الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة ثمان وثلاثين وستمائة
فيها سلّم الملك الصالح إسماعيل قلعة الشّقيف للفرنج لغرض في نفسه، فمقته المسلمون، وأنكر عليه ابن عبد السلام، وأبو عمرو بن الحاجب، فسجنهما، وعزل ابن عبد السلام من خطابة دمشق. قاله في «العبر» [1] .
وفيها توفي أبو علي أحمد بن محمد بن محمود بن المعزّ الحرّاني ثم البغدادي الصّوفي [2] . روى عن ابن البطّي، وأحمد بن المقرّب، وجماعة. وتوفي في المحرّم.
وفيها نجم الدّين أبو العبّاس أحمد بن محمد بن خلف بن راجح المقدسي الحنبلي [3] ثم الشافعي [4] ، صاحب التصانيف. روى عن ابن صدقة الحرّاني وجماعة، وسافر إلى همذان، فلزم الرّكن الطّاووسي، حتّى
[1](5/ 157- 158) .
[2]
انظر «العبر» (5/ 158) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 73- 74) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (265) .
[3]
قال الإسنوي: ويعرف بالحنبلي لأنه كان في صباه كذلك.
قلت: لكن ما جاء في ترجمته حول هذا الموضوع عند ابن قاضي شهبة يشير إلى أن تحوله إلى المذهب الشافعي قد تأخر إلى أن بلغ منزلة رفيعة بين أهل العلم.
[4]
انظر «العبر» (5/ 158) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 75- 76) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (265) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 448- 449) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 89- 90) .
صار معيده، ثم سافر إلى بخارى، وبرع في علم الخلاف، وطار اسمه وبعد صيته، وكان يتوقّد ذكاء، ومن جملة محفوظاته «الجمع بين الصحيحين» [1] .
وكان صاحب أوراد وتهجد.
توفي في خامس شوال.
وفيها جمال الملك أبو الحسن علي بن مختار بن نصر بن طغان العامري المحلّي ثم الإسكندراني، المعروف بابن الجمل [2] . روى عن السّلفي وغيره، وتوفي في شعبان.
وفيها أبو بكر محيي الدّين محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطّائي الأندلسي [3] ، العارف الكبير، ابن عربي، ويقال: ابن العربي.
قال الشعراوي في كتاب «نسب الخرقة» : كان مجموع الفضائل، مطبوع الكرم والشمائل، قد فضّ له فضله ختام كلّ فنّ وبلّ له وبله رياض ما شرد من العلوم وعنّ، ونظمه عقود العقول وفصوص الفصول، وحسبك بقول زرّوق وغيره من الفحول، ذاكرين بعض فضله: هو أعرف بكل فنّ من أهله، وإذا أطلق الشيخ الأكبر في عرف القوم فهو المراد.
ولد بمرسية، سنة ستين وخمسمائة، ونشأ بها، وانتقل إلى إشبيلية سنة ثمان وسبعين، ثم ارتحل وطاف البلدان، فطرق بلاد الشام والرّوم والمشرق، ودخل بغداد وحدّث بها بشيء من مصنّفاته، وأخذ عنه بعض الحفّاظ، كذا ذكره ابن النجار في «الذيل» .
[1] وهو للإمام الحميدي كما جاء مبينا في «تاريخ الإسلام» (64/ 338) .
[2]
تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الجبل» والتصحيح من «العبر» (5/ 158) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 77) .
[3]
انظر «سير أعلام النبلاء» (23/ 48- 49) و «تاريخ الإسلام» (64/ 352- 359) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (265) و «طبقات الأولياء» لابن الملقن ص (469- 470) .
وقال الشيخ عبد الرؤوف المناوي في «طبقات الأولياء» له: وقال الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» [1]- وهو ممن كان يحطّ عليه ويسيء الاعتقاد فيه-: كان عارفا [2] بالآثار والسّنن، قويّ المشاركة في العلوم. أخذ الحديث عن جمع، وكان يكتب الإنشاء لبعض ملوك المغرب، ثم تزهّد وساح، ودخل الحرمين والشام، وله في كل بلد دخلها مآثر. انتهى.
وقال بعضهم: برز منفردا مؤثرا للتخلّي والانعزال عن الناس ما أمكنه، حتى إنه لم يكن يجتمع به إلّا الأفراد، ثم آثر التآليف، فبرزت عنه مؤلّفات لا نهاية لها، تدلّ على سعة باعه، وتبحّره في العلوم الظّاهرة والباطنة، وأنه بلغ مبلغ الاجتهاد في الاختراع والاستنباط، وتأسيس القواعد والمقاصد التي لا يدريها ولا يحيط بها إلّا من طالعها بحقّها، غير أنه وقع له في بعض تضاعيف تلك الكتب كلمات كثيرة أشكلت ظواهرها، وكانت سببا لإعراض كثيرين لم يحسنوا الظنّ به، ولم يقولوا كما قال غيرهم من الجهابذة المحقّقين، والعلماء العاملين، والأئمة الوارثين: إن ما أوهمته تلك الظواهر ليس هو المراد، وإنما المراد أمور اصطلح عليها متأخر وأهل الطريق غيرة عليها، حتّى لا يدّعيها الكذّابون، فاصطلحوا على الكناية عنها بتلك الألفاظ الموهمة خلاف المراد، غير مبالين بذلك، لأنه لا يمكن التعبير عنها بغيرها.
