الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في غزوة خيبر
قال موسى بن عقبة
(1)
: ولما قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلةً أو قريبًا منها ثم خرج منها غاديًا
(2)
إلى خيبر، وكان الله عز وجل وعده إياها وهو بالحديبية.
وقال مالك: كان فتح خيبر في السنة السادسة
(3)
، والجمهور على أنها في السابعة. وقد
(4)
قطع أبو محمد بن حزم بأنها كانت في السادسة بلا شك
(5)
.
ولعل الخلاف مبني على أول التاريخ هل هو شهر ربيع الأول شهرُ مَقْدَمِه المدينةَ أو من المحرم في أول السنة؟ وللناس في هذا طريقان: فالجمهور على أن التاريخ وقع من المحرم، وأبو محمد بن حزم يرى أنه من شهر ربيع الأول حين قَدِم.
وكان أول من أرخ بالهجرة يعلى بن أمية باليمن كما رواه الإمام أحمد عنه
(1)
كما أسنده عنه البيهقي في «الدلائل» (4/ 194).
(2)
ب، المطبوع:«غازيًا» ، وكذا في مطبوعة «الدلائل» خلافًا لمخطوطته. وفي س، ن كُتب بالدال لكنه نُقط من فوق!
(3)
أسنده البيهقي في «السنن» (6/ 56) و «الدلائل» (3/ 397).
(4)
«قد» ساقطة من ب، س، ث.
(5)
انظر: «جوامع السيرة» (ص 211)، ونصَّ على أنها كانت في المحرَّم «قربَ آخر السنة السادسة» .
بإسناد صحيح
(1)
. وقيل: عمر بن الخطاب سنة ست عشرة من الهجرة
(2)
.
وقال ابن إسحاق
(3)
: حدثني الزهري عن عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أنهما حدثاه جميعًا، قالا: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فنزلت عليه سورة الفتح فيما بين مكة والمدينة فأعطاه الله عز وجل فيها خيبر: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] خيبر، فقَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ذي الحجة فأقام بها حتى سار إلى خيبر في المحرم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرَّجِيع ــ وادٍ بين خيبر وغطفان
(4)
ــ فتخوَّف أن تُمِدَّهم غطفان، فبات به حتى أصبح فغدا إليهم. انتهى.
واستخلف على المدينة سِباع بن عُرفُطة
(5)
، وقدم أبو هريرة حينئذٍ المدينةَ فوافى سباع بن عرفطة في صلاة الصبح فسمعه يقرأ في الركعة الأولى:
(1)
رواية أحمد لم أجدها في كتبه المطبوعة، وقد أخرجها من طريقه الطبري في «تاريخه» (2/ 112) والحاكم (3/ 424) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/ 40). قال ابن حجر: إسناده صحيح لكن فيه انقطاع بين عمرو بن دينار ويعلى. «الفتح» (7/ 268).
(2)
قاله ابن المسيب. انظر: «التاريخ الكبير» للبخاري (1/ 9) و «مستدرك الحاكم» (3/ 14) و «مسند الفاروق» لابن كثير (1/ 445 - 447).
(3)
كما أسنده عنه البيهقي في «الدلائل» (4/ 197).
(4)
هذا الرجيع غير الماء الذي قتل فيه أصحاب سرية الرجيع، فذاك عند عُسفان، وظاهر هذا أنه شمال شرقيِّ المدينة بين خيبر وبلاد غطفان. وقال عاتق: أما ذكر «الرجيع» هنا فأراه مُقحمًا أو محرَّفًا. «معجم المعالم في السيرة» (ص 211).
(5)
ص، س:«سباع بن أبي عرفطة» بزيادة «أبي» لحقًا في الهامش. وهو خطأ.
(كهيعص) وفي الثانية: (ويل للمطففين)، فقال في صلاته
(1)
: «ويل لأبي فلان؛ له مِكيالان: إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص» ، فلما فرغ من صلاته أتى سِباعًا فزوَّده حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلَّم المسلمين فأشركوه وأصحابه في سُهمانهم
(2)
(3)
.
وقال سلمة بن الأكوع: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلًا فقال رجل من القوم لعامر
(4)
بن الأكوع: ألا تُسمعنا من هُنيهاتك؟ وكان عامر رجلًا شاعرًا، فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا
فاغفر فداءً لك ما اقتفينا
…
وثبِّت الأقدامَ إن لاقَينا
وأنزلن سكينةً علينا
…
إنا إذا صِيح بنا أتينا
وبالصياح عوَّلُوا علينا
…
وإن أرادوا فتنةً أبينا
(5)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من هذا السائق؟» قالوا: عامر. فقال: «رحمه الله» ، فقال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله، لولا أمتعتنا به!
(1)
أي: وهو يحدِّث نفسه.
(2)
د، ب:«سِهامهم» .
(3)
أخرجه أحمد (8552) وابن حبان (7156) والحاكم (2/ 33) والبيهقي في «الدلائل» من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح.
(4)
ص، ز، د:«لسلمة» ، خطأ.
(5)
هذا العَجُز لم يُذكر في هذا الحديث. وإنما ورد في أبيات عبد الله بن رواحة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتجز بها وهو ينقل من تراب الخندق في غزوة الأحزاب. وصدره: «إن الأُلى قد بغَوا علينا» . أخرجه البخاري (2837) ومسلم (1803) من حديث البراء.
قال: فأتينا خيبر فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة، ثم إن الله تعالى فتحها عليهم، فلما أمسَوا أَوقدوا نيرانًا كثيرةً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما هذه النيران؟ على أي شيء توقدون؟» قالوا: على لحم، قال:«على أي لحم؟» قالوا: لحم حمر إنسية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَهْرِيقوها واكسروها» ، فقال رجل: أو نُهَريقها ونغسلها؟ فقال: «أو ذاك» .
فلما تصافَّ القومُ خرج مرحب يَخطِر بنفسه
(1)
وهو يقول:
قد علمت خيبرُ أني مرحبُ
…
شاكي السلاح بطل مجرَّبُ
إذا الحروبُ أقبلت تلهَّب
فنزل
(2)
إليه عامر وهو يقول:
قد علمت خيبر أني عامرُ
…
شاكي السلاح بطل مُغامِرُ
فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في تُرس عامر فذهب عامر يَسْفُل له ــ وكان سيف عامر فيه قِصَر ــ فرجع عليه ذبُاب سيفه فأصاب عينَ ركبته فمات منه، فقال سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم: زعموا أن عامرًا حبط عمله. فقال: «كذب من قال! له أجران ــ وجمع بين أصبعيه ــ؛ إنه لجاهِدٌ مجاهد، قلَّ عربيٌّ مشى بها مثلَه»
(3)
.
(1)
كذا في الأصول. وفي المطبوع: «بسيفه» ، وهو لفظ «الصحيحين» وغيرهما. ومعنى «يخطِر»: يتبختر معجَبًا بنفسه متعرِّضًا للمبارزة.
(2)
س، ن:«فبرز» .
(3)
أخرجه البخاري (4196، 6148) ومسلم (1802/ 123) والبيهقي في «الدلائل» (4/ 200) ــ والمؤلف صادر عنه ــ من حديث سلمة بن الأكوع بطوله، إلا ذكر مرحبٍ وارتجازه وارتجاز عامرٍ فإنه عند مسلم (1807/ 132) والبيهقي في «الدلائل» (4/ 207) من حديث سلمة أيضًا.
فصل
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبرَ صلى بها الصبح وركب
(1)
وركب المسلمون، فخرج أهلُ خيبرَ بمساحيهم ومَكاتِلهم ولا يشعرون بل خرجوا لأرضهم، فلما رأوا الجيش قالوا: محمد والله! محمد والخميس! ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم
(2)
، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«الله أكبر خربت خيبر! الله أكبر خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباحُ المنذرين»
(3)
.
