الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في غزوة الطائف في شوال سنة ثمان
قال ابن سعد
(1)
: قالوا: ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى الطائف بعث الطفيل بن عمروٍ إلى ذي الكَفَّين صنمِ عمرو بن حُمَمة الدوسي يهدمه، وأمره أن يستمدَّ قومَه ويوافيه بالطائف، فخرج سريعًا إلى قومه فهدم ذا الكفَّين وجعل يحشو
(2)
النار في وجهه ويحرقه ويقول:
يا ذا الكفَين لستُ مِن عُبَّادكا
(3)
…
ميلادنا أكبر من ميلادكا
(4)
إني حشوتُ النار في فؤادكا
(5)
وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعًا، فوافوا النبي صلى الله عليه وسلم بالطائف بعد
(1)
في «طبقاته» (2/ 145) ــ والمؤلف صادر عن «عيون الأثر» (2/ 200) ــ، وهو عند شيخه الواقدي في «مغازيه» (3/ 922) فيما حدّث به عن شيوخه. والخبر عند ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام (1/ 385) ــ عند ذكر إسلام الطفيل بن عمرو مختصرًا، وظاهره وظاهر رواية أخرى عند الواقدي (2/ 870): أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه لهدم الصنم إثر فتح مكة حين بث السرايا لهدم مناةَ والعُزَّى وغيرها.
(2)
كذا في الأصول ومطبوعة الواقدي. وفي مصدري النقل: «يحشُّ» ، وهو أولى فإنه يُقال:«حش النار» إذا أوقدها وجمع إليها ما تفرّق من الحطب.
(3)
«الكفين» بتخفيف الفاء للضرورة الشعرية. وانظر: «الروض الأنف» (3/ 376).
(4)
«أكبر» كذا في «عيون الأثر» ، وفي المطبوع:«أقدم» وفاقًا لابن إسحاق والواقدي وابن سعد.
(5)
«حشوت» كذا في الأصول و «سيرة ابن هشام» (1/ 385). وفي «مغازي الواقدي» و «الطبقات» و «عيون الأثر» : «حششت» .
مقدمه بأربعة أيام، وقدم بدبَّابة
(1)
ومَنْجَنيق.
قال ابن سعد
(2)
: ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حُنينٍ يريد الطائف قدَّم خالد بن الوليد على مقدِّمته، وكانت ثقيف قد رَمَّوا حِصنَهم
(3)
وأدخلوا فيه ما يُصلحهم لسنة، فلما انهزموا من أوطاس دخلوا حِصنَهم وأغلقوه عليهم وتهيؤوا للقتال، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قريبًا من حصن الطائف وعسكرَ هناك، فرموا المسلمين بالنبل رميًا شديدًا كأنه رِجلُ جَرَاد
(4)
، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة وقُتِل منهم اثنا عشر رجلًا، فارتفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع مسجد الطائف اليوم، وكان معه من نسائه أمُّ سلمة وزينب فضرب لهما قُبَّتين، وكان يُصلِّي بين القُبَّتَين مدة حصار الطائف، فحاصرهم ثمانية عشر يومًا ــ وقال ابن إسحاق
(5)
: بضعًا وعشرين ليلةً ــ، ونصب عليهم المَنْجَنيق وهو أول ما رُمي به في الإسلام.
(1)
الدبابة: آلة كانت تتّخذ في حرب الحِصار، يدخل فيها الرجال بسلاحهم ثم تُدفع في أصل الحصن فينقبون وهم في جوفها وهي تقيهم نبل العدوِّ ورميه. ومنها سميت الدبابة المعروفة اليوم.
(2)
في «الطبقات» (2/ 145)، وهو عند شيخه (3/ 924) بأطول منه. والنقل من «عيون الأثر» (2/ 200).
(3)
أي: أصلحوا ما فسد منه.
(4)
رِجل الجراد: الجماعة الكثيرة من الجراد.
(5)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 482)، وقال ابن هشام: ويقال: سبع عشرة ليلة. وفي حديث أنس عند مسلم (1059/ 136) أنهم حاصروا الطائف أربعين ليلة ثم رجعوا إلى مكة.
وقال ابن سعد
(1)
: أخبرنا
(2)
قَبِيصة، أخبرنا سفيان، عن ثور بن يزيد، عن مكحول: أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف أربعين يومًا.
