الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وترك الشماتة بالأعداء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«حُكَماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء» ، ثم قال:«وأنا أزيدكم خمسًا فتَتِمُّ لكم عشرون خصلةً: إن كنتم كما تقولون فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تَبنوا ما لا تسكنون، ولا تَنافسوا في شيء أنتم عنه غدًا تزولون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تَقْدَمون وفيه تخلدون» ، فانصرف القوم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظوا وصيته وعملوا بها.
فصل
في قدوم وفد بني المُنتفِق
(1)
على رسول الله صلى الله عليه وسلم
-
رُوينا عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في «مسند أبيه»
(2)
قال: كتب إلي إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزُّبَير الزبيري: كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضتُه وسمعتُه على ما كتبتُ به إليك، فحدِّثْ بذلك عني؛ قال: حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحِزامي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عياش الأنصاري، عن دَلْهَم بن الأسود بن
(1)
هم بنو المنتفق بن عامر بن عُقيل، بطن من عامر بن صعصعة، مِن قيس عَيلان. «جمهرة أنساب العرب» (ص 469).
(2)
برقم (16206). وأخرجه عبد الله أيضًا في «السنة» (1097) وابن أبي عاصم في «السنة» (649) وابن خزيمة في «التوحيد» (382) والطبراني في «الكبير» (19/ 211) والحاكم (4/ 560)، كلهم من طريق عبد الرحمن بن المغيرة الحِزامي به.
وفي إسناده لين، فإن عبد الرحمن بن عيَّاش، ودلهم بن الأسود، وأباه، كلهم فيهم جهالة ولم يوثِّقهم معتبر وإن كان أوردهم ابن حبّان في «الثقات». وقال الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (7/ 339):«هذا حديث غريب جدًّا، وألفاظه في بعضها نكارة» . قلتُ: ولبعض فقراته شواهد يأتي ذكرُها في موضعها.
عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العُقَيلي، عن أبيه، عن عمه لَقِيط بن عامر ــ قال دَلْهَم: وحدثنيه أيضًا أبي الأسودُ بن عبد الله عن عاصم بن لقيط ــ أن لَقِيط بن عامرٍ رضي الله عنه خرج وافدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صاحب له يقال له: نَهِيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق.
قال لقيط: خرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في الناس خطيبًا فقال: «ياأيُّها الناس، ألا إني قد خبَّأتُ لكم صوتي منذ أربعة أيام
(1)
لتسمعوا اليوم، ألا فهل من امرئ بعثه قومُه فقالوا
(2)
: اعلَم لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا ثُمَّ لعله يُلهيه حديثُ نفسه أو حديثُ صاحبه، أو يُلهيه ضالٌّ، ألا إني مسؤول: هل بلغتَ؟ ألا اسمعوا تعيشوا، ألا اجلسوا»، فجلس الناس، وقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرَّغ لنا
(3)
فؤادَه ونظرَه
(4)
قلت: يا رسول الله، ما عندك من علم الغيب؟ فضحك لَعَمْرُ اللهِ وعلم أني أبتغي السَّقطة
(5)
، فقال: «ضَنَّ
(6)
ربك بمفاتيحَ
(1)
زِيد بعده في ث، المطبوع:«أَلا» ، وهو مضروب عليه في ف، س ولا يوجد في سائر الأصول. ولفظ «المسند»: «ألا لأُسمِعنَّكم، ألا فهل
…
». وأقرب منه لسياق المؤلف لفظ ابن أبي عاصم والطبراني: «لِأُسمعكم اليوم» .
(2)
زِيد بعده في س، المطبوع:«له» ، وليس في «المسند» .
(3)
«وصاحبي حتى إذا فرغ لنا» مكانه خرم في ف، فظهر في الصورة مكانه:«كانوا على عمل لا يحسنون» من الورقة التالية. وله نظائر في أثناء هذا الحديث.
(4)
كذا ضُبط في ز، وفي ث، ن:«حتى إذا فَرَغ لنا فؤادُه ونظرُه» .
(5)
في «المسند» و «السنة» لعبد الله: «لِسقطه» . وفي «السنة» لابن أبي عاصم و «التوحيد» : «سقطَه» .
(6)
رُسِم بالظاء المُشالة في ف، ب، ز، د.
خمسٍ من الغيب لا يعلمها إلا الله» وأشار بيده، فقلت: ما هن يا رسول الله؟ قال: «عِلْم المَنيَّة، قد عَلِم متى منية أحدكم ولا تعلمونه. وعِلْم المنيِّ حتى
(1)
يكون في الرحم قد علمه ولا تعلمونه. وعِلْم ما في غدٍ، قد عَلِم ما أنت طاعم ولا تعلمه.
وعِلْم يوم الغيث، يُشْرِف عليكم أزِلين مُشْفِقين فيظلُّ يضحك قد علم أن غوثكم
(2)
إلى قريب» ــ قال لقيط: فقلت: لن نَعدَم مِن ربٍّ يضحك خيرًا يا رسول الله
(3)
ــ قال: «وعِلْم يوم الساعة» .
