المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي هديه في الأرض المغنومة - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصلفي هديه في الجهاد والغزوات

- ‌فصلفي مبدأ الهجرة التي فرق الله فيها بين أوليائه وأعدائه

- ‌فصلفي بناء المسجد

- ‌فصلفي هديه في الأسارى

- ‌فصلفي هديه فيمن جسَّ عليه

- ‌ أنَّ من أسلم على شيءٍ في يده فهو له

- ‌فصلفي هديه في الأرض المغنومة

- ‌فصلفي ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقينمن حين بُعث(3)إلى حين لقي الله عز وجل

- ‌فصلفي سياق مغازيه وبعوثه على وجه الاختصار

- ‌فصلفي قتل كعب بن الأشرف

- ‌فصلفي غزوة أحد

- ‌فصلفيما اشتملت عليه هذه الغزاة من الأحكام والفقه

- ‌فصلفي ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أُحُد

- ‌فصلفي غزوة دُومة الجندل

- ‌ سنة خمس

- ‌فصلفي غزوة المُرَيسِيع

- ‌فصلفي غزوة الخندق

- ‌فصلفي سريّة نجد

- ‌فصلفي غزوة الغابة

- ‌ سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القَصَّة

- ‌ سرية زيد بن حارثة إلى الطَّرَف

- ‌ سريةُ عبد الرحمن بن عوف إلى دُومة الجندل

- ‌فصلفي قصة الحديبية

- ‌فصلفي بعض ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض الحكم التي تضمنتها هذه الهدنة

- ‌فصلفي غزوة خيبر

- ‌فصلفيما كان في غزوة خيبر من الأحكام الفقهية

- ‌ جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا استُغني عنهم

- ‌ جواز عتق الرجل أمتَه وجعلِ عتقها صداقًا لها

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌ سرية أبي بكر الصديق إلى نجد قِبَلَ بني فزارة

- ‌ سرية بَشير بن سعد الأنصاري إلى بني مُرَّة بفَدَكٍ

- ‌فصلفي سرية عبد الله بن حُذافة السَّهمي

- ‌فصلفي عمرة القضية

- ‌فصلفي غزوة مؤتة

- ‌ سنة ثمان

- ‌فصلفي غزوة ذات السُّلاسل

- ‌فصلفي سرية الخَبَط

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌ جواز أكل ميتة البحر

- ‌فصلفي الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحَرَمه الأمينواستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدًى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين

- ‌ذكر سرية خالد بن الوليد إلى بني جَذِيمة

- ‌فصلفي الإشارة إلى ما في هذه الغزوة من الفقه واللطائف

- ‌فصلفيما في خطبته العظيمة ثاني يوم الفتح من أنواع العلم

- ‌«إن مكة حرَّمها الله ولم يحرمها الناس»

- ‌«فلا يحل لأحد أن يسفك بها دمًا»

- ‌فصلفي غزاة حنين

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهيةوالنكت الحُكمية

- ‌ جواز انتظار الإمام بقَسْم الغنائمِ إسلامَ الكفار

- ‌فصلفي غزوة الطائف في شوال سنة ثمان

- ‌ سنةُ تسعٍ

- ‌فصلفي السرايا والبعوث في سنة تسع

- ‌ذكر سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم

- ‌فصلذكر سرية قُطبة بن عامر بن حَدِيدة إلى خَثْعَمَ

- ‌فصل(2)ذكر سرية الضحاك بن سفيان الكِلابي إلى بني كلاب

- ‌فصلذِكر سرية علقمة بن مُجَزِّزٍ المُدْلِجي إلى الحبشة

- ‌ذكر سرية علي بن أبي طالب إلى صنم طَيِّئٍ ليهدمه

- ‌ذكر قصة كعب بن زُهَير مع النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي غزوة تبوك

- ‌فصلفي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أُكَيدِرِ دُومةَ

- ‌فصلفي خطبته صلى الله عليه وسلم بتبوك وصلاته

- ‌فصلفي جمعه بين الصلاتين في غزوة تبوك

- ‌فصلفي رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك وما همَّ المنافقون به من الكيد به

- ‌فصلفي أمر مسجد الضِّرار الذي نهى الله رسوله أن يقوم فيه

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من الفقه والفوائد

- ‌ ما اشتملت عليه قصة الثلاثة الذين خلفوا من الحكم والفوائد الجمة

- ‌فصلفي قدوم وفود العرب وغيرهم على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر وفد بني عامر ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم على عامر بن الطفيل وكفاية الله له(3)شرَّه وشرَّ أَرْبَدَ بن قيسٍ بعد أن عصم منهما نبيه

- ‌فصلفي قدوم وفد عبد القيس

- ‌فصلفي قدوم وفد بني حنيفة

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد طيِّئٍ على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد كِندة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم الأشعريين وأهل اليمن

- ‌فصلفي قدوم وفد الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني الحارث بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد هَمْدان عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد مُزَينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد دَوسٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بخيبر

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد نجران عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم رسول فروة بن عمرو الجُذامي ملك عربِ الروم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني سعد بن بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم طارق بن عبد الله وقومه على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد تُجيب

- ‌فصلفي قدومِ وفد بني سعدِ هُذَيمٍ من قُضاعة

- ‌فصلفي قدوم وفد بني فَزارة

- ‌فصلفي قدوم وفد بني أسد

- ‌فصلفي قدوم وفد بَهْراء

- ‌فصلفي قدوم وفد عُذْرة

- ‌فصلفي قدوم وفد بَلِيٍّ

- ‌فصلفي قدوم وفد ذي مُرَّة

- ‌فصلفي قدوم وفد خَولان

- ‌فصلفي قدوم وفد مُحارب

- ‌فصلفي قدوم وفد صُداءٍ في سنة ثمان

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد غسَّان

- ‌فصلفي قدوم وفد سَلامان

- ‌فصلفي قدوم وفد بني عَبْس

- ‌فصلفي قدوم وفد غامد

- ‌فصلفي قدوم وفد الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني المُنتفِق(1)على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد النَّخَع على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر هديه صلى الله عليه وسلم في مكاتباته إلى الملوك وغيرهم

- ‌فصلفي كتابه إلى الحارث بن أبي شِمر الغَسَّاني

الفصل: ‌فصلفي هديه في الأرض المغنومة

وسماه بائسًا أن مات بمكة ودُفن بها بعد هجرته منها

(1)

.

‌فصل

في هديه في الأرض المغنومة

ثبت عنه أنه قسم أرض بني

(2)

قريظة وبني النضير وخيبر بين الغانمين.

وأما المدينةُ ففُتِحت بالقرآن وأسلم عليها أهلها فأُقِرَّت بحالها.

وأما مكةُ ففتحها عنوةً ولم يَقْسِمها، فأشكل على طائفة من العلماء الجمعُ بين فتحها عنوةً وتركِ قسمتها، فقالت طائفة: لأنها دار المناسك، وهي وقف على المسلمين كلِّهم وهم فيها سواء، فلا يمكن قسمتها. ثم مِن هؤلاء مَن منع بيعها وإجارتها، ومنهم من جوَّز بيع رباعها ومنع إجارتها.

والشافعي لمّا لم يجمع بين العَنْوة وبين عدمِ القسمة قال

(3)

: إنها فتحت صلحًا، فلذلك لم تُقسَم، قال: ولو فُتِحت عنوةً لكانت غنيمةً فتجب قسمتُها كما تجب قسمة الحيوان والمنقول. ولم يَرَ مَنْعَ بيعِ

(4)

رباع مكة وإجارتها، واحتج بأنها مِلك لأربابها تُورَث عنهم وتُوهَب، وقد أضافها الله سبحانه إليهم إضافة الملك إلى مالكه

(5)

، واشترى عمر بن الخطاب دارًا من

(1)

أخرجه البخاري (1295) ومسلم (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص.

(2)

«بني» سقطت من م، ق، ب، ث.

(3)

م، ق، ب:«قالوا» ، خطأ. وانظر لقول الشافعي:«الأم» (9/ 257 - 260).

(4)

م، ق، ب، ث:«بأسًا ببيع» .

(5)

وذلك في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر: 8]. وقد استدل الشافعي به وبالأدلة الآتية في مناظرته لإسحاق في هذه المسألة. انظر: «مناقب الشافعي» لابن أبي حاتم (ص 136) وللبيهقي (1/ 213) و «معرفة السنن والآثار» (8/ 212 - 213).

ص: 138

صفوان بن أمية

(1)

، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أين تنزل غدًا في دارك بمكة؟ فقال: «وهل ترك لنا عَقيل من رباع؟!» وكان عقيل ورث أبا طالب

(2)

.

فلما كان أصله رضي الله عنه أن الأرض من الغنائم، وأن الغنائم تجب قسمتُها، وأن مكة تُملَك وتُباع رباعُها ودورها، ولم تقسم= لم يجد بُدًّا من كونها فُتحت صلحًا.

ولكن من تأمل الأحاديث الصحيحة وجدها كلَّها دالةً على قول الجمهور وأنها فُتحت عنوةً. ثم اختلفوا لأيِّ شيءٍ لم يَقْسِمها؟

فقالت طائفة: لأنها دار النسك ومحل العبادة، فهي وقف من الله على عباده المسلمين.

وقالت طائفة: الإمام مخير في الأرض بين قِسمتها وبين وقفها، والنبي صلى الله عليه وسلم قَسَم خيبر ولم يَقْسِم مكة، فدلَّ على جواز الأمرين. قالوا: والأرض لا تدخل في الغنائم المأمور بقسمتها، بل الغنائم هي الحيوان والمنقول، لأن الله تعالى لم يُحلَّ الغنائم لأمة غير هذه الأمة، وأحل لهم ديار

(3)

الكفر

(1)

أخرجه عبد الرزاق (9213) وابن أبي شيبة (23662) والفاكهي في «أخبار مكة» (2076) وابن المنذر في «الأوسط» (6/ 398)، وفي إسناده عبد الرحمن بن فَرُّوخ، لم يوثِّقه غير ابن حبان، على أن البخاري قد علّق الخبر مجزومًا به في كتاب الخصومات (باب الربط والحبس في الحرم).

(2)

أخرجه البخاري (1588) ومسلم (1351) من حديث أسامة بن زيد.

(3)

ص، ز:«دار» .

ص: 139

وأرضهم، كما قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} إلى قوله:

(1)

{يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 20 - 21]، وقال في ديار فرعون وقومه وأرضهم:{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)} [الشعراء: 59]، فعلم أن الأرض لا تدخل في الغنائم، والإمام مخيَّر فيها بحسب المصلحة، وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك، وعمر لم يقسم بل أقرَّها على حالها وضرب عليها خراجًا

(2)

مستمرًّا في رقبتها يكون للمقاتِلة، فهذا معنى وقفها، ليس معناه الوقفَ الذي يَمنع من نقل الملك في الرقبة، بل يجوز بيع هذه الأرض كما هو عمل الأمة، وقد أجمعوا على أنها تورث والوقفُ لا يورث. وقد نص الإمام أحمد على أنها يجوز أن تُجعل صداقًا، والوقفُ لا يجوز أن يكون

(3)

مهرًا في النكاح. ولأن الوقف إنما امتنع بيعُه ونقلُ الملك في رقبته لما في ذلك من إبطال حق البطون الموقوف عليهم من منفعته، والمقاتِلةُ حقُّهم في خراج الأرض، فمَن اشتراها صارت عنده خراجيَّةً كما كانت عند البائع سواءً، فلا يَبطل حقُ أحدٍ من المسلمين بهذا البيع، كما لم يَبطُل بالميراث والهبة والصداق.

ونظير هذا بيع رقبة المكاتَب وقد انعقد فيه سبب الحرية بالكتابة، فإنه ينتقل إلى المشتري مكاتبًا كما كان عند البائع، ولا يَبطل ما انعقد في حقِّه من سبب العتق ببيعه، والله أعلم.

(1)

«إلى قوله» من ن، هامش ز. وفي ص، ج، ع ذُكر مطلع الآية الأولى متصلًا بالآية التي تليها. وفي م، ق، ب: «وأحل لهم ديار الكفر وأرضهم، كما قال موسى لقومه: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا

}».

(2)

م، ق، ب:«خراجها» .

(3)

ج: «يُجعل» .

