الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في غزوة تبوك
وكانت في شهر رجب سنة تسع.
قال ابن إسحاق
(1)
: وكانت في زمن عُسرةٍ من الناس وجدبٍ من البلاد، وحين طابت الثمار، فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون شخوصهم على تلك الحال.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنَّى عنها وورَّى بغيرها إلا ما كان من غزوة تبوك لبعد الشُّقَّة وشدة الزمان
(2)
.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ وهو في جَهازه للجَدِّ بن قيس أحدِ بني سلمة: «يا جَدُّ، هل لك العام في جِلاد بني الأصفر؟» فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتنِّي، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عُجبًا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:«قد أذنتُ لك» ففيه نزلت: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} [التوبة: 49]
(3)
.
(1)
كما في «عيون الأثر» (2/ 215). وابن إسحاق يروي خبر الغزوة عن شيوخه من التابعين: الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم؛ كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 516).
(2)
له شاهد من حديث كعب بن مالك عند البخاري (2948) ومسلم (2769/ 54).
(3)
له شاهد من مرسل مجاهد بإسناد صحيح عند الطبري في «تفسيره» (11/ 491)، وآخر من حديث ابن عباس عند الطبري (11/ 492) والطبراني في «الكبير» (12/ 122) وأبي نعيم في «معرفة الصحابة» (1720) بإسنادين فيهما انقطاع.
وقال قوم من المنافقين بعضُهم لبعضٍ: لا تنفروا في الحرِّ، فأنزل الله فيهم:{وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} الآية [التوبة: 81].
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جدَّ في سفره وأمر الناس بالجَهاز وحضَّ أهل الغنى على النفقة والحُملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان في ذلك نفقةً عظيمةً لم ينفق أحدٌ مثلها.
قلت: كانت ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وعُدَّتها، وألف دينار عينًا
(1)
.
وذكر ابن سعد
(2)
: قالوا
(3)
: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الروم قد جمعت
(1)
تصدُّق عثمان بثلاثمائة بعير روي من حديث عبد الرحمن بن خبَّاب السُّلَمي عند الترمذي (3700) وعبد الله بن أحمد في زوائده على «المسند» (16696) بإسناد فيه لين لجهالة أحد رواته، قال الترمذي: حديث غريب من هذا الوجه.
وأما تصدُّقه بألف دينار فروي من حديث عبد الرحمن بن سمرة عند أحمد (20630) والترمذي (3701) والحاكم (3/ 102)، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم» . قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
هذا، وقد صحَّ في الجملة أن عثمان جهّز جيش العُسرة، فإنه لمّا حوصِر في آخر حياته أشرف على الناس وأنشد الصحابة في أشياء منها قوله: ألستم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جهز جيش العسرة فله الجنة» فجهّزتُهم؟ فصدَّقوه فيما قال. أخرجه البخاري (2778) وغيره.
(2)
في «الطبقات» (2/ 150)، والمؤلف صادر عن «عيون الأثر» (2/ 216).
(3)
«قالوا» أي رواة المغازي من التابعين فمَن بعدهم ممن يروي عنهم ابن سعد المغازي في «طبقاته» ، وقد ذكر أسانيده إليهم في أول المجلد الثاني (2/ 5). وفي النسخ المطبوعة:«قال» خلافًا للأصول ولمصدرَي النقل.
جموعًا كثيرةً بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابَه لسنةٍ، وأجلبت معه لَخْمٌ وجُذامُ وعاملةُ وغَسَّان، وقدَّموا مقدماتهم إلى البلقاء، وجاء البكَّاؤون وهم سبعة يستحملون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال:«لا أجد ما أحملكم عليه» ، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا أن لا يجدوا ما ينفقون
(1)
، وهم: سالم بن عُمَير، وعُلْبة بن زيد
(2)
، وأبو ليلى المازني، وعمرو بن عَنَمة، وسلمة بن صخر، والعِرباض بن سارية
(3)
. وفي بعض الروايات: وعبد الله بن مغفَّلٍ ومَعقِل بن يسار. وبعضهم يقول: البكاؤون بنو مُقرِّن السبعة
(4)
،
وهم من مُزَينة.