قلتُ: يا رسول الله، عَلِّمنا مما تُعلِّم الناس وتَعْلَم، فإنا من قبيل لا يُصَدِّق تصديقَنا أحدٌ من مَذْحِجٍ التي تدنو
(4)
علينا وخَثعمٍ التي توالينا وعشيرتَنا
(5)
، قال: تلبثون ما لبثتم ثم يُتوفى نبيُّكم
(6)
ثم تلبثون ما لبثتم ثم تُبعَث الصائحة، فلعَمْرُ إلهِك ما تدع على ظهرها شيئًا إلا مات والملائكة
(1)
س، الطبعة الهندية:«متى» . ز، ث، طبعة الرسالة:«حين» ، وهو لفظ «المسند» وغيره من مصادر التخريج.
(2)
لفظ «المسند» : «غِيَرَكم» أي: تغيُّر حالكم من الجدب إلى الخصب. والمثبت من الأصول لفظ ابن خزيمة وابن أبي عاصم.
(3)
ضحك ربِّنا الرحيم من قنوط عباده وقربُ غيره وتفاؤلُ لقيطٍ به روي أيضًا من طريق آخر عند أحمد (16187) وابن ماجه (181) وغيرهما. وإسناده حسن لا سيما في المتابعات والشواهد.
(4)
ز، ث:«تربو» ، وهو الذي في عامة مصادر التخريج. وقد اختلفت نسخ «المسند» الخطية ــ كما في هامش طبعة المكنز (7/ 3523) ــ على ثلاثة أوجه: المذكورَين والثالث: «تربأ» . وفي مطبوعة «كتاب التوحيد» لابن خزيمة: «تدنو إلينا» .
(5)
زِيد بعده في ز، المطبوع:«التي نحن منها» ، وهو في «المسند» كذلك.
(6)
«تلبثون ما لبثتم ثم يُتوفى نبيُّكم» سقط من جميع الأصول عدا ز.
الذين مع ربك عز وجل، فأصبح ربك عز وجل يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد، فأرسل ربُّك السماءَ بهَضْبٍ من عند العرش، فلعَمْرُ إلهِك ما تدع على ظهرها من مَصْرَعِ
(1)
قتيلٍ ولا مَدْفَنِ ميتٍ إلا شَقَّت القبرَ عنه حتى تُخْلِفَه
(2)
من عند رأسه فيستوي جالسًا، فيقول ربك: مهيم؟ لِما كان فيه، يقول: يا ربِّ أمسِ، اليومَ؛ لعهده بالحياة يحسبه حديثًا بأهله»، فقلت: يا رسول الله، فكيف يجمعنا بعد ما تُمزِّقنا الرياحُ والبلى والسباع؟ قال: «أنبئك بمَثَل ذلك في آلاء الله: الأرضُ، أشرفتَ عليها وهي مَدَرةٌ بالية فقلت: لا تحيا أبدًا، ثم أرسل الله عليها السماء، فلم تلبث عليك إلا أيامًا حتى أشرفت عليها وهي شَرَْبة
(3)
واحدة، ولعَمْرُ إلهِك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض؛ فتخرجون من الأَصْواءِ
(4)
ومن مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليكم».
قال: قلت: يا رسول الله، كيف ونحن ملءُ الأرض وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه؟ قال: «أنبئك بمَثَل هذا في آلاء الله: الشمس والقمر آية
(1)
ف، د:«مفزع» ، تصحيف.
(2)
ضبط بالقاف في عامّة الأصول ومصادر التخريج. وفي «المسند» : «تجعله» . والمثبت موافق لما سيذكره المؤلف من تفسير الغريب في هذا الحديث.
(3)
كذا جاء مضبوطًا في ف، وكُتب فوقه «معًا» للإشارة إلى أنه يصحُّ ضبطه على الوجهين بفتح الراء وسكونها. وسيأتي تفسير المؤلف له عقب الحديث ..
(4)
في هامش ف: «هي القبور» . والأصواء والصُّوى في الأصل: الأعلام من الحجارة تُنصب ليُستدل بها على الطرق أو كعلاماتٍ على القبور، واحدها: صُوَّة.
منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعةً واحدةً، ولا تُضَامُون
(1)
في رؤيتهما»
(2)
.
قلت: يا رسول الله، فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه؟ قال: «تُعرَضون عليه باديةً له صفحاتُكم لا يخفى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك عز وجل بيده غَرفةً من ماء فينضح بها قِبَلكم، فلعَمْرُ إلهِك ما يخطئ وجهَ أحدٍ منكم منها قطرةٌ، فأما المسلم فتدع وجهه مثل الرَّيطة
(3)
البيضاء، وأما الكافر فتنضحه ــ أو قال: فتَنْطِحه
(4)
ــ بمثل الحُمَم الأسود، ألا ثُمَّ ينصرف نبيُّكم ويَفْرَق على أثره الصالحون فيسلكون جسرًا من النار يطأ أحدكم الجمرة يقول: حَسِّ
(5)
! يقول ربك عز وجل: أو أنه. ألا فتطَّلِعون على حوضِ نبيكم على أظمأِ
(1)
أي لا يلحقكم ضَيم ــ وهو الظلم ــ من كثرة الزحام فيراه بعضكم دون بعض. ويُضبط أيضًا: «تُضامُّون» من «الضمّ» أي: لا تُزاحَمون، أو:«تَضامُّون» بفتح التاء، أي: تتزاحمون، حُذفت منه إحدى التائين تخفيفًا. ولفظ «المسند»:«تُضارُّون» . والمثبت موافق لسائر مصادر التخريج.