ص: 140

ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم نصف أرض خيبر خاصَّةً، ولو كان حكمها حكمَ الغنيمة لقسمها كلَّها بعد الخمس؛ ففي «السنن» و «المسند»

(1)

: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا ظهر على خيبر قسمها على ستةٍ وثلاثين سهمًا، جمع كلُّ سهمٍ مائةَ سهمٍ، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصفُ من ذلك، وعزل النصف الباقي

(2)

لمن نزل

(3)

به من الوفود والأمور ونوائب الناس». هذا لفظ أبي داود.

وفي لفظ

(4)

: «عزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهمًا ــ وهو الشطر ــ لنوائبه وما ينزل به من أمر المسلمين، فكان ذلك: الوَطِيح، والكتيبة، والسلالم، وتوابعها» .

وفي لفظ له أيضًا

(5)

: «فعزل نصفَها لنوائبه وما نزل به: الوطيحة والكتيبة وما أُحِيز معها، وعَزَل النصف الآخر فقسمه بين المسلمين: الشق والنطاة وما أُحِيز معها، وكان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أُحِيز معها» .

فصل

والذي يدل على أن مكة فتحت عنوةً وجوه:

(1)

م، ق، ب، ث:«المسند والسنن» . وفي النسخ المطبوعة: «السنن والمستدرك» ، خطأ مخالف للأصول. والحديث في «سنن أبي داود» (3012) و «مسند أحمد» (16417) بإسناد صحيح عن بُشير بن يسار عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

ص، ز:«نصف الباقي» ، خطأ.

(3)

م، ق، ب، ث:«ينزل» .

(4)

عند أبي داود (3014).

(5)

برقم (3013).

ص: 141

أحدها: أنه لم يَنقل أحد قط أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهلها زمن الفتح. ولا جاءه أحدٌ منهم صالحه على البلد، وإنما جاءه أبو سفيان، فأعطاه الأمان لمن دخل داره أو دخل المسجد أو ألقى سلاحَه.

ولو كانت قد فتحت صلحًا لم يقل: من دخل داره أو أغلق بابه أو دخل المسجد فهو آمِن، فإن الصلح يقتضي الأمان العام.

الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حبس عن مكةَ الفيلَ وسلَّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه أذن لي فيها ساعةً من نهار»

(1)

.

وفي لفظ: «إنها لم

(2)

تَحِلَّ لأحد قبلي، ولا تحلُّ لأحدٍ بعدي، وإنما أُحِلَّت لي ساعةً من نهار»

(3)

.

وفي لفظ: «فإنْ أحدٌ ترخَّص لِقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعةً من نهار، وقد عادت

(4)

حرمتُها اليوم كحرمتها بالأمس»

(5)

.

وهذا صريح في أنها فتحت عنوةً.

(1)

أخرجه البخاري (2434) ومسلم (1355) من حديث أبي هريرة بنحوه.

(2)

ص، ز، ج، ث، ن:«لا» .

(3)

أخرجه البخاري (112) ومسلم (1355/ 448) من حديث أبي هريرة. ومثله لفظ حديث ابن عباس عند البخاري (1833).

(4)

ص، ج:«عاد بها» ، تصحيف.

(5)

أخرجه البخاري (104) ومسلم (1354) من حديث أبي شُريح العَدَوي.

ص: 142

وأيضًا: فإنه ثبت في «الصحيح»

(1)

: أنه جعل يوم الفتح خالدَ بن الوليد على المُجنِّبة اليمنى، وجعل الزبير على المُجنِّبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذِقة

(2)

وبطن الوادي فقال: «يا أبا هريرة ادعُ لي الأنصار» ، فجاءوا يُهَروِلون فقال:«يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش؟» قالوا: نعم، قال:«انظروا إذا لقيتموهم غدًا أن تَحصُدوهم حَصْدًا» وأَحْفَى

(3)

بيده ووضع يمينه على شماله، وقال:«موعدكم الصفا» ، قال: فما أشرف يومئذ لهم أحدٌ إلا أناموه

(4)

، وصَعِد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله! أبيدت خضراءُ قريش، لا قريش بعد اليوم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن» .

وأيضًا: فإن أم هانئ أجارت رجلًا فأراد علي بن أبي طالب قتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«قد أجرنا من أَجَرْتِ يا أم هانئ»

(5)

. وفي لفظ عنها: لمّا كان يوم

(1)

«صحيح مسلم» (1780/ 86) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

المطبوع: «الحُسَّر» ، وهو لفظ رواية أخرى عند مسلم (1780/ 84)، وهو جمع الحاسر، أي من لا مِغفَر له ولا درع. والبياذِقة: الرَّجَّالة، فارسي معرّب.

(3)

كذا في ص، ع بالحاء المهملة، وكتبت تحتها «ح» صغيرة فيهما علامةً للإهمال. وكذا هو في النسخ المتقنة من «صحيح مسلم». وفي عامّة الأصول الأخرى وطبعة الرسالة ومطبوعة مسلم:«أخفى» بالخاء المعجمة، تصحيف. ومعنى «أحفى بيده» أي أمالها للحصد والاستئصال. انظر:«المفهم» (3/ 630) و «النهاية» (حفى).

(4)

أي: قتلوه. وتصحَّف في ص، ث إلى:«أبا مُرّة» !

(5)

أخرجه البخاري (357) ومسلم (336/ 82) من حديثها.

ص: 143

فتح مكة أجرتُ رجلين من أحمائي، فأدخلتهما بيتًا وأغلقت عليهما بابًا، فجاء ابنُ أمِّي عليٌّ فتفلَّت

(1)

عليهما بالسيف، فذكرتْ حديثَ الأمان وقولَ النبي صلى الله عليه وسلم:«قد أجرنا من أَجَرْتِ يا أمَّ هانئ»

(2)

. وذلك ضحًى بجوف مكة بعد الفتح؛ فإجارتُها له، وإرادةُ عليٍّ قتلَه، وتنفيذُ

(3)

النبي صلى الله عليه وسلم إجارتَها صريح في كونها فُتحت عنوةً.

وأيضًا: فإنه أمر بقتل مِقْيَس بن صُبابة، وابن خَطَل، وجاريتين

(4)

؛ ولو كانت فتحت صلحًا لم يأمر بقتل أحدٍ من أهلها، ولكان ذكر هؤلاء مستثنًى في عقد الصلح.

وأيضًا: ففي «السنن»

(5)

بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم فتح مكة قال: «أَمِن الناسُ

(6)

إلا أربعةَ نفرٍ وامرأتين؛ اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلِّقين بأستار الكعبة».

(1)

ص، ز، ج، ع:«فتقلب» ، تصحيف. والمثبت هو لفظ «المسند» ، ومعناه: تعرّض لهما فلتةً وبغتة، ومنه الحديث المشهور عند البخاري (461) وغيره: «إن عِفريتًا من الجنّ تفلَّت عليّ البارحة ليقطع عليَّ صلاتي

».

(2)

أخرجه أحمد (26906) ــ واللفظ له ــ وإسحاق بن راهويه (2114) والنسائي في «الكبرى» (8631) بإسناد صحيح.

(3)

المطبوع: «وإمضاء» خلافًا للأصول.

(4)

سيأتي تخريجه في موضعه (ص 502).

(5)

لأبي داود (2683) والنسائي (4067)، وأخرجه أيضًا الحاكم (2/ 54) والضياء في «المختارة» (3/ 248 - 250) من حديث سعد بن أبي وقاص بنحوه.

(6)

كذا في الأصول. ولفظ الحديث في المصادر: عن سعدٍ قال: لما كان يوم فتح مكة أمَّن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناسَ إلا أربعةَ نفرٍ وامرأتين، وقال: «اقتلوهم

» إلخ.

ص: 144

فصل

ومنع صلى الله عليه وسلم من إقامة المسلم بين المشركين إذا قدر على الهجرة من بينهم، وقال:«أنا بريء مِن كلِّ مُسلم يقيم بين أظهر المشركين» . قيل: يا رسول الله! ولم؟ قال: «لا تَرايا ناراهُما»

(1)

.

وقال: «من جامع المشركَ وسكن معه فهو مثله»

(2)

.

وقال: «لا تنقطعُ الهجرة حتى تنقطعَ التوبة، ولا تنقطعُ التوبة حتى تَطلُعَ الشمسُ من مغربها»

(3)

.

(1)

أخرجه أبوداود (2645) والترمذي (1604) وغيرهما من طريق قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله مرفوعًا. وأخرجه الشافعي في «الأم» (7/ 89) وابن أبي شيبة (33541) والترمذي (1605) والنسائي (4780) عن قيس بن أبي حازم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. قال الترمذي: «هذا أصح» أي المرسل، ونقل عن شيخه الإمام البخاري أنه قال: الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل. وقال الدارقطني في «العلل» (3355): هو الصواب.

(2)

أخرجه أبو داود (2787) والطبراني في «الكبير» (7023) من حديث سمرة بن جندب. وإسناده ضعيف، فيه ثلاثة رواة مجاهيل لم يوثِّقهم إمام معتبر. وله شاهد بإسناد صحيح عن الحسن البصري مرسلًا عند ابن المنذر في «الأوسط» (6/ 405). وروي عن الحسن عن سمرة مسندًا عند الحاكم (2/ 142) وغيره، لكن إسناده واهٍ بمرَّة.

(3)

أخرجه أحمد (16906) وأبو داود (2479) والنسائي في «الكبرى» (8658) والدارمي (2555) من حديث معاوية بإسناد لا بأس به في المتابعات والشواهد. وله شاهد حسن في «مسند أحمد» (1671) من حديث معاوية، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو، ثلاثتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

ص: 145

وقال: «ستكون هجرة بعد هجرة فخيارُ أهل الأرض ألزمُهم مهاجَرَ إبراهيم، ويبقى في الأرض شرارُ أهلها تلفظهم أرضوهم، تَقْذَرُهم نفسُ الله، ويحشرهم الله

(1)

مع القردة والخنازير»

(2)

.

فصل

في هديه في الأمان والصلح، ومعاملة رُسُل الكفار، وأخذ الجزية، ومعاملة أهل الكتاب والمنافقين، وإجارةِ من جاءه من الكفار يسمعُ كلامَ الله وردِّه إلى مأمنه، ووفائه بالعهد وبراءته من الغدر

ثبت عنه أنه قال: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا

(3)

»

(4)

.

وقال: «المسلمون تتكافأ دماؤُهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمَّتهم أدناهم، لا يُقتَل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثًا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثًا أو آوى مُحدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة

(1)

سقطت لفظ الجلالة من ث. والذي في جميع مصادر التخريج: «تحشرهم النار» ، إلا مطبوعة «حلية الأولياء» (6/ 54) ففيه كما هنا.

(2)

أخرجه أحمد (6871، 6952) وأبو داود (2482) والحاكم (4/ 486، 510) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وهو حديث صحيح بمجموع إسنادَيه. انظر: «تهذيب السنن» (2/ 203 بتخريجي) و «أنيس الساري» (2228).

(3)

ص، ز، ج، ع، ن:«عدلًا ولا صرفًا» ، والمثبت من م، ق، ب لفظ الشيخين.

(4)

أخرجه البخاري (7300) ومسلم (1370) من حديث علي رضي الله عنه.

ص: 146

والناس أجمعين»

(1)

.

وثبت عنه أنه قال: «من كان بينه وبين قوم عهدٌ فلا يَحُلَّنَّ عقدةً ولا يشدَّها حتى يمضيَ أمدُه أو يَنبِذَ إليهم على سواء»

(2)

.

وقال: «من آمن

(3)

رجلًا على نفسه فقتله فأنا بريء من القاتل». وفي لفظ: «أعطي لواء غدرٍ»

(4)

.

وقال: «لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة يُعرَف به بقدرِ غَدْرَته

(5)

، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان

(6)

»

(7)

.

(1)

أخرجه أحمد (993) وأبو داود (4530) والنسائي (4734) والحاكم (2/ 141) من حديث علي بإسناد صحيح.

(2)

أخرجه أحمد (17015) وأبو داود (2759) والترمذي (1580) والنسائي في «الكبرى» (8679) وابن حبان (4871) من حديث عمرو بن عبسة. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(3)

كذا في ص، ز مضبوطًا بالمدّ على الألف. ومعنى «آمَنَ» أي جعله يأمَن، ويصحّ ضبطه:«أمَّن» وهو بمعناه. ويصحّ أيضًا: «أَمِنَ» ، ويؤيّده رواية عند النسائي بلفظ: «إذا اطمأن الرجل إلى الرجل ثم قتله

».