قال المناوي: وقد تفرّق الناس في شأنه شيعا، وسلكوا في أمره طرائق قددا [3] فذهبت طائفة إلى أنه زنديق لا صدّيق، وقال قوم: إنه واسطة عقد الأولياء، ورئيس الأصفياء، وصار آخرون إلى اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه.
[1] انظر «لسان الميزان» (5/ 311- 315) .
[2]
في «لسان الميزان» : «عالما» .
[3]
أي سلكوا في أمره طرائق مقطوعة. انظر «لسان العرب» (قدد) .
أقول: منهم الشيخ جلال الدّين السيوطي، قال في مصنّفه «تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي» : والقول الفيصل في ابن العربي اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه، فقد نقل عنه هو أنه قال: نحن قوم يحرم النظر في كتبنا.
قال السيوطي: وذلك لأن الصوفية تواضعوا على ألفاظ اصطلحوا عليها، وأرادوا بها معان غير المعاني المتعارفة منها، فمن حمل ألفاظهم على معانيها المتعارفة بين أهل العلم الظاهر كفر، نصّ على ذلك الغزّالي في بعضه كتبه، وقال: إنه شبيه بالمتشابه من القرآن والسّنّة، من حمله على ظاهره كفر.
وقال السيوطي أيضا في الكتاب المذكور: وقد سأل بعض أكابر العلماء بعض الصوفية في عصره: ما حملكم على أن اصطلحتم على هذه الألفاظ التي يستشنع ظاهرها؟ فقال: غيرة على طريقنا هذا أن يدعيه من لا يحسنه ويدخل فيه من ليس من أهله، إلى أن قال: وليس من طريق القوم إقراء المريدين كتب التصوف، ولا يؤخذ هذا العلم من الكتب، وما أحسن قول بعض العلماء لرجل قد سأله أن يقرأ عليه «تائية ابن الفارض» فقال له: دع عنك هذا، من جاع جوع القوم، وسهر سهرهم، رأى ما رأوا، ثم قال في آخر هذا التصنيف: إن الشيخ برهان الدّين البقاعي قال في «معجمه» : حكى لي الشيخ تقي الدّين أبو بكر بن أبي الوفاء المقدسي الشافعي، قال- وهو أمثل الصوفية في زماننا- قال: كان بعض الأصدقاء يشير عليّ بقراءة كتب ابن عربي، وبعض يمنع من ذلك، فاستشرت الشيخ يوسف الإمام الصّفدي في ذلك، فقال: اعلم يا ولدي- وفّقك الله- أن هذا العلم المنسوب إلى ابن عربي ليس بمخترع له، وإنما هو كان ماهرا فيه، وقد ادعى أهله أنه لا تمكن معرفته إلّا بالكشف، فإذا فهم المريد مرماهم فلا فائدة في تفسيره، لأنه إن كان المقرّر والمقرّر له مطلعين على ذلك، فالتقرير تحصيل الحاصل، وإن
كان المطلع أحدهما، فتقريره لا ينفع الآخر، وإلّا فهما يخبطان خبط عشواء، فسبيل العارف عدم البحث عن هذا العلم، وعليه السلوك فيما يوصل إلى الكشوف عن الحقائق، ومتى كشف له عن شيء علمه. ثم قال: استشرت الشيخ زين الدّين الخافي، بعد أن ذكرت له كلام الشيخ يوسف، فقال: كلام الشيخ يوسف حسن، وأزيدك أن العبد إذا تخلّق ثم تحقّق ثم جذب، اضمحلت ذاته، وذهبت صفاته، وتخلّص من السوي، فعند ذلك تلوح له بروق الحقّ بالحقّ، فيطلع على كل شيء، ويرى الله عند كل شيء، فيغيب [1] بالله عن كل شيء ولا شيء [2] سواه، فيظن أن الله عين كل شيء، وهذا أول المقامات، فإذا ترقى عن هذا المقام وأشرف على مقام أعلى منه، وعضده التأييد الإلهي، رأى أن الأشياء كلها فيض وجوده تعالى لا عين وجوده، فالناطق حينئذ بما ظنّه في أول مقام، إما محروم ساقط، وإما نادم تائب، وربّك يفعل ما يشاء. انتهى.
ولقد بالغ ابن المقري في «روضته» فحكم بكفر من شكّ في كفر طائفة ابن عربي، فحكمه على طائفته بذلك دونه [3] ، يشير إلى أنه إنما قصد التنفير عن كتبه، وإن من لم يفهم كلامه ربما وقع في الكفر باعتقاده خلاف المراد، إذ للقوم اصطلاحات أرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة، فمن حمل ألفاظهم على معانيها المتعارفة بين أهل العلم الظّاهر ربما كفر كما قاله الغزالي.