ولما دنا النبي صلى الله عليه وسلم منها وأشرف عليها قال: «قِفُوا» ، فوقف الجيش فقال: «اللهم ربَّ السماوات السبع وما أظللن، وربَّ الأرضينَ السبعِ وما أقللن، وربَّ الشياطينِ وما أضللن، فإنا نسألك
(4)
خيرَ هذه القرية وخيرَ أهلها وخيرَ ما فيها، ونعوذ بك من شرِّ هذه القرية وشرِّ أهلها وشرِّ ما فيها. أقدموا بسم الله»
(5)
.
(1)
«وركب» سقط من ب، المطبوع.
(2)
د: «مدخلهم» ، تصحيف. المطبوع:«حصونهم» خلافًا للأصول ولمصدر التخريج.
(3)
أخرجه البخاري (610) ومسلم (1365/ 84)(ج 2/ص 1043) والبيهقي في «الدلائل» (4/ 202 - 203) واللفظ له.
(4)
من هنا تبدأ نسخة القرويين الثانية (ف) بخط ناسخها، وتبدأ مقابلتنا عليها. وما قبله فكان بخط حديث كثير التصحيف والتحريف.
(5)
أخرجه ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 329) ــ والبيهقي في «الدلائل» (4/ 204)، وإسناده ضعيف. وذكر الواقدي (2/ 642) عن شيوخه نحوه. وله شاهد جيد من حديث صهيب: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَرَ قريةً يريد دخولها إلا قال حين يراها
…
» فذكره وزاد فيه: «وربَّ الرياح وما ذَرَين» . وقد سبق تخريجه في «فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سفره» (1/ 588).
ولما كان ليلة الدخول قال: «لأعطين هذه الراية غدًا رجلًا يحبُّ اللهَ ورسولَه ويحبه اللهُ ورسولهُ، يفتح الله على يديه» ، فبات الناس يَدُوكون أيهم يُعطاها، فلما أصبح الناسُ غدَوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلُّهم يرجو أن يعطاها فقال:«أين علي بن أبي طالب؟» فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه، قال:«فأرسِلوا إليه» ، فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: «انفُذْ على رِسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبِرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فواللهِ لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من أن يكون لك حُمْرُ النَّعَم»
(1)
.
فخرج مرحب وهو يقول:
أنا الذي سمَّتْني أمي مرحبُ
…
شاكي السلاح بطل مجرَّب
إذا الحروب أقبلت تلهَّبُ
فبرز إليه علي وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدرَه
…
كليثِ غاباتٍ كريه المنظره
أُوفيهم بالصاع كَيلَ السندره
(2)
فضرب مرحبًا ففلق هامته، وكان الفتح
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (3701، 4210) ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعدٍ رضي الله عنه.
(2)
السندرة مِكيال واسع ضخم، والمعنى أجازي الأعداء على فعلهم بقتلٍ واسع ذريع.
(3)
أخرجه مسلم (1807/ 132) والبيهقي في «الدلائل» (4/ 209).
ولما دنا عليٌّ مِن حصونهم اطلَّع يهودي من رأس الحِصن فقال: مَن أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فقال اليهودي: علوتم وما أُنزِل على موسى
(1)
!
هكذا في «صحيح مسلم» أن علي بن أبي طالب هو الذي قتل مرحبًا. وقال موسى بن عقبة عن الزهري؛ وأبو الأسود
(2)
عن عروة؛ ويونسُ بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن سهل أحد بني حارثة عن جابر بن عبد الله: أن محمد بن مسلمة هو الذي قتله
(3)
.
قال جابر في حديثه: خرج مرحب اليهوديُّ من حصن خيبرَ قد جمع سلاحَه وهو يرتجز ويقول: من يبارز؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لهذا؟» فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا واللهِ الموتور الثائر، قتلوا أخي بالأمس ــ يعني محمود بن مسلمة، وكان قُتل بخيبر ــ فقال:«قم إليه، اللهم أعِنْه عليه» ، فلما دنا أحدهما من صاحبه دخلت بينهما شجرة، فجعل كلٌّ منهما يلوذ من صاحبه بها، كلما لاذ بها أحدهما اقتطع بسيفه ما دونه، حتى
(1)
أسنده ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 334) ــ عن سلمة بن الأكوع بإسناد فيه لين.
(2)
المطبوع: «وأبي الأسود» ، خطأ مخالف للأصول، فأبوا الأسود معطوف على موسى بن عقبة لا على الزهري.
(3)
الروايات الثلاث ــ رواية موسى بن عقبة عن الزهري، ورواية أبي الأسود عن عروة، ورواية ابن إسحاق بإسناده عن جابر ــ أخرجها البيهقي في «الدلائل» (4/ 214 - 215). ورواية ابن إسحاق أخرجها أيضًا ابن هشام (2/ 333) وأحمد (15134) والحاكم (3/ 436)، وإسناده حسن.
برز كل واحد منهما لصاحبه وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فَنَن
(1)
، ثم حمل على محمدٍ فضربه فاتَّقاه بالدَّرَقة، فوقع سيفه فيها فعضَّت به وضربه محمد بن مسلمة فقتله.
وكذلك قال سلمة بن سلامة ومُجمِّع بن جارية
(2)
: إن محمد بن مسلمة قتل مرحبًا
(3)
.
قال الواقدي
(4)
: وقيل: إن محمد بن مسلمة ضرب ساقَي مرحب فقطعهما فقال مرحب: أَجهِزْ عليَّ يا محمد، فقال محمد:«ذُق الموت كما ذاقه أخي محمود» وجاوزه، ومرَّ به عليٌّ فضرب عنقه وأخذ سَلَبه، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلبه، فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله، ما قطعتُ رجليه ثم تركته إلا ليذوقَ الموت وكنت قادرًا أن أُجهز عليه، فقال علي: صدق، ضربتُ عنقه بعد أن قطع رجليه، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة سيفه ورمحه ومغفره وبيضته، وكان عند آل محمد بن مسلمة سيفُه، فيه كتاب لا يُدرى ما فيه حتى قرأه يهودي فإذا فيه:
هذا سيفُ مرحبْ
…
من يذُقْه يَعطَبْ
(1)
الفَنَن: الغصن، ويجمع على «أفنان» .
(2)
في الأصول عدا س: «حارثة» ، تصحيف، وكذا في المطبوع. وهو وسلمة بن سلامة صحابيان أنصاريان.
(3)
أخرجه الواقدي في «مغازيه» (2/ 656 - 657) ومن طريقه البيهقي في «الدلائل» (4/ 216).
(4)
في «مغازيه» (2/ 656)، ونقله البيهقي في «الدلائل» (4/ 216) وعنه صدر المؤلف.
ثم خرج ياسر
(1)
، فبرز إليه الزبير، فقالت صفية أمُّه: يا رسول الله، يقتل ابني! فقال:«بل ابنكِ يقتله إن شاء الله» ، فقتله الزبير
(2)
.