(4)

أخرجه الطيالسي (1381) وابن حبان (5982) والطبراني في «الأوسط» (4252، 6640) و «الصغير» (38) من حديث عمرو بن الحَمِق الخُزاعي باللفظ الأول أو بنحوه. وأخرجه أحمد (21946) وابن ماجه (2688) والنسائي في «الكبرى» (8686 - 8688) والحاكم (4/ 353) باللفظ الثاني، وهو أصحُّ إسنادًا من الأول.

(5)

«بقدر غدرته» ساقط من المطبوع.

(6)

«بن فلان» ساقط من ص.

(7)

أخرجه البخاري (6177، 6966) ومسلم (1735) من حديث ابن عمر. وأخرجه البخاري (3186) ومسلم (1737) أيضًا من حديث أنس. وأخرجه مسلم (1736، 1738) من حديث ابن مسعود وأبي سعيد. ولفظ المؤلف مجموع من عدة روايات.

ص: 147

ويذكر عنه أنه قال: «ما نقض قومٌ العهدَ إلا أُدِيل عليهم العدو»

(1)

.

فصل

ولمّا قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام:

- قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه، ولا يُمالِئُوا عليه عدوَّه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم.

- وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة.

- وقسم تارَكوه فلم يُصالِحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمرُه وأمرُ أعدائه. ثم مِن هؤلاء من كان يحب ظهورَه وانتصاره في الباطن، ومنهم: من كان يحب ظهور عدوِّه عليه وانتصارَهم، ومنهم: من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون.

فعامل كلَّ طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربُّه تبارك وتعالى، فصالح يهودَ المدينة وكتب بينه وبينهم كتابَ أمنٍ، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بني قَينُقاع، وبني النَّضِير، وقُرَيظة.

فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدرٍ، وشَرِقُوا بوقعة بدرٍ وأظهروا البغي

(1)

أخرجه الطبراني في «الكبير» (11/ 45) من حديث ابن عباس بنحوه، وإسناده ضعيف. وأخرجه الخرائطي في «مساوئ الأخلاق» (398) والبيهقي في «السنن» (3/ 346) من طريق آخر عن ابن عباس موقوفًا عليه مِن قوله، وإسناده جيِّد.

ص: 148

والحسدَ، فسارت إليهم جنود الله يَقْدُمهم عبدُه ورسوله يومَ السبت النصفِ من شوال على رأس عشرين شهرًا من مُهاجَره، وكانوا حلفاءَ عبد الله بن أُبيٍّ ابن سَلول رئيسِ

(1)

المنافقين، وكانوا أشجعَ يهود المدينة.

وحامل لواء المسلمين يومئذٍ حمزةُ بن عبد المطلب، واستَخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وحاصرهم خمس عشرة ليلةً إلى هلال ذي القعدة.

وهم أول من حارب من اليهود، وتحصَّنوا في حصونهم، فحاصرهم أشدَّ الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرُّعبَ الذي إذا أراد خِذلان قوم وهزيمتَهم أنزله عليهم وقذفه في قلوبهم، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكُتِّفُوا، وكلَّم عبدُ الله بن أبي فيهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وألحَّ عليه، فوهبهم له وأمرهم أن يَخرجوا من المدينة ولا يُجاوروه بها، فخرجوا إلى أَذْرِعاتِ الشام، فقلَّ أن لبِثُوا بها

(2)

حتى هلك أكثرهم، وكانوا صاغةً وتُجَّارًا، وكانوا نحو الستمائة مقاتلٍ، وكانت دارهم في طرف المدينة.

وقُبِض أموالُهم، فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

ثلاث قِسِيٍّ، ودِرعَين، وثلاثةَ أسياف، وثلاثة رماح؛ وخُمِّست غنائمُهم، وكان الذي تولَّى جمع

(1)

م، ق، ب:«رأس» .

(2)

ز، ن:«فيها» ، والكلمة ساقطة من ص، ع.

(3)

م، ق، ب:«فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم»

ص: 149

الغنائم محمد بن مسلمة

(1)

. والله أعلم

(2)

.

فصل

ثم نقض العهد بنو النضير. قال البخاري

(3)

: وكان ذلك بعد بدر بستة أشهر، قاله عروة.

وسبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه وكلَّمهم أن يعينوه في دية الكلابِيَّين اللذين قتلهما عمرو بن أميَّة الضَّمْري

(4)

، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس هاهنا حتى نقضي

(5)

حاجتك، وخلا بعضُهم ببعضٍ وسوَّل لهم الشيطانُ ــ للشقاء الذي كتب عليهم ــ فتوامروا

(6)

بقتله صلى الله عليه وسلم،

(1)

خبر غزوة بني فينقاع مختصر مما ذكره ابن سعد في «الطبقات» (2/ 26)، إلا أنه لم يذكر عددهم. والخبر عند شيخه الواقدي (1/ 176 - 180) بأطول منه، وذكر أنهم سبعمائة مقاتل، وكذا ذكر العددَ ابنُ إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (1/ 47) ــ عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلًا. وهو الذي سيذكره المؤلف لاحقًا (ص 222).

(2)

«والله أعلم» من م، ق، ب. وليس في سائر الأصول.

(3)

في «صحيحه» (المغازي، باب حديث بني النضير) معلًّقًا عن الزهري عن عروة. ووصله عبد الرزاق (9732) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (10/ 3345) من طريقين عن الزهري به. وسيأتي قول المؤلف في آخر القصة: إنها كانت سنة أربع من الهجرة. قلتُ: وهو قول عامَّة أهل المغازي، وعلى ما ذكره المؤلف من سبب الغزوة يستحيل أن تكون بعد بدرٍ بستة أشهر، لأن قتل عمرو بن أُميَّة للكلابيَّين كان سنة أربع عقب وقعة بئر مَعُونة. وسينصُّ المؤلف لاحقًا (ص 291) على خطأ هذا القول.

(4)

وستأتي قصة قتله لهما (ص 288).

(5)

ز، ع:«يقضي الله» .

(6)

أي تآمروا، بقلب الهمزة واوًا، وله نظائر في هذا الكتاب وغيره من كتب المؤلف.

ص: 150

وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحا ويصعد فيُلْقِيها على رأسه يَشْدَخُه بها؟ فقال أشقاها

(1)

عمرو بن جحاش: أنا، فقال لهم سلَّام بن مِشْكَم: لا تفعلوا، فواللهِ لَيُخبَرَنَّ بما هممتم به، وإنه لنَقْضُ العهد الذي بيننا وبينه، وجاء الوحي على الفور إليه مِن ربِّه تبارك وتعالى بما همُّوا به، فنهض مسرعًا وتوجَّه إلى المدينة، ولحقه أصحابه فقالوا: نهضتَ ولم نشعر بك، فأخبرهم بما همَّت يهودُ به

(2)

.

وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: «اخرُجوا من المدينة، ولا تساكنوني بها، وقد أجَّلتُكم عشرًا، فمن وُجد بعد ذلك بها ضُرِبت عنقه» ، فأقاموا أيَّامًا يتجهَّزون، وأرسل إليهم المنافقُ عبدُ الله بن أبي أن: لا تخرجوا مِن دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حِصنكم فيموتون دونكم، وتنصركم قريظةُ وحلفاؤكم من غطفان، وطمع رئيسهم حُيَيُّ بن أخطب فيما قال له وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنعْ ما بدا لك! فكبَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه

(3)

ونهضوا إليه، وعليُّ بن أبي طالب يحمل اللواء، فلما انتهى إليهم قاموا على حصونهم يرمونه بالنبل والحجارة، واعتزلتهم قريظةُ وخانهم ابنُ أبيٍّ وحلفاؤهم من غطفان، ولهذا شبه سبحانه قصتهم وجعل

(1)

أي أشقى القبيلة. وفي المطبوع: «أشقاهم» خلافًا للأصول.

(2)

ما ذكره المؤلف من سبب غزوة بني النضير وإجلائهم هو الذي ذكره موسى بن عقبة كما في «الدلائل» (3/ 180)، وابن إسحاق عن يزيد بن رُومان مرسلًا كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 190)، والواقدي (1/ 364) عن شيوخه، وابنُ سعد في «طبقاته» (2/ 53). وروي في سببها قصة أخرى من غدرهم. انظر:«سنن أبي داود» (3004) و «فتح الباري» (7/ 331).

(3)

م، ق، ب، ث:«وكبَّر أصحابه» .

ص: 151

مثلهم {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر: 16]، فإن سورة الحشر هي سورة بني

(1)

النضير

(2)

، وفيها مبدأُ قصتهم ونهايتُها، فحاصرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقطع نخلهم

(3)

وحرَّق، فأرسلوا إليه: نحن نخرج عن المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريِّهم وأنَّ لهم ما حملت الإبل إلا السلاح، وقبض النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأموالَ والحلقةَ

(4)

.

وكانت بنو النضير خالصةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لنوائبه ومصالح المسلمين، ولم يُخمِّسها لأن الله عز وجل أفاءها عليه ولم يُوجِف المسلمون عليها بخيلٍ ولا ركاب؛ وخمَّس قريظة. قال مالك

(5)

: خمَّس رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة ولم يُخمِّس بني النضير، لأن المسلمين لم يوجفوا بخيلهم ولا ركابهم على بني النضير كما أوجفوا على قريظة.

وأجلاهم إلى خيبر، وفيهم حُيَي بن أخطب كبيرهم. وقبض السلاحَ واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم، فوجد من السلاح خمسين درعًا، وخمسين بيضةً، وثلاثمائة وأربعين سيفًا، وقال: «هؤلاء في قومهم بمنزلة بني

(1)

«هي سورة» ساقط من ق، و «بني» ساقط من ز، ث.

(2)

أخرج البخاري (4029) عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر، قال:«قل سورة النضير» .

(3)

ص، ز:«نخيلهم» ، وكذا كان في ع ثم أُصلح إلى المثبت.

(4)

سياق خبر الغزوة أشبه بما ذكره ابن سعد في «الطبقات» (2/ 53). وانظر: «سيرة ابن هشام» (2/ 190) و «مغازي الواقدي» (1/ 363).

(5)

انظر: «المدونة» (3/ 10) و «النوادر والزيادات» (3/ 361).

ص: 152

المغيرة في قريش»

(1)

.

وكانت قصتهم في ربيع الأول سنة أربع من الهجرة.

فصل

وأما قريظة فكانت

(2)

أشدَّ اليهود عداوةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأغلظَهم كفرًا، ولذلك جرى عليهم ما لم يَجرِ على إخوانهم.

وكان سببُ غزوهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا خرج إلى غزوة الخندق والقوم معه صلح، جاء حُيَي بن أخطب إلى بني قريظة في ديارهم فقال: قد جئتكم بعزِّ الدهر، جئتكم بقريشٍ على سادتها وغطفانَ على قادتها، وأنتم أهلُ الشوكة والسلاح، فهَلُمَّ حتى نناجز محمَّدًا ونفرُغ منه، فقال له رئيسهم: بل جئتني واللهِ بذُلِّ الدهر، جئتني بسحاب قد أراق ماءَه فهو يَرعُد ويَبرُق، فلم يزل يُخادِعه ويَعِده ويُمنِّيه

(3)

حتى أجابه بشرط أن يدخل معه في حصنه يصيبه ما أصابهم، ففعل ونقضوا عهدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهروا سبَّه، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فأرسل يستعلم الأمر، فوجدهم قد نقضوا العهد فكبَّر وقال:«أبشروا يا معشر المسلمين»

(4)

.

(1)

ذكره الواقدي في «مغازيه» (1/ 375) ضمن خبر الغزوة الذي أسنده عن شيوخه، ثم ذكره ابن سعد (2/ 54). والمراد ــ والله أعلم ــ أن بني النضير في الشَّرَف والمنعة كبني المغيرة في قريش.

(2)

م، ق، ب، ث، هامش ز:«فكانوا» .

(3)

م، ق، ب، ث:«ويُمنِّيه ويَعِده» .

(4)

سيأتي تخريجه في أحداث غزاة الخندق.

ص: 153

فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلم يكن إلا أن وضع سلاحَه فجاءه جبريل فقال: أوضعت السلاح؟ إن الملائكة لم تضع أسلحتها، فانهض بمن معك إلى بني قريظة، فإني سائِرٌ أمامَك أزلزل بهم حصونهم وأقذف في قلوبهم الرعب، فسار جبريل في موكبه من الملائكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على أثره في موكبه من المهاجرين والأنصار، وقال لأصحابه يومئذ:«لا يصلين أحدٌ منكم العصرَ إلا في بني قريظة»

(1)

، فبادَروا إلى امتثال أمره ونهضوا من فورهم، فأدركتهم العصرُ في الطريق، فقال بعضهم: لا نصليها إلا في بني قريظة كما أَمرَنا، فصلَّوها بعد عشاء الآخرة، وقال بعضهم: لم يُرِد منا ذلك وإنما أراد سرعة الخروج، فصلَّوها في الطريق؛ فلم يُعنِّف واحدةً من الطائفتين.

