الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في عمرة القضية
قال نافع: كانت في ذي القَعْدة سنةَ سبعٍ
(1)
، وقال سليمان التيمي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر بعث السرايا وأقام بالمدينة حتى استهل ذا
(2)
القعدة ثم نادى في الناس بالخروج
(3)
.
قال موسى بن عقبة
(4)
: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل من عام الحديبية معتمرًا في ذي القعدة سنةَ سبعٍ، وهو الشهر الذي صده فيه المشركون عن المسجد الحرام، حتى إذا بلغ يَأْجَجَ
(5)
وضع الأداة كلَّها: الحَجَفَ
(6)
والمَجانَّ والنبلَ والرماح، ودخلوا بسلاح الراكب: السيوف، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة بنت الحارث بن حَزْنٍ العامرية
(7)
فخطبها إليه، فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب وكانت أختها أم الفضل تحته، فزوَّجها العباسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه يعقوب بن سفيان في «تاريخه» ــ وليس في القدر المطبوع ــ ومن طريقه البيهقي في «الدلائل» (4/ 313). قال الحافظ في «الفتح» (7/ 500): إسناده حسن.
(2)
س، ث، ن، المطبوع:«ذو» . و «استهلَّ» يأتي لازمًا ومتعديًا، تقول: استهل الشهرُ واستهللناه.
(3)
أخرجه البيهقي في «الدلائل» (4/ 314).
(4)
في مغازيه عن الزهري، وبنحوه قال عروة أيضًا في مغازيه من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه؛ كلاهما مخرّج في «الدلائل» (4/ 314).
(5)
وهو وادٍ في الحِلِّ مما يلي التنعيم من جهة الشمال، وقد سبق التعريف به.
(6)
جمع الحَجَفة، وهي ضرب من التروس تتخذ من الجلود خاصّة.
(7)
ثم الهلالية، فإنها من بني هلال بن عامر بن صعصعة من قَيس عيلان بن مُضر.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه فقال: «اكشفوا عن المناكب واسعَوا في الطواف»
(1)
، ليرى المشركون جَلَدهم وقوتهم، وكان يُكايدهم بكل ما استطاع، فوقف أهل مكة الرجالُ والنساء والصبيان ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يطوفون بالبيت، وعبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتجز متوشحًا بالسيف يقول:
خَلُّوا بني الكفار عن سبيله
…
قد أنزل الرحمنُ في تنزيله
في صحفٍ تتلى على رسوله
…
يا رب إني مؤمن بقيله
إني رأيت الحقَّ في قبوله
…
اليوم نَضرِبْكم على تأويله
ضربًا يزيل الهامَ عن مقيله
…
ويُذهل الخليلَ عن خليله
(2)
وتغيَّب رجال من المشركين أن ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حنقًا وغيظًا، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثًا، فلما أصبح من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العُزَّى، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مجلس الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة، فصاح حويطب: نناشدك اللهَ والعقدَ لمَّا خرجتَ من
(1)
هذا لفظ موسى بن عقبة عن الزهري مرسلًا، وله شواهد مسندة من حديث ابن عباس عند البخاري (4256) ومسلم (1266)، ومن وجه آخر عنه عند أحمد (2682) وأبي داود (1889) وابن حبان (3812)، ومن حديث عمر عند أحمد (317) وأبي داود (1887) وابن خزيمة (2708).