قال موسى بن عقبة
(3)
: ثم دخل اليهود حصنًا لهم منيعًا يقال له: «القَمُوص» ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبًا من عشرين ليلةً، وكانت أرضًا وَخِمةً شديدةَ الحرِّ فجَهَد المسلمون جَهدًا شديدًا فذبحوا الحمرَ فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن أكلها. وجاء عبدٌ أسود حبشي من أهل خيبر كان في غنمٍ لسيِّده فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح سألهم: ما تريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي فوقع في نفسه ذكرُ النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل بغنمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا تقول وما تدعو إليه؟ قال: «أدعو إلى الإسلام، وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن لا تعبد إلا الله» . قال العبد: فما لي إن أنا شهدت وآمنت بالله عز وجل؟ قال: «لك الجنة إن متَّ على ذلك» ، فأسلَم ثم قال: يا نبي الله، إن هذه الغنم عندي أمانة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أخرجها من عندك وارمها بالحصباء، فإن الله سيؤدي عنك أمانتك» ، ففعل فرجعت الغنم إلى سيدها فعلم اليهودي أن غلامه قد أسلم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في
(1)
المطبوع: «ثم خرج [بعد مرحب أخوه] ياسر» . هكذا زيدت هذه الزيادة بين الحاصرتين دون أي تنبيه أو تعليق. وهي مأخوذة من «سيرة ابن هشام» .
(2)
ذكره ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 334) ــ عن هشام بن عروة مرسلًا. والمؤلف صادر عن «الدلائل» (4/ 217). وانظر: «مغازي الواقدي» (2/ 657).
(3)
كما في «دلائل النبوة» (4/ 219)، وذكر أن ابن لَهِيعة روى عن أبي الأسود عن عروة بنحوه. وله شاهد من حديث جابر عند الحاكم (2/ 136) وعنه البيهقي في «الدلائل» (4/ 221) بإسناد فيه لين.
الناس فوعظهم وحضَّهم
(1)
على الجهاد، فلما التقى المسلمون واليهود قُتِل فيمن قتل: العبد الأسود، فاحتمله المسلمون إلى عسكرهم
(2)
فأُدخِل في الفسطاط، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع في الفسطاط ثم أقبل على أصحابه فقال:«لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير، ولقد رأيتُ عند رأسه اثنتين من الحور العين» ، ولم يُصَلِّ للهِ سجدةً قط.
وقال حماد بن سلمة: عن ثابت عن أنس: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، إني رجل أسود اللَّون قبيحُ الوجه منتنُ الريح لا مال لي، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أدخل الجنة؟ قال:«نعم» . فتقدَّم فقاتلَ حتى قُتِل فأتى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتول فقال: «لقد أحسن الله وجهَك وطيَّب ريحَك وكثَّر مالك» . ثم قال: «لقد رأيت زوجتيه من الحور العين تنزعان جبته عنه تدخلان فيما بين جلده وجبته»
(3)
.
وقال شداد بن الهاد: جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه فقال: أهاجر معك، فأوصى به بعضَ أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فقَسَمه، وقسم للأعرابي فأعطى أصحابه ما قسمه له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه فقال: ما هذا؟ قالوا: قَسَم لك
(4)
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا يا رسول الله؟ قال:
(1)
في الأصول عدا ث: «وحظَّهم» .
(2)
ن، المطبوع:«معسكرهم» .
(3)
أخرجه الحاكم (2/ 93) والبيهقي في «الدلائل» (4/ 221) ــ واللفظ له ــ من طريقين عن حماد بن سلمة به. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
(4)
ز، س، ن:«قَسمٌ قسمه لك» . وكذا في «الدلائل» وغيره.
«قسم قسمته لك» ، قال: ما على هذا اتبعتُك، ولكن اتبعتك على أن أُرمى هاهنا ــ وأشار إلى حلقه ــ بسهم فأموتَ فأدخل الجنة، فقال:«إن تصدُقِ اللهَ يَصدُقْكَ» ، ثم نهض
(1)
إلى قتال العدو، فأُتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
وهو مقتول فقال: «هو هو؟» قالوا: نعم، قال:«صدق الله فصدقه» ، فكفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته ثم قدَّمه فصلى عليه، وكان من دعائه له:«اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك قُتل شهيدًا وأنا عليه شهيد»
(3)
.
قال الواقدي
(4)
: وتحولت اليهود إلى قلعة الزُّبَير حصنٍ منيع في رأس قُلَّة، فأقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود يقال له: عزَّال
(5)
فقال: يا أبا القاسم، إنك لو أقمت شهرًا ما بالَوا؛ إن لهم شِرْبًا وعيونًا
(6)
تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، فإن قطعت شِرْبهم
(7)
عليهم أصحروا لك، فسار
(1)
س، ن:«نهضوا» . وكذا في «الدلائل» وغيره.
(2)
س، ن:«فأُتي به النبيُّ صلى الله عليه وسلم» .
(3)
أخرجه عبد الرزاق (6651) والنسائي (1953) والحاكم (3/ 595) والبيهقي في «الدلائل» (4/ 222) بإسناد صحيح.
(4)
«المغازي» (2/ 666)، والمؤلف صادر عن «الدلائل» (4/ 224).
(5)
كذا مضبوطًا بتشديد الزاء في ز، س. وهو بالعين المهملة في عامّة الأصول، وكذا في مخطوطة «الدلائل» (نسخة كوبريلي). وفي ف، ن:«غزال» بالْغَين المعجمة، وكذا في مطبوعة «مغازي الواقدي» و «الدلائل» .
(6)
هكذا في جميع الأصول، إلا أنه في س ضرب عليه وكتب:«إن لهم دبولًا» ليجعله موافقًا لما في «دلائل النبوة» . والدُّبُول جمع دَبْل، وهو جدول الماء.
(7)
س، ن، المطبوع:«مشربهم» .
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مائهم فقطعه عليهم، فلما قُطِع عليهم خرجوا فقاتلوا أشد القتال وقُتِل من المسلمين نفر وأُصِيب من اليهود نحو العشرة، وافتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تحوَّل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الكَتِيبة
(1)
والوَطِيح
(2)
والسُّلالِم حصنِ ابن أبي الحُقَيق، فتحصَّن أهله أشد التحصُّن وجاءهم كل مَن
(3)
كان انهزم من النَّطاة والشِّق؛ فإن خيبر كانت جانبين، الجانب الأول: الشِّق والنَّطاة وهو الذي افتتحه أولًا، والجانب الثاني: الكتيبة والوطيح والسُّلالم.
فجعلوا لا يخرجون من حصونهم حتى همَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب عليهم المَنجَنيق، فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يومًا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح وأرسل ابن أبي الحُقَيق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل فأكلمك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» ، فنزل ابن أبي الحُقَيق فصالح رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على حقن دماء مَن في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم،
(1)
كذا بالتاء المثناة في ب، ز، ن. وفي س، د:«الكثيبة» بالثاء المثلثة. وكلٌّ قد قيل، وعلى الأول اختُلف في ضبطه على وجهين: مكبَّرًا كما أُثبت ومصغّرًا «الكُتَيبة» . انظر: «النهاية في غريب الأثر» (كتب) و «معجم البلدان» لياقوت (4/ 437) ..
(2)
واو العطف من ن ــ وهي ثابتة في «مغازي الواقدي» و «الدلائل» ــ وسقطت من سائر الأصول، فيكون السياق:«إلى أهل الكتيبة: الوطيح والسلالم» ، وله وجه، فقد ذكر بعض أهل المغازي ــ كابن سعد في «الطبقات» (2/ 101) ــ أن «الكتيبة» ليس حصنًا بعينه، وإنما اسم لمجموعة حصون وهي: القموص والوطيح والسلالم؛ والقموص سبق ذكرُ فتحه، فبقي من حصون الكتيبة: الوطيح والسلالم. وخالف في ذلك آخرون فجعلوا «الكتيبة» حصنًا من حصون خيبر السبعة، وهو مقتضى كلام المؤلف الآتي قريبًا. وانظر:«معجم البلدان» (2/ 409).
(3)
ز، س:«كل فَلٍّ» ، وكذا في الواقدي و «الدلائل». وفَلُّ القوم: منهزموهم.