واختلف الفقهاء أيهما كان أصوب؟ فقالت طائفة: الذين أخَّروها هم المُصيبون، ولو كنَّا معهم لأخَّرناها كما أخروها، ولما صلَّيناها إلا في بني قريظة امتثالًا لأمره وتركًا للتأويل المخالف للظاهر

(2)

.

وقالت طائفة أخرى: بل الذين صلوها في الطريق في وقتها حازوا قَصَبَ السَّبْق، وكانوا أسعدَ بالفضيلتين، فإنهم بادروا إلى امتثال أمره في الخروج، وبادروا إلى مرضاته في الصلاة في وقتها، ثم بادروا إلى اللَّحاق بالقوم، فحازوا فضيلة الجهاد وفضيلة الصلاة في وقتها، وفهموا ما يُراد منهم، وكانوا أفقهَ من الآخرين، ولا سيَّما تلك الصلاة، فإنها كانت صلاة العصر، وهي

(1)

أخرجه البخاري (946) من حديث ابن عمر.

(2)

لعل المؤلف يقصد ابنَ حزم الذي قال في «جوامع السيرة» (ص 192): «وعَلِم اللهُ تعالى أننا لو كنا هناك ما صلَّينا العصر في ذلك اليوم إلا في بني قريظة ولو بعد أيَّام!» .

ص: 154

الصلاةُ الوسطى بنصِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح الذي لا مدفع له ولا مطعن فيه، ومجيءُ السنة بالمحافظة عليها والمبادرة إليها والتبكير بها، وأنَّ من فاتته فقد وُتِر أهلُه وماله أو قد حبط عمله، فالذي جاء فيها

(1)

أمر لم يجئ مثلُه في غيرها.

وأما المؤخِّرون لها فغايتهم أنهم معذورون، بل مأجورون أجرًا واحدًا لتمسُّكهم بظاهر النص وقصدِهم امتثالَ الأمر. وأما أن يكون هم المصيبون

(2)

في نفس الأمر، ومن بادر إلى الصلاة وإلى الجهاد مخطئًا، فحاشا وكلّا! فالذين صلَّوا في الطريق جمعوا بين الأدلة وحصَّلوا الفضيلتين، فلهم أجران، والآخرون مأجورون أيضًا رضي الله عنهم.

فإن قيل: كان تأخير الصلاة للجهاد حينئذ جائزًا مشروعًا، ولهذا كان عقبَ تأخير النبي صلى الله عليه وسلم العصر يوم الخندق إلى الليل، فتأخيرهم صلاةَ العصر إلى الليل كتأخيره صلى الله عليه وسلم لها يوم الخندق إلى الليل سواء، ولا سيما فإن

(3)

ذلك كان قبل شَرْع

(4)

صلاة الخوف.

قيل: هذا سؤال قوي، وجوابه من وجهين:

أحدهما: أن يقال: لم يثبت أن تأخير الصلاة عن وقتها كان جائزًا بعد بيان المواقيت، ولا دليل على ذلك إلا قصة الخندق، فإنها هي التي استدل

(1)

«فالذي جاء فيها» ساقط من ج، ن، الطبعة الهندية.

(2)

ق، ص، ز، ث:«المصيبين» ، وأُصلح في المطبوع إلى:«أن يكونوا هم المصيبين» .

(3)

كذا في الأصول، والجادّة:«أن» كما في المطبوع.

(4)

ن، المطبوع:«شروع» ، تصحيف.

ص: 155

بها من قال ذلك؛ ولا حجَّةَ فيها، لأنه ليس فيها بيان أن التأخير من النبي صلى الله عليه وسلم كان عن عمدٍ، بل لعله كان نسيانًا، وفي القصة ما يشعر بذلك، فإن عمر لما قال له: يا رسول الله! ما كدتُ أصلي العصرَ حتى كادت الشمس تغرب، قال:«والله ما صَلَّيتُها» ثم قام فصلَّاها

(1)

. وهذا مُشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ناسيًا بما هو فيه من الشغل والاهتمامِ بأمر العدو المحيط به، وعلى هذا يكون قد أخَّرها بعُذر النسيان كما أخَّرها بعذر النوم في سفره، وصلَّاها بعد استيقاظه وبعد ذكره لتتأسَّى أمته به.

الجواب الثاني: أن هذا على تقدير ثبوته إنما هو في حال الخوف أو المسايفة عند الدَّهش عن تعقُّل أفعالِ الصلاة والإتيان بها، والصحابة في مسيرهم إلى بني قريظة لم يكونوا كذلك. بل كان أكثرُ

(2)

أسفارِهم إلى العدوِّ قبل ذلك وبعده، ومعلوم أنهم لم يكونوا يؤخِّرون الصلاة عن وقتها؛ ولم تكن قريظة ممن يُخاف فوتُهم، فإنهم كانوا مقيمين بدارهم.

فهذا منتهى أقدام الفريقين في هذا الموضع.

فصل

وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية عليَّ بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أمِّ مكتوم، ونازل حصون بني قريظة وحصرهم خمسًا وعشرين ليلةً، ولما اشتدَّ بهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعبُ بن أسدٍ ثلاث خصال: إما أن يُسْلموا ويدخلوا مع محمد في دينه، وإما أن يقتلوا ذراريَّهم

(1)

أخرجه البخاري (596) ومسلم (631) من حديث جابر.

(2)

ج: «كان حكمهم» . ن، النسخ المطبوعة:«كان حكمهم حكم» . كلاهما خطأ.

ص: 156

ويخرجوا إليه بالسيوف مُصْلِتين يناجزونه حتى يظفروا أو يُقْتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويَكبِسوهم يومَ السبت لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه، فأبوا عليه أن يجيبوه إلى واحدةٍ منهن، فبعثوا إليه أن أرسِلْ إلينا أبا لُبابة بن عبد المنذر نستشيره، فلما رأوه قاموا في وجهه يبكون وقالوا: يا أبا لبابة كيف ترى لنا أن ننزل على حكم محمد؟ فقال: نعم وأشار بيده إلى حَلْقه، يعني أنه الذبح، ثم علم من فوره أنه قد خان الله ورسوله، فمضى على وجهه ــ ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ حتى أتى المسجد مسجد المدينة، فربط نفسه بسارية المسجد وحلف أن لا يحله إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدًا. فلما بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال:«دعوه حتى يتوب الله عليه» ، ثم تاب اللهُ عليه، وحلَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده

(1)

.

ثم إنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه الأوسُ فقالوا: يا

(1)

سياق المؤلف مختصر من رواية ابن إسحاق عن أبيه عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري مرسلًا. أخرجها ابن هشام (2/ 234 - 237) والبيهقي في «الدلائل» (4/ 15). وقصة أبي لُبابة ذكرها أيضًا موسى بن عقبة ــ كما في «الدلائل» (4/ 13) ــ بنحوه. وله شاهد من حديث عائشة عند أحمد (25097) بإسناد ضعيف، وأخرى من مراسيل عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري، ومجاهد، والزهري، وقتادة. انظر:«تفسير الطبري» (11/ 121، 122، 656؛ 19/ 72) و «تفسير ابن أبي حاتم» (5/ 1684، 6/ 1873) .. هذا، وقد زعم سعيد بن المسيّب والزهري وغيرهما: أن أبا لبابة لم يربط نفسه بالسارية حينئذ، بل بعد ذلك لمَّا تخلَّف عن غزوة تبوك، وفي بعض الروايات عن ابن عبَّاس ما يؤيِّد ذلك. انظر:«تفسير الطبري» (11/ 651 - 658) و «دلائل النبوة» (5/ 270 - 272) و «الاستيعاب» (4/ 1741).

ص: 157

رسول الله، قد فعلتَ في بني قينقاع ما قد علمتَ وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا فأحسِنْ فيهم، فقال:«ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟» قالوا: بلى، قال:«فذلك إلى سعد بن معاذ» ، قالوا: قد رضينا، فأرسل إلى سعد بن معاذ وكان في المدينة لم يخرج معهم لجرح كان به، فأُركب حمارًا وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يقولون له وهم كنفتَيه

(1)

: يا سعدُ، أجمِل في مواليك وأحسِنْ فيهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكَّمك فيهم لتُحسن فيهم، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئًا، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعى إليهم القومَ، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة:«قوموا إلى سيدكم» ، فلما أنزلوه قال

(2)

: «يا سعد، إن هؤلاء القوم قد نزلوا على حكمك» ، فقال: وحكمي نافذ عليهم؟ قالوا

(3)

: نعم، قال: وعلى المسلمين؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من هاهنا ــ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالًا له وتعظيمًا ــ؟ فقال: «نعم، وعليَّ» .

فقال: فإني أحكم فيهم أن يُقتل الرجال وتُسبى الذريَّة وتُقسم الأموال، فقال رسول الله

(1)

ج، ن، الطبعة الهندية:«كنفَيه» . وفي طبعة الرسالة: «كنفتاه» ، والوجه النصب على الظرفية كما في الأصول، أي بجانبيه، يمينَه وشمالَه. وانظر ورود مثلِه في حديثٍ عند مسلم (2957) وأبي داود (186).

(2)

كذا في عامّة الأصول، وكذلك في «الصحيحين» ، أي أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم. وفي ث، ن، النسخ المطبوعة:«قالوا» ، أي الصحابة، وهو مقتضى السياق الآتي بعدُ.

(3)

ص، ع:«قال» ، وكذا في الموضع الآتي. والمثبت من سائر الأصول هو الموافق للرواية عند ابن إسحاق والواقدي.

ص: 158

- صلى الله عليه وسلم: «لقد حكمت فيهم بحكم الله مِن فوق سبع سماواتٍ»

(1)

.

وأسلم منهم تلك الليلة نفرٌ قبلَ النزول، وهرب عمرو بن سُعدى

(2)

فانطلق فلم يُعلم أين ذهب، وكان قد أبى الدخول معهم في نقض العهد.

فلما حكم فيهم بذلك، أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من جرت عليه المواسي منهم، ومن لم يُنبت أُلحق بالذريَّة؛ فحُفِر لهم خنادق في سوق المدينة وضُربت أعناقهم، وكانوا ما بين الستمِائة إلى السبعمِائة.

ولم يُقتل من النساء أحدٌ سوى امرأة واحدة كانت طرحت على رأس سُويد بن الصامت

(3)

رحًى فقتلته.

وجعل يذهب بهم إلى الخنادق أرسالًا أرسالًا فقالوا لرئيسهم كعب بن أسد: يا كعب، ما تراه يصنع بنا؟ فقال: أفي كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع والذاهب منكم لا يرجع؟ هو واللهِ القتل.

قال مالك في رواية ابن القاسم

(4)

: قال عبد الله بن أُبيٍّ لسعد بن معاذ في أمرهم: إنهم أحد جناحيَّ ــ وهم ثلاثمائة دارعٍ وستمائة حاسرٍ ــ، فقال: قد آن لسعدٍ أن لا تأخذه في الله لومة لائم.

(1)

لفظ هذا الحديث أشبه بلفظ مرسل علقمة بن وقاص الليثي عند ابن إسحاق، وسيأتي تخريجه. وهو عند البخاري (3043) ومسلم (1768) من حديث أبي سعيد بلفظ:«لقد حكمت فيهم بحكم الملك» .

(2)

ص، ز، ج، ن، المطبوع:«بن سعد» ، خطأ.

(3)

كذا في جميع الأصول، وهو وهمٌ أو سبق قلم، والصواب:«خلَّاد بن سويد بن ثعلبة» ، وأما سويد بن الصامت فقُتل قبل وقعة بُعاث ولم يثبت إسلامه. انظر:«سيرة ابن هشام» (2/ 242، 254) و «طبقات ابن سعد» (4/ 312، 491) و «دلائل النبوة» (2/ 419).

(4)

كما في «البيان والتحصيل» (17/ 500) نقلًا عن «المستخرجة» للعُتبي.

ص: 159

ولمّا جيء بحُيَي بن أخطب إلى بين يديه

(1)

ووقع بصره عليه قال: أما والله ما لمتُ نفسي في معاداتك، ولكن من يغالب الله يُغلَب، ثم قال: أيها الناس، لا بأس قَدَرُ الله وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضُرِبت عنقه.