(2)
الأبيات ملّفقة من رواية موسى بن عقبة ورواية ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، كلاهما عند البيهقي في «الدلائل» (4/ 323). وقد رويت بعض هذه الأبيات من حديث أنس عند الترمذي (2847) والنسائي (2873) وابن خزيمة (2680)، قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
أرضنا
(1)
فقد مضت الثلاث، فقال سعد بن عبادة: كذبتَ لا أمَّ لك! ليست بأرضك ولا أرض آبائك، والله لا يخرج! ثم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سُهيلًا أو حويطبًا فقال:«إني قد نكحت منكم امرأةً، فما يضركم أن أمكث حتى أدخل بها ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا»
(2)
، فقالوا: نناشدك الله والعقد إلَّا خرجت عنا، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع فأذَّن بالرحيل، وركب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بطن سَرِف
(3)
فأقام بها وخلَّف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمسي، وأقام حتى قدمت ميمونة ومن معها، وقد لقُوا أذًى وعناءً من سفهاء المشركين وصبيانهم، فبنى بها بسَرِف، ثم أدلج وسار حتى قدم المدينة، وقدَّر الله أن يكون قبر ميمونة بسرف حيث بنى بها.
فصل
وأما قول ابن عباس: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، وبنى بها وهو حلال» فمما استُدرك عليه وعُدَّ من وهمه. قال سعيد بن المسيب: «وَهِل
(4)
ابن عباس وإن كانت خالته، ما تزوَّجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما حل». ذكره البخاري
(5)
.
(1)
أي: إلَّا خرجت من أرضنا.
(2)
هذا لفظ موسى بن عقبة عن الزهري مرسلًا. وله شاهد بنحوه من حديث ابن عباس عند الطبراني في «المعجم الكبير» (11/ 173) والحاكم (4/ 31) والضياء في «المختارة» (11/ 216) بإسناد حسن.
(3)
وادٍ في شمال مكة في محلّة النَّوارية، ولا يزال معروفًا بهذا الاسم.
(4)
المطبوع: «ووهم» خلافًا للأصول ولـ «دلائل النبوة» وهو مصدر المؤلف.
(5)
برقم (1837) مقتصرًا على قول ابن عباس من طريق عبد القدوس بن الحجاج عن الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عنه. وأخرجه مع قول ابن المسيب البيهقيُّ في «سننه» (7/ 212) و «الدلائل» (4/ 332) من الطريق نفسه، والمؤلف صادر عن أحدهما، وإنما أخذ العزو من قول البيهقي عقبه:«رواه البخاري في الصحيح عن عبد القدوس بن الحجاج» .
وأخرج البخاري (4258) ومسلم (1410) قول ابن عباس أيضًا من طرق أخرى عنه. وأخرج أبو داود (1845) قول ابن المسيب من طريق آخر عنه.
وقال يزيد بن الأصمِّ عن ميمونة: «تزوَّجني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسَرِف» . رواه مسلم
(1)
.
وقال أبو رافع: «تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت الرسول بينهما»
(2)
، صح ذلك عنه.
وقال سعيد بن المسيب: هذا عبد الله بن عباس يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم، وإنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وكان الحِلُّ والنكاح جميعًا، فشُبِّه ذلك على الناس
(3)
.
(1)
برقم (1411) بنحوه، والمثبت لفظ أبي داود (1843) ومن طريقه أخرجه البيهقي في «الدلائل» (4/ 332).
(2)
أخرجه أحمد (27197) والدارمي (1866) والترمذي (841) وابن حبان (4130) من طريق مطر الورّاق عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن أبي رافع. ومطر الورّاق ليس بذاك القوي، وقد خالفه غير واحد فرووه عن ربيعة عن سليمان بن يسار مرسلًا، وهو أشبه. انظر:«العلل» للدارقطني (1175) و «التمهيد» لابن عبد البر (3/ 151).
(3)
أخرجه البيهقي في «الدلائل» (4/ 336) من طريق ابن إسحاق قال: ثنا ثقة عن سعيد بن المسيب، إلا أن في مطبوعته سقطًا أخلّ بالمعنى. وقد ذكره عن ابن إسحاق بتمام لفظه: شيخ الإسلام في «شرح العمدة» (4/ 636) وابن كثير في «البداية والنهاية» (6/ 390).
