الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في السرايا والبعوث في سنة تسع
ذكر سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم
(1)
وذلك في المحرم من هذه السنة، بعثه إليهم في سرية ليغزوهم في خمسين فارسًا ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم في صحراءَ وقد سرَّحوا مواشيهم، فلما رأوا الجمع ولَّوا، فأخذ منهم أحد عشر رجلًا وإحدى وعشرين امرأةً وثلاثين صبيًّا فساقهم إلى المدينة، فأُنزلوا في دار رملةَ بنتِ الحارث، فقدم فيهم عدة من رؤسائهم: عُطارد بن حاجب، والزِّبرِقان بن بدر، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأَهتَم، ورِياح
(2)
بن الحارث؛ فلما رأوا نساءهم وذراريَّهم بكَوا إليهم، فعجلوا فجاءوا إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم فنادوا: يا محمد اخرج إلينا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بلالٌ الصلاةَ وتعلَّقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه، فوقف معهم ثم مضى فصلى الظهر
(1)
وكان سببه فيما ذكره الواقدي وابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا بعث بسر بن سفيان على صدقات بني كعب من خزاعة جاءهم وقد حلَّ بنواحيهم بعض بطون بلعنبر بن عمرو بن تميم، فجمعت خزاعة مواشيها للصدقة، فاستنكر ذلك بنو تميم وأبَوا وابتدروا السلاح وشهروا السيوف، فقدم المصدِّق على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:«من لهؤلاء القوم؟» فانتدب لهم عُيينة بن حصن، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم. «المغازي» (3/ 974) و «الطبقات» (1/ 254).
(2)
في عامة الأصول والنسخ المطبوعة: «رباح» بالموحدة، وكذا في «عيون الأثر» ، وهو تصحيف عمَّا ذكره الواقدي وابن سعد. انظر:«الإصابة» (3/ 558).
ثم جلس في صحن المسجد، فقدَّموا عُطارد بن حاجب فتكلَّم وخطب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شمَّاسٍ فأجابهم وأنزل الله عز وجل فيهم {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 4 - 5]، فردَّ عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الأسرى والسبي
(1)
،
فقام الزبرقان شاعرُ بني تميم فأنشد مفاخرًا:
نحن الكرام فلا حيٌّ يعادلنا
…
منا الملوك وفينا تُنصَب البِيَعُ
وكم قَسَرْنا من الأحياء كلِّهِمُ
…
عند النِّهاب وفضلُ العز يُتَّبَعُ
ونحن يُطعِمُ عند القحط مُطعمنا
…
مِن الشِّواء إذا لم يُؤنَس القَزَعُ
(2)
بما ترى الناسَ تأتينا سُراتُهم
…
من كل أرض هُوِيًّا ثم نَصطَنِعُ
(3)
فننحر الكُومَ عُبْطًا في أَرُومتنا
…
للنازلين إذا ما أُنزِلوا شبعوا
(4)
(1)
خبر السرية إلى هنا ذكره ابن سيد الناس في «عيون الأثر» (2/ 203) ــ وهو مصدر المؤلف ــ نقلًا عن «طبقات ابن سعد» (2/ 147)، وهو عند الواقدي بأطول منه (3/ 974 - 980). وما سيأتي من الأبيات نقلها ابن سيد الناس عن مغازي ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 563) ــ، وهي عند الواقدي بشيء من الاختلاف .. وقال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر يُنكرها للزِّبرِقان.
(2)
القَزَع: قِطَع من السحاب المتفرِّق.
(3)
السُّراة: جمع الساري، وهم الذين يسرون بالليل. هُوِيًّا: سراعًا.
(4)
الكُوم: جمع الكوماء، وهي الناقة العظيمة السنام. العُبْط: جمع العبيطة، وهي التي نُحرت سمينة فتيّة من غير علةٍ بها مِن داء أو كسر، يقال:(اعتبط البعيرَ) نحره بلا علة، و (مات فلان عَبطةً) أي: شابًّا صحيحًا. والأَرُومة: الأصل، أي: أن هذا الكرم متأصِّل فينا.