واستوهب ثابتُ بن قيسٍ الزَّبِيرَ بن باطا وأهله وماله، فوهبهم له، فقال له ثابت: قد وهبك رسول الله صلى الله عليه وسلم لي، ووهب لي مالَك وأهلَك فهم لك، فقال له: سألتك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالأحبَّة، فضَرَب

(2)

عنقه وألحقه بأحبَّته من اليهود

(3)

.

فهذا كله

(4)

في يهود المدينة، وكانت غزوة كل طائفة منهم عَقِيبَ غزوةٍ من الغزوات الكبار، فغزوة بني قينقاع عَقِيبَ بدر، وغزوة بني النضير عقيب أُحُد، وغزوة بني قريظة عقيب الخندق.

وأما يهود خيبر فسيأتي ذكر قصتهم إن شاء الله تعالى.

فصل

وكان هديه أنه إذا صالح قومًا، فنقض بعضُهم عهدَه وصُلْحَه، وأقرهم الباقون ورَضُوا به= غزا الجميعَ وجعلهم كلَّهم ناقضين، كما فعل بقريظة والنضير وبني قينقاع، وكما فعل بأهل مكة. فهذه سنته في أهل العهد، وعلى

(1)

أي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

م، ق، ب، ث:«فضُربت» .

(3)

خبر نزول قريظة على حكم النبي صلى الله عليه وسلم ذكره ابن إسحاق ــ كما في ابن هشام (2/ 239 - 242) و «تفسير الطبري» (19/ 74 - 79) ــ مطولًا بنحوه، بعضه من مرسل معبد بن كعب ابن مالك وبعضه من مرسل علقمة بن وقاص، وقصة ثابت الأخيرة عنده من مرسل الزهري. والخبر ذكره أيضًا الواقدي (2/ 510 - 520) عن شيوخه مطولًا بنحوه.

(4)

م، ق، ب، ث:«حكمه» .

ص: 160

هذا ينبغي أن يُجرى أهلُ الذمة كما صرح به الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد وغيرِهم.

وخالفهم أصحاب الشافعي فخصُّوا نقضَ العهد بمن نقضه خاصةً دون من رضي به وأقرَّ عليه، وفرَّقوا بينهما

(1)

بأن عقد الذمة أقوى وآكد، ولهذا كان موضوعًا على التأبيد بخلاف عقد الهدنة والصلح.

والأولون يقولون: لا فرق بينهما، وعقدُ الذمة لم يوضع للتأبيد، بل بشرط استمرارهم ودوامهم على التزام ما فيه، فهو كعقد الصلح الذي وُضع للهدنة بشرط التزامهم أحكام ما وقع عليه العقد.

قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوقِّت عقدَ الصلح والهدنة بينه وبين اليهود لمَّا قَدِم المدينة، بل أطلقه ما داموا كافِّين عنه غيرَ محاربين له، فكانت تلك ذمَّتَهم غيرَ أن الجزية لم يكن نزل فرضُها بعدُ، فلما نزل فرضها ازداد ذلك إلى الشروط المشترطة في العقد، ولم يتغيَّر

(2)

حكمُه وصار مقتضاه التأبيد؛ فإذا نقض بعضهم العهد، وأقرَّهم الباقون ورضوا بذلك، ولم يُعْلِموا به المسلمين صاروا في ذلك كنقض أهل العهد، فأهل العهد والصلح سواءٌ في هذا المعنى، ولا فرق بينهما فيه وإن افترقا من وجه آخر.

يوضح هذا: أن المُقرَّ والراضيَ الساكت إن كان باقيًا على عهده وصلحه لم يَجُز قتاله ولا قتله

(3)

في الموضعين، وإن كان بذلك خارجًا عن عهده

(1)

أي بين المُصالحين وبين أهل الذمة. وفي ز، ع:«بينهم» .

(2)

ص، ج، ن:«يغير» .

(3)

«ولا قتله» سقط من ص، ز، ع. ثم استُدرك في ز، ع بخط مغاير.

ص: 161

وصلحه راجعًا إلى حاله الأولى قبل العهد والصلح لم يفترق الحال بين عقد الهُدنة وعقد الذمة في ذلك، فكيف يكون عائدًا إلى حاله في موضع دون موضع؟! هذا أمر غير معقول.

يوضِّحه: أن تجدُّدَ أخذِ الجزية منه لا

(1)

يوجب له أن يكون مُوفيًا بعهده مع رضاه وممالأتِه ومواطأتِه لمن نقض، وعدمَ الجزية يوجب له أن يكون ناقضًا غادرًا غير مُوفٍ بعهده= هذا بين الامتناع.

فالأقوال ثلاثة: النقض في الصورتين وهو الذي دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفار، وعدمُ النقض في الصورتين وهو أبعد الأقوال عن السنة، والتفريقُ بين الصورتين؛ والأول

(2)

أصوبها. وبالله التوفيق.

وبهذا القول أفتينا وليَّ الأمر لما أحرق النصارى أموالَ المسلمين بالشام ودُورَهم، وراموا حَرْقَ جامعهم الأعظم حتى أحرقوا منارته، وكاد ــ لولا دفاع الله ــ أن يحترقَ كلُّه

(3)

، وعلم بذلك من علم من النصارى وواطأوا عليه وأقرُّوه ورضُوا به ولم يُعْلِموا به ولي الأمر، فاستفتى فيهم وليُّ الأمر من حضره من الفقهاء، وأفتيناه بانتقاض عهد من فعل ذلك أو أعان عليه بوجهٍ من الوجوه أو رضي به وأقر عليه، وأن حدَّه القتلُ حتمًا، ولا يُخيَّر الإمام فيه كالأسير، بل صار القتل له حدًّا، والإسلامُ لا يُسقط القتلَ إذا كان حدًّا ممن هو تحت الذمة ملتزمًا لأحكام الملّة

(4)

؛ بخلاف الحربي إذا أسلم، فإن

(1)

كذا في جميع الأصول، والمعنى يستقيم بحذف «لا» ، لأنه ليس تقريرًا للمسألة بل توضيح لقول الخصم، وقد أبطله في آخره بقوله:«هذا بين الامتناع» .

(2)

أي القول الأول. وفي م، ق، ب، المطبوع:«والأولى» ، خطأ.

(3)

وذلك في سنة 740. انظر: «البداية والنهاية» (18/ 414).

(4)

ع: «الأمّة» . المطبوع: «لأحكام الله» .

ص: 162

الإسلام يَعْصِم دمه وماله

(1)

، ولا يُقتل بما فعله قبل الإسلام، فهذا له حكم والذميُّ الناقضُ العهدِ إذا أسلم له حكم آخر.

وهذا الذي ذكرناه هو

(2)

الذي تقتضيه نصوص الإمام أحمد وأصوله، ونصَّ عليه شيخُ الإسلام ابن تيمية ــ قدَّس الله روحَه

(3)

ــ وأفتى به في غير موضع

(4)

.

فصل

وكان هديه وسنته أنه إذا صالح قومًا وعاهدهم

(5)

فانضاف إليهم عدو له سواهم فدخلوا معهم في عقدهم، وانضاف إليه قوم آخرون فدخلوا معه في عقده= صار حكمُ من حارب من دخل معه في عقده من الكفار حكمَ من حاربه.

وبهذا السبب غزا أهلَ مكة، فإنه لما صالحهم على وضع الحرب بينه وبينهم عشرَ سنين تواثَبَتْ بنو بكر بن وائل فدخلت في عهد قريش وعقدِها، وتواثبت خزاعةُ فدخلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده، ثم عَدَتْ بنو بكرٍ على خزاعةَ فبيَّتَتْهم وقتلت منهم، وأعانتهم قريش في الباطن بالسلاح، فعَدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا ناقضين للعهد بذلك واستجاز غزوَ بني بكر بن وائل لتعدِّيهم على حلفائه، وسيأتي ذكر القصة إن شاء الله تعالى.

(1)

م، ق:«ذمة ماله» ، تصحيف.

(2)

«الذي ذكرنا هو» سقط من م، ق، ب.

(3)

«ابن تيمية قدس الله روحه» ليس في م، ق، ب، ث.

(4)

انظر: «الصارم المسلول» (2/ 488 - 510) و «الاختيارات» للبعلي (ص 461).

(5)

ص: «أو عاهدهم» .

ص: 163

وبهذا أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

بغزو نصارى المشرق

(2)

لما أعانوا عدوَّ المسلمين على قتالهم وأمدوهم بالمال والسلاح وإن كانوا لم يغزونا ولم يحاربونا، ورآهم بذلك ناقضين للعهد، كما نقضت قريش عهد النبي صلى الله عليه وسلم بإعانتهم بني

(3)

بكر بن وائل على حرب حلفائه، فكيف إذا أعان أهلُ الذمة المشركين على حرب المسلمين؟!

فصل

وكانت تَقْدَم

(4)

عليه رسلُ أعدائه وهم على عداوته فلا يهيجهم ولا يقتلهم. ولما قدم

(5)

عليه رسولا مسيلمةَ الكذاب ــ وهما: عبد الله بن النواحة، وابن أثال ــ قال لهما:«فما تقولان أنتما؟» قالا: نقول كما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«واللهِ لولا أن الرسل لا تُقتل لضربتُ أعناقكما»

(6)

، فجرت سنته أن لا يُقتل رسول.

وكان هديه أيضًا أن لا يحبسَ الرسولَ عنده إذا اختار دينه ويمنعَه

(7)

من اللَّحاق بقومه، بل يردُّه إليهم كما قال أبو رافع: بعثتني قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم،

(1)

«ابن تيمية» ليس في م، ق، ب، ث.

(2)

ز، ع:«الشرق» .

(3)

«بني» من ص، ج. وليس في سائر الأصول.

(4)

ص، ز، ع:«كان يقدَم» .

(5)

ص، ز، ج، ن:«قدما»

(6)

حديث صحيح، سيأتي تخريجه (ص 770).

(7)

كذا في الأصول عطفًا على «يحبس» . وفي ج زيدت «لا» فوق السطر بين واو العطف و «يمنعه» . وفي المطبوع: «فلا يمنعه» .

ص: 164

فلمَّا أتيتُه وقع في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله، لا أرجع إليهم، قال:«إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البُرُد، ارجِعْ إليهم، فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجِعْ»

(1)

.

قال أبو داود: كان هذا في المدة التي شرط لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يردَّ إليهم مَن جاءَه منهم وإن كان مسلمًا، وأما اليوم فلا يصلح هذا. انتهى.

وفي قوله: «لا أحبس البُرُد» إشعار بأنَّ هذا حكم يختصُّ بالرسل مطلقًا، وأما ردُّه مَن جاء إليه منهم وإن كان مسلمًا، فهذا إنما يكون مع الشرط كما قال أبو داود، وأما الرسل فلهم حكم آخر، ألا تراه لم يتعرض لرسولَي مسيلمة وقد قالا له في وجهه: نشهد أن مسيلمة رسول الله.

وكان من هديه أن أعداءه إذا عاهدوا واحدًا من أصحابه على عهدٍ لا يضرُّ بالمسلمين بغير رضاه أمضاه لهم، كما عاهدوا حذيفةَ وأباه أن لا يقاتلاهم

(2)

معه صلى الله عليه وسلم، فأمضى لهم ذلك وقال لهما:«انصرفا، نَفِي لهم بعهدهم ونستعين اللهَ عليهم»

(3)

.

فصل

وصالح قريشًا على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين على أن من جاءه منهم مسلمًا ردَّه إليهم، ومن جاءهم

(4)

من عنده لا يردُّونه إليه، وكان

(1)

أخرجه أبو داود (2758) والنسائي في «الكبرى» (8621) وابن حبان (4877) والحاكم (3/ 598) بإسناد صحيح.

(2)

ص، ز، ج:«يقاتلانهم» . ق: «أن لا يقاتلا وهُم» .

(3)

أخرجه مسلم (1787) من حديث حذيفة.

(4)

م، ق، ب، ث:«جاء» دون ضمير النصب.

ص: 165

اللفظ عامًّا في الرجال والنساء، فنسخ الله ذلك في حقِّ النساء وأبقاه في حق الرجال

(1)

، وأمر نبيَّه والمؤمنين أن يمتحنوا من جاءهم من النساء، فإن علموها مؤمنةً لم يردُّوها إلى الكفار، وأمرهم بردِّ مهرها إليهم لما فات على زوجها من منفعة بُضْعها، وأمر المسلمين أن يردُّوا على من ارتدت امرأتُه إليهم مهرَها إذا عاقبوا، بأن يجبَ عليهم ردُّ مهر المهاجرة فيردُّوه إلى من ارتدت امرأته، ولا يردُّونه

(2)

إلى زوجها؛ فهذا هو العقاب، وليس من العذاب في شيء

(3)

.