وقد قيل: إنه تزوجها قبل أن يُحرِم، وفي هذا نظر إلا أن يكون وكَّل في العقد عليها قبل إحرامه، وأظن الشافعي ذكر ذلك
(1)
، فالأقوال ثلاثة:
أحدها: أنه تزوجها بعد حلِّه من العمرة، وهو قولُ ميمونة نفسها، وقولُ السفير بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو رافع، وقولُ سعيد بن المسيب وجمهورِ أهل النقل.
والثاني: أنه تزوجها وهو محرم، وهو قول ابن عباس وأهل الكوفة وجماعة.
والثالث: أنه تزوجها قبل أن يحرم.
وقد حُمِل قولُ ابن عباس أنه تزوَّجها وهو محرم على أنه تزوجها في الشهر الحرام لا في حال الإحرام
(2)
. قالوا: ويقال: «أحرم الرجل» إذا عقد الإحرام، و «أحرم» إذا دخل في الشهر الحرام وإن كان حلالًا، بدليل قول الشاعر
(3)
:
(1)
ذكره الشافعي في «الأم» (6/ 452 - 453) و «اختلاف الحديث» (10/ 193 - ضمن الأم) مستندًا إلى ما رواه عن مالك ــ وهو في «الموطأ» (996) ــ عن ربيعة بن عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع مولاه ورجلًا من الأنصار فزوَّجاه ميمونة بنت الحارث ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قبل أن يخرج» .
وهذا وإن كان مرسلًا إلا أنه قد يقال: إن سليمان بن يسار عتيق ميمونة ومولاها، فيشبه أن لا يخفى عليه وقت نكاحها.
(2)
انظر: «المجموع» للنووي (7/ 289) و «التحقيق» لابن الجوزي (2/ 136). وجنح ابن حبان إلى أن المراد أنه صلى الله عليه وسلم كان داخل الحرم حين تزوّجها، كما يقال لمن دخل نجد: مُنجِد، ولمن دخل تهامة: مُتْهِم. انظر: «صحيح ابن حبان» عقب الحديث (4129).
(3)
البيت للراعي النُّميري في «ديوانه» (ص 231)، والرواية فيه: «ودعا فلم
…
».
قتلوا ابنَ عفان الخليفةَ مُحْرِمًا
…
ورعًا فلم أر مثله مقتولا
وإنما قتلوه بالمدينة حلالًا في الشهر الحرام
(1)
.
وقد روى مسلم في «صحيحه»
(2)
من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب» .
ولو قُدِّر تعارض القول والفعل هنا لوجب تقديم القول، لأن الفعل موافق للبراءة الأصلية، والقول ناقل عنها فيكون رافعًا لحكم البراءة الأصلية، وهذا موافق لقاعدة الأحكام. ولو قُدِّم الفعل لكان رافعًا لموجَب القول، والقول رافع لموجَب البراءة الأصلية، فيلزم تغيير الحكم مرتين، وهو خلاف قاعدة الأحكام. والله أعلم.
فصل
ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الخروج من مكة تبعتهم ابنةُ حمزةَ تنادي: يا عمِّ يا عمِّ! فتناولها عليٌّ فأخذ بيدها وقال لفاطمة: «دونكِ ابنةَ عمك» فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي: أنا أخذتُها وهي ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال:«الخالة بمنزلة الأم» ، وقال لعلي:«أنت مني وأنا منك» ،
(1)
هذا المشهور في تفسيره، فإنه قُتل في ذي الحجة سنة 35. وقال أبو عمرو الشيباني: إن المعنى أنهم قتلوه صائمًا؛ سُمي الصائم محرمًا لامتناعه مما يَثلِم صيامه. وقال الأصمعي: إن المراد بالمحرم أنه لا يحِلُّ قتله ولا شيء منه. انظر: «تهذيب اللغة» (5/ 45) و «تاريخ بغداد» (12/ 164).
(2)
برقم (1409).
وقال لجعفر: «أشبهتَ خَلقي وخُلُقي» ، وقال لزيد:«أنت أخونا ومولانا» . متفق على صحته
(1)
.