وابن إسحاق يعُدُّ فيهم عمرو بن الحُمام بن الجموح
(5)
.
(1)
كما ذكر الله ذلك في سورة التوبة، آية:92.
(2)
في الأصول: «بن يزيد» ، تصحيف. وسيأتي على الصواب في الفصل القادم. وانظر:«الإصابة» (7/ 245).
(3)
سقط على المؤلف ــ تبعًا لابن سيد الناس ــ واحد من السبعة الذين ذكرهم ابن سعد، وهو «هَرَميُّ بن عمرو». وانظر:«الإصابة» (11/ 221).
(4)
بنو مُقرِّن بن عائذ المزني من جلَّة الصحابة، وهم سبعة إخوة كما ذُكر هنا وكما يدل عليه حديث سُويد بن مقُرِّن عند مسلم (1658/ 32). وقيل: هم عشرة إخوة، وقد ذُكر في كتب السيرة والتاريخ أكثر من عشرة أسماء، ولعل بعضها تصحيف أو خطأ، وهم: سويد، والنعمان ــ وهما أشهرهم ولهما ذكر في «الصحيحين» ــ، وسعيد، وسنان، وسَواد، وضرار، وعبد الله، وعبد الرحمن، وعَقيل أبو حَكيم، ومَرضيّ، ومعاوية، ومَعقِل، ونُعيم .. انظر:«الإصابة» (4/ 356، 484، 532، 546، 5/ 347، 6/ 390، 6/ 570، 7/ 223، 10/ 118، 244، 10/ 279، 11/ 98، 110).
(5)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 518) و «الدلائل» (5/ 218)، والمؤلف صادر عن «عيون الأثر» (2/ 216).
وأرسل أبا موسى أصحابُه
(1)
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم[لِـ] يحملهم فوافاه غضبان فقال: «والله لا أحملكم ولا عندي ما أحملكم عليه» ، ثم أتاه إبل فأرسل إليهم ثم قال:«ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم، وإني واللهِ لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفَّرتُ عن يميني وأتيتُ الذي هو خير»
(2)
.
فصل
وقام عُلْبة بن زيد فصلى من الليل وبكى وقال: «اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغَّبتَ فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوَّى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدَّق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مالٍ أو جسد أو عرض، ثم أَصبحَ مع الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أين المتصدق هذه الليلة؟» فلم يقم أحد، ثم قال:«أين المتصدق؟ فليقم» ، فقام إليه فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أبشر، فوالذي نفس محمد بيده لقد كُتبتْ في الزكاة المتقبلة»
(3)
.
(1)
المثبت من ف، س. وفي سائر النسخ والطبعة الهندية:«وأصحابه» ، خطأ.
(2)
أخرجه البخاري (3133) ومسلم (1649) من حديث أبي موسى بنحوه.
(3)
ذكره ابن إسحاق كما في «دلائل النبوة» (5/ 218). وله شواهد، منها: حديث أبي عبس بن جبر الأنصاري عند ابن أبي الدنيا في «مداراة الناس» (9) وأبي نُعيم في «معرفة الصحابة» (5590) والبيهقي في «شُعب الإيمان» (7729)، وإسناده ضعيف. وآخر من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ــ وهو متروك ــ عن أبيه عن جدّه، أخرجه البزَّار (3387) وابن أبي الدنيا في «مداراة الناس» (10). وشاهد ثالث من مرسل أبي صالح السمّان مختصرًا عند ابن الأعرابي في «معجمه» (1965) وابن أبي الدنيا في «مداراة الناس» (12) بإسناد صحيح.
وجاء المُعذِّرون من الأعراب ليؤذَن لهم فلم يعذرهم، قال ابن سعد
(1)
: وهم اثنان وثمانون رجلًا
(2)
، وكان عبد الله بن أُبيٍّ ابنُ سلول قد عسكر على ثنيَّة الوَداع في حلفائه من اليهود والمنافقين، فكان يقال: ليس عسكره بأقلِّ العسكرين.
واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وقال ابن هشام: سِباع بن عرفطة
(3)
، والأول أثبت.
فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عبد الله بن أُبيٍّ ومن كان معه، وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب منهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومُرارة بن الربيع، وأبو خيثمة السالمي، وأبو ذر
(4)
؛ ثم لحقه أبو خيثمة وأبو ذر.
وشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين ألفًا من الناس، والخيلُ عشرة آلاف فرس، وأقام بها عشرين ليلةً يقصر الصلاة، وهرقل يومئذ بحِمْص.
(1)
في «الطبقات» (2/ 151).
(2)
وفي حديث كعب بن مالك الطويل عند البخاري (4418) ومسلم (2769/ 53) أنهم كانوا بضعة وثمانين رجلًا.
(3)
ليس هذا قول ابن هشام، بل قوله في «السيرة» (2/ 519) هو الأول، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري. وإنما نقل ابنُ هشام هذا القولَ عن عبد العزيز بن محمد الدَّراوَرْدي عن أبيه، ولم يرتضه ولا قال به. ومنشأ الوهم أن ابن سيد الناس ــ والمؤلف صادر عن كتابه (2/ 216) ــ اختصر كلام ابن هشام بلفظ موهمٍ لما ذكره المؤلف.
(4)
لم يتخلَّف أبو ذر عن عمد، وإنما أبطأ به بعيرُه، كما سيأتي لاحقًا.
قال ابن إسحاق
(1)
: ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج خلَّف علي بن أبي طالب على أهله، فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلَّفه إلا استثقالًا وتخفُّفًا منه، فأخذ عليٌّ سلاحَه ثم خرج حتى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجُرْف
(2)
فقال: يا نبي الله، زعم المنافقون أنك إنما خلَّفتني لأنك استثقلتني وتخففت مني، فقال:«كذبوا، ولكنني خلفتك لِما تركتُ ورائي، فارجع فاخلُفْني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي» ، فرجع علي إلى المدينة
(3)
.
ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أيامًا إلى أهله في يوم حارٍّ فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه قد رشَّت كلُّ واحدة منهما عريشها وبرَّدت له ماءً وهيأت له فيه طعامًا، فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضِّحِّ
(4)
والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيَّأٍ وامرأة حسناء
(5)
، ما هذا
(1)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 519) و «عيون الأثر» (2/ 217).
(2)
موضع يقع شمال غربيِّ المسجد النبوي، وهو اليوم حيٌّ من أحياء المدينة.
(3)
له شاهد عند البخاري (4416) ومسلم (2404) من حديث سعد بن أبي وقاص قال: خلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله، تخلفني في النساء والصبيان؟ فقال:«أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبي بعدي» .
(4)
الضِّحُّ: نقيض الظل.
(5)
زِيد في المطبوع بعده: «في ماله مقيم» أخذًا من «سيرة ابن هشام» ، وليس في شيء من الأصول ولا في مصدر المؤلف «عيون الأثر» .
بالنَّصَف! ثم قال: والله لا أدخل عريشَ واحدةٍ منكما حتى ألحق برسولِ الله
(1)
صلى الله عليه وسلم فهيِّئَا لي زادًا، ففعلتا، ثم قدَّم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عُمَيرُ بن وهبٍ الجُمَحي في الطريق يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترافقا، حتى إذا دنَوَا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبًا فلا عليك أن تتخلَّف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كن أبا خيثمة» ، قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة، فلما أناخ أقبل فسلَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولى لك
(2)
يا أبا خيثمة»، فأخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خبره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ودعا له بخير
(3)
.
(1)
ص، د، ز:«رسولَ الله» .
(2)
«أولى لك» كلمة تهدُّد ووعيد، ومعناه: وَلِيَك المكروه، أي قَرُب منك. وفي حديث أبي خيثمة عند الطبراني (الآتي تخريجه) أنه هو الذي قال:«كِدتُ أهلِك يا رسول الله» ..