وكان في هذا دليل على أن خروج البضع من ملك الزوج متقوَّم، وأنه متقوَّم بالمسمى الذي هو ما أنفق الزوج لا بمهر المثل، وأن أنكحة الكفار لها حكم الصحة لا يُحكم عليها بالبطلان، وأنه لا يجوز ردُّ المسلمة المهاجرة إلى الكفار ولو شُرِط ذلك، وأن المسلمة لا يحل لها نكاحُ الكافر وأن المسلم له أن يتزوج المرأة المهاجرة إذا انقضت عدَّتُها وآتاها مهرها، وفي هذا أبين دلالة على خروج بضعها من ملك الزوج وانفساخِ نكاحها منه

ص: 166

بالهجرة والإسلام.

وفيه دليل على تحريم نكاح المشركة على المسلم، كما حُرِّم نكاحُ المسلمة على الكافر.

وهذه أحكام استفيدت من هذه الآية

(1)

، وبعضُها مجمع عليه وبعضها مختلف فيه، وليس مع من ادعى نسخَها حجة البتة، فإن الشرط الذي وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار مِن ردِّ من جاءه مسلمًا إليهم إن كان مختصًّا بالرجال لم تدخل النساء فيه، وإن كان عامًّا للرجال والنساء، فالله سبحانه خصَّصَ منه ردَّ النساء ونهاهم عن ردِّهن، وأمرهم بردِّ مُهورهن، وأن يردُّوا منها على من ارتدَّت امرأتُه إليهم من المسلمين المهرَ الذي أعطاها ثم أخبر أن ذلك حكمُه الذي يحكم به بين عباده، وأنه صادر عن علمه وحكمته

(2)

، ولم يأت عنه ما ينافي هذا الحكم ويكون بعده حتى يكون ناسخًا له.

ولمَّا صالحهم على ردِّ الرجال كان صلى الله عليه وسلم يُمكِّنهم أن يأخذوا مَن أتى إليه منهم، ولا يُكرهه على العَود ولا يأمره به. وكان إذا قتل منهم أو أخذ مالًا، وقد فصل عن يده ولمَّا يَلحقْ بهم، لم ينكر عليه ذلك ولم يَضْمنه لهم، لأنه ليس تحت قهره ولا في قبضته ولا أمره بذلك، ولم يَقتضِ عقدُ الصلح الأمانَ على النفوس والأموال إلا ممَّن هو تحت قهره وفي قبضته، كما ضَمِن لبني جُذَيمة ما أتلفه عليهم خالد من نفوسهم وأموالهم، وأنكره وتبرَّأ منه. ولمّا

(1)

كذا في الأصول، والوجه ــ كما في المطبوع ــ:«من هاتين الآيتين» ، وهما العاشرة والحادية عشرة من سورة الممتحنة.

(2)

ص، ز، ج، ن:«علم وحكمة» .

ص: 167

كان خالد إنما قتلهم متأوِّلًا، وكان غزوهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

، ضَمِنهم بنصف دياتهم لأجل التأويل والشبهة، وأجراهم في ذلك مجرى أهل الكتاب الذين قد عصموا نفوسهم وأموالهم بعقد الذمة ولم يدخلوا في الإسلام.

ولم يقتض عقدُ الصلح أن ينصرهم على من حاربهم ممن ليس في قبضة النبي صلى الله عليه وسلم وتحت قهره، فكان في هذا دليل على أن المعاهدين إذا غزاهم قوم ليسوا تحت قهر الإمام وفي يده وإن كانوا من المسلمين= أنه لا يجب على الإمام ردُّهم عنهم، ولا منعهم من ذلك، ولا ضمان ما أتلفوه عليهم.

وأخذ الأحكام المتعلقة بالحرب ومصالحِ الإسلام وأهله وأمورِ السياسات الشرعية من سِيَره ومغازيه أولى من أخذها من آراء الرجال؛ فهذا لون، وتلك لون، وبالله تعالى التوفيق.

فصل

وكذلك صالح أهل خيبر لمّا ظهر عليهم على أن يُجليهم منها، ولهم ما حملت ركابُهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراءُ والبيضاءُ والحَلَقةُ وهي السلاح.

واشترط في عقد الصلح أن لا يكتموا ولا يُغيِّبوا شيئًا، فإن فعلوا فلا ذمةَ لهم ولا عهد، فغيَّبوا مَسْكًا فيه مال وحلي لحُيَي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمِّ حيي بن أخطب ــ واسمه سَعْية ــ:«ما فعل مَسْك حُيَي الذي جاء به من النضير؟» ، فقال:

(1)

ج، ن، المطبوع:«ولما كان إصابته لهم عن نوع شبهة إذ لم يقولوا: أسلمنا وإنما قالوا: صبأنا فلم يكن إسلامًا صريحًا» . وكذا كان في ص ثم ضرب عليه الناسخ وكتب المثبت في الهامش مصححًا عليه.

ص: 168

أذهبته النفقات والحروب، فقال:«العهد قريب، والمال أكثر من ذلك» ، وقد كان حُيَيٌّ قُتل مع بني قريظة لما دخل معهم، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمَّه

(1)

إلى الزبير ليستقرَّه

(2)

، فمسَّه بعذاب، فقال: قد رأيتُ حُيَيًّا يطوف في خِربةٍ هاهنا، فذهبوا فطافوا فوجدوا المَسْك في الخربة

(3)

.

فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنَي أبي الحقيق، أحدُهما زوجُ صفية بنتِ حُيَيِّ بنِ أخطب، وسبى نساءهم وذراريَّهم، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا، وأراد أن يجليهم من خيبر فقالوا: دَعْنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم؛ ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غِلمان يكفونهم مُؤنتها، فدفعها إليهم على أنَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم الشطرَ من كل شيءٍ يخرج منها من ثمرٍ أو زرع ولهم الشطر، وعلى أن يُقرَّهم فيها ما شاء.

ولم يَعُمَّهم بالقتل كما عمَّ قريظةَ لاشتراك أولئك في نقض العهد. وأما هؤلاء، فالذين عَلِموا بالمَسْك وغيَّبوه وشرطوا له أنه إن ظهر فلا ذمةَ لهم ولا عهد، قَتَلهم بشرطهم على أنفسهم، ولم يتعدَّ ذلك إلى سائر أهل خيبر، فإنه معلوم قطعًا أن جميعهم لم يعلموا بمسك حُيَيٍّ وأنه مدفون في خِربة، فهذا نظير الذمي أو المعاهد إذا نقض العهدَ ولم يمالئه عليه غيرُه، فإن حكم

(1)

«عمَّه» سقط من م، ق، ب، ث.

(2)

م، ق، ب، ث:«يستقرُّه» دون اللام. والمعنى: ليسأله الإقرار وليجعله يُقرّ. ولم أجده في المعاجم بهذا المعنى، وقد استعمله المؤلف أيضًا في «الطرق الحكمية» (1/ 107)، وابنُ كثير في «البداية والنهاية» (14/ 260، 312). وانظر: «تكملة المعاجم» لدُوزي (8/ 207).

(3)

سيأتي الخبر (ص 388) مطوَّلًا في «فصل في غزوة خيبر» ، وثَمَّ تخريجه.

ص: 169

النقض يختصُّ به.

ثم في دَفْعِه إليهم الأرضَ على النصفِ دليلٌ ظاهر على جواز المساقاة والمزارعة، وكونُ الشجر نخلًا لا أثر له البتة، فحكم الشيء حكمُ نظيره؛ فبلدٌ شجرُهم الأعنابُ والتينُ وغيرُهما من الثمار في الحاجة إلى ذلك حكمُه حكمُ بلدٍ شجرُهم النخلُ سواءً ولا فرق.

وفي ذلك دليل على أنه لا يُشترط كونُ البذر من رب الأرض، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالحهم على الشطر ولم يعطهم بذرًا البتة، ولا كان يرسل إليهم ببذر؛ وهذا مقطوع به من سيرته، حتى قال بعض أهل العلم: إنه لو قيل باشتراط كونه من العامل لكان أقوى من القول باشتراط كونه من رب الأرض، لموافقته لسنَّة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في أهل خيبر.

والصحيح أنه يجوز أن يكون من العامل وأن يكون من رب الأرض، ولا يُشترط أن يختصَّ به أحدُهما، والذين شرطوه

(1)

من رب الأرض ليس معهم حجة أصلًا أكثرَ من قياسهم المزارعةَ

(2)

على المضاربة، قالوا: فكما يُشترط

(3)

في المضاربة أن يكون رأسُ المال من المالك والعملُ من المضارب، فهكذا في المزارعة، وكذلك المساقاة يكون

(4)

الشجر من أحدهما والعمل عليها من الآخر. وهذا القياس إلى أن يكون حجةً عليهم أقربُ منه أن يكون حجةً لهم، فإن في المضاربة يعود رأس المال إلى المالك

(1)

ص، ز، ع:«اشترطوه» .

(2)

م، ق، ب، ث:«للمزارعة» .

(3)

م، ق، ب، ث:«شُرط» ، وفي الأوليين يحتمل:«يُشرَط» .

(4)

ق: «ويكون» .

ص: 170

ويقتسمان الباقي، ولو شُرِط

(1)

ذلك في المزارعة فسدت عندهم، فلم يُجْرُوا البذرَ مجرى رأسِ المال، بل أجروه مجرى سائر المُغَلِّ

(2)

، فبَطَل إلحاقُ المزارعة بالمضاربة على أصلهم.

وأيضًا: فإن البذر جارٍ مجرى الماء ومجرى المنافع، فإن الزرع لا يتكوَّن وينمو به وحدَه، بل لا بد من السَّقْيِ والعملِ، والبذرُ يموت في الأرض وينشئ اللهُ

(3)

الزرعَ من أجزاءٍ أُخَرَ تكون معه من الماء والريح والشمس والتراب والعمل، فحكم البذر حكم هذه الأجزاء.

وأيضًا: فإن الأرض نظيرُ رأس المال في القِراض

(4)

، وقد دفعها مالكُها إلى المزارع، وبذرُها وحرثها وسقيها نظيرُ عملِ المضارب؛ وهذا يقتضي أن يكون المُزارع أولى بالبذر من رب الأرض تشبيهًا له بالمضارب، فالذي جاءت به السنة هو الصواب الموافق لقياس الشرع وأصولِه.

وفي القصة دليل على جواز عقد الهدنة مطلقًا من غير توقيتٍ بل ما شاء الإمام، ولم يجئ بعد ذلك ما ينسخ هذا الحكم البتة، فالصوابُ جوازه وصحته، وقد نص عليه الشافعيُّ في رواية المُزَني

(5)

، ونصَّ عليه غيرُه من الأئمة؛ ولكن لا يَنهض إليهم ويحاربهم حتى يُعْلِمَهم على سواءٍ ليستووا هم وهو في العلم بنقض العهد.

(1)

م، ق، ب:«شَرَطا» .

(2)

أي الغَلَّة. وفي المطبوع: «البقل» ، تحريف.

(3)

لفظ الجلالة ليس في ص، ع. واستُدرك في هامش ز بخط مغاير.

(4)

القراض بلغة أهل الحجاز هو المضاربة.

(5)

انظر: «مختصر المزني» مع شرحه «الحاوي الكبير» للماوردي (14/ 352).

ص: 171

وفيها دليل على جواز تقرير

(1)

المُتَّهَم بالعقوبة، وأن ذلك من السياسة الشرعية، فإن الله سبحانه كان قادرًا على أن يَدُلَّ رسولَه صلى الله عليه وسلم على موضع الكنز بطريق الوحي، ولكن أراد أن يسنَّ للأمة عقوبةَ المتَّهمين ويوسِّعَ لهم طرقَ الأحكام رحمةً بهم وتيسيرًا لهم.

وفيها دليل على الأخذ بالقرائن في الاستدلال على صحة الدعوى وفسادها، لقوله صلى الله عليه وسلم لسَعْية لمَّا ادعى نفاد المال:«العهد قريب، والمال أكثر من ذلك» .