(2)
زِيد في المطبوع بعده: «ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه من أن تروا نورهما [كذا، والصواب: ترونهما] ويريانكم، لا تضارون في رؤيتهما» ، مستدرَكًا من «مسند أحمد» ، وهو في سائر المصادر بنحوه. ولم يرد في شيء من الأصول، ولعله سقط من المؤلف لانتقال النظر.
(3)
في هامش ف: «هي المُلاءة» .
(4)
كذا رسم الكلمتين في الأصول عدا ز، س ففيهما:«فتخطمه» دون شك الراوي، وهو لفظ عامة مصادر التخريج، وهو الذي ذكره ابن قتيبة (1/ 535) ومَن بعده من أصحاب الغريب، ومعناه: تضرب خطمه ــ وهو أنفه ــ فتجعل فيه أثرًا. وما في الأصول قد يكون صوابه في الكلمة الأولى: «تَضْمَخه» أو «تَمْضَخُه» أي تَلْطخه، وفي الثانية:«تَمْطَخه» أي: تُدنِّسه. والله أعلم.
(5)
فسَّره في هامش ف أنه بمعنى «أوَّه» ، وسيأتي في تفسير المؤلف لغريبه.
ــ واللهِ ــ ناهلةٍ قطُّ ما رأيتَها، فلعَمْرُ إلهِك ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع عليها قَدَحٌ يُطهِّره من الطَّوْفِ والبول والأذى، وتَخْنِس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدًا».
قال: قلت: يا رسول الله، فبِمَ نبصر؟ قال: «بمثل بصرك ساعتك هذه، وذلك مع
(1)
طلوع الشمس في يومٍ أَشرقَتْه
(2)
الأرضُ وواجهت به
(3)
الجبال».
قال: قلت: يا رسول الله، فبِمَ نجزى من سيئاتنا وحسناتنا
(4)
؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها إلا أن يعفو» .
قال: قلت: يا رسول الله، ما الجنة؟ ما النار؟ قال: «لعَمْرُ إلهِك إن النار لها سبعة أبواب، ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما
(5)
سبعين عامًا، وإن للجنة لَثمانية أبواب، ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عامًا».
(1)
في المطبوع: «قبل» وهو لفظ «المسند» و «السنة» لابن أبي عاصم. والمثبت من الأصول لفظ «السنة» لعبد الله و «معجم الطبراني» .
(2)
ز، ن، والنسخ المطبوعة:«أشرقت» ، وهو في بعض أصول خطية من «المسند» كذلك. والمثبت موافق «للسنة» لعبد الله وبعض أصول «المسند». وفي «السنة» لابن أبي عاصم:«أشرقت به» ، وعليه فما هاهنا يُحمَل على الحذف والإيصال، أي: حذف حرف الجر وإيصال الضمير بالفعل مباشرةً.
(3)
ز، س:«وواجهَتْه» ، وهو كذلك في بعض أصول «المسند» وفي «السنة» لعبد الله.
(4)
«وحسناتنا» من ز، وهو كذلك في مصادر التخريج. وفي س:«حسناتنا وسيئاتنا» ، وهو مقتضى اللحق في ث.
(5)
«بينهما» هنا وفي الموضع الآتي من ز، هامش ث.
قلت: يا رسول الله، فعلامَ نَطَّلِع من الجنة؟ قال: «على أنهار مِن عسلٍ مُصفَّى، وأنهارٍ مِن خمر ما بها صُداع ولا ندامة
(1)
، وأنهارٍ من لبن ما يتغير طعمُه، وماءٍ غير آسن، وفاكهةٍ ولعَمْرُ إلهِك ما تعلمون وخيرٌ مِن مثله، معه أزواج مطهرة»
(2)
. قلت: يا رسول الله، أَوَلنا فيها أزواج أَوَ منهن مُصلحات؟ قال:«المصلحات للصالحين ــ وفي لفظ: الصالحات للصالحين ــ تَلَذُّونهن ويَلْذَذْنكم مثل لذَّاتكم في الدنيا غير أن لا تَوَالدُ» . قال لقيط: فقلت: يا رسول الله، أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه؟ فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
.
قال: قلت: يا رسول الله، علامَ أبايعك؟ فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده وقال:«على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزِيال المشرك، وأن لا تشرك بالله إلهًا غيره» ، قال: قلت: يا رسول الله، وإن لنا ما بين المشرق والمغرب، فقبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَه وظنَّ أني مشترطٌ ما لا يُعطينيه، قال: قلت: نَحُلُّ منها حيث شئنا ولا يجني على امرئٍ إلا نفسُه، فبسط يده وقال:«لك ذلك، تحُلُّ حيث شئتَ ولا يجني عليك إلا نفسك» .
قال: فانصرفنا عنه ثم قال: «ها إنَّ ذين، ها إنَّ ذَين ــ مرتين ــ
(4)
مِن أتقى
(1)
«ولا ندامة» من ز، هامش س. وفي هامش ف:«ولا ندامة ــ كما يأتي في شرحه» . وظاهره أنه سقط من المؤلف هنا سهوًا مع ذكره له فيما يأتي من شرح الغريب.
