المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي غزوة المريسيع - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصلفي هديه في الجهاد والغزوات

- ‌فصلفي مبدأ الهجرة التي فرق الله فيها بين أوليائه وأعدائه

- ‌فصلفي بناء المسجد

- ‌فصلفي هديه في الأسارى

- ‌فصلفي هديه فيمن جسَّ عليه

- ‌ أنَّ من أسلم على شيءٍ في يده فهو له

- ‌فصلفي هديه في الأرض المغنومة

- ‌فصلفي ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقينمن حين بُعث(3)إلى حين لقي الله عز وجل

- ‌فصلفي سياق مغازيه وبعوثه على وجه الاختصار

- ‌فصلفي قتل كعب بن الأشرف

- ‌فصلفي غزوة أحد

- ‌فصلفيما اشتملت عليه هذه الغزاة من الأحكام والفقه

- ‌فصلفي ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أُحُد

- ‌فصلفي غزوة دُومة الجندل

- ‌ سنة خمس

- ‌فصلفي غزوة المُرَيسِيع

- ‌فصلفي غزوة الخندق

- ‌فصلفي سريّة نجد

- ‌فصلفي غزوة الغابة

- ‌ سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القَصَّة

- ‌ سرية زيد بن حارثة إلى الطَّرَف

- ‌ سريةُ عبد الرحمن بن عوف إلى دُومة الجندل

- ‌فصلفي قصة الحديبية

- ‌فصلفي بعض ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض الحكم التي تضمنتها هذه الهدنة

- ‌فصلفي غزوة خيبر

- ‌فصلفيما كان في غزوة خيبر من الأحكام الفقهية

- ‌ جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا استُغني عنهم

- ‌ جواز عتق الرجل أمتَه وجعلِ عتقها صداقًا لها

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌ سرية أبي بكر الصديق إلى نجد قِبَلَ بني فزارة

- ‌ سرية بَشير بن سعد الأنصاري إلى بني مُرَّة بفَدَكٍ

- ‌فصلفي سرية عبد الله بن حُذافة السَّهمي

- ‌فصلفي عمرة القضية

- ‌فصلفي غزوة مؤتة

- ‌ سنة ثمان

- ‌فصلفي غزوة ذات السُّلاسل

- ‌فصلفي سرية الخَبَط

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌ جواز أكل ميتة البحر

- ‌فصلفي الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحَرَمه الأمينواستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدًى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين

- ‌ذكر سرية خالد بن الوليد إلى بني جَذِيمة

- ‌فصلفي الإشارة إلى ما في هذه الغزوة من الفقه واللطائف

- ‌فصلفيما في خطبته العظيمة ثاني يوم الفتح من أنواع العلم

- ‌«إن مكة حرَّمها الله ولم يحرمها الناس»

- ‌«فلا يحل لأحد أن يسفك بها دمًا»

- ‌فصلفي غزاة حنين

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهيةوالنكت الحُكمية

- ‌ جواز انتظار الإمام بقَسْم الغنائمِ إسلامَ الكفار

- ‌فصلفي غزوة الطائف في شوال سنة ثمان

- ‌ سنةُ تسعٍ

- ‌فصلفي السرايا والبعوث في سنة تسع

- ‌ذكر سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم

- ‌فصلذكر سرية قُطبة بن عامر بن حَدِيدة إلى خَثْعَمَ

- ‌فصل(2)ذكر سرية الضحاك بن سفيان الكِلابي إلى بني كلاب

- ‌فصلذِكر سرية علقمة بن مُجَزِّزٍ المُدْلِجي إلى الحبشة

- ‌ذكر سرية علي بن أبي طالب إلى صنم طَيِّئٍ ليهدمه

- ‌ذكر قصة كعب بن زُهَير مع النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي غزوة تبوك

- ‌فصلفي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أُكَيدِرِ دُومةَ

- ‌فصلفي خطبته صلى الله عليه وسلم بتبوك وصلاته

- ‌فصلفي جمعه بين الصلاتين في غزوة تبوك

- ‌فصلفي رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك وما همَّ المنافقون به من الكيد به

- ‌فصلفي أمر مسجد الضِّرار الذي نهى الله رسوله أن يقوم فيه

- ‌فصلفي الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من الفقه والفوائد

- ‌ ما اشتملت عليه قصة الثلاثة الذين خلفوا من الحكم والفوائد الجمة

- ‌فصلفي قدوم وفود العرب وغيرهم على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر وفد بني عامر ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم على عامر بن الطفيل وكفاية الله له(3)شرَّه وشرَّ أَرْبَدَ بن قيسٍ بعد أن عصم منهما نبيه

- ‌فصلفي قدوم وفد عبد القيس

- ‌فصلفي قدوم وفد بني حنيفة

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد طيِّئٍ على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد كِندة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم الأشعريين وأهل اليمن