قال ابن إسحاق
(3)
: حتى إذا كان يوم الشَّدْخة
(4)
عند جدار الطائف دخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دبابة ثم دخلوا
(5)
بها إلى جدار الطائف ليخرقوه
(6)
، فأرسلت عليهم ثقيف سِكَك الحديد مُحماةً بالنار
(1)
في «الطبقات» (2/ 146). وأخرجه أيضًا أبو داود في «المراسيل» (335) من طريق آخر عن سفيان به، والحديث مرسل. وفي الباب حديث أبي عبيدة بن الجرَّاح أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب عليهم المنجنيق سبعة عشر يومًا، أخرجه البيهقي في «السنن» (9/ 84) بإسناد غريب استنكره بعض الأئمة. وجاء ذكر نصب المنجنيق أيضًا في حديث عليٍّ عند العقيلي في «الضعفاء» (3/ 202) وابن الأعرابي في «معجمه» (838)، ولكن إسناده واه. وذكره أيضًا الواقدي في «مغازيه» (3/ 927)، ولم يذكره موسى بن عقبة ولا ابن إسحاق، بل قد أنكره يحيى بن أبي كثير ــ وهو من صغار التابعين ــ وقال: ما نعرف هذا، أسنده عنه أبو داود في «المراسيل» (336)، ويحيى بن أبي كثير وصفه أيوب السَّختياني بقوله: ما أعلم أحدًا بعد الزهرى أعلم بحديث أهل المدينة من يحيى بن أبى كثير. قلتُ: فبعيد أن يكون هذا ثابتًا ثم يخفى على مثله، والله أعلم.
(2)
في الأصول هنا وفي الموضع الآتي: «أنا» أو «أبنا» وكلاهما اختصار للمثبت، وفي المطبوع:«حدثنا» خلافًا للأصول ولمصدرَي النقل.
(3)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 483)، والنقل من «عيون الأثر» (2/ 201).
(4)
الشدخ: الكسر، وسُمِّي يوم الشدخة لِما أصاب المسلمين يومئذ من القتل والجراحات.
(5)
كذا في الأصول، والذي في مصدري النقل:«زحفوا» .
(6)
المطبوع: «ليحرقوه» بالحاء المهملة. والمثبت موافق لمطبوعة مصدرَي النقل، ويؤيده لفظ الواقدي في «مغازيه» (3/ 928):«ليحفروه» .
فخرجوا من تحتها
(1)
فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلوا منهم رجالًا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف، فوقع الناس فيها يقطعون.
قال ابن سعد
(2)
: فسألوه أن يدعها لله وللرحم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فإني أدعها لله وللرحم» ، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أيما عبدٍ نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرٌّ» ، فخرج منهم بضعة عشر رجلًا فيهم أبو بكرةَ، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
، ودفع كلُّ رجلٍ منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشقَّ ذلك على أهل الطائف مشقةً شديدةً.
ولم يؤذَن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نَوفل بن معاوية الدِّيلي فقال:«ما ترى؟» فقال: ثعلب في جُحرٍ إن أقمتَ عليه أخذتَه وإن تركته لم يَضرُرْك
(4)
، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب فأذَّن في الناس بالرحيل، فضج الناس من ذلك وقالوا: نرحل ولم يُفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فاغدوا على القتال» فغدَوا، فأصابت
(1)
أي: من تحت الدبَّابة، لأنها احترقت لمّا أصابها سكك الحديد، كما عند الواقدي.
(2)
«الطبقات» (2/ 145) و «عيون الأثر» (2/ 201).
(3)
خروج أبي بكرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإعتاقه إياه روي من غير وجهٍ، منها ما رواه عبد الرزاق (9682) بإسناد صحيح عن أبي عثمان النهدي عن أبي بكرة أنه خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر أهل الطائف بثلاثة وعشرين عبدًا فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو عند البخاري (4327) من وجهٍ آخر مختصرًا. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه «أبا بكرة» لأنه تدَّلى من حصن الطائف ببكرة، أخرجه الحاكم (4/ 279) بإسناد فيه لين. وانظر:«سنن البيهقي» (9/ 229 - 230).
(4)
س، المطبوع:«لم يَضرَّك» ، وهما لغتان في المضاعف المجزوم.