(2)
ز، س:«وأزواج مطهرة» وكذا في «المسند» وغيره، وعليه يكون «معه» متعلِّقًا بما قبله. والمثبت موافق للفظ «المستدرك» .
(3)
في ز: «قال: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» مكان «فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم» خلافًا لسائر الأصول، إلا أنه في س ضُرِب على المثبت وكُتب في الهامش مثل لفظ ز. والمثبت هو الذي في مصادر التخريج.
(4)
زِيد في ز بعده: «لعَمْرُ إلهك إن حُدِّثتُ إلا أنهم» . وهو في «السنة» لعبد الله وابن أبي عاصم بنحوه.
الناس في الأولى والآخرة»، فقال له كعب بن الخُداريّة أحد بني بكر بن كلاب: من هم يا رسول الله؟ قال: «بنو المنتفق بنو المنتفق بنو المنتفق، أهلُ ذلك منهم» .
قال: فانصرفنا وأقبلتُ عليه فقلت: يا رسول الله، هل لأحدٍ ممن مضى من خير في جاهليتهم؟ فقال رجل من عُرْضِ قريش: والله إن أباك المنتفق لفي النار! قال: فكأنه وقع حرٌّ بين جلد وجهي ولحمه مما قال لأبي على رؤوس الناس، فهممت أن أقول: وأبوك يا رسول الله؟ ثم إذا الأخرى أجمل فقلت: يا رسول الله وأهلك؟ قال: «وأهلي لعَمْرُ الله، ما أتيت عليه من قبرِ عامريٍّ أو قرشي أو دوسيٍّ
(1)
قل: أرسلني إليك محمد فأبْشِرْ بما يسوءُك: تُجَرُّ على وجهك وبطنك في النار»
(2)
. قال: قلت: يا رسول الله، وما فعل بهم ذلك وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه، وكانوا يحسبون أنهم مصلحون؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ذلك بأن الله بعث في آخر كل سبعِ أُمَمٍ نبيًّا، فمن عصى
(1)
زِيد في ز بعده: «من مشرك» ، وفي المطبوع أثبت ذلك مكان «أو دوسي» ، وهو لفظ «المسند» وغيره، ولم أجد ذكر الدوسي في شيء من روايات الحديث.
(2)
هذا له شاهد من حديث الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي كان يصل الرحم، وكان وكان، فأين هو؟ قال:«في النار» ، فكأنَّ الأعرابي وجد من ذلك فقال: يا رسول الله فأين أبوك؟ قال: «حيث ما مررتَ بقبر كافر فبشِّرْه بالنار» . أخرجه البزَّار (1089) والطبراني في «الكبير» (1/ 145) والبيهقي في «الدلائل» (1/ 191) والجورقاني في «الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير» (213) والضياء في «المختارة» (3/ 204). قال الجورقاني: «هذا حديث صحيح» ، ولكن أبا حاتم والدارقطني رجَّحا رواية مَن رواه عن الزهري مرسلًا. انظر «العلل» لابن أبي حاتم (2263) والدارقطني (607).
نبيَّه كان من الضالِّين، ومن أطاع نبيه كان من المهتدين».
هذا حديث كبير جليل، تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة، لا يعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني، رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري، وهما من كبار علماء أهل المدينة، ثقتان محتجٌّ بهما في «الصحيح»
(1)
، احتجَّ بهما إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري.
رواه أئمة السنة في كتبهم وتَلَقَّوه بالقبول وقابَلوه بالتسليم والانقياد، ولم يطعن أحدٌ منهم فيه ولا في أحدٍ من رُواته. فممن رواه الإمام ابن الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمدَ بنِ حنبلٍ في «مسند أبيه» وفي «كتاب السنة»
(2)
وقال: كتب إليَّ إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير الزبيري: كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعته على ما كتبتُ به إليك، فحدِّثْ به عني.
ومنهم: الحافظ الجليل أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصمٍ النبيل في «كتاب السنة» له.
ومنهم: الحافظ أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان العسَّال في «كتاب المعرفة»
(3)
.
(1)
للإمام البخاري. ولم يخرج لهما مسلم.
(2)
وقد سبق العزو إليهما وكذا إلى «السنة» لابن أبي عاصم في تخريج الحديث.
(3)
الحافظ العسَّال، أحد كبار الأئمة في الحديث فهمًا وإتقانًا وروايةً وتأليفًا، من أهل أصبهان، وقد وُلِّي القضاء بها. له كتاب «المعرفة» في السنة، طالعه الذهبي فقال:«يُنبئ عن حفظه وإمامته» . توفي سنة 349. انظر: «سير أعلام النبلاء» (16/ 6).
ومنهم: حافظ زمانه ومحدث أوانه أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني في كثيرٍ من كتبه
(1)
.
ومنهم: الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن حيَّان أبو الشيخ الأصبهاني في «كتاب السنة»
(2)
.
ومنهم: الحافظ ابن الحافظ ابن الحافظ
(3)
أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مَنْده حافظ أصبهان
(4)
.
ومنهم: الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مَرْدَويه.
ومنهم: حافظ عصره أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الأصبهاني
(5)
، وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم.