وكذلك فعل نبيُّ الله سليمان بن داود في استدلاله بالقرينة على تعيين أمِّ الطفل الذي ذهب به الذئب، وادَّعت كلُّ واحدةٍ من المرأتين أنه ابنها

(2)

واختصما

(3)

في الآخَر، فقضى به داودُ للكبرى، فخرجتا على سليمان فقال: بِمَ قضى بينكما نبيُّ الله؟ فأخبرتاه، فقال: ايتُوني بالسكين أشقُّه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمُك

(4)

الله، هو ابنها؛ فقضى به لها

(5)

؛ فاستدل بقرينة الرحمة والرأفة التي في قلبها، وعدمِ سماحتها بقتله، وسماحة الأخرى بذلك لتصير أسوتها في فَقْد الولد= على أنه ابن الصغرى.

(1)

في النسخ المطبوعة: «تعزير» ، خطأ مخالف للأصول، والمراد: جواز استخراج الإقرار من المتّهم بالعقوبة. وانظر مثل هذه العبارة أيضًا في «بدائع الفوائد» (3/ 1037) و «الطرق الحكمية» (1/ 14).

(2)

كذا في الأصول، والمعنى أن الذي بقي ابنها.

(3)

كذا في الأصول، والوجه:«اختصمتا» .

(4)

ص، ج، ن:«رحمك» ، والمثبت لفظ «الصحيحين» .

(5)

م، ق، ب، ث:«للصغرى» . والقصة في البخاري (3427، 6769) ومسلم (1720) من حديث أبي هريرة مرفوعًا.

ص: 172

فلو اتفقت مثلُ هذه القضية

(1)

في شريعتنا، فقال أصحاب أحمد والشافعي ومالك: عُمِل

(2)

فيها بالقافة، وجعلوا القافةَ سببًا لترجيح المدعي للنسب رجلًا كان أو امرأةً. قال أصحابنا: وكذلك لو وَلَدتْ مسلمة وكافرة ولدَين وادعت الكافرةُ ولدَ المسلمة؛ وقد سئل عنها أحمد فتوقف فيها، فقيل له: ترى القافة؟ فقال: ما أحسنَه

(3)

!

فإن لم توجد قافة وحكم بينهما حاكم بمثل حكمِ سليمانَ لكان صوابًا وكان أولى من القرعة، فإن القرعة إنما يُصار إليها إذا تساوى المدَّعيان من كل وجهٍ ولم يَرْجَحْ أحدُهما على الآخر؛ فلو ترجَّح بيدٍ، أو شاهدٍ واحد، أو قرينةٍ ظاهرة من لوث، أو نكولِ خصمه عن اليمين، أو موافقةِ شاهد الحال لصدقه، كدعوى كلِّ واحد من الزوجين ما يصلح له من قماش البيت وآلاته

(4)

، ودعوى كلِّ واحد من الصانِعَين آلاتِ صَنعته، ودعوى حاسر الرأس عن العمامة عمامةَ من بيده عمامةٌ وهو يشتدُّ عَدْوًا وعلى رأسه أخرى، ونظائر ذلك= قُدِّم ذلك كلُّه على القرعة.

ومن تراجم أبي عبد الرحمن النسائي على قصة سليمان هذه: «باب الحاكم يوهم خلاف الحق ليستعلم به الحق»

(5)

. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقصَّ علينا هذه القصة

(1)

ص، ز، ج، ن:«القصّة» .

(2)

م، ق، ب، ث:«يُحكَم» .

(3)

م، ق، ب، ث:«أحسنها» ، والمثبت موافق للفظ «المغني» (8/ 381).

(4)

ص، ز، ن:«والآنية» .

(5)

الظاهر أن المؤلف كتبه من حفظه، ولفظه في «السنن الكبرى» مترجمًا به على الحديث (5919):«التوسعة للحاكم في أن يقول للشيء الذي لا يفعله: أفعل، ليستبين به الحق» . وبنحوه في «المجتبى» على الحديث (5403).

ص: 173

لنتخذها سمرًا، بل لنعتبر بها في الأحكام؛ بل الحكم بالقسامة

(1)

وتقديم أيمان مدَّعِي القتل هو من هذا استنادًا إلى القرائن الظاهرة، بل ومن هذا رجم الملاعنة إذا التعن الزوج ونكلت عن الالتعان، فالشافعي ومالك يقتلانها بمجرد التعان الزوج ونكولها استنادًا إلى اللوث الظاهر الذي حصل بالتعانه ونُكولها

(2)

.

ومن هذا ما شرعه الله سبحانه لنا من قبول شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السفر وأن أولياء

(3)

الميت إذا اطلعا

(4)

على خيانة من الوصيَّين جاز لهما أن يحلفا ويستحِقَّا ما حلفا عليه، وهذا لَوث في الأموال، وهو نظير اللوث في الدماء وأولى بالجواز منه.

وعلى هذا إذا اطَّلَع الرجلُ المسروقُ مالُه على بعضه في يد خائنٍ معروف بذلك، ولم يتبيَّن أنه اشتراه من غيره، جاز له أن يحلف أن بقية ماله عنده، وأنه صاحب السرقة استنادًا إلى اللوث الظاهر والقرائنِ التي تكشف الأمر وتوضحه. وهو نظير حلف أولياء المقتول في القسامة أنَّ فلانًا قتله سواءً، بل أمر الأموال أسهل وأخفُّ، ولذلك تثبت بشاهد ويمين، وشاهدٍ وامرأتين، ودعوى ونكولٍ؛ بخلاف الدماء. فإذا جاز إثباتها باللوث فإثبات الأموال به بطريق الأولى والأحرى.

والقرآن والسنة يدلان على هذا وهذا، وليس مع من ادعى نسخَ ما دلَّ عليه القرآن من ذلك حجَّةٌ أصلًا، فإن هذا الحكم في سورة المائدة وهي مِن

(1)

م، ق، ب، ث:«في القسامة» .

(2)

انظر: «الأم» (6/ 735) و «المدونة» (6/ 112).

(3)

كذا في الأصول، وفي المطبوع:«ولِيَّي» بالتثنية ليوافق الضمائر الآتية بعدُ.

(4)

ص، ز، ث:«اطلعوا» .

ص: 174

آخر ما نزل من القرآن، وقد حكم بموجَبِها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده كأبي موسى الأشعري

(1)

وأقرَّه الصحابة.

ومن هذا أيضًا ما حكاه

(2)

الله سبحانه في قصة يوسف من استدلال الشاهد بقرينةِ قدِّ القميص من دُبُرٍ على صدقه وكذبِ المرأة وأنه كان هاربًا مولِّيًا فأدركته المرأة من ورائه فجبذته فقدَّت قميصَه من دبر، فعَلِمَ بعلُها والحاضرون صِدْقَه وقَبِلوا هذا الحكم، وجعلوا الذنبَ لها وأمروها بالتوبة؛ وحكاه الله سبحانه حكاية مُقرِّرٍ له غيرَ منكرٍ.

والتأسي بهذا

(3)

وأمثاله في إقرار الله له وعدمِ إنكاره، لا في مجرد حكايته، فإنه إذا أخبر به مُقِرًّا

(4)

عليه أو مُثْنيًا على فاعله مادحًا له دلَّ على رضاه به وأنه موافِقٌ لحكمه ومرضاته، فليُتدبَّرْ هذا الموضع فإنه نافع جدًّا. ولو تتبَّعنا ما في القرآن والسنة وعملِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ذلك لطال، وعسى أن نُفرد فيه مصنفًا شافيًا إن شاء الله

(5)

.

والمقصود: التنبيه على هديه واقتباس الأحكام من سيرته ومغازيه ووقائعه صلوات الله وسلامه عليه.

ولمَّا أقرَّهم في الأرض كان يبعث كل عام مَن يخرص عليهم الثمار

(1)

أخرجه أبو داود (3605) والطبري (9/ 77، 78) والدارقطني (4341) والحاكم (2/ 314) من طريقين عن أبي موسى. وصححه الحافظ في «الفتح» (5/ 412).

(2)

م، ق، ب، ث:«حكى» .

(3)

ج، ن:«بذلك» .

(4)

ص، ج، ن:«مقرِّرًا»

(5)

ولعله: «الطرق الحكمية في السياسة الشرعية» ، وهو مطبوع.

ص: 175

فينظر: كم يجيءُ منها، فيضمِّنهم نصيبَ المسلمين ويتصرفون

(1)

فيها، وكان يكتفي بخارص واحد.

ففي هذا دليل على جواز خرص الثَّمَر البادي كثمر النخل، وعلى جواز قسمة الثمار خرصًا على رؤوس النخل ويصير نصيبُ أحد الشريكين معلومًا وإن لم يتميز بعدُ لمصلحة النماء

(2)

، وعلى أن القسمة إفراز

(3)

لا بيع، وعلى جواز الاكتفاء بخارصٍ واحد وقاسم واحد، وعلى أن لِمن الثمار في يديه أن يتصرف فيها بعد الخرص ويَضْمنَ نصيبَ شريكه الذي خرص عليه.

فلما كان في زمن عمر ذهب عبدُ الله ابنُه إلى ماله بخيبر، فعَدَوا عليه وألقَوه من فوق بيتٍ ففكُّوا يده، فأجلاهم عمر منها إلى الشام، وقسمها بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية

(4)

.

فصل

وأما هديه في عقد الذمة وأهلِ الجزية، فإنه لم يأخذ من أحد من الكفار جزيةً إلا بعد نزول (براءة) في السنة الثامنة من الهجرة، فلما نزلت آية الجزية أخذها من المجوس، وأخذها من أهل الكتاب، فأخذها من النصارى، وبعث معاذًا إلى اليمن فعقد لمن لم يُسْلِم مِن يهودها الذمةَ وضرب عليهم الجزية.

(1)

م، ق، ب، ث، ج:«ويتصرّفوا» .

(2)

م، ق، ب:«الثمار» ، تحريف، والراء فيها محرّفة عن واو العطف الآتية، ولذا سقطت من هذه الأصول.

(3)

م، ب، ع:«إقرار» ، تصحيف. والإفراز: أي فرز نصيب كلِّ شريكٍ وعزلُه ومَيزُه عن نصيب غيره.

(4)

أخرجه أحمد (90) والبخاري (2730) من حديث نافع عن ابن عمر. وانظر: «سيرة ابن هشام» (2/ 357).

ص: 176

ولم يأخذها من يهود خيبر، فظنَّ بعضُ الغالطين المخطئين أن هذا حكم مختصٌّ بأهل خيبر، وأنه لا تؤخذ منهم جزية وإن أُخِذت من سائر أهل الكتاب. وهذا من عدم فقهه في السيَّر والمغازي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم وصالحهم على أن يُقرَّهم في الأرض ما شاء ولم تكن الجزية نزلت بعدُ، فسبق عقدُ صلحهم وإقرارِهم في أرض خيبر نزولَ الجزية، ثم أمره الله سبحانه أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون

(1)

، فلم يدخل في هذا يهود خيبر إذ ذاك، لأن العقد كان قد تمَّ

(2)

بينه وبينهم على إقرارهم وأن يكونوا عُمَّالًا في الأرض بالشطر، فلم يطالبهم بشيءٍ غيرِ ذلك، وطالب سواهم من أهل الكتاب مِمَّن لم يكن بينه وبينهم عقد كعقدهم بالجزية، كنصارى نجران ويهودِ اليمن وغيرهم. فلمّا أجلاهم عمر إلى الشام تغير ذلك العقد الذي تضمَّن إقرارَهم في أرض خيبر، وصار لهم حكم غيرهم من أهل الكتاب.

ولما كان في بعض الدول التي خفيت فيها السنةُ وأعلامُها أظهر منهم طائفةٌ كتابًا قد عَتَّقُوه وزوَّرُوه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عن أهل خيبر الجزية، وفيه شهادة علي بن أبي طالب وسعدِ بن معاذ وجماعةٍ من الصحابة، فراج ذلك على من جهل سنةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه وسيره، وتوهَّمُوا بل ظنُّوا صحتَه، فأُجِيزُوا

(3)

على حكم هذا الكتاب المزوَّر، حتى أُلقِي إلى

(1)

«عن يد وهم صاغرون» من ص، ز، ع. وسقط من سائر الأصول.

(2)

ث، النسخ المطبوعة:«قديمًا» ، تحريف.

(3)

م، ق، ب، ث:«فأُجرُوا» .

ص: 177

شيخ الإسلام ابن تيمية ــ قدس الله روحه

(1)

ــ وطُلِب منه أن يعين على تنفيذه والعمل به، فبصق عليه واستدل على كذبه بعشرة أوجه

(2)

، منها: أن فيه شهادة سعد بن معاذ، وسعدٌ توفي قبل خيبر قطعًا.