المسلمين جراحات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا قافلون
(1)
إن شاء الله»، فسُرُّوا بذلك وأذعنوا وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك
(2)
.
فلما ارتحلوا واستقلوا قال: «قولوا: آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون»
(3)
.
وقيل: يا رسول الله، ادع الله على ثقيف، فقال:«اللهم اهْدِ ثقيفًا وائت بهم»
(4)
.
(1)
زيد في المطبوع بعده: «غدًا» ، وليس في شيء من الأصول ولا في «الطبقات» و «عيون الأثر» ، وإنما جاء ذلك في حديث ابن عمر عند البخاري الآتي تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (4325، 6086، 7480) من حديث ابن عمر بنحوه، دون ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذَن له في فتحها واستشارته نوفل الديلي، والأمران عند الواقدي (3/ 936 - 937) بإسناد له عن أبي هريرة. وفي مغازي أبي الأسود عن عروة ــ كما في «الدلائل» (5/ 169) ــ أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تدعو على أهل الطائف فتنهض إليهم لعل الله يفتحها، فإن أصحابك كثير وقد شقَّ عليهم الحبسُ ومنعُهم معايشَهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«لم يؤذَن لنا في قتالهم» ، فلما رأى ذلك عمر قال: أفلا آمر الناس فلا يسرِّحوا ظهرهم حتى يرتحلوا بالغداة؟ قال: «بلى» .
(3)
تفرّد به الواقدي وكاتبه (ابن سعدٍ) من هذا الوجه، وإلا فقد ثبت من حديث ابن عمر في «الصحيحين» أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك إذا قفل من غزوٍ أو حج أو عمرة، وقد سبق ذكره في فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في سفره (1/ 587) وفصل في هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار السفر (2/ 520، 526).
(4)
هنا انتهى نقل كلام ابن سعد. والحديث ذكره أيضًا ابن إسحاق ــ كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 488) ــ دون إسناد. وأخرجه أحمد (14702) والترمذي (3942) من حديث جابر دون قوله: «وائتِ بهم» ، قال الترمذي: حديث حسن غريب. وفي مغازي أبي الأسود عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا حين ركب قافلًا: «اللهم اهدِهم واكفِنا مؤونتهم» .
واستشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف جماعة
(1)
، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطائف إلى الجِعرانة
(2)
، ثم دخل منها مُحرِمًا بعمرةٍ فقضى عمرتَه ثم رجع إلى المدينة
(3)
.
فصل
قال ابن إسحاق
(4)
: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك في رمضان وقدم عليه في ذلك الشهر وفدُ ثقيفٍ، وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم اتَّبع أثره عروةُ بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ كما يتحدث قومه
(5)
ــ: «إنهم قاتلوك» وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم نخوةَ الامتناع الذي كان منهم، فقال عروة: يا رسول الله، أنا أَحبُّ إليهم مِن أبكارهم، وكان فيهم كذلك محبَّبًا مُطاعًا، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف لهم على عِلِّيَّةٍ له
(6)
وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنَّبل من كلِّ وجه، فأصابه سهم
(1)
هم اثنا عشر رجلًا ساق ابن إسحاق أسماءهم، كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 486) و «عيون الأثر» (2/ 202).
(2)
وبها قسم غنائم حنين كما سبق.
(3)
كما في حديث أنس المتفق عليه، وقد سبق أن ذكره المؤلف (2/ 112).
(4)
كما في «سيرة ابن هشام» (2/ 537) و «عيون الأثر» (2/ 228). وانظر خبر الوفد عند موسى بن عقبة كما في «دلائل النبوة» (5/ 299) ــ وسيسوق المؤلف لفظه في فصل الوفود (ص 750) ــ، وعند الواقدي (3/ 960) وابن سعد (1/ 270).
(5)
المطبوع: «قومك» ، خطأ مخالف للأصول ومصدر النقل.
(6)
العِلِّيَّة ــ بكسر العين وضمها ــ: الغُرفة في عُلْو الدار.
فقتله، فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها الله إليَّ، فليس فيَّ إلا ما في الشهداء الذين قُتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم فادفنوني معهم، فدفنوه معهم، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه:«إن مَثَله في قومه كمَثَلِ صاحب يس في قومه»
(1)
.
ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرًا، ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنه لا طاقة لهم بحربِ مَن حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا، وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا كما أرسلوا عروة، فكلَّموا عبدَ ياليلَ بن عمرو بن عمير ــ وكان سِنَّ عروة بن مسعود ــ وعرضوا عليه ذلك، فأبى أن يفعل وخشي أن يُصنع به إذا رجع
(2)
كما صنع بعروة، فقال: لستُ فاعلًا حتى ترسلوا معي رجالًا، فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثةً من بني مالك
(3)
فيكونون ستةً، فبعثوا معه الحكمَ بنَ عمرِو بن وهبٍ وشرحبيلَ بن غيلان، ومن بني مالك: عثمانَ بن أبي العاص وأوسَ بن عوفٍ ونمير
(4)
بن خرشة، فخرج بهم فلما دَنَوا من المدينة ونزلوا قناةَ
(5)
(1)
ذكره أيضًا عروة وموسى بن عقبة والواقدي في مغازيهم بنحوه .. وله شواهد مرسلة تعضده، منها: مرسل مِقسم مولى ابن عباس عند عبد الرزاق في «تفسيره» (2/ 139)، ومرسل أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عند ابن أبي شيبة (38055)، ومرسل قتادة بإسناد صحيح عند ابن أبي شيبة (28177) أيضًا، ومرسل عبد الملك بن عمير عند ابن أبي حاتم في «تفسيره» (10/ 3191).
(2)
«إذا رجع» ساقط من المطبوع.
(3)
الأحلاف وبنو مالك هما بطنا ثقيفٍ.
(4)
في الأصول: «بهز» ، تصحيف.
(5)
هو الوادي الذي يمرُّ بين المدينة وأُحُد. انظر: «معجم المعالم في السيرة» (ص 258) و «معجم معالم حجاز» (ص 1403).
ألْفَوا بها المغيرة بن شعبة، فاشتد ليبشِّر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر فقال له: أقسمتُ عليك لا تسبقني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكونَ أنا أحدِّثه، ففعل فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقدومهم عليه، ثم خرج المغيرة على
(1)
أصحابه فروَّح الظهرَ معهم وعلَّمهم كيف يُحيُّون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبةً في ناحية مسجده كما يزعمون.
وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اكتتبوا كتابهم، وكان خالد هو الذي كتبه، وكانوا لا يأكلون طعامًا يأتيهم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكلَ منه خالد حتى أسلموا.
وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فما برحوا يسألونه سنةً سنةً ويأبى عليهم حتى سألوه شهرًا واحدًا بعد قدومهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئًا مسمًّى، وإنما يريدون بذلك ــ فيما يُظهرون ــ أن يَسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريِّهم، ويكرهون أن يروِّعُوا قومهم بهدمها حتى يَدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها
(2)
.
وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا
(1)
س، المطبوع:«إلى» ، وهو كذلك في مصدري النقل.
(2)
وفي مغازي عروة وموسى بن عقبة ــ كما في «الدلائل» (5/ 303) ــ أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل جماعة من الصحابة وأمَّر عليهم خالد بن الوليد، وفيهم المغيرة بن شعبة.
أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه»
(1)
.
فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا أمَّر عليهم عثمان بن أبي العاص، وكان مِن أحدثهم سِنًّا، وذلك أنه كان مِن أحرصهم على التفقُّه في الإسلام وتعلُّم القرآن
(2)
.
فلما فرغوا من أمرهم وتوجهوا إلى بلادهم راجعين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية، فخرجا مع القوم حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة بن شعبة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه وقال: ادخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بماله
(1)
يشهد له حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهم المسجد ليكون أرقَّ لقلوبهم، فاشترطوا عليه أن لا يُحشروا ولا يُعشروا ولا يُجَبُّوا ولا يُستعمل عليهم غيرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن لكم أن لا تُحشروا ولا تُعشروا ولا يُستَعمل عليكم غيركم، ولا خير في دينٍ لا ركوع فيه» . أخرجه أحمد (17913) وأبو داود (3026) وغيرهما بإسناد جيّد. والشاهد فيه قولهم: «لا يُجَبُّوا» أي: أن لا يركعوا، يقال: جَبَّى فلان تجبيةً، إذا انحنى قائمًا ووضع يديه على ركبتيه، وهو كناية عن أنهم لا يريدون أن يُصلُّوا. وأما قولهم:«لا يُحشروا ولا يُعشروا» فمعناه: لا يُندبوا إلى الجهاد ولا تؤخذ منهم الصدقة، كما جاء مصرَّحًا في حديث جابر عند أبي داود وغيره ــ وسيأتي (ص 715) ــ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا» .