وفي هذه القصة من الفقه: أن الخالة مقدَّمة في الحضانة على سائر الأقارب بعد الأبوين.
وأن تزوُّج الحاضنة بقريب من الطفل لا يسقط حضانتها. ونص أحمد في روايةٍ عنه على أن تزويجها لا يسقط حضانتها للجارية خاصةً، واحتج بقصة بنت حمزة هذه، ولمَّا كان ابنُ العم ليس محرمًا لم يفرق بينه وبين الأجنبي في ذلك وقال: تزوُّج الحاضنة لا يسقط حضانتها للجارية. وقال الحسن البصري: لا يكون تزوُّجها مسقطًا لحضانتها بحال، ذكرًا كان الولد أو أنثى
(2)
.
وقد اختلف في سقوط الحضانة بالنكاح على أربعة أقوال:
أحدها: تسقط به ذكرًا كان أو أنثى، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه
(3)
.
والثاني: لا تسقط بحال، وهو قول الحسن وابن حزم
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (2699، 4251) عن البراء بن عازب ضمن حديثه الطويل في قصة الحديبية وعمرة القضاء، وهو عند مسلم (1783) دون ذكر قصة ابنة حمزة.
(2)
انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (19459).
(3)
انظر: «المدونة» (5/ 356) و «الأم» (6/ 240) و «الأصل» للشيباني (4/ 544 - 545) و «المغني» (11/ 420).
(4)
انظر: «المحلى» (10/ 323).
والثالث: إن كان الطفل بنتًا لم تسقط الحضانة، وإن كان ذكرًا سقطت، وهذه رواية عن أحمد؛ قال في رواية مهنَّا
(1)
: إذا تزوجت الأم وابنها صغير أُخِذ منها، قيل له: والجارية مثل الصبي؟ قال: لا، الجارية تكون معها إلى سبع سنين. وحكى ابن أبي موسى
(2)
روايةً أخرى عنه: أنها أحق بالبنت وإن تزوجت إلى أن تبلغ.
والرابع: أنها إذا تزوجت
(3)
بنسيبٍ من الطفل لم تسقط حضانتُها، وإن تزوجت بأجنبي سقطت. ثم اختلف أصحاب هذا القول على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يكفي كونه نسيبًا فقط، محرمًا كان أو غير محرم، وهذا ظاهر كلام أصحاب أحمد وإطلاقهم.
الثاني: أنه يشترط كونه مع ذلك ذا رحم محرم، وهو قول الحنفية.
الثالث: أنه يشترط مع ذلك أن يكون بينه وبين الطفل ولادة بأن يكون جدًّا للطفل، وهذا قول بعض أصحاب أحمد ومالك والشافعي
(4)
.
وفي القصة حجة لمن قدَّم الخالة على العمة، وقرابةَ الأم على قرابة الأب، فإنه قضى بها لخالتها وقد كانت صفية عمَّتُها موجودةً إذ ذاك، وهذا قول الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه
(5)
.
(1)
نقلها أبو يعلى الفراء في «كتاب الروايتين والوجهين» (2/ 243 - المسائل الفقهية).
(2)
في «الإرشاد إلى سبيل الرشاد» (ص 327).
(3)
من هنا يبدأ سقط في (س) لانتقال النظر من «تزوجَّت» إلى مثله في الصفحة الآتية.
(4)
انظر: «الإنصاف» (24/ 474) و «الأصل» للشيباني (10/ 351) و «التبصرة» للخمي (6/ 2567) و «نهاية المطلب» للجويني (15/ 549).
(5)
انظر: «الأم» (6/ 240) و «المدونة» (5/ 357) و «الأصل» (10/ 352) و «الإنصاف» (24/ 461).