ويَخرُجون من خيبر وأرضها بذراريِّهم ويخلُّون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء والكُراع والحلقة إلا ثوبًا على ظهر إنسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وبرئت منكم ذمةُ الله وذمةُ رسوله إن كتمتموني شيئًا» ، فصالحوه على ذلك.
قال حماد بن سلمة: أخبرنا عبيدُ الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم فغلب على الزرع والأرض والنخل، فصالحوه على أن يَجلُوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراءُ والبيضاء، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيِّبُوا شيئًا، فإن فعلوا فلا ذمةَ لهم ولا عهد، فغيَّبوا مَسْكًا فيه مال وحُليٌّ لحُيَيِّ بن أخطب ــ كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير
(1)
ــ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمِّ حُيي بن أخطب: «ما فعل مَسْكُ حيي الذي جاء به من النضير؟» قال: أذهبته النفقاتُ والحروب، قال:«العهد قريب والمال أكثرُ من ذلك» ، فدفعه رسول الله إلى الزُّبَير فمسَّه بعذاب ــ وقد كان قبل ذلك دخل خَربةً ــ فقال: قد رأيتُ حُيَيًّا يطوف في خَربةٍ هاهنا، فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة، فقتل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابنَي أبي الحقيق، وأحدهما زوجُ صفيةَ بنتِ حيي بن أخطب، وسبى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نساءَهم وذراريَّهم وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا، وأراد أن يُجليهم منها فقالوا: يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غِلمانٌ يقومون عليها وكانوا لا يفرغون يقومون عليها،
(1)
في الأصول عدا ب، س:«النظير» ، وكذا في الموضع الآتي.
فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر مِن كلِّ زرعٍ وكلِّ ثمرٍ
(1)
ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقرَّهم، وكان عبد الله بن رواحة يَخرُصه عليهم كما تقدم
(2)
(3)
.
ولم يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصلح
(4)
إلا ابنَي أبي الحقيق للنكث الذي نكثوا، فإنهم شرطوا أنَّهم إن غيبوا أو كتموا فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله، فغيبوا فقال لهم:«أين المال الذي خرجتم به من المدينة حين أجلَيناكم؟»
(5)
قالوا: ذهبَ. وحلفوا على ذلك، فاعترف ابن عمِّ كنانة عليهما بالمال حين
(6)
دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فعذَّبه
(7)
، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانة إلى محمد بن مسلمة فقتله، ويقال: إن كنانة هو كان قتل أخاه محمود بن مسلمة.
(1)
س: «ومن كلّ ثمر» .
(2)
انظر (ص 175).
(3)
أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (2/ 104) وأبو داود (3006) وابن حبان (5199) والبيهقي في «الدلائل» (4/ 229) من طرق عن حماد بن سلمة به. وإسناده جيد .. ولفظ ابن سعد وأبي داود مختصر.
(4)
«بعد الصلح» ساقط من ص، د.
(5)
هذا لفظ مغازي عروة من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه. أخرجه البيهقي في «الدلائل» (4/ 231 - 233)، ويشهد له حديث ابن عمر السابق.
وما سيأتي إلى آخر الفصل فهو من مغازي عروة أيضًا باختصار وتصرف.
(6)
س، ث:«حتى» ، تصحيف. وكذا كان في ن ثم أصلحه بعضهم.
(7)
زِيد بعده في هامش س مصححًا عليه، ن:«فدلَّهم عليه» ، ولعله زِيد ليستقيم الكلام بعد أن تصحَّفت «حين» إلى «حتَّى» .
وسبى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب وابنة عمِّها
(1)
، وكانت صفية تحت كنانة بن أبي الحقيق وكانت عَروسًا حديثة عهدٍ بالدخول، فأمر بلالًا أن يذهب بها إلى رحله، فمرَّ بها بلال وسط القتلى، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:«أذهبت الرحمةُ منك يا بلال؟!»
(2)
.
وعرض عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلمت، فاصطفاها لنفسه وأعتقها وجعل عِتقها صداقَها، وبنى بها في الطريق وأولم عليها. ورأى بوجهها خُضرةً فقال:«ما هذا؟» قالت: يا رسول الله، رأيتُ قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه فسقط في حجري ــ ولا واللهِ ما أذكر من شأنك شيئًا ــ فقصصتُها على زوجي فلطم وجهي وقال: تَمَنَّينَ هذا المَلِك الذي بالمدينة؟!
(3)
.
وشكَّ الصحابة هل اتخذها سُرِّيَّةً أو زوجةً؟ فقالوا: انظروا إن حجبها فهي إحدى نسائه وإلا فهي مما ملكت يمينه، فلما ركب جعل ثوبه الذي ارتدى به على ظهرها ووجهها ثم شدَّ طرفه تحته، فتأخروا عنه في المسير وعلموا أنها إحدى نسائه
(4)
.
ولما قدَّم فخذه ليحملها على الرحل أجلَّت أن تضع قدمها على فخذه
(1)
«وابنة عمها» من ز، ف، ن، وسقط من سائر الأصول. وفي المطبوع:«وابنة عمتها» .
(2)
روي عن عروة في مغازيه مرسلًا، وقد سبق تخريجه آنفًا.
(3)
ذكره عروة، وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن حبان (5199) والطبراني في «الكبير» (24/ 67) والبيهقي في «الدلائل» (4/ 230) بإسناد جيد.
(4)
ذكره عروة في مغازيه، وله شاهد من حديث أنس عند البخاري (4213) ومسلم (1365/ 87) بنحوه.
فوضعت ركبتها على فخذه ثم ركبت
(1)
.
ولما بنى بها بات أبو أيوب ليلته قائمًا قريبًا من قبته آخذًا بقائم السيف حتى أصبح، فلما رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كبَّر أبو أيوب حين رآه قد خرج، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما لك يا أبا أيوب؟» قال له: أَرِقتُ ليلتي هذه يا رسول الله، لما دخلتَ بهذه المرأة ذكرتُ أنك قتلتَ أباها وأخاها وزوجها وعامة عشيرتها فخفت أن تغتالك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له معروفًا.
فصل
وقسم خيبر على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كلُّ سهم مائة سهم
(2)
، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم أحد المسلمين، وعزل النصف الآخر وهو ألف وثمانمائة لنوائبه وما ينزل به من أمور المسلمين
(3)
.
قال البيهقي
(4)
: وهذا لأن خيبر فُتح شطرها عنوةً وشطرها صلحًا، فقسم ما فتح عنوةً بين أهل الخمس والغانمين، وعزل ما فتح صلحًا لنوائبه وما يحتاج إليه في أمور المسلمين.
(1)
كذا في مغازي عروة، والذي عند البخاري (2235) من حديث أنس أنها وضعت رجلها على ركبته صلى الله عليه وسلم حتى تركب.
(2)
بعده في هامش س بخط مغاير مصححًا عليه، ن، المطبوع:«فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم» .
(3)
أخرجه أحمد (16417) وأبو داود (3012) والبيهقي في «السنن» (9/ 138) عن بشير بن يسار عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وإسناده صحيح.
(4)
في «الدلائل» (4/ 236).
