الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جهود الخلفاء الرّاشدين في نشر الإسلام
فإنّ اللَّه حين اختار نبيّه محمدا صلى الله عليه وسلم لتبليغ رسالته اختار له أصحابا على شاكلته، عزّروه ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه، عاشوا تحت راية نبيّهم سعداء، وماتوا صديقين أو شهداء، كان التّوحيد مبدأهم، والحب ديدنهم، والسلام طبيعتهم، والصلاة والصيام والصدقة وصلة الأرحام منهجهم، ورضا اللَّه غايتهم. ملئوا الدنيا نورا، وأشاعوا في الكون بهجة وسرورا، وقادوا الإنسانية إلى ركب الحضارة المستنيرة، وأرسوا قواعد الدين فلم يغيروا ولم يبدّلوا، حبب اللَّه إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من اللَّه ونعمة.
ولما ختار اللَّه نبيه إلى جواره بعد أن ترك الناس على المحجّة البيضاء تألق في سماء الإسلام نجم كان الوزير الأول في حياته صلى الله عليه وسلم ثم صار الخليفة بعد مماته، ذلكم هو أبو بكر الصديق الّذي سار على النّهج المحمدي في غير تحريف ولا تبديل.
فقضى على أول فتنة ظهرت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة
…
تلك التي أثارها وأشعل نارها سعد بن عبادة الخزرجي، بعد أن منّ اللَّه على أبي بكر بقوة الحجّة والبرهان، ومنّ على سعد بن عبادة ومن اتبعه بالطاعة والإذعان، ثم توجّه إلى مانعي الزّكاة فأعادهم بقوة بأسه ورباطة جأشه إلى ما كانوا عليه في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وحارب المرتدين فعادوا إلى حظيرة الإسلام صاغرين، وأنفذ جيش أسامة إلى الرّوم، وكان قد جهزه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للخروج إليهم، ولتأديب الغساسنة العرب الذين هجروا الجزيرة العربية، واستقروا في الشام، وواجه أدعياء النّبوة من أمثال مسيلمة الكذّاب والأسود العنسيّ وطليحة الأسديّ وسجاح التميمية وغيرهم فارتدوا خاسرين.
ثم انطلق أبو بكر يرسل كتائب الإيمان خارج الجزيرة العربية في العراق والشام، ليكسر حاجز الخوف الّذي استولى على نفوس العرب من بطش هاتين الدّولتين العظيمتين (الفرس والروم) .
وتم ذلك كله في غضون عامين مدّة خلافة الصّديق رضي الله عنه، ثم ودع الحياة راضيا مرضيا ليحمل الرّاية من بعده الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك الّذي وضع منهجا للدولة الإسلامية يحوي التنظيمات الإدارية، فدوّن الدواوين كديوان العطاء، وديوان الجند، وديوان الاستيفاء، كما أوجد مصادر للدخل بما أفاء اللَّه على جيوشه من ثروات الدّولة الفارسية والبيزنطية إلى جانب الزّكاة والخراج والجزية.
ونظم القضاء بصفة خاصّة، ولم يكن هو وصاحبه في سلوكهما هذا على بدع من القول أو الفعل، وإنما كان اقتداء بالنبيّ القدوة، والرّسول الأسوة صلى الله عليه وسلم.
وحقق الفاروق قضية الشّورى كما أرادها اللَّه ورسوله في محكم التنزيل.
وازدادت السّياسة الخارجية في عهده رسوخا ووضوحا فتمت الفتوحات التي بدأت في عهد الصديق على يده بعد أن عدل الخطط الحربية، وغير القيادات، وفتحت دمشق، وتم الاستيلاء على بيت المقدس، وكانت الخاتمة الحسنى بفتح مصر في العام الثلاثين من الهجرة، ودخل الأقباط في الإسلام أفواجا بعد أن خلصهم عمرو بن العاص وجنوده من اضطهاد الرومان وتعسّفهم.