ثم قال المناوي: وعوّل جمع على الوقف والتسليم، قائلين: الاعتقاد صبغة، والانتقاد حرمان، وإمام هذه الطائفة شيخ الإسلام النّووي، فإنه استفتي
[1] كذا في «ط» و «المنتخب» (163/ ب) : «فيغيب» وفي «آ» : «فيغضب» .
[2]
في «آ» و «ط» : «ولا شيئا» والتصحيح من «المنتخب» .
[3]
في «المنتخب» (163/ ب) : «فحكمه على طائفته دون، بذلك يشير
…
» .
فيه فكتب: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ 2: 134 الآية [البقرة: 134] ، وتبعه على ذلك كثيرون، سالكين سبيل السّلامة، وقد حكى العارف زرّوق عن شيخه النوري، أنه سئل عنه فقال: اختلف فيه من الكفر إلى القطبانية، والتسليم واجب، ومن لم يذق ما ذاقه القوم ويجاهد مجاهداتهم لا يسعه من الله الإنكار عليهم. انتهى.
وأقول: وممن صرّح بذلك من المتأخرين الشيخ أحمد المقري المغربي، قال في كتابه «زهر الرّياض في أخبار عياض» [1] : والذي عند كثير من الأخيار في أهل هذه الطريقة التسليم، ففيه السّلامة، وهي أحوط من إرسال العنان وقول يعود على صاحبه بالملامة، وما وقع لابن حجر، وأبي حيّان في «تفسيره» من إطلاق اللّسان في هذا الصّدّيق وأنظاره، فذلك من غلس الشيطان، والذي أعتقده ولا يصح غيره، أن الإمام ابن عربي وليّ صالح، وعالم ناصح، وإنما فوّق إليه سهام الملامة من لم يفهم كلامه، على أنه دسّت في كتبه مقالات قدره يجل عنها، وقد تعرض من المتأخرين ولي الله الرّباني سيدي عبد الوهاب الشّعراني [2]- نفعنا الله به- لتفسير كلام الشيخ على وجه يليق، وذكر من البراهين على ولايته ما يثلج صدور أهل التحقيق، فليطالع ذلك من أراده، والله وليّ التوفيق. انتهى كلام المقري.
ثم قال المناوي: وفريق قصد بالإنكار عليه وعلى أتباعه الانتصار لحظ نفسه، لكونه وجد قرينه وعصريّه يعتقده وينتصر له، فحملته حميّة الجاهلية على معاكسته، فبالغ في خذلانه وخذلان أتباعه ومعتقديه، وقد شوهد عود الخذلان والخمول على هذا الفريق وعدم الانتفاع بعلومهم وتصانيفهم على
[1] ليس بين يدي.
[2]
سترد ترجمته في حوادث سنة (973) من المجلد العاشر إن شاء الله تعالى.
حسنها. قال: وممن كان [1] يعتقده سلطان العلماء ابن عبد السلام، فإنه سئل عنه أولا فقال: شيخ سوء كذّاب لا يحرّم فرجا، ثم وصفه بعد ذلك بالولاية، بل بالقطبانية، وتكرر ذلك منه.
وحكي عن اليافعيّ أنه كان يطعن فيه ويقول: هو زنديق، فقال له بعض أصحابه يوما: أريد أن تريني القطب، فقيل: هو هذا، فقيل له: فأنت تطعن فيه، فقال: أصون ظاهر الشرع، ووصفه في «إرشاده» بالمعرفة والتحقيق، فقال: اجتمع الشيخان الإمامان العارفان المحقّقان الربّانيّان السّهروردي، وابن عربي، فأطرق كل منهما ساعة، ثم افترقا من غير كلام، فقيل لابن عربي: ما تقول في السّهروردي؟ فقال: مملوء سنّة من فرقه إلى قدمه، وقيل للسّهروردي، ما تقول فيه؟ قال: بحر الحقائق.
ثم قال المناوي: وأقوى ما احتج به المنكرون، أنه لا يؤوّل [2] إلّا كلام المعصوم، ويردّه قول النّوويّ في «بستان العارفين» [3] بعد نقله عن أبي الخير التّيناتي [4] واقعة ظاهرها الإنكار: قد يتوهم من يتشبه بالفقهاء ولا فقه عنده، أن ينكر هذا، وهذا جهالة وغباوة، ومن يتوهم ذلك فهو جسارة منه على إرسال الظنون في أولياء الرحمن. فليحذر العاقل من التعرض لشيء من ذلك، بل حقّه إذا لم يفهم حكمهم المستفادة، ولطائفهم المستجادة، أن يتفهمها ممن يعرفها، وربما رأيت من هذا النوع مما يتوهم فيه من لا تحقيق عنده أنه مخالف، ليس مخالفا، بل يجب تأويل أفعال أولياء الله [تعالى] .
إلى هنا كلامه.
[1] لفظة «كان» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» .
[2]
في «ط» : «لا يأول» .