وعنه رواية ثانية
(1)
: أن العمَّة مقدمة على الخالة، وهي اختيار شيخنا
(2)
. وكذلك نساء الأب يُقدَّمن على نساء الأم، لأن الولاية على الطفل في الأصل للأب، وإنما قُدِّمت عليه الأم لمصلحة الطفل وكمال تربيته وشفقتها وحُنوِّها، والإناثُ أقوم بذلك من الرجال، فإذا صار الأمر إلى النساء فقط أو الرجال فقط كانت قرابة الأب أولى من قرابة الأم، كما يكون الأب أولى من كل ذَكَر سواه، وهذا قويٌّ جدًّا.
ويجاب عن تقديم خالة ابنة حمزة على عمتها بأن العمة لم تطلب الحضانة، والحضانة حق لها يُقضى لها به بطلبه، بخلاف الخالة فإن جعفرًا كان نائبًا عنها في طلب الحضانة، ولهذا قضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لها في غيبتها.
وأيضًا فكما أن لقرابة الطفل أن تمنع الحاضنة من حضانة الطفل إذا تزوجت
(3)
، فللزوج أن يمنعها من أخذه وتفرُّغها له، فإذا رضي الزوج بأخذه حيث لا تسقط حضانتها لقرابته أو لكون الطفل أنثى على رواية= مُكِّنت من أخذه. وإن لم يرض فالحقُّ له، والزوجُ هاهنا قد رضي وخاصم في القصة، وصفية لم يكن منها طلب.
وأيضًا فابن العم له حضانة الجارية التي لا تُشتهى في أحد الوجهين، بل وإن كانت تشتهى فله حضانتها أيضًا، وتُسَلَّمُ إلى امرأةٍ ثقة يختارها هو أو إلى محرمه. وهذا هو المختار، لأنه قريب من عصباتها، وهو أولى من الأجانب والحاكم. وهذه إن كانت طفلةً فلا إشكال، وإن كانت ممن تُشتهى فقد
(1)
ص، د:«ثالثة» ، خطأ.
(2)
انظر: «مجموع الفتاوى» (34/ 122) و «الاختيارات» للبعلي (ص 414).
(3)
هنا ينتهي السقط في س الذي بدأ قبل صفحة.
سُلِّمت إلى خالتها، فهي وزوجها من أهل الحضانة. والله أعلم.
وقول زيد: «ابنة أخي» يريد الإخاء الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة لما واخى بين المهاجرين، فإنه واخى بين أصحابه مرتين، فواخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض قبل الهجرة على الحق والمواساة
(1)
، فآخى بين أبي بكر [وعمر]
(2)
، وبين حمزة وزيد بن حارثة، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير وابن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عُبيدة وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله
(3)
.
والمرة الثانية: آخى بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك بعد مقدمه المدينة
(4)
.
(1)
ظاهر كلام المؤلف فيما سبق (ص 77 - 78) نفي وقوع هذه المواخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض، وانظر التعليق عليه.
(2)
ساقط من جميع الأصول، واستُدرك من «عيون الأثر» ــ وهو مصدر المؤلف ــ وغيره.
(3)
المؤاخاة بين هؤلاء ذكرها البلاذري (ت 279) في «أنساب الأشراف» (1/ 270) وابن عبد البر في «الدرر» (ص 100) وابن سيد الناس في «عيون الأثر» (1/ 199). وقد رويت مفرّقة عند ابن سعد في «الطبقات» (3/ 8، 42، 49، 53، 83، 95، 111، 160، 197)، وجلُّها من طريق واحد واهٍ بمرّة، إلا المواخاة بين أبي بكر وعمر فلها طرق عنده (3/ 160) أصحها: عن الشعبي مرسلًا. وقد ثبتت المواخاة بين الزبير وابن مسعود من غير وجه، أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (568) وغيره من حديث أنس، وأخرجه الحاكم (3/ 314) وغيره من حديث ابن عباس، وكلا الإسنادين قوي وقد اختارهما الضياء (5/ 65، 9/ 525).
(4)
أخرجه البخاري (2294) ومسلم (2529) من حديث أنس رضي الله عنه.