قلت: وهذا بناء منه على أصل الشافعي أنه يجب قَسْم الأرض المفتتحة عنوةً كما تُقسَم سائر المغانم، فلما لم يجده قَسَم النصفَ
(1)
من خيبر قال: إنه فتح صلحًا. ومن تأمل السير والمغازي حقَّ التأمُّل تبين له أن خيبر إنما فتحت عنوةً وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استولى على أرضها كلِّها بالسيف عنوةً ولو فُتح شيء منها صلحًا لم يُجْلِهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منها، فإنه لما عزم على إخراجهم منها قالوا: نحن أعلم [بالأرض]
(2)
منكم، دعونا نكون
(3)
فيها ونَعمُرَها لكم بشطر ما يخرج منها. وهذا صريح جدًّا في أنها إنما فتحت عنوةً وقد حصل بين المسلمين واليهود بها من الحِراب والمبارزة والقتل من الفريقين ما هو معلوم، ولكن لمّا أُلجئوا إلى حصنهم نزلوا على الصلح الذي بذلوه: أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة والسلاح، ولهم رقابهم وذريتهم ويَجلُوا من الأرض؛ فهذا كان الصلح، ولم يقع بينهم صلحٌ أن شيئًا من أرض خيبر لليهود ولا جرى ذلك البتة، ولو كان كذلك لم يقل:«نُقِرُّكم ما شئنا»
(4)
فكيف يقرُّهم في أرضهم ما شاء؟ ولا كان عمر أجلاهم كلَّهم من الأرض ولم يصالحهم أيضًا على أن الأرض للمسلمين وعليها خراج يؤخذ منهم
(5)
، هذا لم يقع فإنه لم يَضرب على خيبر خراجًا البتة.
فالصواب الذي لا شك فيه أنها فُتحت عنوةً والإمام مخيَّرٌ في أرض
(1)
هامش س، ن:«الشطر» .
(2)
ساقط من عامة الأصول، إنما تفرّدت به ن، وفي ث:«بها» . والمثبت موافق لحديث ابن عباس عند أبي داود (3410) وابن ماجه (1820) وغيرهما.
(3)
ص، ز، د:«نكُن» .
(4)
أخرجه البخاري (2338) ومسلم (1551/ 6) من حديث ابن عمر.
(5)
انظر حديث ابن عمر السابق.
العنوة بين قَسمها ووقفها وقسمِ بعضها ووقف البعض، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنواع الثلاثة: فقسم قريظة والنضير، ولم يقسم مكة، وقسم شطر خيبر وترك شطرها، وقد تقدَّم تقرير كون مكة فتحت عنوةً بما لا مدفع له.
وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم لأنها كانت طعمةً من الله لأهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب، وكانوا ألفًا وأربعمائةٍ، وكان معهم مائتا فرس لكل فرس سهمان، فقسمت على ألف وثمانمائة. ولم يَغِب عن خيبر من أهل الحديبية إلا جابر بن عبد الله، فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم
(1)
مَن حضرها.
وقسم للفارس ثلاثةَ أسهمٍ وللراجل سهمًا، وكانوا ألفًا وأربعمائة وفيهم مائتا فارس، هذا هو الصحيح الذي لا ريب فيه.
وروى عبد الله العُمَري عن نافع عن ابن عمر أنه أعطى الفارس سهمين والراجل سهمًا
(2)
.
قال الشافعي
(3)
: كأنه سمع نافعًا يقول: «للفرس سهمين وللرجل سهمًا» فقال: للفارس سهمين وللراجل سهمًا. قال
(4)
: وليس يشكُّ أحد من أهل العلم في تقدمة عبيد الله بن عمر على أخيه في الحفظ، وقد أخبرنا الثقة
(1)
ز: «كقسم» ، تصحيف.
(2)
أخرجه عبد الرزاق (9320) والدارقطني (4182) والبيهقي في «السنن» (6/ 325) من طرق عن عبد الله العمري به. وعبد الله هذا وإن كان صالحًا في نفسه عابدًا إلا أنه في الحديث ليس بذاك.
(3)
في «القديم» كما في «معرفة السنن والآثار» (9/ 247 - 248).
(4)
«سهمين وللراجل سهما. قال» ساقط من المطبوع.
من أصحابنا عن إسحاق الأزرق الواسطي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب للفرس بسهمين وللفارس بسهم
(1)
.
ثم روى
(2)
من حديث أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه. وهو في «الصحيحين»
(3)
. وكذلك رواه الثوري وأبو أسامة عن عبيد الله
(4)
.
قال الشافعي
(5)
: ورُوي عن مُجمِّع بن جارية
(6)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم سهام خيبر على ثمانية عشر سهمًا، وكان الجيشُ ألفًا وخمسمائة منهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين والراجل سهمًا
(7)
.
(1)
«معرفة السنن» (9/ 246)، وهو في «الأم» (5/ 316).
(2)
في «القديم» كما في «معرفة السنن» . وأخرجه من طريق أبي معاوية أيضًا أحمد (4448) وأبو داود (2733) وابن ماجه (2854).
(3)
أخرجه البخاري (2863، 4228) من طريق أبي أسامة وزائدة، ومسلم (1762) من طريق سليم بن أخضر وعبد الله بن نمير؛ كلُّهم عن عبيد الله به.
(4)
من طريق الثوري أخرجه ابن حبان (4811) والدارقطني (4164). ومن طريق أبي أسامة أخرجه البخاري كما سبق.
(5)
كما في «معرفة السنن» (9/ 248).
(6)
تصحّف في الأصول عدا ز، س إلى:«حارثة» .
(7)
أخرجه أحمد (15470) وأبو داود (2736) والحاكم (2/ 131) كلهم من طريق مُجمِّع بن يعقوب بن مجمِّع بن يزيد بن جارية، عن أبيه يعقوب، عن عمِّه عبد الرحمن بن يزيد، عن عمِّه مجمِّع بن جارية. وسيأتي تعليل الشافعي له بأن مجمع بن يعقوب شيخ لا يُعرَف، ولكن قد وثَّقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي فقالوا: لا بأس به. وعلّة هذا الخبر إنما هي الجهل بحال أبيه يعقوب بن مجّمع. انظر: «بيان الوهم والإيهام» (4/ 419).
قال الشافعي: ومُجمِّع بن يعقوب ــ يعني: راوي هذا الحديث عن أبيه، عن عمِّه عبد الرحمن بن يزيد، عن عمِّه مجمع بن جارية ــ شيخٌ لا يُعرَف، فأخذنا في ذلك بحديث عبيد الله، ولم نَرَ له مثلَه خبرًا يعارضه، ولا يجوز ردُّ خبرٍ إلا بخبر مثله.
قال البيهقي: والذي رواه مجمع بن يعقوب بإسناده في عدد الجيش وعدد الفرسان قد خولف فيه؛ ففي رواية جابر وأهل المغازي: أنهم كانوا ألفًا وأربعمائة، وهم أهل الحديبية
(1)
. وفي رواية ابن عباس وصالح بن كيسان وبُشَير بن يسار وأهل المغازي: أن الخيل كانت مائتي فرس، وكان للفرس سهمان ولصاحبه سهم، ولكل راجل سهم
(2)
.
وقال أبو داود
(3)
: حديث أبي معاوية أصح والعمل عليه، وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال:«ثلاثمائة فارس» ، وإنما كانوا مائتي فارس.
وقد روى أبو داود
(4)
أيضًا من حديث أبي عَمرة عن أبيه قال: أتينا
(1)
سبق حديث جابر في عدد أهل الحديبية. وقد رُوي من غير وجه ــ منها حديث مجمّع نفسُه ــ أن غنائم خيبر إنما قُسمت على أهل الحديبية خاصة، اللهم إلا من قدم من الحبشة عند فتح خيبر: جعفر وأصحابه والأشعريّون، فقد أُشرِكوا معهم كما سيأتي.
(2)
حديث ابن عباس عند الحاكم (2/ 138) والبيهقي في «الدلائل» (4/ 237)، ومرسل صالح بن كيسان عند ابن سعد (2/ 104) والبيهقي في «الدلائل». وأما بُشير بن يسار فالذي رواه يحيى بن آدم في «الخراج» (90) وابن سعد في «الطبقات» (2/ 108) عنه أنه قال: إن خيبر شهدها مائة فرس.
