الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة سبع وستمائة
فيها خرجت الفرنج من البحر من غربي دمياط، وساروا في البرّ، فأخذوا قرية نورة واستباحوها وردّوا في الحال.
وفيها توفي صاحب الموصل الملك العادل نور الدّين أرسلان شاه بن عزّ الدّين مسعود بن مودود بن أتابك زنكي التّركي [1] . ولي بعد أبيه ثمان عشرة سنة، وكان شهما، شجاعا، سايسا، مهيبا، مخوفا.
قال أبو السعادات بن الأثير وزيره: ما قلت له في فعل خير إلّا وبادر إليه.
وقال أبو شامة: كان عقد نور الدّين صاحب الموصل مع وكيله بدمشق على بنت من بيت المال على مهر ثلاثين ألف دينار، ثم بان أنه قد مات من أيام.
وقال أبو المظفّر [سبط ابن] الجوزي [2] : كان جبّارا، سافكا للدماء، بخيلا.
وقال ابن خلّكان [3] : كان شهما عارفا بالأمور، تحوّل شافعيا ولم يكن في بيته شافعي سواه، وله مدرسة قلّ أن يوجد مثلها في الحسن.
توفي ليلة الأحد التاسع والعشرين من رجب في شبارة بالشطّ ظاهر الموصل.
[1] انظر «العبر» (5/ 21) .
[2]
انظر «مرآة الزمان» (8/ 356) وقد نقل عنه بتصرف واختصار.
[3]
انظر «وفيات الأعيان» (1/ 193- 194) .
والشبارة عندهم هي الحرّاقة [1] بمصر، وكتم موته حتى دخل به دار السلطنة بالموصل، ودفن بتربته التي بمدرسته المذكورة.
وخلّف ولدين، هما الملك القاهر عز الدّين مسعود، والملك المنصور عماد الدّين زنكي.
وقام بالمملكة بعده ولده القاهر، وهو أستاذ الأمير بدر الدّين أبي الفضائل لؤلؤ الذي تغلب على الموصل وملكها في سنة ثلاثين وستمائة في أواخر شهر رمضان، وكان قبل نائبا بها ثم استقلّ.
وفيها أبو الفخر أسعد بن سعيد بن محمود بن محمد بن روح الأصبهاني [2] ، التاجر، رحلة وقته.
ولد سنة سبع عشرة وخمسمائة، وسمع «المعجم الكبير» للطبراني بفوت و «المعجم الصغير» من فاطمة [3] ، وكان آخر من سمع منها. وسمع من زاهر [4] وسعيد بن أبي الرجاء. توفي في ذي الحجة، وآخر من سمع منه وروى عنه بالإجازة تقي الدّين ابن الواسطي.
وفيها تقيّة [5] بنت محمد بن آموسان. روت عن أبي عبد الله الخلّال، وغانم بن خالد. توفيت في رجب بأصبهان.
[1] في «آ» و «ط» : «الحرافة» والتّصحيح من «المنتخب» (137/ ب) و «وفيات الأعيان» والحرّاقة: ضرب من السّفن فيها مرامي نيران يرمى بها العدوّ في البحر. انظر «المعجم الوسيط» (حرق) .
[2]
انظر «العبر» (5/ 21- 22) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 491- 492) .
[3]
يعني الجوزدانية كما في «سير أعلام النبلاء» .
[4]
يعني الشّحّامي.
[5]
تصحفت في «آ» و «ط» إلى «بقية» والتصحيح من «العبر» (4/ 22) و «تاريخ الإسلام» (61/ 230) .
وفيها أخوها جعفر بن آموسان [1] الواعظ أبو محمد الأصبهاني. سمع من فاطمة بنت البغدادي وجماعة، وروى الكثير، وحجّ فأدركه الأجل بالمدينة النبوية في المحرم.
وفيها زاهر بن أحمد بن أبي غانم أبو المجد بن أبي طاهر الثقفي الأصبهاني [2] .
ولد سنة إحدى وعشرين، وسمع من محمد بن علي بن أبي ذرّ، وسعيد بن أبي [3] الرجاء، وزاهر بن طاهر، وطائفة، وروى حضورا عن جعفر ابن عبد الله الثقفي. توفي في ذي القعدة.
وفيها عائشة بنت معمر بن الفاخر أم حبيبة الأصبهانية [4] . حضرت فاطمة الجوزدانية، وسمعت من زاهر [بن طاهر] وجماعة.
قال ابن نقطة: سمعنا منها «مسند أبي يعلى» بسماعها من سعيد الصّيرفي. توفيت في ربيع الآخر.
وفيها أبو أحمد بن سكينة الحافظ ضياء الدّين عبد الوهاب بن الأمين علي بن علي البغدادي [5] الصّوفي الشافعي، مسند العراق، وسكينة جدّته.