(3)
جاءت قصة أبي خيثمة في «سيرة ابن هشام» عن ابن إسحاق بلا إسناد، وأخرجها البيهقي في «الدلائل» (5/ 222) بإسناده عن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم مرسلًا. ولها شواهد تصحّ بها، منها: حديث إبراهيم بن عبد الله بن سعد بن خيثمة عن أبيه عن جده سعدٍ ــ وهو أبو خيثمة صاحب القصة ــ مطولًا، أخرجه الطبراني في «الكبير» (6/ 31) بإسناد فيه لين. وآخر من مغازي موسى بن عقبة عند البيهقي في «الدلائل» (5/ 226)، وأيضًا من مغازي عروة من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه بنحوه كما في «الدلائل». وصحّ في حديث كعب بن مالك الطويل عند مسلم (2769/ 53) ذكر لحاق أبي خيثمة بالنبي صلى الله عليه وسلم في تبوك وقوله صلى الله عليه وسلم:«كن أبا خيثمة» .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرَّ بالحِجْر بديار ثمودَ قال: «لا تشربوا من مائها شيئًا ولا تتوضَّؤوا منه للصلاة، وما كان من عجينٍ عجنتموه فَاعْلِفوه الإبلَ ولا تأكلوا منه شيئًا، ولا يخرجنَّ أحدٌ منكم إلا ومعه صاحب له» ، ففعل الناس إلا أن رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر في طلب بعيره، فأما الذي خرج لحاجته فإنه خُنِق على مذهبه، وأما الذي خرج في طلب بعيره فاحتملته الريحُ حتى طرحَتْه بجبلَي طيِّئٍ، فأُخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألم أنهكم أن يخرجَ
(1)
أحدٌ منكم إلا ومعه صاحبه؟» ثم دعا للذي خنق على مذهبه فشُفِي، وأما الآخر فأهدته طيئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة
(2)
.
قلت: والذي في «صحيح مسلم»
(3)
من حديث أبي حُمَيد: انطلقنا حتى قدمنا تبوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستهُبُّ عليكم الليلةَ ريحٌ شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشدَّ عقاله» ، فهبَّت ريح شديدة فقام رجل فحملته الريح حتى ألقَتْه بجبلي طيئ.
قال ابن هشام
(4)
: بلغني عن الزهري أنه قال: لما مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
(1)
في النسخ المطبوعة: «أن لا يخرج» خلافًا للأصول وللمصادر.
(2)
أسنده ابن إسحاق ــ كما في «السيرة» (2/ 522) و «الدلائل» (5/ 240) ــ عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي مرسلًا. وقد أسنده العباس بن سهل عن أبي حُميد الساعدي كما في حديث مسلم الآتي، وفي سياقه اختلاف عمّا ذكره ابن إسحاق.
(3)
برقم (1392/ 11 - ج 4/ 1785).
(4)
في «السيرة» (2/ 522)، والحديث أسنده الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، كما عند البخاري (3380، 4419) ومسلم (2980/ 39)، ولفظ البخاري في الموضع الثاني:«ثم قنَّعَ رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي» .
بالحِجر سجَّى ثوبه على وجهه واستحثَّ راحلته، ثم قال:«لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم باكون خوفًا أن يصيبكم ما أصابهم» .
قلت: في «الصحيحين»
(1)
من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبُكم مثلُ ما أصابهم» .
وفي «صحيح البخاري»
(2)
: أنه أمرهم بإلقاء العجين وطرحه.
وفي «صحيح مسلم»
(3)
أنه أمرهم أن يعلِفوا الإبل العجينَ، وأن يُهَرِيقوا الماء، ويستقوا من البئر التي كانت تَرِدها الناقة. ورواه البخاري أيضًا، وقد حفظ راويه ما لم يحفظه من روى الطَّرْح.