(2)
يدل عليه ما جاء في رواية أحمد للحديث السابق: «وقال عثمان بن أبي العاص: يا رسول الله، علِّمني القرآن واجعلني إمام قومي» . وأخرج مسلم (468/ 186) من حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «أُمَّ قومَك، فمن أمَّ قومًا فليخفِّف فإن فيهم الكبيرَ
…
» الحديث.
بذي الهَرْم
(1)
فلما دخل المغيرة بن شعبة علاها يضربها بالمِعول وقام دونه بنو مُعتِّب
(2)
خشية أن يُرمى أو يصاب كما أصيب عروة، وخرج نساء ثقيفٍ حُسَّرًا يبكين عليها، ويقول أبو سفيان ــ والمغيرة يضربها بالفأس ــ: واهًا لكَ واهًا لكَ
(3)
! فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليَّها أرسل إلى أبي سفيان مجموعَ مالِها من الذهب والفضة والجَزْع
(4)
.
وقد كان أبو مليح بن عروةَ وقاربُ بن الأسود قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفد ثقيف حين قُتل عروة يريدان فراقَ ثقيفٍ وأن لا يُجامعاها
(5)
على شيء أبدًا فأسلما، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:«توَلَّيا من شئتما» ، فقالا: نتولى الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وخالَكما أبا سفيان بن حرب» ، فقالا: وخالنا أبا سفيان
(6)
.
(1)
ز، ث، س، ن، المطبوع:«الهدم» ، وكذا في مطبوعة «سيرة ابن هشام» . والمثبت من سائر النسخ موافق لما في «عيون الأثر» ، وهو الذي نصَّ عليه الحازمي في «المتفق والمفترق من الأمكنة» (ص 919) وياقوت في «معجم البلدان» (5/ 403).
(2)
في عامة الأصول: «مغيث» ، تصحيف. وهو مُعتِّب بن مالك بن كعب من الأحلاف من ثقيف، ومن بنيه عروة بن مسعود بن معتَّب الذي سبق أن قُتل شهيدًا، ومنهم ابن أخيه: قارب بن الأسود بن مسعود بن معتِّب سيد الأحلاف يوم حُنين. انظر: «أنساب الأشراف» للبلاذري (13/ 342 - 343).
(3)
واهًا: كلمة تعجُّب مِن حُسن الشيء وطيبه.
(4)
الجَزْع: خَرَز يماني فيه سواد وبياض، تشبَّه به الأعين، والواحدة: الجَزعة.
(5)
ص، د:«يجامعا» . وفي ن، المطبوع:«يجامعاهم» .
(6)
وجه كونه خالًا لهما ــ والله أعلم ــ أن عروة والأسود ابني مسعود أمهما: سُبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف، وأبو سفيان هو ابن حرب بن أمية بن عبد شمس.
فلما أسلم أهل الطائف سأل أبو مليح رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يقضي عن أبيه عروة دينًا كان عليه من مال الطاغية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«نعم» ، فقال له قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله فاقْضِه ــ وعروة والأسود أخوان لأب وأم ــ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأسود مات مشركًا» ، فقال [قارب بن]
(1)
الأسود: يا رسول الله، لكن تصل مسلمًا ذا قرابة ــ يعني نفسَه ــ وإنما الدين عليَّ وأنا الذي أُطلَب به، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أن يقضي دين عروةَ والأسودِ من مال الطاغية، ففعل.
وكان كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لهم: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي رسولِ الله إلى المؤمنين: إن عِضاهَ وجٍّ وصيدَه حرامٌ لا يُعضَد؛ من وُجد يفعل شيئًا من ذلك فإنه يُجلَد وتُنزَع ثيابُه، فإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيُبلَغ النبيَّ محمَّدًا، وإن هذا أمر النبي محمدٍ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وكتب خالد بن سعيدٍ بأمر الرسول محمد بن عبد الله، فلا يتعَدَّهُ أحدٌ فيظلمَ نفسَه فيما أمر به محمد رسول الله»
(2)
.