ولد سنة تسع عشرة، وسمع من ابن الحصين، وزاهر الشّحّامي وطبقتهما، ولازم ابن السمعاني، وسمع الكثير من قاضي المارستان وأقرانه،
[1] في «تاريخ الإسلام» (61/ 231) : «جعفر بن أبي سعيد بن أبي محمد، المعروف جده بآموسان» .
[2]
انظر «العبر» (5/ 22) .
[3]
لفظة «أبي» سقطت من «آ» .
[4]
انظر «العبر» (5/ 22- 23) و «تاريخ الإسلام» (61/ 235) .
[5]
انظر «العبر» (5/ 23- 24) و «تاريخ الإسلام» (61/ 236- 239) .
وقرأ القراءات على سبط الخيّاط وجماعة ومهر فيها، وقرأ العربية على ابن الخشّاب، وقرأ المذهب والخلاف على أبي منصور الرّزّاز، وصحب جدّه لأمه أبا البركات إسماعيل بن أسعد، وأخذ علم الحديث عن ابن ناصر ولازمه.
قال ابن النجار: هو شيخ العراق في الحديث، والزهد، والسمت، وموافقة السّنّة. كانت أوقاته محفوظة لا تمضي له ساعة إلّا في تلاوة، أو ذكر، أو تهجد، أو تسميع، وكان يديم الصيام غالبا، ويستعمل السّنّة في أموره، إلى أن قال: وما رأيت أكمل منه، ولا أكثر عبادة، ولا أحسن سمتا، صحبته وقرأت عليه القراءات، وكان ثقة نبيلا من أعلام الدّين.
وقال ابن الدّبيثي: كان من الأبدال.
وقال الذّهبي: آخر من له إجازته، الكمال المكبّر.
توفي في تاسع ربيع الآخر.
وفيها ابن طبرزد، مسند العصر، أبو حفص موفق الدّين عمر بن محمد بن معمر الدّراقزّيّ [1] المؤدّب.
ولد سنة ست عشرة وخمسمائة، وسمع من ابن الحصين، وأبي غالب ابن البنّا، وطبقتهما. فأكثر. وحفظ أصوله إلى وقت الحاجة، وروى الكثير، ثم قدم دمشق في آخر أيامه فازدحموا عليه، وقد أملى مجالس بجامع المنصور، وعاش تسعين سنة وسبعة أشهر، وكان ظريفا، كثير المزاح. توفي في تاسع رجب ببغداد.
وفيها أبو موسى الجزولي- بضم الزاي، نسبة إلى جزولة [2] بطن من
[1] انظر «العبر» (5/ 24) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 507- 512) .
[2]
قال القفطي في «إنباه الرواة» : وربما قالوا: «كزولة» بالكاف.
البربر بالمغرب- عيسى بن عبد العزيز بن يللبخت البربريّ المراكشيّ [1] النحويّ العلّامة.
حجّ وأخذ العربية عن ابن برّي بمصر، وسمع الحديث من أبي [محمد بن] عبيد الله [2] . وإليه انتهت الرئاسة في علم النحو، وولي خطابة مرّاكش مدة، وكان بارعا في الأصول، والقراءات.
قال ابن خلّكان [3] : كان إماما في علم النحو، كثير الاطلاع على دقائقه وغريبه وشاذّه، وصنّف فيه المقدّمة التي سمّاها «القانون» ولقد أتى فيها بالعجائب، وهي في غاية الإيجاز مع الاشتمال على شيء كثير من النحو، ولم يسبق إلى مثلها، واعتنى بها جماعة من الفضلاء فشرحوها، ومنهم من وضع لها أمثلة، ومع هذا كله لا تفهم حقيقتها، وأكثر النّحاة يعترفون بقصور أفهامهم عن إدراك مراده منها، فإنها كلها رموز وإشارات، وبالجملة فإنه أبدع فيها. وله أمال في النحو لم تشتهر، ونسبت «الجمل» إليه لأنها من نتائج خواطره، وكان يقول: هي ليست من تصنيفي، لأنه كان متورّعا، وكان استفادها من شيخه ابن برّي، وإنما نسبت إليه لأنه انفرد بترتيبها، وانتفع به خلق كثير، وتوفي بأزمّورة [4] من عمل مراكش.
ويللبخت: بفتح التحتية المثناة واللام الأولى، وسكون الثانية، وفتح الباء الموحدة، وسكون الخاء المعجمة وبعدها تاء مثناة فوقية، اسم بربريّ.
وفيها الشيخ أبو عمر المقدسي الزّاهد محمد بن أحمد بن محمد بن
[1] انظر «إنباه الرواة» (2/ 378- 380) و «العبر» (5/ 24) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 497) .
[2]
ما بين الحاصرتين مستدرك من «سير أعلام النبلاء» وقد سمع منه «صحيح البخاري» .
[3]
انظر «وفيات الأعيان» (3/ 488- 490) .
[4]
في «آ» و «ط» ، «بأزمور» والتصحيح من «معجم البلدان» (1/ 169) وقال: بلد بالمغرب في جبال البربر.
قدامة بن مقدام الحنبلي [1] القدوة الزّاهد، أخو العلّامة موفق الدّين.