وذكر البيهقي
(4)
أنه نادى فيهم: «الصلاة جامعة» ، فلما اجتمعوا قال:«علامَ تدخلون على قومٍ غضب الله عليهم؟» فناداه رجل فقال: نَعجب منهم يا رسول الله، فقال:«ألا أنبئكم بما هو أعجب من ذلك؟ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدَكم، استقيموا وسدِّدوا فإن الله عز وجل لا يعبأ بعذابكم شيئًا، وسيأتي الله بقوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئًا» .
(1)
البخاري (433) ومسلم (2980/ 38) من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر.
(2)
برقم (3378) من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر.
(3)
برقم (2981/ 40) من حديث نافع عن ابن عمر. وهو عند البخاري (3379) كما سيذكره المؤلف.
(4)
في «دلائل النبوة» (5/ 235)، وأخرجه أيضًا أحمد (18029) وابن أبي شيبة (38167) والطبراني في «الكبير» (22/ 340)، من حديث محمد بن أبي كبشة عن أبيه. ورجاله ثقات إلا محمد بن أبي كبشة، ففيه جهالة حال ولم يوثِّقه غير ابن حبان.
فصل
قال ابن إسحاق
(1)
: وأصبح الناس ولا ماء معهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله سبحانه سحابةً فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء
(2)
.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته، فقال زيد بن اللُّصَيت وكان منافقًا
(3)
: أليس محمَّد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن رجلًا يقول (وذكر مقالته)، وإني والله لا أعلم إلا ما علَّمني الله، وقد دلَّني اللهُ عليها وهي في الوادي في شعب كذا وكذا قد حبستها شجرةٌ بزمامها، فانطلِقوا حتى تأتوني بها» ، فذهبوا فجاؤوه بها
(4)
.
(1)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 522) و «عيون الأثر» (2/ 218).
(2)
الخبر رواه ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلًا، كما في «الدلائل» (5/ 231). وله شاهد من حديث ابن عباس عن عمر بن الخطاب بأطول منه، أخرجه البزار (214) وابن خزيمة (101) وابن حبان (1383) والحاكم (1/ 159) والضياء في «المختارة» (1/ 278 - 280) بإسناد رجاله رجال الصحيحين.
(3)
كان من أحبار اليهود من بني قيقناع، تعوّذ بالإسلام فدخل فيه نفاقًا. قاله ابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 527).
(4)
رواه ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 523) ــ عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لَبِيد عن رجال من بني عبد الأشهل. وهذا إسناد جيّد. والخبر عند عروة بن الزبير وموسى بن عقبة في مغازيهما ــ كما في «الدلائل» (4/ 60) ــ والواقدي في «مغازيه» (3/ 1009) بنحوه. وقد ذكر ابن إسحاق وأصحاب المغازي الآنف ذكرهم أنه يُقال: إن زيد بن اللصيت تاب عند ذلك وحسُن إسلامه، وأن بعض الناس ــ سمّاه الواقدي: خارجه بن زيد بن ثابت ــ يقول: لم يزل متهمًا بشرٍّ حتى هلك.
وفي طريقه تلك خرص حديقة المرأة بعشرة أوسق
(1)
.
ثم مضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون: تخلَّف فلان، فيقول:«دعوه فإن يك فيه خيرٌ فسيُلحقه الله بكم، وإن يكُ غيرَ ذلك فقد أراحكم الله منه»
(2)
.
وتلوَّم
(3)
على أبي ذر بعيرُه، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيًا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كُن أبا ذر» ، فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«رحم الله أبا ذرٍّ، يمشي وحدَه ويموت وحده ويُبعَث وحده»
(4)
.
(1)
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا مرّ بوادي القُرى في طريقه إلى تبوك أتى على حديقة لامرأة فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «اخرُصوها» ــ أي اخرصوا كم يجيء من ثمرها ــ فخرصوها، وخرص النبي صلى الله عليه وسلم أنها عشرة أوسق، وقال للمرأة:«أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله» ، ثم لمّا أتوا على وادي القُرى في قفولهم من تبوك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة عن حديقتها كم بلغ ثمرها، قالت: عشرة أوسق. أخرجه البخاري (1481) ومسلم (1392/ 11 - ج 4/ 1785) من حديث أبي حُميد الساعدي.