[3]
ص (181) من طبعة الشيخ محمد الحجّار، وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[4]
تحرفت نسبته في «آ» و «ط» إلى «التبياني» والتصحيح من «اللباب في تهذيب الأنساب» (1/ 234) وقال ابن الأثير: ويعرف بالأقطع.
وإذا وجب تأويل أفعالهم وجب تأويل أقوالهم، إذ لا فرق، وكان المجد صاحب «القاموس» عظيم الاعتقاد في ابن عربي، ويحمل كلامه على المحامل الحسنة، وطرّز شرحه ل «البخاريّ» بكثير من كلامه. انتهى.
وأقول: ومما يشهد بذلك، ما أجاب به على سؤال رفع إليه، لفظه:
ما تقول العلماء- شدّ الله بهم أزر الدّين ولمّ بهم شعث المسلمين- في الشيخ محيي الدّين بن العربي، وفي كتبه المنسوبة إليه، ك «الفتوحات» و «الفصوص» وغيرهما، هل تحلّ قراءتها وإقراؤها للناس أم لا؟ أفتونا مأجورين. فأجاب- رحمه الله رحمة واسعة-: اللهم أنطقنا بما فيه رضاك، الذي أقوله في حال المسؤول عنه، وأعتقده وأدين الله سبحانه وتعالى به، أنه كان شيخ الطريقة حالا وعلما، وإمام الحقيقة حدّا ورسما، ومحيي رسول المعارف فعلا واسما، إذا تغلغل فكر المرء في طرف من بحره [1] غرقت فيه خواطره في عباب لا تدركه الدّلاء، وسحاب تتقاصر عنه الأنواء، وأما دعواته فإنها تخرق السبع الطباق، وتفترق بركاته فتملأ الآفاق، وإني أصفه، وهو يقينا فوق ما وصفته، وغالب ظني أني ما أنصفته:
وما عليّ إذا ما قلت معتقدي
…
دع الجهول يظنّ الجهل عدوانا
والله تالله بالله العظيم ومن
…
أقامه حجّة لله برهانا
إنّ الذي قلت بعض من مناقبه
…
ما زدت إلّا لعلّي زدت نقصانا
وأما كتبه فإنها البحار الزّواخر، جواهرها لا يعرف لها أول من آخر، ما وضع الواضعون مثلها، وإنما خصّ الله بمعرفتها أهلها، فمن خواص كتبه أنه من لازم مطالعتها والنظر فيها انحلّ فهمه لحلّ المشكلات وفهم المعضلات، وهذا ما وصلت إليه طاقتي في مدحه، والحمد لله رب العالمين.
[1] كذا في «ط» : «بحره» وفي «آ» : «مجده» .
وكذلك أجاب ابن كمال باشا [1] بما صورته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لمن جعل من عباده العلماء المصلحين، وورثة الأنبياء والمرسلين، والصلاة والسلام على محمد المبعوث لإصلاح الضّالين والمضلّين، وآله وأصحابه المجدّين لإجراء الشرع المبين.
وبعد: أيّها النّاس! اعلموا أن الشيخ الأعظم، المقتدى الأكرم، قطب العارفين، وإمام الموحدين، محمد بن علي بن العربي الطائي الأندلسي، مجتهد كامل، ومرشد فاضل، له مناقب عجيبة، وخوارق غريبة، وتلامذة كثيرة، مقبولة عند العلماء والفضلاء، فمن أنكره فقد أخطأ، وإن أصرّ في إنكاره فقد ضلّ، يجب على السلطان تأديبه، وعن هذا الاعتقاد تحويله، إذا السلطان مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وله مصنّفات كثيرة، منها:«فصوص حكمية» و «فتوحات مكّية» وبعض مسائلها معلوم اللفظ والمعنى، وموافق للأمر الإلهيّ والشرع النبوي، وبعضها خفي عن إدراك أهل [2] . الظّاهر دون أهل الكشف والباطن، فمن لم يطّلع على المعنى المرام يجب عليه السكوت في هذا المقام، لقوله تعالى:
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ به عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا 17: 36 [الإسراء: 36] ، والله الهادي إلى سبيل الصواب، وإليه المرجع والمآب. انتهى.
وكلا الجوابين مكتوب في ضريح المترجم فوق رأسه، والله أعلم.
ثم قال المناوي: وأخبر الشّعراوي عن بعض إخوانه أنه شاهد رجلا أتى ليلا بنار ليحرق تابوته فخسف به وغاب بالأرض، فأحسن أهله، فحفروا فوجدوا رأسه، فكلما حفروا نزل في الأرض، فعجزوا وأهالوا عليه التراب.
[1] لعله نقل هذا الكلام عن كتابه «طبقات المجتهدين» وهو مخطوط لم يطبع بعد كما ذكر الزركلي في ترجمته من كتابه «الإعلام» (1/ 133) .
[2]
لفظة «أهل» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» .