فلا ترانا إلى حيٍّ نفاخرهم
…
إلا استقادوا فكانوا الرأسَ يُقتَطَعُ
فمن يفاخرنا في ذاك نَعرفه
…
فيرجع القومُ والأخبار تُتَّبَعُ
(1)
إنَّا أبينا ولن يأبى لنا أحدٌ
…
إنا كذلك عند الفخر نَرتفِعُ
فقام شاعر الإسلام حسان بن ثابت فأجابه على البديهة:
إن الذوائب من فِهرٍ وإخوتهم
…
قد بينوا سنةً للناس تُتَّبَعُ
يرضى بهم كلُّ مَن كانت سريرتُه
…
تقوى الإله وكلَّ الخير يصطنِعُ
قوم إذا حاربوا ضَرُّوا عدوَّهم
…
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غيرُ محدَثَةٍ
…
إن الخلائق فاعلم شرُّها البِدَعُ
إن كان في الناس سباقون بعدَهمُ
…
فكلُّ سبق لأدنى سبقِهم تَبَعُ
لا يَرقعُ الناس ما أَوْهت أكفُّهُمُ
…
عند الدفاع ولا يُوهُون ما رَقَعوا
إن سابقوا النَّاس يومًا فاز سبقُهُمُ
…
أو وازنوا أهلَ مجدٍ بالندى مَتَعُوا
(2)
أعِفَّةٌ ذُكِرت في الوحي عفَّتُهمْ
…
لا يطمعون ولا يُرْديهم الطمعُ
(3)
لا يبخلون على جارٍ بفضلهمُ
…
ولا يَمَسُّهُمُ من مطمَعٍ طَبَعُ
إذا نَصَبْنا لحي لم ندِبَّ لهمْ
…
كما يدِبُّ إلى الوحشية الذَّرَعُ
(4)
(1)
ن، هامش ز، المطبوع:«تُستَمَع» ، وكذا في مصدرَي النقل.
(2)
النَّدى: الجود والسخاء والخير. مَتَعُوا: أي ارتفعوا عليهم ارتفاعًا بيِّنًا، يقال: مَتَع النهارُ مُتُوعًا إذا ارتفع حتى بلغ غاية ارتفاعه قبل أن يزول.
(3)
لا يطمعون: كذا في الأصول، والذي في المصادر:«لا يطبَعُون» أي: لا يتدنسون، يقال: طَبِع الرجلُ يطبَع طَبَعًا فهو طَبِعٌ، إذا دنِسَ وصار دنيءَ الخُلُق لئيمَه. وسيأتي ذكر «الطَبَع» في البيت الآتي أيضًا.
(4)
إذا نصبنا: أي العداوة. والذَّرَع: ولد البقرة الوحشية، ويجمع على الذِّرعان.
نَسْمُو إذا الحرب نالتْنا مخالبُها
…
إذا الزَّعانِفُ مِن أظفارها خشعوا
(1)
لا يفخرون إذا نالوا عدوَّهم
…
وإن أصيبوا فلا خُورٌ ولا هُلُعُ
(2)
كأنهم في الوَغَى والموتُ مكتنِفٌ
…
أُسْدٌ بحَلْيةَ في أرساغها فَدَعُ
(3)
خذ منهمُ ما أتوا عفوًا إذا غضبوا
…
ولا يكن همُّك الأمرَ الذي مَنَعوا
فإن في حربهم ــ فاترك عداوتهم ــ
…
شرًّا يُخاض عليه السُّمُّ والسَّلَعُ
(4)
أكرِمْ بقومٍ رسولُ الله شيعتهمْ
…
إذا تفاوتت الأهواء والشِّيَعُ
أهدى لهم مدحتي قلبٌ يُؤازره
…
فيما أحبَّ لسانٌ حائِك صَنَعُ
(5)
فإنهم أفضل الأحياء كُلِّهِمُ
…
إن جدَّ بالناس جِدُّ القولِ أو شَمَعوا
(6)
فلما فرغ حسان قال الأقرع بن حابس: إن هذا الرجل لمُؤَتًّى له
(7)
؛ لَخطيبُه أخطبُ من خطيبنا، ولشاعرُه أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من
(1)
الزعانف: رُذال الناس وخِساسهم.