(2)
رواه ابن إسحاق ــ كما في «المستدرك» (3/ 50) و «الدلائل» (5/ 221) ــ بإسناده الآتي قريبًا عن ابن مسعود، وهو ضعيف كما سيأتي.
(3)
أي: تمكّث وتوقَّف.
(4)
وهذا أيضًا رواه ابن إسحاق ــ ومن طريقه الحاكم وغيره ــ بالإسناد الآتي عن ابن مسعود رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق
(1)
: فحدثني بريدة
(2)
بن سفيان الأسلمي عن محمد بن كعب القرظي عن عبد الله بن مسعود قال: لما نفى عثمان أبا ذر إلى الرَّبَذة وأصابه بها قَدَرُه لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه فأوصاهما: أن اغسِلاني وكفِّناني ثم ضُمَّاني إلى
(3)
قارعة الطريق، فأول ركب يمرُّ بكم فقولوا: هذا أبو ذر صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأَعِينونا على دفنه، فلما مات فعلا ذلك به
(4)
، وأقبل عبد الله بن مسعود في رهطٍ مِن أهل العراق عُمَّارًا، فلم يَرُعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطؤها، وقام إليهم الغلام فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، قال: فاستهلَّ عبدُ الله يبكي ويقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشي وحدَك وتموت وحدك وتُبعَث وحدك، ثم نزل هو وأصحابه فوارَوه، ثم حدَّثهم عبد الله بن مسعود حديثه وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك.
(1)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 524)، والمؤلف صادر عن «عيون الأثر» (2/ 219). وأخرجه من طريق ابن إسحاق أيضًا الحاكم (3/ 50) وعنه البيهقي في «الدلائل» (5/ 221). وإسناده ضعيف فإن بُريدة بن سفيان قال البخاري: فيه نظر، وقال النسائي: ليس بالقوي في الحديث، وقال الدارقطني: متروك.
(2)
في الأصول: «بريد» أو «يزيد» . والتصحيح من مصادر التخريج.
(3)
كذا في الأصول. وفي «عيون الأثر» : «ضماني على» . وفي المطبوع: «ضَعاني على» وفاقًا لـ «سيرة ابن هشام» .
(4)
في طبعة الرسالة بعده: «ثم وضعاه على قارعة الطريق» ، وليس في شيء من الأصول ولا في الطبعة الهندية ولا في مصدر المؤلف، وإنما أُقحم من «سيرة ابن هشام» بلا تنبيه.
قلت: وفي هذه القصة نظر، فقد ذكر أبو حاتم بن حبان في «صحيحه»
(1)
وغيرُه في قصة وفاته عن مجاهد عن إبراهيم بن الأَشْتَر عن أبيه عن أُمِّ ذر قالت: لما حضرت أبا ذر الوفاة بَكيتُ فقال: ما يبكيكِ؟ فقلت: وما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض وليس عندي ثوب يسعك كفنًا ولا يدانِ لي في تغييبك، قال: أبشري ولا تبكي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفرٍ أنا فيهم: «ليموتَنَّ رجل منكم بفلاةٍ من الأرض تشهده عِصابةٌ من المسلمين» وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية وجماعة فأنا ذلك الرجل، والله ما كَذَبتُ ولا كُذِبت، فأبصري الطريق، فقلت: أنى وقد ذهب الحاجُّ وتقطَّعت الطرق؟! فقال: اذهبي فتبصَّري، قالت: فكنت أشتدُّ
(2)
إلى الكثيب أتبصَّر ثم أرجع فأمرِّضه، فبينا هو وأنا كذلك إذا أنا برجالٍ على رحالهم كأنهم الرَّخَمُ
(3)
تخُبُّ بهم رواحلهم، قالت: فأشرت إليهم فأسرَعوا إليَّ حتى وقفوا عليَّ، فقالوا: يا أمةَ الله ما لك؟ قلت: امرؤ من المسلمين يموت
(1)
برقم (6671)، وأخرجه هو (6670) وأحمد (21373) والبزار (4060) والحاكم (3/ 345) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (1567) والبيهقي في «الدلائل» (6/ 401)، من طرق عن يحيى بن سليم الطائفي، عن عبد الله بن عثمان بن خُثيم، عن مجاهد به. وإسناده فيه لين، فإن إبراهيم بن الأشتر وأباه ــ مالك بن الحارث النخعي المعروف بالأشتر ــ معروفان بالإمارة والشجاعة لا بالرواية والضبط، على أن ابن حبان أوردهما في «الثقات» ، والعجليُّ قد وثّق الأشتر، وحسّن محققو «المسند» (طبعة الرسالة) إسنادَه.