(3)
عقب الحديث (2736).
(4)
برقم (2734) من طريق أحمد، وهو في «مسنده» (17239).
رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعةَ نفرٍ ومعنا فرس، فأعطى كلَّ إنسان منا سهمًا وأعطى الفرس سهمين. وهذا الحديث في إسناده عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله
(1)
بن مسعود، وهو المسعودي، وفيه ضعف. وقد روي الحديث عنه على وجه آخر فقال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ نفرٍ ومعنا فرس، فكان للفارس ثلاثة أسهم. ذكره أبو داود أيضًا
(2)
.
فصل
وفي هذه الغزوة قدم عليه ابنُ عمِّه جعفر بن أبي طالب وأصحابه، ومعهم الأشعريون عبد الله بن قيس أبو موسى وأصحابه، وكان فيمن قدم معهم أسماء بنت عميس.
قال أبو موسى: بلغَنا مخرجُ النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه
(3)
أنا وأَخَوان لي أنا أصغرهما ــ أحدهما أبو رُهم والآخر أبو بردة ــ في بضع وخمسين رجلًا من قومي، فركبنا سفينةً فألقتنا سفينتُنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفرَ بن أبي طالب وأصحابَه عنده، فقال جعفر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعًا فوافقنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحدٍ غاب عن فتح خيبر شيئًا إلا لمن شهد معه، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفرٍ وأصحابه قسم لهم معهم. وكان ناس يقولون لنا: سبقناكم بالهجرة. قال:
ودخلت أسماء بنت عُمَيس على حفصة، فدخل عليها عمر فقال: من هذه؟ قالت: أسماء، فقال عمر: سبقناكم بالهجرة نحن أحقُّ برسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
،
فغضبت وقالت: يا عمر كلَّا والله! لقد كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطعِم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البُعَداء البُغَضاء، وذلك في الله وفي رسوله، وايم الله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلتَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نُؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله إن عمر قال كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما قلتِ له؟» قالت: قلت له كذا وكذا، قال:«ليس بأحق بي منكم؛ له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم ــ أهلَ السفينة ــ هجرتان» . فكان أبو موسى وأصحاب السفينة يأتون أسماءَ أرسالًا يسألونها عن هذا الحديث؛ ما من الدنيا شيء هم به أفرحُ ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
ولما قدم جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه وقبَّل جبهته وقال: «والله ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟»
(3)
.
(1)
بعده في س، ن:«منكم» ، وليست في سائر الأصول ولا في «الدلائل» وهو مصدر المؤلف ..
(2)
أخرجه البخاري (4230) ومسلم (2502) والبيهقي في «الدلائل» (4/ 244).
(3)
أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (4/ 32) وابن أبي شيبة (32870) والحاكم (2/ 624، 3/ 211) والبيهقي في «الدلائل» (4/ 246) من طرق عن الأجلح بن عبد الله عن الشعبي باختلاف عليه في وصله عن جابر وإرساله، والمرسل أشبه. وله طريق آخر عن الشعبي، رواه مجالد بن سعيد ــ وهو ضعيف ــ عنه عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عن أبيه بنحوه ضمن خبر طويل. أخرجه البزار (1328) والبغوي في «معجم الصحابة» (422) والطبراني في «الكبير» (2/ 110). وله شاهد من حديث أبي جُحيفة عند الطبراني (22/ 100) بإسناد لا بأس به.
وأما ما روي في هذه القصة أن جعفرًا لما نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حَجَل، يعني: مشى على رجلٍ واحدة إعظامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعله أشباهُ الدِّباب
(1)
الرقَّاصُون
(2)
أصلًا لهم في الرقص= فقال البيهقي
(3)
ــ وقد رواه من طريق الثوري عن أبي الزبير عن جابر ــ: في إسناده إلى الثوري من لا يُعرَف.
(1)
المراد بـ «الدباب» جمع «الدُّبِّ» الحيوان المعروف، وهذا الجمع لم يذكره أصحاب المعاجم وإنما ذكروا:«دِبَبة وأدباب» ، واستعمله شيخ الإسلام أيضًا في «جامع المسائل» (1/ 89) حيث قال وهو يصف بعض المبتدعة:«ويرقصون كرقص الدِّباب ونحوها من الحيوانات» . والمراد الدِبَبة المعلّمة المدرَّبة التي يُرقّصها أصحابها في الأسواق ومجامع الناس.
(2)
ز، د:«الراقصون» .
(3)
في «الدلائل» (4/ 246). وذِكر الثوري خطأ من بعض الرواة، وإنما هو سفيان بن عيينة، هكذا رواه العقيلي في «الضعفاء» (6/ 134) ــ ومن طريقه في «العلل المتناهية» (2/ 96) ــ والطبراني في «الأوسط» (6559). وإسناده واه، فيه مكي بن عبد الله ــ في «الدلائل»: بن إبراهيم ــ الرُّعَيني. قال ابن يونس: روى مكي عن ابن عيينة مناكير لا يتابع عليه. «تاريخ الإسلام» (5/ 1262).
وهناك قصة أخرى في حَجْل جعفر، وذلك حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أشبهتَ خَلقي وخُلقي» . أخرجه أحمد (857) والبزار (744) والبيهقي في «السنن» (10/ 226) من حديث هانئ بن هانئ عن علي. وهانئ بن هانئ متكلم فيه، قال ابن المديني: مجهول، وقال ابن سعد: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس به بأس، وأورده ابن حبان في «الثقات» . وأصل الحديث عند البخاري (2699) من رواية البراء دون ذكر الحجل.
قلت: ولو صح لم يكن في هذا حجة على جواز التشبه بالدِّباب والتكسُّر والتخنُّث في المشي المنافي لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
، فإن هذا لعله كان من عادة
(2)
الحبشة تعظيمًا لكُبرائها كضرب الجوك
(3)
عند الترك ونحو ذلك، فجرى جعفر على تلك العادة وفعلها مرةً ثم تركها بسُنَّة
(4)
الإسلام، فأين هذا من القفز والتكسُّر والتخنيث والتثنِّي؟! وبالله التوفيق.
قال موسى بن عقبة
(5)
: وكانت بنو فَزارة ممن قدم على أهل خيبر ليعينوهم، فراسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوهم وأن يخرجوا عنهم ولكم من خيبر كذا وكذا، فأبوا عليه، فلمّا فتح الله عليه خيبر أتاه من كان ثَمَّ مِن بني فزارة فقالوا: وعدَك
(6)
الذي وعدتنا، فقال:«لكم ذو الرُّقيبة» ــ جبل من جبال خيبر ــ فقالوا: إذًا نقاتلك، فقال:«موعدكم كذا» ، فلما سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا هاربين.
وقال الواقدي
(7)
: قال أبو شُيَيم المُزَني وكان قد أسلم فحسُنَ إسلامُه:
(1)
زِيد بعده في هامش س مصححًا عليه: «وأصحابِه» .
(2)
ز: «هدي» .
(3)
الجُوك: معرب «چوك» بالجيم الفارسية، وهو الفخذ. وضرب الجوك نوع من البروك والجثوّ عند الترك والمغول في حضرة ملوكهم. انظر: المعجم الفارسي «برهان قاطع» (2/ 670)، و «تكملة المعاجم» لدوزي (2/ 351)، و «معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي» لمحمد أحمد دهمان (ص 58).
(4)
ث، المطبوع:«لسنة» .
(5)
كما أسنده البيهقي في «الدلائل» (4/ 248).
(6)
س، ن:«حظَّنا» وفاقًا لمصدر النقل.