قال [1] : ومن تأمل سيرة ابن عربي [2] وأخلاقه الحسنة وانسلاخه من حظوظ نفسه وترك العصبية، حمله ذلك على محبته واعتقاده، ومما وقع له أن رجلا من دمشق فرض على نفسه أن يلعنه كل يوم عشر مرات، فمات، وحضر ابن عربي جنازته ثم رجع فجلس ببيته وتوجه للقبلة، فلما جاء وقت الغداء أحضر إليه فلم يأكل، ولم يزل على حاله إلى بعد العشاء، فالتفت مسرورا وطلب العشاء وأكل، فقيل له في ذلك، فقال: التزمت مع الله أني لا آكل ولا أشرب حتّى يغفر لهذا الذي يلعنني، وذكرت له سبعين ألف لا إله إلا الله، فغفر له.
وقد أوذي الشيخ كثيرا في حياته وبعد مماته بما لم يقع نظيره لغيره، وقد أخبر هو عن نفسه بذلك، وذلك من غرر كراماته، فقد قال في «الفتوحات» كنت نائما في مقام إبراهيم، وإذا بقائل من الأرواح- أرواح الملأ الأعلى- يقول لي عن الله: ادخل مقام إبراهيم، إنّه كان أوّاها حليما [3] ، فعلمت أنه لا بد أن يبتليني بكلام في عرضي من قوم، فأعاملهم بالحلم. قال: ويكون أذى كثيرا، فإنه جاء بحليم بصيغة المبالغة، ثم وصفه بالأوّاه، وهو من يكثر منه التأوّه لما يشاهد من جلال الله. انتهى.
وقال الصّفي بن أبي منصور: جمع ابن عربي بين العلوم الكسبية والعلوم الوهبية، وكان غلب عليه التوحيد علما وخلقا وخلقا، لا يكترث بالوجود مقبلا كان أو معرضا.
وقال تلميذه الصّدر القونوي الرّومي [4] : كان شيخنا ابن عربي متمكنا من
[1] القائل المناوي.
[2]
تحرفت في «ط» إلى «ابن عرابي» .
[3]
وذلك محاكاة لقوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ 9: 114 [التّوبة: 114] .
[4]
هو محمد بن إسحاق بن محمد بن يوسف بن علي القونوي الرّومي، صدر الدّين، صوفي من كبار تلامذة الشيخ محيي الدّين بن العربي، تزوّج ابن عربي أمّه، وربّاه، له مصنّفات في
الاجتماع بروح من شاء من الأنبياء والأولياء الماضين، على ثلاثة أنحاء، إن شاء الله، استنزل روحانيته في هذا العالم، وأدركه متجسدا في صورة مثالية شبيهة بصورته الحسّية العصرية، التي كانت له في حياته الدّنيا، وإن شاء الله، أحضره في نومه، وإن شاء انسلخ عن هيكله واجتمع به [1] ، وهو أكثر القوم كلاما في الطريق، فمن ذلك ما قال: ما ظهر على العبد إلّا ما استقرّ في باطنه، فما أثّر فيه سواه، فمن فهم هذه الحكمة وجعلها مشهودة أراح نفسه من التعلق بغيره، وعلم أنه لا يؤتى عليه بخير ولا شرّ إلّا منه، وأقام العذر لكل موجود. وقال: إذا ترادفت عليك الغفلات وكثرة النوم، فلا تسخط ولا تلتفت لذلك، فإن من نظر الأسباب مع الحقّ أشرك. كن مع الله بما يريد لا مع نفسك بما تريد، لكن لا بد من الاستغفار.
وقال [2] : علامة الراسخ أن يزداد تمكنا عند سلبه، لأنه مع الحقّ بما أحبّ، فمن وجد اللذّة في حال المعرفة دون السلب فهو مع نفسه غيبة وحضورا.
وقال [2] : من صدق في شيء وتعلقت همته بحصوله، كان له عاجلا أو آجلا، فإن لم يصل إليه في الدنيا فهو له في الآخرة. ومن مات قبل الفتح رفع إلى محلّ همته.
وقال [2] : العارف يعرف ببصره ما يعرفه غيره ببصيرته، ويعرف ببصيرته ما لا يدركه أحد إلّا نادرا، ومع ذلك فلا يأمن على نفسه من نفسه، فكيف يأمن على نفسه من مقدور ربّه، وهذا مما قطع الظهور سَنَسْتَدْرِجُهُمْ من حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ 7: 182 [الأعراف: 182] .
وقال [2] : لا ينقص العارف قوله لتلميذه: خذ هذا العلم الذي لا تجده
التصوف. مات سنة ستمائة وثلاث وسبعون. انظر «طبقات الشافعية الكبرى» (8/ 45) و «الأعلام» (6/ 30) .
[1]
أقول: كل هذا من المبالغات التي لا تجوز. (ع) .
[2]
القائل ابن العربي.
عند غيري ونحوه مما فيه تزكية نفسه، لأن قصده حث المتعلم على القبول.
وقال: كلام العارف على صورة السّامع بحسب قوة استعداده وضعفه، وشبهته القائمة بباطنه.
وقال: كل من ثقل عليك الجواب عن كلامه فلا تجبه، فإن وعاءه ملآن لا يسع الجواب.