وقال ابن منده: روى هذا الحديث محمد بن إسحاق الصَّغاني
(6)
وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهما، وقد رواه بالعراق بمجمع العلماء وأهلِ الدين جماعةٌ من الأئمة: منهم أبو زرعة الرازي، وأبو حاتم، وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل، ولم ينكره أحد ولم يتكلم في إسناده، بل رووه على سبيل القبول والتسليم، ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد، أو جاهل، أو مخالف للكتاب والسنة. هذا كلام أبي عبد الله بن منده رحمه الله.
(1)
سبق أنه رواه في «معجمه الكبير» ، ولعله رواه أيضًا في كتاب «السنة» له، وهو مفقود.
(2)
وهو مفقود، وقد رواه أيضًا في «أمثال الحديث» (345) مختصرًا.
(3)
«ابن الحافظ» سقط من ز، س، ث، ب، والنسخ المطبوعة.
(4)
لم أجده في «كتاب الإيمان» و «كتاب التوحيد» و «الرد على الجهمية» له.
(5)
أخرجه في «معرفة الصحابة» (6440) من طريق ابن أبي عاصم مختصرًا.
(6)
النسخ المطبوعة: «الصنعاني» ، تحريف.
وقوله: «بِهَضْبٍ» أي: بمَطَر.
و «الأصواء» : القبور.
و «الشَّرَبة» بفتح الراء: الحوض الذي يجتمع فيه الماء، وبالسكون: الحنظلة
(1)
؛ يريد أن الماء قد كَثُر فمن حيث شئت تشرب، وعلى رواية السكون يكون قد شبه الأرض بخُضرتها بالنبات بخضرة الحنظلة واستوائها.
وقوله: «حَسّ» : كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه على غفلة ما يُحرقه أو يؤلمه، قال الأصمعي
(2)
: وهي مثل «أوَّه» .
وقوله: «يقول ربك عز وجل أو إنه» . قال ابن قتيبة
(3)
: فيه قولان، أحدهما: أن يكون «إنَّهْ» بمعنى نعم
(4)
. والآخر أن يكون الخبر محذوفًا كأنه قال: أنتم
(5)
كذلك أو إنه على ما يقول.
و «الطَّوف» : الغائط، وفي الحديث:«لا يُصَلِّ أحدكم وهو يُدافِع الطَّوف والبول»
(6)
.
(1)
ظاهره أن «الشَّرْبة» بمعنى الحنظلة، وليس كذلك، بل الذي بمعناها هو «الشَّرْية» بالياء المثناة. انظر:«الغريب» لابن قتيبة (1/ 534) و «تهذيب اللغة» (11/ 401) وغيرهما من كتب الغريب واللغة.
(2)
كما في «تهذيب اللغة» (3/ 407).
(3)
في «غريبه» (1/ 537) إلا أن اللفظ عنده: «وإنه» بواو العطف بدل «أو» .
(4)
وعلى هذا القول تكون الهاء للسكت. انظر: «الصحاح» (إنى) و «الفائق» (هضب).
(5)
«أنتم» كذا في جميع الأصول، وأخشى أن يكون تصحيفًا عن «إنه» كما في «الغريب» لابن قُتَيبة.
(6)
ذكره ابن قتيبة في «غريبه» (1/ 540). وأخرجه عبد الرزاق (1767) وأبو عبيد بن سلَّام في «غريبه» (5/ 238) وابن أبي شيبة (8015) موقوفًا على ابن عبّاس بإسناد صحيح.
و «الجسر» : الصراط.
وقوله: «فيقول ربك: مهيم؟» أي: ما شأنك وما أمرك وفيمَ كنت؟
وقوله: «يشرف عليكم أزلين» ، الأَزْل بسكون الزاي: الشدة، والأَزِل على وزن كتف: هو الذي قد أصابه الأَزْل واشتدَّ به حتى كاد يَقنَط.
وقوله: «فيظل يضحك» هو من صفات أفعاله سبحانه التي لا يشبهه فيها شيءٌ من مخلوقاته كصفات ذاته. وقد وردت هذه الصفة في أحاديثَ كثيرةٍ
(1)
لا سبيل إلى ردِّها، كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها.
وكذلك: «فأصبح ربك يطوف في الأرض» هو من صفات فعله كقوله {رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر: 22]، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]، و «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا»
(2)
و «يدنو عشية عرفة فيباهي بأهل الموقف الملائكةَ»
(3)
؛ والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم: إثباتٌ بلا تمثيل، وتنزيهٌ بلا تحريف ولا تعطيل.
وقوله: «والملائكة الذين عند ربك» ، لا أعلم موت الملائكة جاء في حديثٍ صريح إلا هذا، وحديثَ إسماعيلَ بنِ رافعٍ الطويل وهو حديث الصُّور
(4)
. وقد يستدل عليه بقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي
(1)
منها حديث أبي هريرة الطويل في آخر أهل الجنة دخولًا الجنة، وفيه:«فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه» . أخرجه البخاري (7437) ومسلم (182).