- ‌فصلفي قدوم وفد الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني الحارث بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد هَمْدان عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد مُزَينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد دَوسٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بخيبر

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد نجران عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم رسول فروة بن عمرو الجُذامي ملك عربِ الروم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني سعد بن بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم طارق بن عبد الله وقومه على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد تُجيب

- ‌فصلفي قدومِ وفد بني سعدِ هُذَيمٍ من قُضاعة

- ‌فصلفي قدوم وفد بني فَزارة

- ‌فصلفي قدوم وفد بني أسد

- ‌فصلفي قدوم وفد بَهْراء

- ‌فصلفي قدوم وفد عُذْرة

- ‌فصلفي قدوم وفد بَلِيٍّ

- ‌فصلفي قدوم وفد ذي مُرَّة

- ‌فصلفي قدوم وفد خَولان

- ‌فصلفي قدوم وفد مُحارب

- ‌فصلفي قدوم وفد صُداءٍ في سنة ثمان

- ‌فصلفي فقه هذه القصة

- ‌فصلفي قدوم وفد غسَّان

- ‌فصلفي قدوم وفد سَلامان

- ‌فصلفي قدوم وفد بني عَبْس

- ‌فصلفي قدوم وفد غامد

- ‌فصلفي قدوم وفد الأزد على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد بني المُنتفِق(1)على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي قدوم وفد النَّخَع على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر هديه صلى الله عليه وسلم في مكاتباته إلى الملوك وغيرهم

- ‌فصلفي كتابه إلى الحارث بن أبي شِمر الغَسَّاني

الفصل: ‌فصلفي غزوة المريسيع

‌فصل

في غزوة المُرَيسِيع

(1)

وكانت في شعبان سنة خمس، وسببها: أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن أبي ضرار سيِّدَ بني المصطلق سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم له ذلك، فأتاهم ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلَّمه ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهم، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ فأسرعوا في الخروج، وخرج معه جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة مثلها، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وقيل: أبا ذر، وقيل: نميلة بن عبد الله الليثي.

وخرج يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان، وبلغ الحارثَ بن أبي ضرار ومن معه مسيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَتْلُه عينَه الذي كان وجَّهه ليأتيه بخبره وخبر المسلمين، فخافوا خوفًا شديدًا وتفرَّق عنهم من كان معهم من العرب، وانتهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المُريسيع ــ وهو مكان الماء ــ فاضطرب

(2)

عليه قُبَّتَه ومعه عائشة وأم سلمة، فتهيَّؤُوا للقتال.

وصفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، ورايةُ المهاجرين مع أبي بكر الصديق

(1)

وتُعرف أيضًا بغزوة بني المصطلق.

(2)

المطبوع: «ضرب» . والمثبت من الأصول موافق لما في «السيرة» للدمياطي (ق 86) ــ والمؤلف صادر عنه ــ، ولما في أصول «طبقات ابن سعد» (2/ 60) على ما ذكره محققه في الهامش. ومعنى «اضطرب»: ضرب، أو أمر أن يُضرَب له. انظر:«تاج العروس» (3/ 248). وروي في قصة الحديبية (كما سيأتي ص 359) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان «يصلي في الحرم وهو مُضطَرِب في الحِلِّ» ، أي ضارب خيمته فيه.

ص: 299

وراية الأنصار مع سعد بن عبادة، فتراموا بالنبل ساعةً

(1)

ثم أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فحملوا حملةَ رجلٍ واحد، فكانت النصرة وانهزم المشركون وقُتِل من قتل منهم، وسبى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النساء والذراري والنَّعَم والشاء، ولم يُقتَل من المسلمين إلا رجل واحد. هكذا قال عبد المؤمن بن خَلَف في «سيرته»

(2)

وغيرُه، وهو وهم، فإنه لم يكن بينهم قتال، وإنما أغار عليهم على الماء فسبى ذراريهم وأموالهم، كما في «الصحيح»

(3)

: «أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارُّون

» وذكر الحديث.

وكان من جملة السبي جويريةُ بنت الحارث سيدِ القوم، وقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوَّجها، فأعتق المسلمون بسبب هذا التزويج مائةَ أهل بيت من بني المصطلق قد أسلموا، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

.

قال ابن سعد

(5)

: وفي هذه الغزوة سقط عِقد لعائشة فاحتبسوا على طلبه فنزلت آية التيمم.

(1)

«ساعة» ساقطة من ص، ز، د.

(2)

(ق 86 - نسخة شستربيتي)، وهو صادر عن «طبقات ابن سعد» (2/ 60) وهو عن شيخه الواقدي (1/ 407). وبنحوه ذكره أيضًا ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 290) ــ عن عاصم بن عمر بن قتادة وغيره من التابعين مرسلًا.

