فقد كان كافيك ذنبَك استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذِّب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثلَ ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلتُ: من هما؟ قالوا: مُرارة بن الربيع العامري وهِلال بن أُميَّة الواقِفي، فذكروا لي رجلَين صالحَين شهدا بدرًا
(1)
هو جزء من حديث كعب بن مالك الآتي، وسيأتي تخريجه في آخره.
فيهما أسوة، فمضَيتُ حين ذكروهما لي.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا ــ أيها الثلاثةُ ــ من بين من تخلَّف عنه، فاجتنبَنا الناسُ وتغيَّروا لنا حتى تنكَّرت لي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدَهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلِّمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلِّم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيه بردِّ السلام عليَّ أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إليَّ، وإذا التفتُّ نحوه أعرض عني، حتى إذا طال عليَّ ذلك من جفوة المسلمين مشيتُ حتى تسوَّرتُ جدار حائط أبي قتادة ــ وهو ابنُ عمي وأحبُّ الناس إليَّ ــ فسلَّمتُ عليه، فوالله ما ردَّ علي السلام، فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله
(1)
هل تعلمني أُحِب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت له فنشدته
(2)
فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.
فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبَطيٌّ من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلُّ على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إليَّ كتابًا من ملك غسَّانَ، فإذا فيه:«أما بعد، فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحَقْ بنا نواسِك» ، فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء، فتيمَّمتُ بها التنور فسجرتها.
(1)
ز، س، ن:«أنشدك الله» .
(2)
في المطبوع: «فعدت فناشدته» وهو لفظ مسلم، والمثبت من الأصول لفظ البخاري.
حتى إذا مضت أربعون ليلةً من الخمسين إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أُطلِّقها أم ماذا؟ قال: لا ولكن اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبيَّ مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحَقي بأهلكِ فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، فجاءت امرأة هلال بن أمية فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال:«لا، ولكن لا يَقرَبْكِ» ، قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان مِن أمره ما كان إلى يومه هذا، قال كعب: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذنتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أَذِن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يُدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شابّ.
فلبثتُ بعد ذلك عشرَ ليالٍ حتى كَمَلت لنا خمسون ليلةً من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليتُ صلاة الفجر صُبْحَ خمسين ليلةً على ظهر بيتٍ من بيوتنا بينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى ــ قد ضاقت عليَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رَحُبت ــ سمعتُ صوت صارخ أوفى على جبل سَلْعٍ
(1)
بأعلى صوته: يا كعبُ بنَ مالكٍ أبشر! فخررت ساجدًا وعرفتُ أن قد جاء فَرَجٌ
(2)
وآذن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يُبشِّرونا
(3)
وذهب قِبَل صاحبيَّ مبشرون، وركض إليَّ
(1)
جبل معروف في المدينة، وقد سبق التعريف به.
(2)
زِيد بعده في المطبوع: «من الله» وليس في شيء من الأصول ولا في «الصحيحين» .
(3)
س، المطبوع:«يبشروننا» على الجادّة، وهو لفظ «الصحيحين» ، والمثبت من سائر الأصول جائز لغةً.
رجل فرسًا وسعى ساعٍ مِن أَسلمَ فأوفى على ذروة الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثَوبيَّ فكسوتُه إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما، واستعرتُ ثوبين فلبستُهما، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقَّاني الناس فوجًا فوجًا يُهنِّئوني بالتوبة يقولون: ليَهْنِك توبةُ الله عليك.
قال كعب: حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حولَه الناسُ، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يُهَروِل حتى صافحني وهنَّأَني، والله ما قام إليَّ رجلٌ من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة، فلما سلَّمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يَبْرُقُ وجهُه من السرور:«أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك» ، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا، بل من عند الله» ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهُه حتى كأنه قطعة قمرٍ وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلستُ بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله فقال:«أمسِكْ عليك بعضَ مالك فهو خيرٌ لك» ، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجَّاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدِّث إلا صدقًا ما بقيت؛ فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا ما أبلاني، والله ما تعمدتُ بعد ذلك إلى يومي هذا كذبًا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيتُ.
وأنزل الله على رسوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} إلى قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:
117 -
119]، فواللهِ ما أنعم الله عليَّ نعمةً قطُّ بعد أن هداني للإسلام أعظمَ في نفسي مِن صدقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبتُه فأَهلِك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا حين أَنزل الوحيَ شرَّ ما قال لأحد فقال:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95 - 96].
قال كعب: وكان تخلَّفنا ــ أيها الثلاثة ــ عن أمر أولئك الذين قَبِل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ أمرَنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] وليس الذي ذكر الله مِمَّا خُلِّفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرَنا عمَّن حلف له واعتذر إليه فقبل منه
(1)
.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي
(2)
: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:{(101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ} [التوبة: 102]، قال: كانوا عشرةَ رهطٍ تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما حضر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أوثق سبعةٌ منهم أنفسهم بسواري المسجد، فكان ممرُّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم، فلما رآهم قال: «من هؤلاء المُوثِقون
(1)
أخرجه البخاري (4418) ومسلم (2769) من حديث كعب بن مالك بطوله.
(2)
ومن طريقه أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 271 - 272). وأخرجه أيضًا الطبري في «تفسيره» (11/ 651) وكذا ابن أبي حاتم (6/ 1872) من طريق عبد الله بن صالح به.
أنفسهم بالسواري؟» قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له
(1)
تخلَّفوا عنك يا رسول الله، حتى يُطلقهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ويَعذِرهم، قال:«وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أَعذِرُهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين» ، فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا، فأنزل الله عز وجل {(101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102]، و «عسى» مِن الله واجب، إنه هو التواب الرحيم، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم فجاءوا بأموالهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدَّقْ بها عنا واستغفِرْ لنا، قال:«ما أُمرِت أن آخذ أموالكم» ، فأنزل الله:{(102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} يقول: استغفر لهم {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، فأخذ منهم الصدقة واستغفر لهم، وكان ثلاثةُ نفرٍ لم يوثقوا أنفسهم بالسواري فأُرجئوا لا يدرون أيُعذَّبون أم يتاب عليهم فأنزل الله عز وجل:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} إلى قوله: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 117 - 118]. تابعه عطية بن سعد
(2)
.
(1)
ص، ز، د:«هذا أبو لبابة وأصحابه وأصحاب له» . ولعل ناسخ الأصل كتب: «وأصحابه» ثم نسي أن يضرب عليه فبقي ينتسخه النساخ عنه ..
(2)
هو العَوفي، وروايته عن ابن عبَّاس أخرجها الطبري (11/ 651) وابن أبي حاتم (6/ 1872)، والمؤلف صدر عن «الدلائل» حيث أشار البيهقي إلى روايته وأنها بمعنى رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.