(2)
أخرجه البخاري (1145) ومسلم (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (1348) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
(4)
أخرجه إسحاق ابن راهويه في «مسنده» (10) وابن أبي الدنيا في كتاب «الأهوال» (55) والطبري في «تفسيره» (20/ 156) والطبراني في «الأحاديث الطوال» (36) والبيهقي في «شعب الإيمان» (347) وغيرهم، من طرق عن إسماعيل بن رافع بإسناده إلى أبي هريرة. وإسماعيل بن رافع ضعيف منكر الحديث، وقد اضطرب في إسناده. وقال البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 260) و «الأوسط» (3/ 426):«حديث الصور مرسل، لا يصحّ» . وقال ابن كثير في «تفسيره» (الأنعام: 73): «غريب جدًّا، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة، وفي بعض ألفاظه نكارة» . وانظر: «البداية والنهاية» (19/ 322) و «فتح الباري» (11/ 368) و «أنيس الساري» (2/ 1595).
السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68].
وقوله: «فلعَمْرُ إلهِك» هو قسم بحياة الرب جل جلاله، وفيه دليل على جواز الإقسام بصفاته وانعقادِ اليمين بها، وأنها قديمة، وأنه يُطلَق عليه منها أسماء المصادر ويوصَف بها، وذلك قدر زائد على مجرَّد الأسماء، وأن الأسماء الحسنى مشتقَّة من هذه المصادر دالَّةٌ عليها.
وقوله: «ثم تجيء الصائحة» هي صيحة البعث ونفخته.
وقوله: «حتى يُخلِفه من عند رأسه» هو مِن: أخلف الزرعُ، إذا نبت بعد حصاده؛ شبَّه النشأة الآخرة بعد الموت بإخلاف الزرع بعد ما حصد، وتلك الخِلْفة
(1)
من عند رأسه كما ينبت الزرع.
وقوله: «فيستوي جالسًا» هذا عند تمام خِلْفَته
(2)
وكمال حياته، ثم يقوم بعد جلوسه قائمًا، ثم يساق إلى موقف القيامة إما راكبًا وإما ماشيًا.
(1)
الخِلفة: اسم لذلك النبات الذي ينبت بعد النبات الذي قد يبس أو تناثر أو حُصِد.
(2)
أي: من تمام إحيائه بعد الموت. وقد تصحَّف في الأصول عدا ف، ز إلى:«خِلقته» بالقاف، وكذا في النسخ المطبوعة.
وقوله: «يقول: يا رب أمس، اليوم» استقلالٌ لمدة لُبثه في الأرض، وكأنه لبث فيها يومًا فقال: أمس، أو بعضَ يوم فقال: اليوم؛ يحسب أنه حديثُ عهدٍ بأهله، وأنه إنما فارقهم أمس أو اليوم.
وقوله: «كيف يجمعنا بعد ما تمزِّقنا الرياح والبلى والسباع؟» ، وإقرارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم له على هذا السؤال= ردٌّ على من زعم أن القوم لم يكونوا يخوضون في دقائق المسائل، ولم يكونوا يفهمون حقائق الإيمان، بل كانوا مشغولين بالعَمَليَّات، وأن أفراخ الصابئة والمجوس من الجهمية والمعتزلة والقدرية أعرفُ منهم بالعِلْميَّات. وفيه دليل على أنهم كانوا يوردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشكل عليهم من الأسْوِلة والشبهات، فيجيبهم عنها بما يُثلج به صدورَهم. وقد أَورَد عليه صلى الله عليه وسلم الأسوِلةَ أعداؤُه وأصحابُه؛ أعداؤه للتعنت والمغالبة، وأصحابه للفهم والبيان وزيادة الإيمان، وهو يجيب كلًّا عن سؤاله، إلا ما لا جواب عنه كسؤاله عن وقت الساعة.
وفي هذا السؤال دليل على أنه سبحانه يجمع أجزاء العبد بعدما فرَّقها ويُنشئها نشأةً أخرى، ويخلقه خلقًا جديدًا، كما سمَّاه في كتابه كذلك في موضعين منه
(1)
.
وقوله: «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله» ، آلاؤه: نعمه وآياته التي تعرَّف بها إلى عباده.
وفيه إثبات القياس في أدلة التوحيد والمعاد، والقرآنُ مملوء منه.
(1)
يشير إلى قوله تعالى: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 47] وقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15].
وفيه أن حكم الشيء حكم نظيره، وأنه سبحانه إذا كان قادرًا على شيء فكيف تعجِز قدرتُه عن نظيره ومثله؟! فقد قرر الله سبحانه أدلة المعاد في كتابه أحسن تقرير وأبينه وأبلغه وأوصله إلى العقول والفِطَر، فأبى أعداؤه الجاحدون إلا تكذيبًا له وتعجيزًا وطعنًا في حكمته، تعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا.
وقوله في الأرض: «أشرفتَ عليها وهي مَدَرة بالية» هو كقوله تعالى: {يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 19]، وقولِه:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}
(1)
[فصلت: 39]، ونظائرُه في القرآن كثيرة.
وقوله: «فتنظرون إليه وينظر إليكم» فيه إثبات صفة النظر لله عز وجل وإثباتُ رؤيته في الآخرة.
وقوله: «كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد» ، قد جاء هذا في هذا الحديث وفي قولِه في حديثٍ آخر:«لا شخص أَغْيَرُ من الله»
(2)
، والمخاطبون بهذا قوم عرب يعلمون المراد منه، ولا يقع في قلوبهم تشبيهُه سبحانه بالأشخاص، بل هم أشرف عقولًا وأصحُّ أذهانًا وأسلم قلوبًا من ذلك.