(3)

للبخاري (2541) ومسلم (1730) من حديث ابن عمر، وكان في ذلك الجيش.

(4)

أخرجه أحمد (26365) وأبو داود (3931) وابن حبان (4054) والحاكم (4/ 26) من حديث عائشة بإسناد حسن. قالت عائشة: «فما أعلم امرأة كانت أعظمَ بركةً على قومها منها» .

(5)

«الطبقات» (2/ 61)، والمؤلف صادر عن «سيرة الدمياطي» (ق 86).

ص: 300

وذكر الطبراني في «معجمه»

(1)

من حديث محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت: «لمّا كان من أمر عقدي ما كان، قال أهلُ الإفك ما قالوا، فخرجتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ أخرى فسقط أيضًا عقدي حتى حبس التماسُه الناسَ ولقيتُ من أبي بكرٍ ما شاء الله، وقال لي: يا بُنيَّة في كل سفرٍ تكُونين عناءً وبلاءً؟! وليس مع الناس ماء، فأنزل الله الرخصة بالتيمم» .

وهذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة، وهو الظاهر

(2)

، ولكن فيها كانت قصةُ الإفك بسبب فقدِ العقد والتماسِه، فاشتبه على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى، والله أعلم. ونحن نشير إلى قصة الإفك:

وذلك أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خرج بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها، وكانت تلك عادته مع نسائه، فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة لحاجتها

(3)

ثم رجعت ففقدت عقدًا

(1)

«الكبير» (23/ 121)، وفي إسناده إلى ابن إسحاق ضعف. وقد أخرجه أحمد (26341) من طريق آخر عن ابن إسحاق بنحوه، وقد صرَّح فيه ابن إسحاق بالتحديث، فإسناده حسن، إلا أنه ليس فيه قول عائشة في أوله:«لمّا كان من أمر عقدي ما كان قال أهل الإفك ما قالوا» .

(2)

ويدل عليه أيضًا قول أُسيد بن حُضير لعائشة في قصة التيمم كما في «صحيح البخاري» (336): «جزاك الله خيرًا، فوالله ما نزل بكِ أمرٌ تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيرًا» ؛ ففيه إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك. انظر: «فتح الباري» لابن رجب (2/ 31).

(3)

ساقط من م، ق، ب. وكأنه مضروب عليه في ص.

ص: 301

لأختها كانت أعارتها إياه، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه، فجاء النفر الذين كانوا يُرحِّلون هودجها فظنوها فيه فحملوا الهودج ولا ينكرون خفته، لأنها رضي الله عنها كانت فتيَّة السنِّ لم يغشَها اللحمُ الذي يُثقلها، وأيضًا فإن النفر لما تساعَدوا على حمل الهودج لم يُنكروا خِفَّته، ولو كان الذي حمله واحدًا أو اثنين لم يخفَ عليهما الحال.

فرجعت عائشة إلى منازلهم وقد أصابت العِقدَ فإذا ليس بها داعٍ ولا مجيب، فقعدت في المنزل وظنَّت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها ــ والله غالب على أمره يدبّر الأمرَ فوقَ عرشه كما يشاء ــ، فغلبتْها عيناها فنامت فلم تستيقظ إلا بقول صَفوان بن المعطَّل: إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكان صفوان قد عرَّس في أخريات الجيش، لأنه كان كثير النوم كما جاء عنه في «صحيح أبي حاتم» وفي «السنن»

(1)

. فلما رآها عرفها ــ وكان يراها قبلَ نزول الحجاب ــ فاسترجع وأناخ راحلته فقرَّبها إليها فركبت

(2)

، وما كلَّمها كلمةً واحدةً ولم تسمع منه إلا استرجاعه.

ثم سار بها يقودها حتى قدم بها وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة، فلما رأى ذلك الناسُ تكلَّم كلٌّ منهم بشاكلته وما يليق به، ووجد الخبيثُ عدوُّ الله ابنُ أبيٍّ متنفَّسًا فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه، فجعل يستحكي الإفكَ ويستوشيه، ويُشِيعه ويذيعه، ويجمعه ويفرقه، وكان أصحابه

(1)

«صحيح أبي حاتم» (1488) و «سنن أبي داود» (2459)، أخرجه أيضًا أحمد (11759) والحاكم (1/ 436)، ورجاله ثقات رجال الشيخين إلا أن بعضهم استنكر متنه. انظر:«تهذيب السنن» للمؤلف (2/ 182 - 183).

(2)

ص، ز، د:«فركبته» . وفي هامش ز، ن، النسخ المطبوعة:«فركبتها» .

ص: 302

يتقربون إليه به.