وقال: من صحّ له قدم في التوحيد، انتفت عنه الدعاوى من نحو رياء وإعجاب، فإنه يجد جميع الصفات المحمودة لله لا له، والعبد لا يعجب بعمل غيره ولا بمتاع غيره.
وقال: من ملكته نفسه عذّب بنار التدبير، ومن ملكه الله عذّب بنار الاختبار، ومن عجز عن العجز، أذاقه الله حلاوة الإيمان، ولم يبق عنده حجاب.
وقال: من أدرك من نفسه التغيّر والتبديل في كل نفس، فهو العالم بقوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ 55: 29 [الرّحمن: 29] .
وقال: من طلب دليلا على وحدانية الله تعالى، كان الحمار أعرف بالله منه.
وقال: الجاهل لا يرى جهله لأنه في ظلمته، والعالم لا يرى علمه لأنه في ضياء نوره، ولا يجري شيء إلّا بغيره، فالمرآة تخبرك بعيوب صورتك وتصدقها [1] مع جهلك بما أخبرت به، والعالم يخبرك بعيوب نفسك مع علمك بما أخبرك به وتكذبه، فماذا بعد الحقّ إلّا الضلال.
وقال: حسن الأدب في الظّاهر آية حسنه في الباطن، فإيّاك وسوء الظنّ والسلام.
[1] كذا في «ط» و «المنتخب» (165/ ب) : «وتصدقها» وفي «آ» : «وتصدقك» .
وقال: معنى الفتح عندهم كشف حجاب النّفس، أو القلب، أو الرّوح، أو السر لما في الكتاب والسّنّة.
وقال: وربما فهم أحدهم من اللفظ ضد ما قصده المتكلم. سمع بعض علماء بغداد رجلا من شربة الخمر ينشد:
إذا العشرون من شعبان ولّت
…
فواصل شرب ليلك بالنّهار
ولا تشرب بأقداح صغار
…
فإنّ الوقت ضاق على الصّغار
فهام على وجهه في البرّيّة، حتّى مات.
وقال: كثيرا ما تهبّ في قلوب العارفين نفحات الهيبة، فإن نطقوا بها جهّلهم كمّل العارفين، وردّها عليهم أصحاب الأدلة من أهل الظّاهر، وغاب عن هؤلاء أنه تعالى كما أعطى أولياءه الكرامات التي هي فرع المعجزات، فلا بدع أن تنطق ألسنتهم بعبارات تعجز العلماء عن فهمها.
وقال: من لم يقم بقلبه تصديق ما يسمعه من كلام القوم، فلا يجالسهم، فإن مجالستهم بغير تصديق سمّ قاتل.
وقال: شدة القرب حجاب، كما أن غاية البعد حجاب، وإن كان الحقّ أقرب إلينا من حبل الوريد، فأين السبعون ألف حجاب.
وقال: لا تدخل الشبهة في المعارف والأسرار الربّانيّة، وإنما محلّها العلوم النظرية.
وقال: نهاية العارفين منقولة غير معقولة، فما ثمّ عندهم إلّا بداية وتنقضي أعمارهم، وهم مع الله على أول قدم.
وقال: كلّ من آمن بدليل فلا وثوق بإيمانه، لأنه نظريّ، فهو معرّض للقوادح، بخلاف الإيمان الضروري الذي يوجد في القلب ولا يمكن دفعه، وكل علم حصل عن نظر وفكر لا يسلم من دخول الشبه عليه ولا الحيرة فيه.
وقال: شرط الكامل، الإحسان إلى أعدائه وهم لا يشعرون، تخلّقا بأخلاق الله، فإنه دائم الإحسان إلى من سمّاهم أعداءه، مع جهل الأعداء به.
وقال: شرط الشيخ أن يكون عنده جميع ما يحتاجه المريد في التربية لا ظهور كرامة، ولا كشف باطن المريد.
وقال: الشفقة على الخلق أحقّ بالرّعاية من الغيرة في الله، لأن الغيرة لا أصل لها في الحقائق الثبوتية، لأنها من الغيرية، ولا غيرية هناك وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها 8: 61 [الأنفال: 61] وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها 42: 40 [الشّورى: 40] فجعل القصاص سيئة، أي أن ذلك الفعل سيء مع كونه مشروعا، وكل ذلك تعظيما لهذه النشأة التي تولى الحقّ خلقها بيده، واستخلفها في الأرض، وحرّم على عباده السّعي في إتلافها بغير إذنه.
وقال: الصّوفي، من أسقط الياءات الثلاث، فلا يقول: لي، ولا عندي، ولا متاعي، أي لا يضيف لنفسه شيئا.
وقال: «الدّعاء مخّ العبادة» [1] وبالمخ تكون القوة للأعضاء، فلذا تتقوى به عبادة العابدين.
وقال: تحفّظ من لذّات الأحوال، فإنها سموم قاتلة، وحجب مانعة.
وقال: لا يغرنّك إمهاله [2] ، فإن بطشه شديد، والشقيّ من اتّعظ بنفسه.