(1)
بعده في الأصول: «وأنبتت من كل زوج بهيج» ، وهو سهو من المؤلف، لأنه تتمة آية الحج: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
…
} [5].
(2)
أخرجه أحمد (18168) ومسلم (1499) من حديث المغيرة بن شعبة، وعلّقه البخاري بصيغة الجزم مترجمًا به في كتاب التوحيد.
وحقق صلى الله عليه وسلم وقوع الرؤية عيانًا برؤية الشمس والقمر تحقيقًا لها ونفيًا لتوهُّم المجاز الذي يظنه المعطِّلون.
وقوله: «فيأخذ ربك بيده غرفةً من الماء فينضح بها قِبَلكم» فيه إثبات صفة اليد له سبحانه، وإثبات صفة الفعل الذي هو النضح. والريطة: الملاءة. والحُمَم: جمع حُمَمة وهي الفحمة.
وقوله: «ثم ينصرف نبيكم» ، هذا انصراف من موقف القيامة إلى الجنة.
وقوله: «ويَفْرَق على أثره الصالحون» أي: يفزعون ويمضون على أثره.
وقوله: «فتطلعون على حوض نبيكم» ، ظاهر هذا أن الحوض من وراء الجسر فكأنهم لا يصلون إليه حتى يقطعون
(1)
الجسر. وللسلف في ذلك قولان حكاهما القرطبي في «تذكرته»
(2)
والغزالي
(3)
وغلَّطا من قال: إنه بعد الجسر. وقد روى البخاري
(4)
عن أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا قائم على الحوض إذا زُمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال لهم: هلُمَّ، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى النار واللهِ، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يَخْلُص منهم إلا مثل هَمَلِ النعم» .
قال
(5)
: فهذا الحديث مع صحته أدل دليل على أن الحوض يكون في
(1)
ث، س، والنسخ المطبوعة:«يقطعوا» .
(2)
أي: «التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة» (2/ 703).
(3)
في «الدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة» (ص 117 - 118).
(4)
برقم (6587).
(5)
أي القرطبي.
الموقف
(1)
قبل الصراط، لأن الصراط إنما هو جسر ممدود على جهنم، فمن جازه سلم من النار.
قلت: وليس بين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تعارض ولا تناقض ولا اختلاف، وحديثُه كلُّه يصدِّق بعضه بعضًا. وأصحاب هذا القول إن أرادوا أن الحوض لا يُرى ولا يوصل إليه إلا بعد قطع الصراط فحديث أبي هريرة هذا وغيره يردُّ قولَهم، وإن أرادوا أن المؤمنين إذا جازوا الصراط وقطعوه بدا لهم الحوض فشربوا منه فهذا يدل عليه حديث لقيط هذا، وهو لا يناقض كونه قبل الصراط فإن طوله شهر وعرضه شهر، وإذا كان بهذا الطول والسعة فما الذي يُحيل امتدادَه إلى وراء الجسر، فيَرِده المؤمنون قبل الصراط وبعده؟! فهذا في حيِّز الإمكان، ووقوعُه موقوف على خبر الصادق. والله أعلم.
وقوله: «على أظمأِ ــ والله ــ ناهلةٍ قط» ، الناهلة: العِطاش الواردون للماء، أي: يردونه أظمأ ما هم إليه. وهذا يناسب أن يكون بعد الصراط، فإنه جسر النار وقد وردوها كلُّهم، فلما قطعوه اشتد ظمؤهم إلى الماء، فوردوا حوضه صلى الله عليه وسلم كما وردوه في موقف القيامة.
وقوله: «وتخنس الشمس والقمر» أي: يختفيان ويُحبَسان ولا يُرَيان. والانخناس: التواري والاختفاء، ومنه قول أبي هريرة:«فانخنستُ منه»
(2)
.
وقوله: «ما بين البابين مسيرة سبعين عامًا» يحتمل أن يريد به أن بُعد ما
(1)
من هنا سقط لوح (136 ب- 137 أ) من مصوّرة نسخة الظاهرية (د)، وذلك إلى ما قبل قوله: «مقرين بالإسلام
…
» الآتي في فصل قدوم وفد النخع.
(2)
وذلك لمَّا كان جنبًا فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة. أخرجه البخاري (283).
بين الباب والباب هذا المقدار، ويحتمل أن يريد بالبابين المِصراعين. ولا يناقض هذا ما جاء من تقديره بأربعين عامًا لوجهين:
أحدهما: إنه لم يُصرِّح فيه راويه بالرفع بل قال: «ولقد ذكر لنا أن ما بين المصراعين مسيرة أربعين عامًا»
(1)
.
والثاني: أن المسافة تختلف باختلاف سرعة السير فيها وبُطئه، والله أعلم.
وقوله في خمر الجنة: «إنه ما بها صُداع ولا ندامة» تعريض بخمر الدنيا وما يلحقها من صداع الرأس والندامةِ على ذهاب العقل والمال وحصولِ الشر الذي يوجبه زوال العقل.
و «الماء غير الآسن» هو الذي لم يتغيَّر بطول مكثه.
وقوله في نساء الجنة: «غير أن لا تَوالد» ، قد اختلف الناس هل تلد نساء أهل الجنة؟ على قولين:
فقالت طائفة: لا يكون فيها حبل ولا ولادة، واحتجت هذه الطائفة بهذا الحديث وبحديثٍ آخر أظنه في «المسند»
(2)
وفيه: «غير أن لا مني ولا منية» .