فلما قدموا المدينة أفاض أهلُ الإفك في الحديثِ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم، ثم استشار أصحابه في فراقها فأشار عليه عليٌّ بأن يُفارِقها ويأخذَ غيرَها تلويحًا لا تصريحًا، وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها وبأن لا

(1)

يلتفت إلى كلام الأعداء

(2)

.

فعليٌّ لمّا رأى أن ما قيل مشكوك فيه أشار بترك الشك والريبة إلى اليقين ليتخلَّص رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الهمِّ والغمِّ الذي لحقه بكلام الناس فأشار بحسم الداء؛ وأسامة لمّا علم حبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ولأبيها، وعلم من عفَّتها وبراءتها وحصانتها وديانتها ما هي فوقَ ذلك وأعظمُ منه، وعرف من كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربِّه ومنزلته عنده ودفاعِه عنه أنه لا يجعل ربَّةَ بيته وحبيبتَه من النساء وبنتَ صديقه بالمنزلة التي أنزلها بها أرباب الإفك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرمُ على ربه وأعزُّ عليه من أن يجعل تحته امرأةً بغيًّا، وعلم أن الصديقة حبيبةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرمُ على ربها من أن يبتليها بالفاحشة وهي تحت رسوله

(3)

؛ فمن قويت معرفةُ الله ومعرفةُ رسولِه صلى الله عليه وسلم وقدرُه عند الله في قلبه قال

(4)

كما قال أبو أيوب وغيره من سادات الصحابة لمَّا سمعوا ذلك:

(1)

م، ق، ب، ن:«وأن لا» .

(2)

قصة الإفك أخرجها البخاري (2661، 4141، 4750) ومسلم (2770) من حديث عائشة رضي الله عنها مطوّلة.

(3)

لم يأت جواب «لمّا» في كلام المؤلف، ولعله اكتفى بدلالة السياق عليه، والتقدير أن أسامة لمّا علم كلَّ ذلك أشار عليه بإمساكها وعدم الالتفات إلى كلام الأعداء.

(4)

«قال» ساقطة من ص، د، ن.

ص: 303

«سبحانك هذا بهتان عظيم!»

(1)

.

وتأمَّل ما في تسبيحهم لله وتنزيههم له في هذا المقام من المعرفة به، وتنزيهِه عمَّا لا يليق به أن يجعل لرسوله وخليله وأكرم الخلق عليه امرأةً خبيثةً بغيًّا؛ فمن ظن به سبحانه هذا فقد ظنَّ به ظن السَّوء، وعرف أهلُ المعرفة بالله ورسوله أن المرأة الخبيثة لا تليق إلا بمثلها، كما قال تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26]، فقطعوا قطعًا لا يشكُّون فيه أن هذا بهتان عظيم وفِرية ظاهرة.

فإن قيل: فما بالُ رسول الله صلى الله عليه وسلم توقَّف في أمرها وسأل عنها وبحث واستشار، وهو أعرف بالله وبمنزلته عنده وبما يليق به؟ وهلَّا قال:«سبحانك هذا بهتان عظيم» كما قاله فضلاء الصحابة؟

فالجواب: أن هذا من تمام الحِكَم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سببًا لها وامتحانًا وابتلاءً لرسوله ولجميع الأمة إلى يوم القيامة، ليرفع بهذه القصة أقوامًا ويضع بها آخرين، ويزيد الله الذين اهتدوا هدًى وإيمانًا، ولا يزيد

(1)

أخرجه البخاري (7370) من حديث عائشة رضي الله عنها دون تسمية القائل وإنما هو «رجل من الأنصار» . وذُكر أنه أبو أيوب في رواية الطبراني في «الكبير» (23/ 74 - 78) والواحدي في «أسباب النزول» (ص 523) .. وأخرج إسحاق بن راهويه في «مسنده» (1698) والطبري في «تفسيره» (17/ 212) وابن أبي حاتم (8/ 2546) عن بعض الأشياخ من الأنصار أن أبا أيوب قال لامرأته حين ذكرت له ما يقوله الناس: أكنت تفعلين ذلك؟ فقالت: لا والله، فقال: فعائشة والله خير منك وأطيب، فأنزل الله:{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12].

ص: 304

الظالمين إلا خسارًا، واقتضى تمامُ الامتحان

(1)

والابتلاء أن حبس عن رسوله الوحيَ شهرًا في شأنها لا يوحى إليه في ذلك شيء؛ لتتمَّ حكمتُه التي قدَّرها وقضاها وتظهرَ على أكمل الوجوه، ويزدادَ المؤمنون الصادقون إيمانًا وثباتًا على العدل والصدق وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته والصدِّيقين من عباده، ويزدادَ المنافقون إفكًا ونفاقًا، ويَظهرَ لرسول الله وللمؤمنين سرائرُهم، ولتَتمَّ العبوديةُ المرادة من الصديقة وأبويها

(2)

وتتمَّ نعمةُ الله عليهم، ولتشتد الفاقةُ والرغبةُ منها ومن أبويها والافتقار إلى الله، والذلُّ له وحسنُ الظن به والرجاءُ له، ولينقطعَ رجاؤها من المخلوقين وتيأسَ من حصولِ النصر والفرج على يد أحدٍ من الخلق، ولهذا وفَّتْ هذا المقام حقَّه لما قال لها أبواها: قومي إليه ــ وقد أنزل اللهُ عليه

(3)

براءتها ــ فقالت: «والله لا أقوم إليه، ولا أحمدُ إلا الله، هو الذي أنزل براءتي»

(4)

.