[1] رواه الترمذي رقم (3368) في الدعوات. باب ما جاء في فضل الدعاء من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وفي سنده عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف. ويغني عنه حديث «الدّعاء هو العبادة» من حديث النّعمان بن بشير رضي الله عنه، رواه الترمذي رقم (3369) في الدعوات: باب رقم (2) وابن ماجة رقم (3828) في الدعاء: باب فضل الدعاء، وهو حديث صحيح.
[2]
يعني الله تعالى.
لا يغرنّك من خالف فجوزي بإحسان المعارف، ووقف في أحسن المواقف، وتجلّت له المشاهد، هذا كله مكر به واستدراج من حيث لا يعلم، قل له إذا احتجّ عليك بنفسه:
سوف ترى إذا انجلى الغبار
…
أفرس تحتك أم حمار
وقال: لا يصح لعبد مقام المعرفة بالله وهو يجهل حكما واحدا من شرائع الأنبياء، فمن ادعى المعرفة واستشكل حكما واحدا في الشريعة المحمدية أو غيرها فهو كاذب.
وقال: أجمعت الطائفة على أن العلم بالله عين الجهل به تعالى.
وقال: إذا ذكر الله الذّاكر ولم يخشع قلبه، ولا خضع عند ذكره إيّاه، لم يحترم الجناب الإلهي، ولم يأت بما يليق به من التعظيم، وأول ما تمقته جوارحه وجميع أجزاء بدنه.
وقال: الأسماء الإلهية كلها التي عليها يتوقف وجود العالم أربعة لا غير: الحيّ، القادر، المريد، العالم. وبهذه الأسماء ثبت كونه إلها.
وقال: أخبرني من أثق به، قال: دخلت على رجل فقيه، عالم متكلم، فوجدته بمجلس فيه الخمر وهو يشرب، ففرغ النبيذ، فقيل له: انفذ إلى فلان يأتي بنبيذ، فقال: لا، فإني ما أصررت على معصية قطّ، ولي بين الكأسين توبة ولا أنتظره، فإذا حصل بيدي أنظر هل يوفقني ربّي فأتركه أو يخذلني فأشربه، ثم قال- أعني ابن عربي-: فهكذا العلماء. انتهى كلام المناوي ملخصا [1] .
وأقول: ومن كلامه أيضا:
ما نال من جعل الشّريعة جانبا
…
شيئا ولو بلغ السّماء مناره
[1] أقول: وفي كلامه كله مبالغات لا يقرها الإسلام. (ع) .
ومن شعره الرائق قوله:
حقيقتي همت بها
…
وما رآها بصري
ولو رآها لغدا
…
قتيل ذاك الحور
فعند ما أبصرتها
…
صرت بحكم النّظر
فبتّ مسحورا بها
…
أهيم حتّى السّحر
يا حذري من حذري
…
لو كان يغني حذري
والله ما هيّمني
…
جمال ذاك الخفر
يا حسنها من ظبية
…
ترعى بذات الخمر
إذا رنت أو عطفت
…
تسبي عقول البشر
كأنّما أنفاسها
…
أعراف مسك عطر
كأنها شمس الضّحى
…
في النّور أو كالقمر
إن سفرت أبرزها
…
نور صباح مسفر
أو سدلت غيّبها
…
ظلام ذاك الشّعر
يا قمر تحت دجى
…
خذي فؤادي أو ذري
عسى لكي أبصركم
…
إن [1] كان حظي نظري
وكان يقول: أعرف الاسم الأعظم، وأعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب، وكان مجتهدا مطلقا بلا ريب.
قال في رائيته:
لقد حرّم الرّحمن تقليد مالك
…
وأحمد والنّعمان والكلّ فاعذروا
وقال أيضا في نونيته:
لست ممن يقول قال ابن حزم
…
لا ولا أحمد ولا النّعمان
[1] في «ط» : «إذ» .
وهذا صريح بالاجتهاد المطلق، كيف لا وقد قال: عرضت أحاديثه- صلى الله عليه وسلم جميعها عليه، فكان يقول عن أحاديث: صحّت من جهة الصناعة ما قلتها، وعن أحاديث ضعفت من جهتها قلتها، وإذا لم يكن مجتهدا فليس لله مجتهد.
إن لم تره فهذه آثاره
هذا وما نقم عليه أحد فيما أعلم بغير ما فهمه من كلامه من الحلول أو الاتحاد، وما تفرّع عليهما من كفر أو إلحاد، وساحته النزهة منهما، وشأوه أبعد شأوا عنهما، وكلامه بنفسه يشهد بهذا.
خلي افتراك فذاك خلي لا ذا
قال في «فتوحاته المكية» التي هي قرة عين السادة الصوفية، في الباب الثاني والتسعين ومائتين: من أعظم دليل على نفي الحلول والاتحاد الذي يتوهمه بعضهم، أن تعلم عقلا أن القمر ليس فيه من نور الشمس شيء، وأن الشمس ما انتقلت إليه بذاتها، وإنما كان القمر محلا لها، كذلك [1] العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حلّ فيه.