فهذه قصة ثقيف مِن أولها إلى آخرها سقناها كما هي وإن تخلَّل بين غزوِها وإسلامها غزاةُ تبوك وغيرها، ولكن آثرنا أن لا نقطع قصَّتَهم وأن نَنْظِم أوَّلَها بآخرها ليقع الكلامُ على فقه هذه القصة وأحكامها في موضع واحد.
فنقول: فيها من الفقه جواز القتال في الأشهر الحُرُم ونسخُ تحريمِ ذلك،
(1)
ساقط من جميع الأصول، وإنما أثبت في ن فوق السطر بخط مغاير مصحَّحًا عليه.
(2)
وذكر الكتاب بنحوه الواقديُّ في «مغازيه» (3/ 973) وكاتبه في «الطبقات» (1/ 246).
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة في أواخر رمضان بعد مضي ثمان عشرة ليلةً منه، والدليل عليه ما رواه أحمد في «مسنده»
(1)
: حدثنا إسماعيل عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس أنه مرَّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الفتح على رجل يحتجم بالبقيع لثمان عشرة خلت من رمضان وهو آخذ بيدي فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم» . وهذا أصحُّ مِن قول مَن قال: إنه خرج لعشرٍ خلون من رمضان
(2)
، وهذا الإسناد شرطُ مسلمٍ، فقد روى به بعينه:«إن الله كتب الإحسان على كل شيء»
(3)
.
وأقام بمكة تسع عشرة ليلةً يقصر الصلاة
(4)
، ثم خرج إلى هوازن فقاتلهم وفرغ منهم، ثم قصد الطائف فحاصرهم بضعًا وعشرين ليلةً في قول ابن إسحاق، وثمان عشرة ليلةً في قول ابن سعد، وأربعين ليلةً في قول مكحول
(5)
.
(1)
برقم (17112)، وأخرجه أيضًا النسائي في «الكبرى» (3126، 3140) وابن حبان (3534) والطبراني في «الكبير» (7/ 277) من طرق عن خالد الحذَّاء به. وأخرجه النسائي في «الكبرى» (3126) والبيهقي (4/ 268) من طريق هشيم عن منصور بن زاذان عن أبي قلابة به. وللحديث طرق أخرى عن أبي قلابة ولكن ليس فيها ذكر زمن الفتح. وقد صحّح الحديث الإمام وعلي ابن المديني وإسحاق بن راهويه وعثمان بن سعيد الدارمي كما أسنده عنهم الحاكم في «المستدرك» (1/ 428 - 429) وعنه البيهقي (4/ 267).
(2)
روي ذلك عن ابن عباس، وهو الذي سبق أن ذكره المؤلف في غزوة الفتح (ص 478).
(3)
«صحيح مسلم» (1955/ 57).
(4)
كما في حديث ابن عباس عند البخاري (4298).
(5)
وهو أصحّ الأقوال، لأنه صحَّ مِن قول أنس عند مسلم، كما سبق.
فإذا تأملتَ ذلك علمتَ أن بعض مدة الحصار في ذي القَعدة ولا بد، ولكن قد يقال: لم يبتدئ القتال إلا في شوال، فلما شرع فيه لم يقطعه للشهر الحرام، ولكن من أين لكم أنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ قتالًا في شهر حرام؟ وفرقٌ بين الابتداء والاستدامة.
فصل
ومنها: جواز غزو الرجل وأهلُه معه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه في هذه الغزاة أم سلمة وزينب.
فصل
ومنها: جواز نصب المنجنيق على الكفار ورميهم به وإن أفضى إلى قتل مَن لم يقاتل من النساء والذرية.
ومنها: جواز قطع شجر الكفار إذا كان ذلك يضعفهم ويغيظهم وهو أنكى فيهم.
ومنها: أن العبد إذا أبق من المشركين ولحق بالمسلمين صار حُرًّا. قال سعيد بن منصور
(1)
: حدثنا يزيد بن هارون عن الحجاج [عن الحَكَم]
(2)
عن مِقْسَم عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا جاؤوا قبل مواليهم.