وأيضًا: فكان من حكمة حبس الوحي شهرًا أن القضية نضجت

(5)

وتمخَّضت واستشرفت قلوب المؤمنين أعظمَ استشرافٍ إلى ما يوحيه الله إلى رسوله فيها وتطلَّعت إلى ذلك غاية التطلُّع، فوافى الوحيُ أحوجَ ما كان إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأهلُ بيته والصديقُ وأهلُه وأصحابه والمؤمنون، فورد عليهم ورودَ الغيث على الأرض أحوجَ ما كانت إليه، فوقع منهم أعظمَ موقعٍ

(1)

«الامتحان و» ساقط من ق.

(2)

ص، ز، د، ن:«أبيها» هنا وفي الموضع الآتي.

(3)

ص، ز، د:«أُنزل عليه» .

(4)

كما في حديثها الطويل عند الشيخين، وهذا لفظ مسلم (2770/ 56).

(5)

د: «محضت» . وفي المطبوع: «مُحِّصت» .

ص: 305

وألطفَه وسُرُّوا به أتمَّ السرور، وحصل لهم به غايةُ الهناء، ولو أطلع اللهُ رسولَه على حقيقة الحالِ من أوَّلِ وَهلةٍ وأنزل الوحيَ على الفور بذلك لفاتت هذه الحكم

(1)

وأضعافُها بل أضعافُ أضعافِها.

وأيضًا: فإن الله سبحانه أحبَّ أن يُظهر منزلةَ رسوله وأهلِ بيته عنده وكرامتَهم عليه، وأن يخرج رسوله من هذه القضية ويتولَّى هو بنفسه الدفاعَ والمنافحة عنه والردَّ على أعدائه وذمَّهم وعيبَهم بأمرٍ لا يكون له فيه عمل ولا ينسب إليه، بل يكون هو وحدَه المتولي لذلك الثائرَ لرسوله وأهل بيته.

وأيضًا: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المقصودَ بالأذى، والتي رميت زوجته، فلم يكن يليق به أن يشهد ببراءتها مع علمه أو ظنِّه المقاربِ

(2)

للعلم ببراءتها، ولم يظنَّ بها سوءًا قط ــ وحاشاه وحاشاها ــ، ولذلك لما استعذر من أهل الإفك قال:«من يعذرني مِن رجل بلغني أذاه في أهلي، والله ما علمتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمتُ عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي»

(3)

، وكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثرُ مما عند المؤمنين، ولكن لكمال صبره وثباته ورفقه وحسن ظنِّه بربه وثقتِه به وَفَّى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بالله حقَّه، حتى جاءه الوحيُ بما أقرَّ عينه وسرَّ قلبَه وعظَّم قدره، وظهر لأمته

(4)

احتفاء ربِّه به

(5)

واعتناؤه بشأنه.

(1)

ز، د:«الحكمة» .

(2)

م، ق:«المقارن» . ث: «المفارق» . كلاهما تصحيف.

(3)

ورد ضمن حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه، وقد سبق تخريجه.

(4)

ص، ز، د، ث، ن:«للأمة» .

(5)

ز: «احتفاله به» . ث، النسخ المطبوعة:«احتفال ربّه به» .

ص: 306

ولما جاء الوحي ببراءتها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرَّح بالإفك فحُدُّوا ثمانين ثمانين

(1)

، ولم يُحدَّ الخبيثُ عبد الله بن أُبي مع أنه رأس أهل الإفك؛ فقيل: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارةٌ، والخبيث ليس أهلًا لذلك، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، فيكفيه ذلك عن الحد.

وقيل: بل كان يستوشي الحديثَ ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالبِ من لا ينسب إليه.

وقيل: الحد لا يثبت إلا بإقرارٍ أو بيِّنةٍ

(2)

، وهو لم يقرَّ بالقذف ولا شهد به عليه أحد، فإنه إنما كان يذكره بين أصحابه ولم يشهدوا عليه، ولم يكن يذكره بين المؤمنين.

وقيل: حد القذف حقٌّ لآدميٍّ لا يستوفى إلا بمطالبته، وإن قيل: إنه حقٌّ لله فلا بد من مطالبة المقذوف؛ وعائشة لم تطالب به لابن أُبي.