(2)
خُوْرٌ: الضعفاء، كأنه جمع خائر أو خوَّار على غير القياس. والهُلُع: جمع الهلوع وهو الذي يفزع ويجزع من الشر.
(3)
مكتنِف: كذا في الأصول، والذي في المصادر:«مُكْتنِع» أي حاضر وقريب. وحَلْيَةُ: مأسدة ــ وهي الأرض الكثيرة الأُسُودِ ــ باليمن. والفَدَع: الاعوجاج والميل في الأرساغ من اليد والقدم خِلقة، يقال: رجل أفدع إذا مشى على ظهر قدمه لاعوجاج فيه، والأسد أفدعُ خِلقةً ويظهر ذلك إذا مشى لاسيما في يديه.
(4)
السَّلَع: نبت مُرٌّ.
(5)
صَنَعُ: أي يُحسن صناعة الشعر ويجيدها، يقال: رجلٌ صَنَع، إذا كان حاذقًا فيما يصنعه.
(6)
شَمَعُوا: إذا لم يجِدُّوا فلعِبوا أو مزحوا أو ضحكوا، يقال: شَمَع فلان يشمَع شَمْعًا وشُمُوعًا.
(7)
أي: موفَّق، يقال: تأتَّى له الأمرُ، إذا تهيَّأ له وتسهَّلت طريقه.
أصواتنا، ثم أسلموا وجوَّزهم
(1)
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم.
فصل
قال ابن إسحاق
(2)
: فلما قدم وفد بني تميم دخلوا المسجد ونادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اخرج إلينا يا محمد فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم فخرج إليهم فقالوا: جئناك لنفاخرك فَأْذَنْ لشاعرنا وخطيبنا قال: «نعم، قد أذنتُ لخطيبكم فليَقُمْ» ، فقام عُطارد بن حاجب فقال:«الحمد لله الذي جعلنا ملوكًا، الذي له الفضلُ علينا، والذي وهب لنا أموالًا عظامًا نفعل فيها المعروف، وجعلَنا أعزَّ أهل المشرق وأكثرَه عددًا وأيسره عُدَّةً، فمَن مثلنا في الناس؟! ألسنا رؤوسَ الناس وأولي فضلِهم؟ فمن فاخرَنا فليَعُدَّ مثل ما عَدَدْنا، فلو شئنا لأكثرنا من الكلام ولكن نستحيي من الإكثار لِما أعطانا، أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا وأمرٍ أفضلَ مِن أمرنا» ، ثم جلس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شَمَّاس: «قم فأجِبْه» ، فقام فقال: «الحمد لله الذي السماوات والأرض خَلْقُه، قضى فيهن أمرَه، ووسع كرسيَّه علمُه، ولم يكن شيء قطٌّ إلا مِن فضله، ثم كان من فضله أن جعلنا ملوكًا، واصطفى من خير خلقه رسولًا، أكرَمَه نسبًا وأصدَقَه حديثًا وأفضله حسبًا، فأنزل عليه كتابًا وائتمنه على خلقه، وكان خِيَرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان بالله فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرَمُ
(1)
المطبوع: «فأجازهم» خلافًا للأصول ومصدري النقل.
(2)
كما في «سيرة ابن إسحاق» (2/ 561) و «دلائل النبوة» (5/ 313) وهو مصدر المؤلف.