(1)
في «سننه» برقم (2807) ــ والمؤلف صادر عن «المغني» لابن قدامة (13/ 116) ــ، وأخرجه أيضًا أحمد (2111) وابن أبي شيبة (34283) كلاهما عن يزيد بن هارون به. وإن كان في إسناده لين من أجل الحجّاج ــ وهو ابن أرطاة ــ وعنعنته، إلا أن له شاهدًا عند البخاري (5286) من رواية عطاء عن ابن عباس بنحوه.
(2)
سقط من جميع الأصول، واستُدرك من مصادر التخريج.
وروى سعيد
(1)
أيضًا قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد وسيده قضيتين: قضى أن العبد إذا خرج من دار الحرب قبلَ سيِّده أنه حرٌّ، فإن خرج سيده بعده لم يُردَّ عليه، وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد رُدَّ على سيده.
وعن الشعبي عن رجل من ثقيف قال: سألنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يردَّ علينا أبا بكرة وكان عبدًا لنا، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُحاصِر ثقيفًا فأسلم، فأبى أن يردَّه علينا وقال:«هو طليق الله ثم طليق رسوله» ، فلم يردَّه علينا
(2)
.
قال ابن المنذر
(3)
: وهذا قول كل من نحفظ عنه من أهل العلم.
فصل
ومنها: أن الإمام إذا حاصر حصنًا ولم يُفتَح عليه، ورأى مصلحة المسلمين في الرحيل عنه، لم يلزمه مصابرته وجاز له ترك مصابرته، وإنما تلزم المصابرة إذا كان فيها مصلحة راجحة على مفسدتها.
فصل
ومنها: أنه أحرم من الجِعْرانة بعمرة وكان داخلًا إلى مكة، وهذه هي
(1)
برقم (2806)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (29674)، كلاهما عن أبي معاوية، عن الحجّاج، عن أبي سعيد الأعسم ــ وهو من صغار التابعين أو من أتباعهم ــ مرسلًا.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور (2808) وأحمد (17530) وابن سعد في «الطبقات» (9/ 15) والطحاوي في «معاني الآثار» (3/ 278) بإسناد صحيح.
(3)
في «الأوسط» (6/ 304) و «الإشراف» (4/ 146)، والمؤلف صادر عن «المغني» (13/ 116).
السنة لمن دخلها من طريق الطائف وما يليه. وأما ما يفعله كثير ممن لا علم عندهم من الخروج من مكة إلى الجعرانة ليُحرم منها بعمرة ثم يرجع إليها، فهذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه البتة، ولا استحبَّه أحد من أهل العلم، وإنما يفعله عوام الناس ــ زعموا ــ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وغلطوا، فإنه إنما أحرم منها داخلًا إلى مكة، لم يخرج منها إلى الجعرانة ليحرم منها؛ فهذا لون وسنته لون، وبالله التوفيق.
فصل
ومنها: استجابة الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم دعاءَه لثقيفٍ أن يهديهم ويأتي بهم وقد حاربوه وقاتلوه وقتلوا جماعةً من أصحابه وقتلوا رسولَ رسوله الذي أرسله إليهم يدعوهم إلى الله، ومع هذا كلِّه فدعا لهم ولم يدعُ عليهم، وهذا من كمال رحمته ورأفته ونصيحته صلوات الله وسلامه عليه.
فصل
ومنها: كمال محبة الصِّدِّيق له وقصدُه التقربَ إليه والتحبُّبَ بكل ما يمكنه، ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم وفد الطائف ليكون هو الذي سرَّه
(1)
وفرَّحه بذلك. وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثره بقُربةٍ من القُرَب، وأنه يجوز للرجل أن يؤثر بها أخاه، وقولُ من قال من الفقهاء: لا يجوز الإيثار بالقرب= لا يصح
(2)
.
(1)
ن، المطبوع:«بشره» ، تصحيف.
(2)
وهذا خلاف ما ذهب إليه المؤلف في «طريق الهجرتين» (2/ 648 - 650) و «الروح» (2/ 386 - 388). وتأليف «زاد المعاد» متأخر عنهما.