فصل
واختُلف في تسمية هذه العمرة بعمرة القضاء هل هو لكونها قضاءً للعمرة التي صُدُّوا عنها أو من المقاضاة؟ على قولين تقدَّما
(1)
. قال الواقدي
(2)
: حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال: «لم تكن هذه العمرة قضاءً ولكن كان شرطًا على المسلمين أن يعتمروا في الشهر الذي حاصرهم فيه
(3)
المشركون».
واختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال:
أحدها: أن من أُحصِر عن العمرة يلزمه الهدي والقضاء، وهذا إحدى الروايات عن أحمد، بل أشهرها عنه.
والثاني: لا قضاء عليه، وعليه الهدي. وهو قول الشافعي ومالك في ظاهر مذهبه
(4)
، ورواية أبي طالب عن أحمد
(5)
.
والثالث: يلزمه القضاء ولا هدي عليه، وهو قول أبي حنيفة
(6)
.
(1)
في «فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في حجِّه وعُمَره» (2/ 111).
(2)
أخرجه من طريقه البيهقي في «الدلائل» (4/ 318)، لم أجده في «مغازيه» المطبوعة.
(3)
«فيه» سقطت من ص، د، ز.
(4)
انظر: «الأم» (3/ 399) و «المدونة» (2/ 366).
(5)
كذا قال، وهو سهو، فرواية أبي طالب عن أحمد هي أنه يلزمه الهدي والقضاء، ورواية الجماعة عنه أنه لا قضاء عليه. انظر:«زاد المسافر» (2/ 545) و «المستوعب» (1/ 534) و «الفروع» (6/ 83) و «الإنصاف» (9/ 322).
(6)
بل قوله كالأول، أي: يلزمه الهدي والقضاء. انظر: «الحجة على أهل المدينة» (2/ 182) و «المبسوط» (4/ 109) و «مختصر القدوري» (ص 160) و «بدائع الصنائع» (2/ 177) و «كنز الدقائق» (ص 246).
والرابع: لا قضاء عليه ولا هدي، وهو إحدى الروايات عن أحمد
(1)
.
فمن أوجب عليه الهدي والقضاء احتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا الهدي حين صُدُّوا
(2)
ثم قضَوا من قابلٍ. قالوا: والعمرة تلزم بالشروع، ولا يسقط الوجوب إلا بفعلها، ونحرُ الهدي لأجل التحلُّل قبل تمامها
(3)
. قالوا: وظاهر الآية يوجب الهدي لقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
ومن لم يوجبهما قالوا: لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذين أحصروا معه بالقضاء ولا أحدًا منهم، ولا وقف الحلُّ على نحرهم الهدي، بل أمرهم أن يحلقوا رؤوسهم وأمر من كان معه هدي أن ينحر هديه.
ومن أوجب الهدي دون القضاء احتج بقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .
ومن أوجب القضاء دون الهدي احتج بأن العمرة تلزم بالشروع، فإذا أحصر جاز له تأخيرُها لعذر الإحصار، فإذا زال الحصر أتى بها بالوجوب السابق، ولا يوجب تخلُّلُ التحلُّلِ بين الإحرام بها أولًا وبين فعلها في وقت الإمكان شيئًا. وظاهر القرآن يرد هذا القول ويوجب الهدي دون القضاء، لأنه جعل الهدي هو جميع ما على المُحصَر، فدل على أنه يُكتفى به منه. والله أعلم.
(1)
لم أجد هذه الرواية. ومن الغريب أن ابن مفلح في «الفروع» (6/ 83) ومن تبعه كصاحبَي «الإنصاف» (9/ 318) و «المبدع» (3/ 196) نسبوا إلى المؤلف أنه اختار هذا القول في «زاد المعاد» ، مع أنه سيأتي قريبًا ترجيحه لوجوب الهدي دون القضاء.
(2)
بعده في ص، د:«عن البيت» وعليه علامة الإلغاء، ولكنهم أثبتوه في المطبوع.