(2)
المطبوع: «أسند» ، تصحيف.
(3)
الرخَم: طائر أبقع على شكل النسر خِلقةً إلا أنه مبقَّعٌ بسواد وبياض، ويُعرف الآن أيضًا بالعُقاب المصري ..
تكفِّنونه، قالوا: ومَن هو؟ قلت: أبو ذر، قالوا: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم، ففدَّوه بآبائهم وأمهاتهم وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه، فقال لهم: أبشروا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم: «ليموتَنَّ رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين» ، وليس من أولئك النفر رجل إلا وقد هلك في جماعة، والله ما كَذَبت ولا كُذِبت، وإنه لو كان عندي ثوب يسعني كفنًا لي ولامرأتي
(1)
لم أكفَّن إلا في ثوب هو لي ولها، فإني أنشدكم الله أن يكفِّنَني
(2)
رجلٌ منكم كان أميرًا أو عريفًا أو بريدًا أو نقيبًا، وليس من أولئك النفر أحدٌ إلا وقد قارف بعضَ ما قال إلا فتًى من الأنصار قال: أنا يا عمُّ، أكفنك في ردائي هذا وفي ثوبين من عَيبتي مِن غزل أمي، قال: أنت فكفِّنِّي، فكفَّنه الأنصاري وقاموا عليه ودفنوه في نفرٍ كلُّهم يمانٍ.
رجعنا إلى قصة تبوك: وقد كان رهط من المنافقين ــ منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف، ومنهم رجل من أشجعَ حليفٌ لبني سلمة يقال له:
(1)
كذا في الأصول، وفي مصادر التخريج:«أو لامرأتي» ، وفي الموضع الآتي:«أو لهما» ، والمعنى عليه.
(2)
النسخ المطبوعة: «أن لا يكفنني» ، والمثبت من الأصول موافق للفظ ابن حبان في هذا الموضع، وكذا هو في «مستدرك الحاكم» حسب نسخه الخطية التي وقفت عليها ومطبوعة دار التأصيل المحققة (6/ 109)، ومن طريقه في «دلائل النبوة» ، وبنحوه عند البزار وأبي نعيم. ولفظ ابن حبان في الموضع الآخر:«أن لا يكفنني» ، وكذا في الطبعة الهندية من «المستدرك» ولا إخاله إلَّا إقحامًا فيها.
هذا، ومقصود أبي ذر واضح من اللفظ المثبت، وهو أسلوب عربي فصيح يُراد به التحريج والنهي. انظر:«الأضداد» لابن الأنباري (ص 310).
مُخَشِّن
(1)
بن حُميِّر ــ قال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضِهم لبعضٍ؟! والله لكأنَّا بكم غدًا مقرَّنين في الحبال ــ إرجافًا وترهيبًا للمؤمنين ــ، فقال مُخَشِّن بن حمير: والله لوددت أنِّي أقاضى على أن يُضرَب كلٌّ منا مائةَ جلدةٍ وإنا ننفلت أن ينزل فينا قرآنٌ لمقالتكم هذه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عمَّا قالوا فإن أنكروا فقل: بلى، فقلتم
(2)
كذا وكذا»، فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت: كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65]، فقال مخشِّن بن حُميِّر: يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الذي عُفِي عنه في هذه الآية
(3)
، وتسمَّى «عبد الرحمن» وسأل الله أن يُقتَل شهيدًا لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر
(4)
.