ثم كان عثمان بن عفان الخليفة الثالث بعد استشهاد الفاروق عمر بن الخطاب، وانكسر الباب، وخرجت الفتنة تطل برأسها من جحرها، فظنوا حلم عثمان ضعفا، وما كان إلا رجلا حييّا ستّيرا تستحي منه ملائكة الرّحمن.
انظر إليه حين تولّى هذا الأمر، تجده أمام مهام تنوء بعصبة أولي قوة وقد حملها وحده.
فها هو معاوية يتربّع على عرش الشام ويدين له أهلها بالطّاعة العمياء فلم يشأ أن ينقض بناء أرسى قواعده من سبقه، وهذه أساليب الدّهاء والمكر والخداع تحيط به من كل مكان حتى اضطر للاستعانة بأهل الثّقة من أقاربه بعد أن فقدها فيمن حوله.
ومع ذلك فإن الإمبراطورية التي امتدت في عهد أمير المؤمنين عمر من أقصى فارس شرقا، إلى حدود برقة وطرابلس غربا، ومن بحر قزوين شمالا إلى بلاد النوبة جنوبا، لم تتوقف في عهد ذي النّورين عثمان بن عفان حيث اجتازت جيوشه أرض فارس حتى وصلت إلى طبرستان شرقا، وإلى بلاد خراسان، كما تكونت أول قوة بحرية لصد عدوان الأساطيل البيزنطية على سواحل مصر والشام، فانضم جزء آخر من بلاد النوبة في الجنوب وانضمت لها بلاد أرمينيّة، ودخلت البحرية الإسلامية جزيرة «قبرص» وما أمر واقعة «ذات الصّواري»
ببعيد حيث كان النصر فيها إيذانا بتفوّق المسلمين على دول البحر المتوسط.
وانتقل الخليفة عثمان إلى جوار ربه متوّجا بالشهادة وهو يقرأ القرآن على أثر فتنة تبنّاها عبد اللَّه بن سبإ اليهودي، وأشعل نارها في سائر الولايات الإسلامية بما تحمل من شائعات كاذبة وانتقاصات باطلة تقلّل من شأن الخليفة الراحل، وكانت هذه الفتنة اليهودية سببا في الهرج والمرج والقيل والقال مما واجهه الإمام علي بن أبي طالب في بداية خلافته، وإن شئت قلت: في بداية محنته، فقد كان يمسك بزمام الأمور في عهد عثمان الشهيد بعض الولاة غير الأكفاء، ومنهم متطلّع إلى الخلافة نفسها، أو مطالب بدم عثمان بدعوى أنه ولي دمه.
باختصار كان علي بن أبي طالب في موقف لا يحسد عليه، فأراد أن يؤمّن الدولة من الداخل بعزل بعض الولاة، وتولية آخرين ممن يراهم أهلا للمهمّة الخطيرة في المرحلة القادمة، فلم يلق إلا العصيان والتمرد والخروج عليه مما عطل مسيرة الحكم الراشد الّذي أراده لهذه الأمة.
وبينما عليّ يفكر في أمر معاوية إذا بأخبار تصله بخروج طلحة والزبير في صحبة أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، واستمر اليهودي المتآمر عبد اللَّه بن سبإ ليعلن أن الثّوار قد خرجوا لمهاجمة علي وراع عليّا ما كان من خروج أم المؤمنين في صحبة هؤلاء، ولكن سرعان ما هدأ حين علم أنها جاءت للصلح بين أولادها المتنازعين باعتبارها أمّا للمؤمنين،
وقال علي: لا بأس. إنها أمّنا وزوجة نبينا،
ولكن زعيم الفتنة اليهودي خشي افتضاح أمره وتسليمه ليد العدالة فاجتمع بأتباعه، وقال لهم: يا قوم إن عزكم من خلطة الناس فصانعوهم وتملقوهم، وإذا التقى الطرفان المتنازعان غدا فانشبوا القتال ولا تفرغوهم للنظر والجلوس على مائدة الصلح وبات الجميع على الصلح، وبات ابن سبإ وأنصاره (قتلة عثمان الحقيقيون) بشرّ ليلة حتى إذا أصبح الصباح نشبوا القتال، وظن أصحاب أم المؤمنين أن عليّا قد بدأ القتال
بينما تعجب علي مما رأى من تغيير النية فنادى طلحة قائلا.