(3)
س: «إتمامها» .
فصل
وفي نحره صلى الله عليه وسلم لما أُحصِر بالحديبية دليلٌ على أن المحصر ينحر هديه وقت حصره، وهذا لا خلاف فيه إذا كان محرمًا بعمرة، وإن كان مفرِدًا أو قارنًا ففيه قولان:
أحدهما: أن الأمر كذلك، وهو الصحيح؛ لأنه أحد النسكين، فجاز الحِلُّ منه ونحرُ هديه وقتَ حصره كالعمرة؛ ولأن العمرة لا تفوت وجميعُ الزمان وقت لها، فإذا جاز الحِلُّ منها ونحرُ هديها من غير خشية فواتها، فالحج الذي يخشى فواته أولى.
وقد قال أحمد في رواية حنبل
(1)
: إنه لا يحل ولا ينحر الهدي إلى يوم النحر. ووجه هذا: أن للهدي محِلَّ زمانٍ ومحِلَّ مكانٍ، فإذا عجز عن محل المكان لم يسقط عنه محل الزمان لتمكُّنه من الإتيان بالواجب في محله الزماني. وعلى هذا القول لا يجوز له التحلُّل قبل يوم النحر لقوله:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].
فصل
وفي نحره صلى الله عليه وسلم وحلِّه دليل على أن المحصر بالعمرة يتحلل، وهذا قول الجمهور. وقد روي عن مالك
(2)
أن المعتمر لا يتحلل، لأنه لا يخاف
(1)
وكذا في رواية الأثرم. انظر: «المغني» (5/ 198).
(2)
كما في «المغني» (5/ 195) بصيغة التمريض. والذي نقله ابن القاسم عن مالك كما في «المدونة» (2/ 427) أنه: «إذ أُحصِر بعدو غالب لم يعجَل بالرجوع حتى ييأس، فإذا يئس حلَّ مكانه ورجع ولم ينتظر
…
وكذلك في العمرة أيضًا». وانظر: «النوادر والزيادات» (2/ 431 - 433).
الفوت. وهذا تَبعُد صحته عن مالك، لأن الآية إنما نزلت في الحديبية وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كلُّهم محرمين بعمرة وحَلُّوا كلهم، وهذا مما لا يشك فيه أحدٌ من أهل العلم.
فصل
وفي ذبحه بالحديبية ــ وهي من الحل بالاتفاق ــ دليلٌ على أن المحصر ينحر هديَه حيث أُحصر من حلٍّ أو حرم، وهذا قول الجمهور: أحمد ومالك والشافعي
(1)
.
وعن أحمد رواية أخرى: أنه ليس له نحر هديه إلا في الحرم، فيبعثه إلى الحرم ويواطئ رجلًا على نحره في وقتٍ يتحلَّل فيه. وهذا يروى عن ابن مسعود وجماعة من التابعين
(2)
، وهو قول أبي حنيفة
(3)
.
وهذا إن صح عنهم فينبغي حمله على الحصر الخاص، وهو أن يتعرض ظالم لجماعةٍ أو لواحدٍ
(4)
. وأما الحصر العام، فالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على خلافه، والحديبية من الحل باتفاق الناس، وقد قال الشافعي
(5)
: بعضها من الحل وبعضها من الحرم، قلتُ: ومراده أن أطرافها
(1)
انظر: «المغني» (5/ 197) و «المدونة» (2/ 427) و «الأم» (3/ 399).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (13241) والطبري (3/ 364 - 366) عن ابن مسعود بإسناد صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة (13243) أيضًا عن طاوس.
(3)
انظر: «بدائع الصنائع» (2/ 179).
(4)
وهو كذلك في قول ابن مسعود الذي سبق تخريجه، فإنه أفتى بذلك لرجلٍ أُحصر باللدغة وله أصحاب يواصلون مسيرهم إلى الحرم ليتموا عمرتهم.
(5)
في «الأم» (3/ 399).