ومنها: أن في الكتاب أنه أسقط عنهم الجزية، والجزيةُ لم تكن نزلت بعدُ ولا يعرفها الصحابةُ حينئذ، فإن نزولها كان عامَ تبوكٍ بعد خيبر بثلاثة أعوام.

ومنها: أنه أسقط عنهم الكُلَف والسُّخَر

(3)

، وهذا محال؛ فلم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

كُلَف ولا سُخَر تؤخذ منهم ولا من غيرهم، وقد أعاذه الله وأعاذ أصحابه من أخذ الكُلَف والسُّخَر، وإنما هي من وضع الملوك الظَّلَمة واستمرَّ الأمرُ عليها.

ومنها: أن هذا الكتاب لم يذكره أحدٌ من أهل العلم على اختلاف أصنافهم، فلم يذكره أحدٌ من أهل المغازي والسير، ولا أحدٌ من أهل الحديث والسنة، ولا أحدٌ من أهل الفقه والإفتاء، ولا أحدٌ من أهل التفسير؛ ولا أظهروه في زمان السلف لعلمهم أنهم إن زوَّرُوا

(5)

مثلَ ذلك عرفوا كذبَه

(1)

«ابن تيمية قدس الله روحه» ليس في م، ق، ب، ث.

(2)

وكان ذلك سنة إحدى وسبعمائة، كما نقله المؤلف في «أحكام أهل الذمة» (1/ 169 - طبعة الرمادي) من لفظ شيخ الإسلام وحكايته. وكذا ذكر العشرة أوجهٍ كاملةً فيه (1/ 91 - 94) وفي «المنار المُنيف» (ص 92 - 94).

(3)

جمع كُلفة وسُخْرة، وهي ما يُكلَّفون به من الأعمال أو الضرائب وما يُسخَّرُون به من الأعمال بلا أجر.

(4)

ج، ن:«في زمانه» . ع: «في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

(5)

م، ق، ب:«إن رَوَوا» .

ص: 178

وبُطلانَه، فلما استرقُّوا

(1)

بعضَ الدول في وقت فتنةٍ وخفاءِ بعض السنة زوَّروا ذلك وعَتَّقوه وأظهروه، وساعدهم على ذلك طمعُ بعض الخائنين لله ولرسوله، ولم يستمر لهم ذلك حتى كشف الله أمره وبيَّن خلفاءُ الرسل بطلانه وكذبه

(2)

.

فصل

فلما نزلت آية الجزية أخذها من ثلاث طوائف: من المجوس واليهود والنصارى، ولم يأخذها من عباد الأصنام؛ فقيل: لا يجوز أخذها من كافرٍ غير هؤلاء ومن دان بدينهم، اقتداءً بأخذه وتركه. وقيل: بل تؤخذ من أهل الكتاب وغيرهم من الكفار

(3)

كعبدة الأصنام من العجم دون العرب. والأول قول الشافعي وأحمد في إحدى روايتيه، والثاني قول أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى

(4)

.

وأصحاب القول الثاني يقولون: إنما لم يأخذها من مشركي العرب لأنها إنما نزل فرضها بعد أن أسلمت دارة العرب ولم يبق فيها مشرك، فإنها نزلت بعد فتح مكة ودخولِ العرب في دين الله أفواجًا، فلم يبق بأرض العرب مشرك، ولهذا غزا بعد الفتح تبوك وكانوا نصارى، ولو كان بأرض العرب مشركون لكانوا يلونه وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين.

(1)

أي: وجدوها في حال الرقَّة والضعف، ولم أجد من نصّ من أهل اللغة على هذا المعنى للكلمة. وغُيِّر في المطبوع إلى:«استخفُّوا» .

(2)

م، ق، ب، ث، ع:«كذبه وبطلانه» .

(3)

«من الكفار» سقط من م، ق، ب، ث.

(4)

انظر: «الأم» (5/ 402 - 403)، و «الإنصاف» (10/ 394)، و «المبسوط» (10/ 7).

ص: 179

ومن تأمل السيرة وأيام الإسلام عَلِم أن الأمر كذلك، فلم تؤخذ منهم الجزيةُ لعدم من تؤخَذ منه منهم

(1)

، لا لأنهم

(2)

ليسوا من أهلها.

قالوا: وقد أخذها من المجوس وليسوا بأهل كتاب، ولا يصح أنه كان لهم كتاب ورُفِع، وهو حديث لا يثبت مثله ولا يصحُّ سنده

(3)

. ولا فرق بين عُبَّاد النار وعُبَّاد الأصنام، بل أهل الأوثان أقرب حالًا من عباد النار وكان فيهم من التمسك بدين إبراهيم ما لم يكن في عباد النار، بل عباد النار أعداء إبراهيم الخليل؛ فإذا أُخِذت منهم الجزية فأخذُها من عباد الأصنام أولى، وعلى ذلك تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في «صحيح مسلم»

(4)

أنه قال: «إذا لقيتَ عدوَّك من المشركين فادعهم إلى إحدى خلال ثلاثٍ، فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكُفَّ عنهم

» ثم أمره أن يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو يقاتلهم.

وقال المغيرةُ لعامل كسرى: أمرنا نبيُّنا أن نُقاتلَكم حتى تعبدوا الله أو تُؤَدُّوا الجزية

(5)

.

(1)

«منهم» سقطت من النسخ المطبوعة. والمعنى: لعدم من تؤخذ منه الجزيةُ من مشركي العرب.

(2)

م، ق، ب:«لا أنهم» .

(3)

أخرجه الشافعي في «الأم» (5/ 583) وفي «اختلاف الحديث» (10/ 118) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 188 - 189) ــ وعبد الرزاق (10029) وأبو يعلى (301) من حديث علي موقوفًا عليه. وإسناده واه، فيه أبو سعد سعيد المرزُبان، وهو ضعيف منكر الحديث.

(4)

برقم (1731) من حديث بُريدة بن الحُصيب رضي الله عنه.

(5)

أخرجه البخاري (3159).

ص: 180

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش: «هل لكم في كلمةٍ

(1)

تَدِين لكم بها العربُ وتؤدي العجمُ إليكم الجزية؟»، قالوا: وما هي؟ قال: «لا إله إلا الله»

(2)

.

فصل

ولما كان في مرجعه من تبوك أخذت خيلُه أُكَيدِرَ دومةَ

(3)

فصالحه على الجزية وحقن له دمه.

وصالح أهلَ نجران من النصارى على أَلفَي حُلَّة ــ النصف في صَفَر والبقية في رجب ــ يؤدونها إلى المسلمين، وعاريةِ ثلاثين درعًا وثلاثين فرسًا وثلاثين بعيرًا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها ــ والمسلمون ضامنون لها حتى يردُّوها عليهم ــ إن كان باليمن كيدٌ أو غَدْرة؛ على أن لا تُهدَم لهم بِيعة، ولا يُخرَج لهم قَسٌّ، ولا يفتنوا عن دينهم؛ ما لم يُحدِثُوا حدثًا أو يأكلوا الربا

(4)

.

(1)

م، ق، ب:«خَلّةٍ» . والمثبت هو لفظ مصادر التخريج.

(2)

أخرجه أحمد (2008، 3419) والترمذي وقال: حسن صحيح (3232) والنسائي في «الكبرى» (8716) وابن حبان (6686) والحاكم (2/ 432) من حديث ابن عباس بنحوه. وفي إسناده ضعف لجهالة أحد رواته، ولكن له شاهد عند الطبري (9/ 481) من حديث السُّدِّي عن أشياخه بنحوه وفيه:«ودانت لكم بها العجم بالخراج» .

(3)

أكيدِرُ دومةَ هو: أكيدِر بن عبد الملك الكندي، ملكُ دومةِ الجندل، وكان نصرانيًّا. وسيأتي خبره بالتفصيل (ص 676).

(4)

أخرجه أبو داود (3041) ــ ومن طريقه الضياء في «المختارة» (9/ 508) ــ من حديث السُّدِّي عن ابن عبّاس. وفي سماع السدي من ابن عباس نظر، ولكن له شواهد من مرسل الشعبي مختصرًا عند ابن أبي شيبة (38170)، ومرسل الزهري عند البلاذري في «فتوح البلدان» (ص 85)، ومرسل عمرو بن دينار مختصرًا عند الفاكهي في «أخبار مكة» (2918). وأخرجه البيهقي في «الدلائل» (5/ 385 - 389) من رواية يونس بن بكير عن سلمة بن عبد يشوع ــ وكان نصرانيًّا فأسلم ــ عن أبيه عن جدّه مطوّلًا، وسيأتي بتمامه في فصل الوفود في آخر الجزء.

ص: 181

وفي هذا دليل على انتقاض عهد أهل الذمة بإحداث الحدث، وأكل الربا إذا كان مشروطًا عليهم.

ولما وجَّه معاذًا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل محتلمٍ دينارًا أو قيمته من المَعافِر، وهي ثياب تكون باليمن

(1)

.

وفي هذا دليل على أن الجزية غيرُ مقدَّرةِ الجنس ولا القدرِ، بل يجوز أن تكون ذهبًا وثيابًا وحُلَلًا، وتزيد وتنقص بحسب حاجة المسلمين واحتمالِ من تؤخذ منه وحاله في المَيْسرة

(2)

وما عنده من المال.

ولم يفرق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه في الجزية بين العرب والعجم، بل أخذها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من نصارى العرب، وأخذها من مجوس هَجَر وكانوا عربًا؛ فإن العرب أمة ليس لها في الأصل كتاب، وكانت كل طائفة تدين بدين من جاورها من الأمم، فكانت عرب البحرين مجوسًا لمجاورتها فارس، وتَنُوخ وبَهْراء

(3)

وبنو تغلب نصارى لمجاورتهم للروم، وكانت قبائل من

(1)

أخرجه أحمد (22013، 22037) وأبو داود (1576) والترمذي (623) والنسائي (2450 - 2452) وابن خزيمة (2268) وابن حبان (4886) والحاكم (1/ 398) من حديث مسروق عن معاذ. وقد روي مرسلًا إلا أن وصله صحيح. انظر: «العلل» للدارقطني (985).

(2)

م، ق، ب:«حالة الميسرة» . ث: «حال الميسرة» .

(3)

المطبوع: «بهرة» ، خطأ.

ص: 182

اليمن يهود لمجاورتهم ليهود اليمن؛ فأجرى النبي صلى الله عليه وسلم أحكامَ الجزية ولم يعتبر آباءَهم، ولا متى

(1)

دخلوا في دين أهل الكتاب: هل كان دخولهم قبل النسخ والتبديل أو بعده؟ ومن أين يُعرَف ذلك؟! وكيف ينضبط؟ وما الذي دل عليه؟ وقد ثبت في السير والمغازي

(2)

أن من الأنصار مَن تهوَّد أبناؤهم بعد النسخ بشريعة عيسى، وأراد آباؤهم إكراهَهم على الإسلام فأنزل الله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].

وفي قوله لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارًا» دليل على أنها لا تؤخذ من صبي ولا امرأة.

فإن قيل: فكيف تصنعون بالحديث الذي رواه عبد الرزاق في «مصنفه» وأبو عبيد في «الأموال»

(3)

أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذ بن جبل أن يأخذ من

(1)

م، ق، ب:«من» .

(2)

بل وأيضًا عند أبي داود (2682) والنسائي في «الكبرى» (10982) وابن حبّان (140) عن ابن عباس بإسناد صحيح. وانظر: «تفسير الطبري» (4/ 546 - 550).

(3)

أما رواية عبد الرزاق (10099) فعن معمر عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق مرسلًا، قال عبد الرزاق: كان معمر يقول: هذا غلط قوله: «حالمة» ، ليس على النساء شيء. هذا، وقد خالف سفيان الثوري وغيرُ واحدٍ معمرًا، فرووه عن الأعمش ولم يذكروا فيه «حالمة» أصلًا.

وأما رواية أبي عبيد في «الأموال» (67، 68) فعن الحكم بن عُتَيبة منقطعًا معضلًا، وعن عروة بن الزبير مرسلًا بإسناد ضعيف فيه ابن لَهِيعة. قال أبو عبيد: «فنرى ــ والله أعلم ــ أن المحفوظ المثبت من ذلك هو الحديث الذي لا ذكر للحالمة فيه، لأنه الأمر الذي عليه المسلمون، وبه كتب عمر إلى أمراء الأجناد

».

ص: 183