- يا طلحة جئت بعرس رسول اللَّه تقاتل بها، وقد خبأت عرسك في بيتك؟
ماذا أنت صانع يوم القيامة حين يقول لك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لم جئت بزوجتي إلى هذه الأرض؟ فأحس طلحة بعظم ما ارتكب فأدار وجهه وقفل راجعا، ولكن لم يفلت من القتل على يد أحد أرباب الفتنة، وتذكر الزّبير ما كان من أمره مع علي أمام النّبي صلى الله عليه وسلم فعاد وهو يقول: العار ولا النّار، وحرص ابن سبإ على قتل أم المؤمنين، فهاجم هو وجنوده الهودج الّذي يحملها على جملها، ولكن عليّا عاجل الجمل بضربة عقرته وأوقعت الهودج قبل أن يتمكن منه دعاة
الفتنة وأعاد أم المؤمنين إلى بيتها في حماية أربعين حارسا أوصلوها سالمة ولم يكن هؤلاء الجنود إلا نساء من فتيات قريش تزيوا بزيّ الرجال مراعاة لحرمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكان على رأسهم أخوها محمد بن أبي بكر، فلما اكتشفت أم المؤمنين ذلك أطرقت برأسها قائلة: لقد أبي أبو الحسن إلا أن يكون عليّا.
وبعد شهر من هذه الواقعة بدا يوم صفّين مكشرا عن أنيابه، وكانت نهاية هذه الموقعة أسوأ من بدايتها فقد انتهت بخدعة التحكيم المشهورة، أما الخوارج فقد حكموا على الإمام علي بالكفر وقتله أحدهم وهو عبد الرحمن بن ملجم الّذي ألحقه اللَّه بعاقر ناقة ثمود في النّار بجريمته النكراء وفعلته الشّنعاء.
وتولى الخلافة بعده ابنه الحسن بن علي الّذي ما لبث أن ودعها غير آسف عليها تاركا أعباءها لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه الّذي لم تصح له الخلافة إلا بعد تنازل الحسن عنها له، وكان قد أخذ البيعة من أهل الحلّ والعقد كما بويع لأبيه الإمام علي من قبل وَصدقت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم فيما
أخبر به عن الحسن حيث قال: «إنّ ابني هذا سيّد وسيصلح اللَّه به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» [ (1) ] .
وهكذا أصبحت الخلافة ملكا عضوضا على يد معاوية الّذي ورثها لابنه اليزيد، وأجبر الناس على بيعته في حياته حتى لا ينازعه في ملكه منازع من بعده.
ولسنا نقول بأن الخبر الّذي قاله النّبي صلى الله عليه وسلم عن الملك العضوض حين يفيد انتقاصا من قدر الملوك فإنه غالبا ما يكون فيهم الحزم والكياسة إلى جانب الشّدة والعنف، وها هو داود وابنه سليمان كانا رسولين ملكين، وكان الملك والجاه والسلطان خير سند لرسالتهما، كما كانت ملكة سبإ من خير ملكات العالم بما أوتيت من الحكمة والرشاد حيث حكمت اليمن وقادت الجيوش الجرّارة حتى إذا دعيت للإسلام قادت شعبها وجيشها إلى الدّخول في طاعة سليمان قائلة:«وأسلمت مع سليمان للَّه ربِّ العالمين» وهذه الأرض يعيش عليها الآن ملوك يقودون شعوبهم متّجهين بهم إلى السّير في ركب الحضارة الإنسانية بما أوتوا من الحنكة والتجربة وعراقة الأصل وسلامة الدّين.
هذا وما زالت آثار الصّحابة والخلفاء قائمة بين دول الإسلام بما خلّفوه من علم وفهم لكتاب اللَّه وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وستظل باقية حتى يرث اللَّه الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 5/ 44. وابن عساكر 4/ 209- وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 8/ 16 والقاضي عياض في الشفا 1/ 671.