وقيل: بل ترك حده لمصلحةٍ هي أعظمُ من إقامته، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلُّمه بما يوجب قتله مرارًا، وهي: تأليفُ قومه وعدمُ تنفيرهم عن الإسلام، فإنه كان مطاعًا فيهم رئيسًا عليهم، فلم تؤمَن إثارةُ الفتنة في حدِّه.

ولعله تُرِك لهذه الوجوه كلها؛ فجلد مِسطح بن أثاثة، وحسّان بن ثابت، وحمنة بنت جحش ــ وهؤلاء من المؤمنين الصادقين ــ تطهيرًا لهم وتكفيرًا،

(1)

كما في حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود (4474) والبيهقي في «الدلائل» (4/ 74)، وهم ثلاثة سيذكر المؤلف أسماءهم قريبًا.

(2)

ق، ث:«بالإقرار أو ببينة» . ب: «بالإقرار أو بينة» .

ص: 307

وترك عبد الله بن أُبيٍّ

(1)

إذ ليس

(2)

من أهل ذاك.

فصل

ومن تأمل قولَ الصديقة وقد نزلت براءتُها، وقال لها أبواها: قُومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:«والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله» = عَلِم معرفتها وقوةَ إيمانها، وتوليتها النعمةَ ربَّها وإفرادَها له بالحمد

(3)

في ذلك المقام

(4)

، وتجريدَها التوحيد، وقوةَ جأشِها وإدلالَها ببراءةِ ساحتها، وأنها لم تفعل ما يوجب قيامَها في مقام الراغب في الصلح الطالب له، ولِثقتها

(5)

بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها قالت ما قالت إدلالًا للحبيب على حبيبه، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي هو

(6)

مِن أحسن مقامات الإدلال، فوضعتْه في موضعه.

ولِلّاه ما كان أحبَّها إليه حين قالت: «لا أحمد إلا الله فإنه هو الذي أنزل براءتي» ! ولِلّاه ذلك الثباتُ والرزانة منها وهو أحب شيء إليها ولا صبر لها عنه! وقد تنكَّر قلبُ حبيبها لها شهرًا ثم صادفت الرضى منه والإقبال، فلم تبادر إلى القيام إليه والسرور برضاه وقربه مع شدة محبتها له، وهذا غاية الثبات والقوة.

(1)

ص، ن:«عدو الله بن أبي» .

(2)

د، ز، ب:«فليس» بالفاء بدل «إذ» . ص: «إذ فليس» .

(3)

ص، د، ز، ن:«إفراده بالحمد» .

(4)

قيل لعبد الله بن المبارك: إني لأستعظم هذا القول (يعني: قول عائشة)، فقال ابن المبارك:«ولَّت الحمدَ أهلَه» . أسنده الحاكم في «معرفة علوم الحديث» (ص 254).

(5)

ص، ز، د:«ثقتها» دون اللام.

(6)

«هو» ساقطة من م، ق، ب.

ص: 308

فصل

وفي هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي

(1)

؟» قام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال: «أنا أعذرك منه يا رسول الله» . وقد أشكل هذا على كثيرٍ من أهل العلم، فإن سعد بن معاذ لا يختلف أحد من أهل العلم أنه توفي عقب حكمه في بني قريظةَ عقيب الخندق، وذلك سنة خمس على الصحيح، وحديثُ الإفك لا شك أنه في غزوة بني المصطلق هذه ــ وهي غزوة المريسيع ــ والجمهور عندهم أنها كانت بعد الخندق سنةَ ستٍّ، فاختلفت طرق الناس في الجواب عن هذا الإشكال:

فقال موسى بن عقبة: غزوة المريسيع

(2)

كانت سنة أربعٍ قبل الخندق، حكاه عنه البخاري

(3)

.

وقال الواقدي

(4)

: كانت سنة خمس، قال: وكانت قريظة والخندق بعدها.

(1)

«في أهلي» ليس في م، ق، ب.

(2)

م، ق، ث:«في غزوة المريسيع» .

(3)

في «صحيحه» (المغازي، باب غزوة بني المصطلق). ويخالفه أن أبا عوانة أسند عن موسى بن عقبة في «مستخرجه» ط. الجامعة الإسلامية (7409) أنه قال: «

ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني المصطلق بالمريسيع»، وأيضًا فموسى بن عقبة ذكر عن الزهري أنه قال: ثم قاتل بني المصطلق في شعبان سنة خمس. أسنده أبو عوانة في الموضع المذكور والبيهقي في «الدلائل» (4/ 45). وهذا الذي جعل الحافظ ابن حجر يقول: وكأنه سبق قلم من البخاري أراد أن يكتب سنة خمس فكتب سنة أربع. «فتح الباري» (7/ 430).