وقد آثرت عائشةُ عمرَ بن الخطاب بدفنه في بيتها جوارَ النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
، وسألها عمر ذلك فلم يُكرَه له السؤالُ ولا لها البذلُ، وعلى هذا فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول لم يكره له السؤال ولا لذلك البذل، ونظائرُه.
ومن تأمل سيرة الصحابة وجدهم غير كارهين لذلك ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرم وسخاء، وإيثار على النفس بما هو مِن أعظم محبوباتها، وتفريحًا
(2)
لأخيه المسلم، وتعظيمًا لقدره، وإجابةً له إلى ما سأله، وترغيبًا له في الخير؛ وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحًا على ثواب تلك القربة، فيكون المُؤْثر بها ممن تاجر فبذل قربةً وأخذ أضعافَها.
وعلى هذا فلا يمتنع أن يؤثر صاحب الماء بمائه أن يُتوضأ به ويتيمَّم هو، إذ
(3)
كان لا بد من تيمم أحدهما، فآثر أخاه وحاز فضيلة الإيثار وفضيلةَ الطهر بالتراب، ولم يمنع من هذا كتاب ولا سنة ولا مكارم أخلاق.
وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف، ومع بعضهم ماء فآثر به على نفسه واستسلم للموت كان ذلك جائزًا، ولم نقُل إنه قاتل لنفسه ولا إنه فعل محرمًا، بل هذا غاية الجود والسخاء كما قال تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، وقد جرى هذا بعينه لجماعة من
(1)
أخرجه البخاري (1392).
(2)
كذا في الأصول منصوبًا، والوجه الرفع. وفي المطبوع حُذفت واو العطف لينتصب على الحال أو العلة.
(3)
المطبوع: «إذا» ، خطأ.
الصحابة في فتوح الشام
(1)
، وعُدَّ ذلك في مناقبهم وفضائلهم.
وهل إهداء القُرَبِ المجمَع عليها والمتنازَع فيها إلى الميت إلا إيثار بثوابها؟ وهو عين الإيثار بالقرب، فأي فرق بين أن يؤثره بفعلها ليُحرِزَ ثوابَها وبين أن يعمل ثم يؤثره بثوابها؟ وبالله التوفيق.
فصل
ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يومًا واحدًا، فإنها شعائر الكفر والشرك وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حكم المَشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانًا وطواغيت تُعبَد مِن دون الله والأحجارِ التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى أو أعظم شركًا عندها وبها، وبالله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد فيها أنها تخلق وترزق وتميت وتحيي، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سَنَن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القُذَّة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، فصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والسنةُ بدعةً والبدعة سنةً، ونشأ في ذلك الصغير وهَرِم عليه الكبير، وطَمَست الأعلامُ واشتدت غربة الإسلام، وقلَّ العلماء وغلبت السفهاء، وتفاقم الأمر واشتد
(1)
وفي ثبوته نظر. انظر: «الطبقات» لابن سعد (6/ 88) و «الاستيعاب» (3/ 1084).
البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
فصل
ومنها: جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه المشاهد والطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين، فيجوز للإمام بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تُساق إليها كلَّها ويصرَفها على الجند والمقاتلة ومصالح الإسلام، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات وأعطاها لأبي سفيان يتألَّفه بها وقضى منها دينَ عروة والأسود.
وكذلك يجب عليه أن يهدم هذه المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانًا، وله أن يقطعها للمقاتلة أو يبيعَها ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين. وكذلك الحكم في أوقافها، فإن وقفها والوقف عليها باطل وهو مال ضائع، فيُصرَف في مصالح المسلمين، فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة لله ورسوله، فلا يصح الوقف على مشهدٍ ولا قبرٍ يُسرَج عليه ويُعظَّم، ويُنذَر له ويحج إليه، ويُعبد من دون الله ويُتخذ وثنًا من دونه، وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام ومن اتَّبع سبيلهم.
فصل
ومنها: أن وادي وجٍّ ــ وهو واد بالطائف ــ حَرَم يَحرُم صيدُه وقطع شجره. وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فالجمهور قالوا: ليس في البقاع حرم إلا مكة والمدينة، وأبو حنيفة خالفهم في حرم المدينة، وقال الشافعي
(1)
في أحد
(1)
انظر: «الحاوي الكبير» (4/ 328) و «نهاية المطلب» (4/ 420).