(1)
المطبوع: «مَخْشيّ» خلافًا للأصول. وقد اختلف في اسمه، فالمثبت قول ابن إسحاق، وما في المطبوع قول الواقدي وابن هشام.
(2)
كذا في ف، ب. وفي سائر الأصول:«فعلتم» . وفي المصادر: «قلتم» .
(3)
أي في قوله تعالى فيها: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 66].
(4)
الخبر عند ابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 524 - 525)، والمؤلف صادر عن «عيون الأثر» (2/ 219). وذكره الواقدي في «مغازيه» (3/ 1003) بأطول منه، وفيه أن وديعة بن ثابت قال في ذلك المجلس: ما لي أرى قُرَّاءَنا هؤلاء أوعبَنا بطونًا وأكذبَنا ألسنةً وأجبنَنا عند اللقاء .. وهذه المقالة هي التي رويت من وجوه أخرى أيضًا سببًا لنزول الآية. انظر: «تفسير الطبري» (11/ 543 - 545) وابن أبي حاتم (6/ 1829).
وذكر ابن عائذ
(1)
في «مغازيه»
(2)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل تبوك في زمان قلَّ ماؤها فيه، فاغترف رسول الله صلى الله عليه وسلم غرفةً بيده من ماء فمضمض بها فاه ثم بصقه فيها، ففارت عينُها حتى امتلأت، فهي كذلك حتى الساعة.
قلت: في «صحيح مسلم»
(3)
أنه قال قبل وصوله إليها: «إنكم ستأتون غدًا إن شاء الله عينَ تبوكَ وإنكم لن تأتوها حتَّى يُضْحِيَ النهار، فمن جاءها فلا يَمَسَّ من مائها شيئًا حتى آتي» ، قال: فجئناها وقد سبق إليها رجلان، والعينُ مثلُ الشِّراك تبضُّ بشيءٍ من مائها
(4)
، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هل مَسِسْتما من مائها شيئًا؟» قالا: نعم، فسبَّهما وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم غَرَفوا من العين قليلًا قليلًا حتى اجتمع في شيء، ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهَه ويديه ثم أعاده فيها فجَرَت العينُ بماء كثير
(5)
فاستقى الناس، ثم
(1)
هو محمد بن عائذ القرشي مولاهم، أبو عبد الله الدمشقي، المؤرخ الصدوق صاحب المغازي، روى عن الوليد بن مسلم وإسماعيل بن عياش والواقدي وطبقتهم، وروى عنه أبو زرعة الدمشقي ويعقوب بن سفيان الفسوي وجماعة، وثَّقه ابن معين وغيره، صنف كتاب «المغازي» وكتاب «الفتوح والصوائف» ، وهما في عداد المفقود. توفي سنة 233. انظر:«تاريخ دمشق» (53/ 288) و «سير أعلام النبلاء» (11/ 104).
(2)
كما في «عيون الأثر» (2/ 220). والذي ذكره ابن عائذ هو لفظ عروة في مغازيه من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه. انظر: «دلائل النبوة» (5/ 226).
(3)
برقم (706/ 10 - ج 4/ 1784) من حديث معاذ بن جبل. وأخرجه أيضًا البيهقي في «الدلائل» (5/ 236)، وهو مصدر المؤلف.
(4)
أي تسيل وترشح بشيء يسير من الماء كأنه شراكُ نعلٍ. وقوله: «من مائها» كذا في الأصول عدا س، ففيه والمطبوع:«من ماءٍ» وهو لفظ مسلم.
(5)
المطبوع: «بماءٍ منهمر» خلافًا للأصول وإن كان هو لفظ مسلم. والمثبت من الأصول هو لفظ البيهقي في «الدلائل» والمؤلف عنه صادر كما سبق.