(4)

«مغازيه» (1/ 4)، وأسنده عنه البيهقي في «الدلائل» (4/ 45).

ص: 309

وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق

(1)

: اختلفوا في ذلك، والأولى أن تكون المريسيع قبل الخندق.

وعلى هذا فلا إشكال، ولكنَّ الناس على خلافه، وفي حديث الإفك ما يدل على خلاف ذلك أيضًا لأن عائشة قالت: إن القصة كانت بعدما أُنزل الحجاب، وآية الحجاب نزلت في شأن زينب بنت جحش

(2)

، وزينب إذ ذاك كانت تحته، فإنه صلى الله عليه وسلم سألها عن عائشة فقالت: «أحمي

(3)

سمعي وبصري»، قالت عائشة:«وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم»

(4)

.

وقد ذكر أرباب التواريخ أن تزويجه بزينب كان في ذي القعدة سنة خمس، وعلى هذا فلا يصح قولُ موسى بن عقبة.

وقال محمد بن إسحاق

(5)

: إن غزوة بني المصطلق كانت في سنة ست بعد الخندق وذكر فيها حديث الإفك، إلا أنه قال عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة

(6)

عن عائشة فذكر الحديث. وقال: فقام أسيد بن الحضير

(1)

ابن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم الأزدي مولاهم، الإمام الجليل قاضي بغداد وشيخ مالكية العراق (ت 282). وقوله في «إكمال المعلم» لعياض (8/ 302) و «مشارق الأنوار» له (2/ 240) و «شرح مسلم» للنووي (17/ 110).

(2)

كما في البخاري (4792) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

من هنا سقطت ورقة من نسخة ق.

(4)

كما في حديث عائشة رضي الله عنها الطويل المتفق عليه، وقد سبق تخريجه.

(5)

كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 289).

(6)

لو زاد المؤلف بعده: «وغيرِه» ــ كما عند ابن حزم في «جوامع السيرة» (ص 206) ــ لكان أولى، فإن للزهري عدةَ مشايخ من التابعين يروون عن عائشة رضي الله عنها هذا الحديث، ولابن إسحاق طريقين آخرين عن عائشة غير طريق الزهري؛ وكلٌّ قد حدّث ببعض الحديث فدخل حديث بعضهم في بعضٍ في سياق واحد. انظر:«سيرة ابن هشام» (2/ 297).

ص: 310

فقال: أنا أعذرك منه، فردَّ عليه سعدُ بن عبادة؛ ولم يذكر سعد بن معاذ.

قال أبو محمد بن حزم

(1)

: وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه، وذكرُ سعد بن معاذ وهمٌ لأن سعد بن معاذ مات إثر فتح بني قريظة بلا شك، وكانت في آخر ذي القعدة من السنة الرابعة، وغزوةُ بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة، بعد سنةٍ وثمانِ أشهرٍ من موت سعد، وكانت المقاولة بين الرجلين المذكورين بعد الرجوع من غزوة بني المصطلق بأزيد من خمسين ليلةً.

قلت: الصحيح أن الخندق كان في سنة خمسٍ كما سيأتي

(2)

.

فصل

ومما وقع في حديث الإفك أن في بعض طرق البخاري

(3)

عن أبي وائل عن مسروق قال: «سألت أم رومان عن حديث الإفك فحدثتني» .

قال غير واحد

(4)

: وهذا غلط ظاهر، فإن أم رومان ماتت على عهدِ

(1)

«جوامع السيرة» (ص 206).

(2)

يقصد به المؤلف الردَّ على قول ابن حزم السابق: إن فتح بني قريظة (وهو متصل بغزوة الخندق) كان في السنة الرابعة.

(3)

برقم (3388، 4143، 4691) بنحوه. واللفظ المذكور هو لفظ رواية الخطيب البغدادي، كما نقله ابن الجوزي في «كشف المشكل من حديث الصحيحين» (4/ 480).

(4)

أشهرهم الخطيب البغدادي، كما في «كشف المشكل» لابن الجوزي (4/ 480 - 482) و «تحفة الأشراف» (13/ 79). وانظر:«هُدى الساري» (ص 373).

ص: 311

رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها وقال: «من سرَّه أن ينظر إلى امرأةٍ من الحُور العِين فلينظر إلى هذه»

(1)

. قالوا: ولو كان مسروق قدم المدينة في حياتها وسألها لَلَقِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه، ومسروقٌ إنما قدم المدينة بعد موتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قالوا: وقد روى مسروق عن أمِّ رومان حديثًا غير هذا فأرسل الرواية عنها، فظن بعض الرواة أنه سمع منها فحمل هذا الحديث على السماع.