(1)
لفظ حديث عُتبة بن غزوان رضي الله عنه عند مسلم (2967). وهو إن كان غير صريح في الرفع، فقد روي من حديث معاوية بن حيدة مصرَّحًا فيه بالرفع عند أحمد (20025) وابن حبان (7388) بإسناد حسن. هذا، وأصرح وأصحّ منهما حديث أبي هريرة المتفق عليه:«إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهَجَر، أو: كما بين مكة وبُصرى» . البخاري (4712) ومسلم (194) واللفظ له. وانظر: «حادي الأرواح» (1/ 114 - 119).
(2)
ليس فيه، وإنما أخرجه الطبراني في «الكبير» (8/ 113) وأبو نُعيم في «صفة الجنة» (367، 369) من حديث أبي أمامة بإسنادين واهيين. وورد أيضًا ضمن حديث الصور الطويل عند الطبراني في «الأحاديث الطوال» (36)، وقد سبق بيان ضعفه.
وأثبتت طائفة من السلف الولادة في الجنة، واحتجت بما رواه الترمذي في «جامعه»
(1)
من حديث أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن إذا اشتهى الولدَ في الجنة كان حملُه ووضعُه وسِنُّه في ساعة كما يشتهي» . قال الترمذي: «حسن غريب» ، ورواه ابن ماجه.
قالت الطائفة الأولى: هذا لا يدل على وقوع الولادة في الجنة، فإنه علَّقه بالشرط فقال:«إذا اشتهى» ، ولكنه لا يشتهي، وهذا تأويل إسحاق بن راهويه حكاه البخاري عنه
(2)
. قالوا: والجنة دار جزاء على الأعمال، وهؤلاء ليسوا من أهل الجزاء. قالوا: والجنة دار خلود لا موت فيها، فلو توالَدَ فيها أهلُها على الدوام والأبد لما وسعتهم، وإنما وسعتهم الدنيا بالموت.
وأجابت الطائفة الأخرى عن ذلك كله وقالت: أداة (إذا) إنما تكون لمحقَّق الوقوع لا للمشكوك فيه، وقد صحَّ أن الله سبحانه ينشئ للجنة خلقًا يُسكنهم إياها بلا عمل منهم، قالوا: وأطفال المسلمين أيضًا فيها بغير عمل. وأما حديث سَعَتها، فلو رُزق كلٌّ منهم عشرة آلافٍ من الولد وَسِعَتْهم، فإن أدناهم من ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام
(3)
.
(1)
برقم (2563)، وأخرجه أيضًا الدارمي (2876) وابن ماجه (4338) وابن حبان (7404). قال المؤلف في «حادي الأرواح» (1/ 528):«إسناده على شرط الصحيح، فرجاله محتجٌّ بهم فيه، لكن غريب جدًّا» .
(2)
ثم عنه الترمذي في «جامعه» عقب الحديث.
(3)
وانظر: «حادي الأرواح» (الباب السادس والخمسين).
وقوله: «يا رسول الله، أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه؟» ، لا جواب لهذه المسألة، لأنه إن أراد أقصى مدة الدنيا وانتهائها فلا يعلمه إلا الله، وإن أراد أقصى ما نحن منتهون إليه بعد دخول الجنة والنار فلا تعلم نفس أقصى ما تنتهي إليه من ذلك وإن كان الانتهاءُ إلى نعيمٍ وجحيمٍ؛ ولهذا لم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله في عقد البيعة: «وزِيال
(1)
المشرك» أي: مفارقته ومعاداته، فلا يجاوره ولا يواليه، كما في الحديث الذي في «السنن»
(2)
: «لا تراءى ناراهما» يعني المسلمين والمشركين.
وقوله: «حيثما مررت بقبر كافرٍ فقل: أرسلني إليك محمد» هذا إرسالُ تقريعٍ وتوبيخٍ، لا تبليغُ أمرٍ ونهيٍ. وفيه دليل على سماع أصحابِ القبور كلامَ الأحياء وخطابَهم لهم، ودليل على أن من مات مشركًا فهو في النار وإن مات قبلَ البِعثة، لأن المشركين كانوا قد غيَّروا الحنيفية دينَ إبراهيمَ واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، وقُبْحُه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلومًا مِن دين الرسل كلِّهم مِن أولهم إلى آخرهم، وأخبارُ عقوباتِ الله لأهله متداولة بين الأمم قرنًا بعد قرن، فلِلَّه الحجة البالغة على المشركين في كل وقتٍ، ولو لم يكن إلا ما فطر عبادَه عليه من توحيد ربوبيته المستلزِمِ لتوحيد إلهيَّته، وأنه يستحيل في كل فطرةٍ وعقلٍ أن يكون معه إلهٌ آخر، وإن
(1)
ف، ز:«وزوال» ، سبق قلم، وقد سبق على الصواب في الحديث. والزِّيال هو المُزايلة على غرار القِتال والمقاتلة.
(2)
أبوداود (2645) والترمذي (1604، 1605) والنسائي (4780) مسندًا ومرسلًا. وقد سبق تخريجه (ص
…
) وبيان أن المرسل هو المحفوظ.