الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصّحابة والفقه
الصّحابة رضوان اللَّه عليهم كانوا يسألون عما يقع لهم من الحوادث، وحكم اللَّه فيها، يتوجّهون بالسؤال إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيفتيهم تارة بالآية أو الآيات ينزل الوحي بها عليه وتارة عند ما لا يسعفه الوحي يفتيهم باجتهاده.
وعند ما لا يتيسّر لهم سؤال الرّسول صلى الله عليه وسلم يسأل الصّحابة بعضهم بعضا فيما يعنّ لهم من أمور وما يشكل عليهم من حوادث، علّه يعرف في الواقعة حكما لم يعرفه، فهم ليسوا سواء في العلم والفقه، فقد كان علم التّيمّم عند عمّار وغيره ولم يعلمه عمر، وكان حكم المسح عند عليّ وحذيفة ولم تعلمه عائشة وابن عمر وأبو هريرة.
والنّاس في البلاد البعيدة عن المدينة يسألون الصحابة الموفدين إليهم من قبل الرّسول صلى الله عليه وسلم فيما يعرض لهم من أمور.
وبعد أن ألحق النّبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وانتقلت السّلطة التّشريعية إلى الخلفاء الرّاشدين وإلى كبار الصّحابة من بعده، بدأ الفقه يظهر بوضوح: ويأخذ في الظهور شيئا فشيئا، ذلك أن الفتوحات الإسلامية انتشرت وامتدت رقعة البلاد شرقا وغربا، وانتقل إلى هذه البلاد المفتوحة الصّحابة يحكمون ويقضون، ويفتون على وفق ما يفهمون من كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجدوا في كتاب اللَّه ولا في سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما يسعفهم فيما يسألون عنه أعملوا رأيهم واجتهدوا وحاولوا الوصول إلى حكم اللَّه في المسائل التي تعرض عليهم ملبّين رغبات الناس وأهل البلاد المفتوحة، واتّسعت صدورهم ولم يتقيّدوا بقيود في المصلحة الواجب مراعاتها، وقبلوا من غير تفكير طويل الأمور الغريبة عنهم ما دام لا يوجد ضدّها اعتراض ديني أو خلقي أو واقعة فقهية حصلت، وبهذا كان اجتهادهم فسيحا متّسعا لحاجات النّاس ومصالحهم، وكانت حريّة هذا الاجتهاد كفيلة بالتّقنين والتّشريع لكل معاملاتهم وحاجاتهم، ومن هنا أخذ الفقه يتطور حثيثا، ويخطو خطوات سريعة نحو التقدّم والازدهار.
كان عصر الخلفاء الراشدين، وعصر كبار الصحابة عصرا يحمل طابع التّقوى والصّلاح والتّمسك بروح الدّين والفضيلة التي عرفوها من الرّسول صلى الله عليه وسلم.
هذا العصر الّذي امتاز بالهدوء والنّظام، ولم تختلف فيه وجهات النّظر كثيرا في الحكم بين الأمّة وحكامها، وكان عصر انتصار يقود من نصر إلى نصر، ومن فتح إلى فتح، واتّسعت به رقعة البلاد الإسلامية وامتدت أطرافها ونعم الناس فيه بنعمة الدّين والدّنيا.
ومن هذا يتّضح أن الصحابة رضوان اللَّه عليهم تفرقوا في البلاد المفتوحة حاكمين ومعلّمين حرّاسا ومرابطين قضاة ومفتين، وآثر بعضهم البقاء في المدينة كزيد بن ثابت وعبد اللَّه بن عمر، ففي مكّة كان عبد اللَّه بن عباس، وذهب إلى الكوفة عبد اللَّه بن مسعود، وإلى مصر عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وإلى الشّام معاذ بن جبل وعبادة بن الصّامت وأبو الدّرداء، وإلى البصرة أبو موسى الأشعريّ، وأنس بن مالك، وكانت الأمصار متعطّشة إلى معرفة تعاليم الدّين الإسلاميّ الّذي بزغ نوره منذ فجر قريب، فأقبل أهل كل مصر على من نزل بهم من الصّحابة يغترفون من بحورهم ويستفتونهم ويتعلّمون منهم، واكتفى كل مصر بما عنده، ووثقوا به لقلة الاتّصال وصعوبة المواصلات.
ولم يكن الصّحابة جميعا في العلم والفهم ومعرفة أحاديث الرّسول صلى الله عليه وسلم سواء، فمنهم من لازم النبي صلى الله عليه وسلم مدّة طويلة، فسمع من الحديث أكثر من غيره ومنهم من لازمه في الغزوات والأسفار، ومنهم من لم يظفر بذلك.
وقد كان لهؤلاء الصّحابة آثارهم الخاصّة في البلاد التي استوطنوها أو نزلوا بها ممّا تركوا فيها من ثروة تشريعية كبيرة، وبما كان لهم فيها من تلاميذ أخذوا عنهم علمهم وفقههم وخلفوهم في التّشريع وإفتاء الناس. وقاموا بما كان يقوم به أساتذتهم من الصّحابة، وذلك هم التّابعون كسعيد بن المسيّب بالمدينة ومجاهد وعطاء بن أبي رباح بمكّة وإبراهيم النّخعي بالكوفة وابن سيرين والحسن البصري بالبصرة ومكحول وعمر بن عبد العزيز، وأبي إدريس الخولانيّ بالشام وطاوس باليمن، ويزيد بن حبيب بمصر.
وتبعا لشخصيّات الصّحابة ومناحيهم في التشريع وتبعا لشخصيّات تلامذتهم الّذين ترسّموا خطاهم، ونظرا لاختلاف عادات البلاد وتقاليدها واختلاف معيشتها وأحوالها الاجتماعية، والاقتصادية أخذت تبرز الخلافات التّشريعية في الأمصار المختلفة، وبدأت تتكوّن المدارس الفقهيّة في هذه الأمصار وتظهر آثارها واضحة جليّة.
وفي مقدمة هذه المدارس ومكان الصدارة منها كانت تقوم مدرسة المدينة ومدرسة الكوفة، وبعبارة أخرى مدرسة الحجاز، ومدرسة العراق، نظرا لما تركتاه من آثار تشريعية