قالوا: ولعل مسروقًا قال: «سُئِلت أم رومان» فتصحّف على بعضهم بـ «سألت» ، لأن من الناس من يكتب الهمزة بالألف على كل حال.

وقال آخرون: كل هذا لا يرد الرواية الصحيحة التي أدخلها البخاري في «صحيحه» . وقد قال إبراهيم الحربي

(2)

وغيره: إن مسروقًا سألها وله خمس عشرة سنةً، ومات وله ثمانٍ وسبعون سنةً، وأم رومان أقدم من حدث عنه.

قالوا: وأما حديث موتها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزولِه في قبرها فحديث لا يصح

(3)

، وفيه علتان تمنعان صحته:

إحداهما: رواية علي بن زيد بن جُدعان له، وهو ضعيف الحديث لا يحتج بحديثه.

والثانية: أنه رواه عن القاسم بن محمد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والقاسم لم يدرك

(1)

أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (10/ 262) من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جُدْعان عن القاسم بن محمد بن أبي بكر مرسلًا.

(2)

نقله ابن الجوزي في «كشف المشكل» (4/ 480).

(3)

وقد قال عنه البخاري: فيه نظر، وحديث مسروق أسند. «التاريخ الأوسط» (1/ 372).

ص: 312

زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فكيف يُقدَّم هذا على حديثٍ إسناده كالشمس يرويه

(1)

البخاري في «صحيحه» ويقول فيه مسروق: «سألت أم رومان فحدثتني» ، وهذا يردُّ أن يكون اللفظ:«سُئِلت» .

وقد قال أبو نعيم في كتاب «معرفة الصحابة»

(2)

: قد قيل: إن أم رومان توفيت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو وهمٌ.

فصل

ومما وقع في حديث الإفك أن في بعض طرقه أن عليًّا قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما استشاره: سَل الجاريةَ تصدقك، فدعا بريرة فسألها فقالت: ما علمتُ عليها إلا ما يعلم الصائغ على التبر، أو كما قالت

(3)

.

وقد استشكل هذا، فإن بريرة إنما كاتبت وعَتَقتْ بعد ذلك بمدة طويلة، وكان العباسُ عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في المدينة ــ والعباس إنما قدم المدينة بعد الفتح ــ، ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم وقد شفع

(4)

إلى بريرة أن تراجع زوجها

(5)

فأبت أن تراجعه: «يا عباس، ألا تعجب من بُغضِ بريرة مُغيثًا وحبِّه

(1)

ص، ز، د:«برواية» .

(2)

(6/ 3498).

(3)

أخرجه البخاري (4757) ومسلم (2770/ 58) ولفظه: «

على تبر الذهب الأحمر»، وليس فيهما تسمية الجارية، وقد ورد تسميتها «بريرة» في روايات أُخر عند البخاري (2661، 4141، 4750) ومسلم (2770/ 56).

(4)

زِيد بعده في ز، ع:«لمغيث» .

(5)

«أن تراجع زوجها» من م، ب، ث. وليس من سائر الأصول.

ص: 313

لها!»

(1)

؛ ففي قصة الإفك لم تكن بريرة عند عائشة.

وهذا الذي ذكروه إن كان لازمًا فيكون الوهم من تسمية الجارية «بريرة» ، ولم يقل له عليٌّ: سل بريرة، وإنما قال: فسل الجارية، فظن بعض الرواة أنها بريرة فسمَّاها بذلك؛ وإن لم يلزم بأن يكون طلبُ مغيثٍ لها استمر إلى بعد الفتح ولم ييأس منها، زال الإشكال. والله أعلم.

فصل

وفي مرجعهم من هذه الغزوة قال رأس المنافقين ابنُ أُبَيّ: «لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعزُّ منها الأذل، فبلَّغها زيد بن أرقم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وجاء ابن أُبَي يعتذر ويحلف ما قال فسكت عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تصديق زيدٍ في سورة المنافقين، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذنه وقال: «أبشِرْ فقد صدَّقك الله» ثم قال: «هذا الذي وفَّى اللهَ بأذنه» ، فقال له عمر: يا رسول الله، مُرْ عبَّاد بن بِشر فليضرب عنقه، فقال:«فكيف إذا تحدَّث الناسُ أن محمدًا يقتل أصحابه؟»

(2)

.

* * *

(1)

أخرجه البخاري (5283) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

ذكره ابن إسحاق بنحوه عن شيوخه من التابعين (عاصم بن عمر بن قتادة وغيره)، كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 290 - 292) و «تفسير الطبري» (22/ 666 - 669). وأخرجه البخاري (4900) من حديث زيد بن أرقم وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم له:«إن الله قد صدقك» . وقول عمر أخرجه البخاري (4905) ومسلم (2584/ 63) من حديث جابر بلفظ: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«دَعْه، لا يتحدَّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» .

ص: 314