(7)
في «مغازيه» (2/ 675)، والمؤلف صادر عن «الدلائل» (4/ 249).
لما نفرنا إلى أهلنا مع
(1)
عيينة بن حصن رجع بنا عيينة
(2)
، فلما كان دون خيبر عرَّسنا من الليل، ففزعنا فقال عيينة: أبشروا إني أرى الليلة في النوم أنني أُعطيت ذا الرُّقَيبة جبلًا بخيبر؛ قد والله أخذتُ برقبة محمد. فلما قدمنا خيبر قَدِم عيينة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر، فقال: يا محمد، أعطِني ما غنمتَ من حلفائي، فإني انصرفت عنك وعن قتالك
(3)
. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبتَ! ولكن الصياح الذي سمعتَ نفَّرك إلى أهلك» ، قال: أجزني يا محمد، قال:«لك ذو الرقيبة» ، قال: وما ذو الرقيبة؟ قال: «الجبل الذي رأيت في النوم أنك أخذته» ، فانصرف عيينة، فلما رجع إلى أهله جاءه الحارث بن عوف فقال: ألم أقل لك: إنك مُوضِعٌ
(4)
في غير شيء، والله ليظهرنَّ محمدٌ على ما بين المشرق والمغرب؛ يهود كانوا يخبروننا بهذا، أَشهد
(5)
لسمعتُ أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول: إنا نحسد محمدًا على النبوة حيث خرجت من بني هارون، وهو نبي مرسل ويهود لا تطاوعني على هذا، ولنا
(1)
ز: «مع أهلنا إلى» ، قلب.
(2)
وقصة ذلك أنهم خرجوا أولًا لنصرة يهود خيبر فسمعوا الصريخ فظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد خالفوا إلى أهليهم ليسبوهم، فنفروا إلى أهليهم فلم يروا شيئًا، فرجعوا ثانيًا لنصرة اليهود. انظر:«مغازي الواقدي» (2/ 675 - 676).
(3)
ص، د، ث:«وعرفنا لك» ، تصحيف، وكذا كان رسمه في أكثر النسخ الأخرى ثم أصلح إلى المثبت الموافق للدلائل. وفي المطبوع:«وقد فرغنا لك» خلافًا للأصول ولمصدر النقل.
(4)
ص، د:«بموضع» . ز، ن، المطبوع:«تُوضِع» .
(5)
ز: «أُشهدكم» .
منه ذبحان: واحد بيثرب وآخر بخيابر
(1)
،
قال الحارث: قلت لسلام: يملك الأرض جميعًا؟ قال: نعم والتوراةِ التي أُنزلت على موسى، وما أحب أن تعلم يهودُ بقولي
(2)
فيه.
فصل
وفي هذه الغزاة سُمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أهدت له زينب بنت الحارث اليهودية امرأةُ سلام بن مشكم شاةً مشويَّةً
(3)
قد سمَّتها، وسألت: أيُّ اللحم أحب إليه؟ فقالوا: الذراع، فأكثرت من السمِّ في الذراع، فلمَّا انتهش من ذراعها أخبره الذراع بأنه مسموم فلفظ الأكلة، ثم قال:«اجمعوا لي مَن هاهنا مِن اليهود» ، فجُمِعوا له فقال لهم:«إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقيَّ فيه؟» قالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أبوكم؟» قالوا: أبونا فلان، قال:«كذبتم، أبوكم فلان» ، قالوا: صدقت وبررت، قال:«هل أنتم صادقيَّ عن شيءٍ إن سألتكم عنه؟» قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أهل النار؟» فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلُفُونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اخسؤوا فيها! فوالله لا نَخلُفكم فيها أبدًا» ، ثم قال:«هل أنتم صادقيَّ عن شيءٍ إن سألتكم عنه؟» قالوا: نعم، قال: «أجعلتم في هذه الشاة
(4)
سمًّا؟» قالوا: نعم، قال:«فما حملكم على ذلك؟» قالوا: أردنا إن كنت كاذبًا نستريحُ منك، وإن كنتَ
(1)
«خيابر» جمع خيبر باعتبار حصونه .. وفي المطبوع: «بخيبر» خلافًا للأصول.
(2)
ص، د، ف:«يعلمه يهود بقول» .
(3)
د: «مسمومة» ، تصحيف.
(4)
«الشاة» ساقطة من ص، د.
نبيًّا لم يضرَّك
(1)
.
وجيء بالمرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أردت قتلك، فقال:«ما كان الله ليسلِّطكِ عليَّ» ، قالوا: ألا نقتلها؟ قال: «لا»
(2)
. ولم يَعرِض لها ولم يعاقبها، واحتجم على الكاهل وأمر من أكل منها فاحتجم فمات بعضهم
(3)
.
واختُلف في قتل المرأة، فقال الزهري: أسلمت فتركها. ذكره عبد الرزاق
(4)
عن معمر عنه، ثم قال معمر: والناس يقولون: قتلها النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه البخاري (3169، 5777) من حديث أبي هريرة، وأوَّله: «لما فتحت خيبر أُهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاةٌ فيها سمٌّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لي مَن كان هاهنا من اليهود
…
» إلخ بمثله.
وأما إخبار الذراع ــ أو الكتف ــ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بأنه مسموم فروي من وجوه، منها حديث جابر عند أبي داود (4510) وفي سنده انقطاع، وحديث أبي سعيد عند الحاكم (4/ 109) وفي إسناده لين وفي متنه بعض نكارة، ومرسل عبد الرحمن بن كعب بن مالك عند عبد الرزاق (10019) بإسناد صحيح، ومرسل أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عند أبي داود (4512) والدارمي (68) بإسناد حسن. وذكره أصحاب المغازي كموسى بن عقبة وابن إسحاق وغيرهما. انظر:«دلائل النبوة» (4/ 263) و «سيرة ابن هشام» (2/ 337) و «مغازي الواقدي» (2/ 678) و «طبقات ابن سعد» (2/ 179).
(2)
أخرجه البخاري (2617) ومسلم (2190) من حديث أنس، واللفظ لمسلم.
(3)
روي ذلك في مرسل عبد الرحمن بن كعب بن مالك عند عبد الرزاق (10019)، وأخرجه أبو داود (4510) من حديث جابر بنحوه، وفي سنده انقطاع. ولاحتجامه صلى الله عليه وسلم شاهد من حديث ابن عباس عند أحمد (2784) بإسناد حسن.
(4)
في «مصنفه» عقب الحديث (10019) ومن طريقه البيهقي في «الدلائل» (4/ 261).
وقال أبو داود
(1)
: حدثنا وهب بن بقية، حدثنا خالد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له يهوديةٌ بخيبرَ شاةً مَصْليةً ــ فذكر القصة ــ وقال: فمات بِشر بن البراء بن مَعرور، فأرسل إلى اليهودية:«ما حملك على الذي صنعت؟» قال جابر
(2)
: فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقُتِلت.
قلت: كلاهما مرسل، ورواه حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة متصلًا: أنه قتلها لمَّا مات بشر بن البراء
(3)
.
وقد وُفِّق بين الروايتين بأنه لم يقتلها أولًا، فلما مات بِشر قتلها.
وقد اختلف: هل أكل النبي صلى الله عليه وسلم منها أو لم يأكل؟ وأكثر الروايات أنه أكل منها، وبقي بعد ذلك ثلاث سنين حتى قال في وجعه الذي مات فيه: «ما زلت أجد من الأَكلة التي أكلتُ من الشاة يوم خيبر، فهذا أوانُ انقطاع الأَبْهَرِ
(1)
برقم (4511) ومن طريقه البيهقي في «الدلائل» (4/ 262).