وقال أيضا فيها في الباب الثامن والسبعين، كما نقله عنه الشعراني في كتابه «اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر» : إن الله تعالى لم [2] يوجد العالم لافتقاره إليه، وإنما الأسباب في حال عدمها الإمكاني لها طلبت وجودها ممن هي مفتقرة إليه بالذات، وهو الله تعالى، لا تعرف غيره، فلما طلبت بفقرها الذاتي من الله تعالى أن يوجدها، قبل الحقّ سؤالها، لا من حاجة قامت به إليها، لأنها كانت مشهودة له تعالى في حال عدمها النّسبي كما
[1] في «ط» : «فلذلك» .
[2]
لفظة «لم» لم ترد في «آ» .
هي مشهودة له في حال وجودها سواء، فهو يدركها- سبحانه- على ما هي عليه في حقائقها حال وجودها وعدمها، بإدراك واحد، فلهذا لم يكن إيجاده للأشياء عن فقر، بخلاف العبد، فإن الحقّ تعالى لو أعطاه جزء «كن» وأراد إيجاد شيء لا يوجده إلّا عن فقر إليه وحاجة، فما طلب العبد إلّا ما ليس عنده، فقد افترق إيجاد العبد عن إيجاد الحقّ تعالى، قال: وهذه مسألة لو ذهبت عينك جزاء لتحصيلها لكان قليلا في حقّها، فإنها مزلّة قدم، زلّ فيها كثير من أهل الله تعالى، والتحقوا فيها بمن ذمّهم الله تعالى في قوله: لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ 3: 181 [آل عمران: 181][1] انتهى. فإن قلت: قد نقل بعضهم عن الشيخ أنه كان ينشد:
الكلّ مفتقر ما الكلّ مستغني
…
هذا هو الحقّ قد قلنا ولا نكني [2]
فالجواب: إن هذا ومثله من المدسوس عليه في كتاب «الفصوص» وغيره، فإن هذا يكذّبه الناقل عنه خلاف ذلك. انتهى كلام الشعراني.
توفي- رحمه الله ورضي عنه- في الثاني والعشرين من ربيع الآخر بدمشق، في دار القاضي محيي الدّين بن الزّكي، وحمل إلى قاسيون فدفن في تربته المعلومة الشريفة، التي هي قطعة من رياض الجنّة، والله تعالى أعلم.
وفيها أمين الدّين أبو بكر وأبو عبد الله، أحمد بن محمد بن طلحة بن الحسن بن طلحة بن حسّان البصري الأصل البغدادي المصري [3] الفقيه الحنبلي، المحدّث المعدّل.
[1] قلت: وقد تحرفت الآية في «آ» و «ط» إلى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ
…
5: 17.
[2]
قلت: جاء في هامش «ط» ما نصه: «أقول: ليس في هذا البيت نص أنه بالكل حتّى الله، بل المراد من المخلوقات، ولا حاجة إلى الجواب بأنه مدسوس» . لكتابه داود كما في هامش الأصل.
[3]
انظر «تاريخ الإسلام» (64/ 336- 337) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 220- 221) .
ولد سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة تقريبا، وطلب الحديث، وسمع الكثير من ابن كليب، وذاكر ابن كامل، وأبي الفرج بن الجوزي، وابن المعطوش وخلق كثير من هذه الطبقة. وكتب بخطه كثيرا، وتفقّه في المذهب، وتكلّم في الخلاف، وحصّل طرفا صالحا من الأدب، وسافر إلى بلاد فارس، والرّوم، ومصر، وشهد عند ابن اللّمغاني [1] . وله مجموعات وتخاريج في الحديث، وجمع الأحاديث السباعيات والثمانيات التي له، و «معجما» لشيوخه. وحدّث ببغداد وغيرها. ذكر ذلك ابن النجار. وقال:
سمعت منه وهو فاضل، عالم، ثقة، صدوق، متدين، أمين، نزه، حسن الطريقة، جميل السيرة، طاهر السّريرة، سليم الجانب. مسارع إلى فعل الخير، محبوب إلى الناس. انتهى.
توفي ليلة الأحد ثالث ربيع الأول ببغداد.
وفيها تقي الدّين أبو عبد الله يوسف بن عبد المنعم بن نعمة بن سلطان بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر المقدسي النابلسي [2] ، الفقيه الحنبلي المحدّث.
ولد سنة ست وثمانين وخمسمائة تقديرا ببيت المقدس، وسمع بدمشق من ابن طبرزد وغيره.
قال المنذري: ترافقنا [3] في السماع كثيرا، وكان على طريقة حسنة.
توفي [في] عاشر ذي القعدة بمدينة نابلس.
[1] هو قاضي القضاة كمال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن عبد السلام بن إسماعيل اللّمغاني ثم البغدادي، المتوفي سنة (649) هـ. انظر «سير أعلام النبلاء» (23/ 250) .
[2]
انظر «التكملة لوفيات النقلة» (3/ 564) و «تاريخ الإسلام» (64/ 365- 366) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 221) .
[3]
تحرفت في «آ» و «ط» إلى «توافقنا» والتصحيح من «التكملة» و «الذيل» .