(2)
كذا في جميع الأصول، وهو خطأ فليس هذا من قول جابر في شيء. والذي في «السنن»:«فذكر نحو حديث جابر» ، وحديث جابر هو السابق لهذا الحديث عند أبي داود، فاختصر أبو داود حديث أبي سلمة وأحال في بعض ألفاظه على حديث جابر السابق، فالمراد بقوله:«فذكر نحو حديث جابر» أي في جواب اليهودية على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وأما قوله:«فأمر بها فقُتِلت» فمن قول أبي سلمة ولم يرد في حديث جابر البتة، بل الذي ورد فيه أنه صلى الله عليه وسلم «عفا عنها ولم يُعاقبها» . ومما يدلّ على الخطأ أيضًا وصفُ المؤلف له فيما يأتي بأنه مرسَل، فلو كان قولًا لجابر لما كان مرسلًا بل لكان متصلًا مسندًا.
(3)
أخرجه الحاكم (3/ 219) وعنه البيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 46). وقد تابع حماد بن سلمة على الاتصال: عَبَّاد بن العوَّام ــ وهو ثقة من رجال الشيخين ــ عند البيهقي (8/ 46).
مني»
(1)
. قال الزهري: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدًا.
قال موسى بن عقبة
(2)
وغيره: وكان بين قريشٍ حين سمعوا بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر تراهُنٌ عظيم وتبايُع، فمنهم من يقول: يظهر محمد وأصحابه، ومنهم يقول: يظهر الحليفان ويهود خيبر، وكان الحجَّاج بن عِلاط السُّلَمي قد أسلم وشهد فتح خيبر وكانت تحته أم شيبة أختُ بني عبد الدار بن قُصي، وكان الحجاج مكثرًا من المال، كانت له معادنُ أرضِ بني سليم، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر قال الحجاج بن عِلاط: إن لي ذهبًا عند امرأتي، وإن تعلم هي وأهلُها بإسلامي فلا مال لي، فأْذَنْ لي فلأُسرع السير وأَسبِق الخبر، ولأُخبرنَّ أخبارًا إذا قدمتُ أدرأ بها عن مالي ونفسي،
(1)
أخرجه البيهقي في «الدلائل» (4/ 264) من طريق موسى بن عقبة عن الزهري مرسلًا. وقد روي عن الزهري متصلًا من وجهين، الأول: عنه عن عروة عن عائشة، وفيه نظر فقد تفرّد به عنبسة بن خالد ــ وهو متكلم فيه ــ عن يونس عن الزهري به. أخرجه البزار (115) والحاكم (3/ 58)، وعلّقه البخاري (4428) عن يونس به. والثاني: من طريق معمر عنه عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه، وقيل: عن أبيه عن أم مبشّر. أخرجه أبو داود (4513) والحاكم (3/ 219)، ورواته ثقات. وللحديث شاهد من مرسل أبي سلمة عند أبي داود (4512) والدارمي (68). وانظر:«تغليق التعليق» (4/ 162).
(2)
كما في «الدلائل» (4/ 265). وبنحوه ذكره عروة في مغازيه من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه.
وقد أخرج خبر الحجاج بن عِلاط أحمد (12409) وأبو يعلى (3479) وابن حبان (4530) والبيهقي في «الدلائل» (4/ 266) والضياء في «المختارة» (5/ 182) من حديث معمر عن ثابت عن أنس رضي الله عنه بنحوه مطوّلًا، إلا ذِكر ارتجاز العبّاس فمدرَج من رواية معمر عن عثمان الجزَري عن مِقسَم مرسلًا.
فأذِنَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
فلما قدم مكة قال لامرأته: أَخفي علي واجمعي ما كان لي عندكِ من مالٍ فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم، وإن محمدًا قد أُسِر وتفرَّق عنه أصحابه، وإن اليهود قد أقسموا
(1)
ليبعَثُنَّ به إلى مكة ثم ليقتلُنَّه بقتلاهم بالمدينة
(2)
، وفشا ذلك في مكة واشتد على المسلمين وبلغ منهم، وأظهر المشركون الفرح والسرور، وبلغ العباسَ عمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم زَجْلةُ الناس وجَلَبتهم وإظهارُهم السرورَ فأراد أن يقوم ويخرج فانخزل ظهرُه فلم يقدر على القيام، فدعا ابنًا له يقال له:«قُثَم» وكان شِبْهَ
(3)
رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يرتجز ويرفع صوته لئلا يشمت به أعداء الله: «قُثَمْ، شبيه ذي الأنف الأَشَمْ، فتى
(4)
ذي النِّعَمْ، برغم مَن رَغَمْ».
وحشر إلى باب داره رجال كثيرون من المسلمين والمشركين، منهم المُظهر للفرح والسرور، ومنهم الشامت والمعزِّي، ومنهم مَن به مثل الموت من الحزن والبلاء؛ فلما سمع المسلمون رجز العباس وتجلُّدَه طابت أنفسهم، وظن المشركون أنه قد أتاه ما لم يأتهم.
(1)
ص، د:«اقتسموا» .
(2)
من قوله: «وإن محمد قد أُسر
…
» إلى هنا ليس خبر موسى بن عقبة ولا في مصادر التخريج السابقة، وإنما ذكره بنحوه ابنُ إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 346) ــ والواقدي (2/ 703) وابن سعد (2/ 102).
(3)
س، ن:«يُشبه» .
(4)
كذا في الأصول. والذي في المصادر: «نبيُّ» .
ثم أرسل العباس غلامًا له إلى الحجاج وقال له: اخلُ به وقل له: ويلك! ما جئت به؟ وما تقول؟ فالذي وعد اللهُ خيرٌ مما جئت به، فلما كلمه الغلام قال له: أَقْرِ أبا الفضل السلامَ وقل له: فليخلُ لي
(1)
في بعض بيوته حتى آتيه، فإن الخبر على ما يسره، فلما بلغ العبدُ باب الدار قال: أبشر يا أبا الفضل، فوثب العباس فرحًا كأنه لم يصبه بلاء قط حتى جاءه وقبَّل ما بين عينيه، فأخبره بقول الحجاج، فأعتقه ثم قال: أخبرني، قال: يقول لك الحجاج: اخلُ له
(2)
في بعض بيوتك حتى يأتيك ظهرًا، فلما جاءه الحجاج وخلا به أخذ عليه لتكتُمَنَّ خبري، فوافقه عباس على ذلك، فقال له الحجاج: جئتُ وقد افتتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خيبر وغنم أموالهم وجرت فيها سهام الله، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى صفية بنت حُيَي لنفسه وأعرس بها، ولكن جئتُ لمالي أردت أن أجمعه وأذهب به، وإني استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول فأذن لي
(3)
، فأخفِ علي ثلاثًا ثم اذكر ما شئتَ.
قال: فجمعتْ له امرأته متاعَه ثم انشمر راجعًا، فلما كان بعد ثلاث أتى العباسُ امرأةَ الحجاج فقال: ما فعل زوجك؟ قالت: ذهب، وقالت: لا يحزنك الله يا أبا الفضل، لقد شقَّ علينا الذي بلغك، فقال: أجل، لا يحزنني الله، ولم يكن بحمد الله إلا ما أُحبُّ: فتح الله على رسوله خيبر وجرت فيها سهام الله واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه، وإن كان لكِ في زوجك حاجة فالحقي به، قالت: أظنك واللهِ صادقًا، قال: فإني والله صادق والأمر
(1)
س، ث، ف، ب:«بي» ، تصحيف.
(2)
المثبت من ز، س، ن، وهو مقتضى السياق. وفي سائر الأصول:«به» .
(3)
بعده في المطبوع ومصادر التخريج: «أن أقول ما شئت» ، وخلت منه الأصول.