ولد بجمّاعيل سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وهاجر [مع والده] إلى دمشق لاستيلاء الفرنج على الأرض المقدسة، وسمع الحديث من أبي المكارم عبد الواحد بن هلال وطائفة كثيرة، وكتب الكثير بخطّه، وحفظ القرآن، والفقه، والحديث، وكان إماما، فاضلا، مقرئا، زاهدا، عابدا، قانتا لله، خاشعا من الله، منيبا إلى الله، كثير النفع لخلق الله، ذا أوراد وتهجّد واجتهاد وأوقات مقسمة على الطاعات [2] من الصّلاة، والصّيام، والذّكر، وتعلّم العلم، والفتوّة والمروءة والخدمة والتواضع، رضي الله عنه وأرضاه.
فلقد كان عديم النظير في زمانه. خطب بجامع الجبل إلى أن مات. قاله في «العبر» [3] .
وقال ابن رجب في «طبقاته» [4] : هاجر به والده وبأخيه الشيخ الموفق وأهلهم إلى دمشق لاستيلاء الفرنج على الأرض المقدسة، فنزلوا بمسجد أبي صالح ظاهر باب شرقي، فأقاموا به مدة نحو سنتين، ثم انتقلوا إلى الجبل.
قال أبو عمر: فقال الناس: الصالحية، الصالحية، ينسبونا إلى مسجد أبي صالح، لا أنّا صالحون.
حفظ الشيخ أبو عمر القرآن، وقرأه بحرف أبي عمرو. وسمع الحديث من والده وخلائق، وقدم مصر وسمع بها من الشريف أبي المفاخر سعيد بن الحسن بن المأموني، وأبي محمد بن برّي النحوي. وخرّج له الحافظ عبد الغني المقدسي أربعين حديثا من رواياته، وحدّث بها. وسمع منه جماعة، منهم: الضياء، والمنذري، وروى عنه ابن خليل، وولده
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (22/ 5- 9) وعبارة «مع والده» التي بين الحاصرتين زيادة منه.
[2]
في «العبر» : «على الطاعة» .
[3]
(5/ 25) وانظر «تاريخ الإسلام» (61/ 247- 259) .
[4]
انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 52- 61) .
شمس الدّين أبو الفرج عبد الرحمن قاضي القضاة، وحفظ «مختصر الخرقي [1] » في الفقه. وتفقّه في المذهب، وكتب بخطّه كثيرا، من ذلك «الحلية» لأبي نعيم، و «تفسير البغوي» و «المغني» في الفقه لأخيه الشيخ موفق الدّين، و «الإبانة» لابن بطّة. وكتب مصاحف كثيرة لأهله، وكتب [2]«الخرقي» [3] للناس والكلّ بغير أجرة، وكان سريع الكتابة، وربما كتب في اليوم كرّاسين بالقطع الكبير.
وقال الحافظ الضياء: وكان الله قد جمع له معرفة الفقه، والفرائض، والنحو، مع الزّهد، والعمل، وقضاء حوائج الناس.
قال: وكان لا يكاد يسمع دعاء إلّا حفظه ودعا به [ولا يسمع ذكر صلاة إلّا صلّاها][4] ولا يسمع حديثا إلّا عمل به، وكان لا يترك قيام الليل من وقت شبوبيته، وقلّل الأكل في مرضه قبل موته، حتّى عاد كالعود، ومات وهو عاقد على أصابعه يسبّح.
قال: وحدّثت عن زوجته قالت: كان يقوم الليل، فإذا جاءه النوم عنده قضيب يضرب به على رجله [5] فيذهب عنه النوم.
وكان كثير الصيام سفرا وحضرا.
وقال [ولده][6] عبد الله: إنه في آخر عمره سرد الصّوم [7] ، فلامه أهله،
[1] جاء في هامش «المنتخب» لابن شقدة: قال ابن حجر: الخرقي: هو بخاء معجمة مكسورة، شيخ الحنابلة، منسوب إلى «خرق» قرية على بريد من مرو. «تاريخ العدوي» .
[2]
في «آ» و «ط» و «المنتخب» (138/ ب) : «ويكتب» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[3]
يعني «مختصر الخرقي» .
[4]
ما بين الحاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» و «المنتخب» و «ذيل طبقات الحنابلة» .
[5]
كذا في «آ» و «ط» و «المنتخب» : «رجله» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» : «رجليه» .
[6]
سقطت من «آ» و «ط» واستدركتها من «المنتخب» و «ذيل طبقات الحنابلة» .
[7]
أقول: أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوما، ويفطر يوما. (ع) .
فقال: أغتنم أيامي، وكان لا يسمع بجنازة إلّا حضرها، ولا مريض إلّا عاده، ولا بجهاد إلّا خرج فيه، وكان يقرأ في الصلاة كل ليلة سبعا مرتّلا، ويقرأ في النهار سبعا بين الظهر والعصر، وكان يقرئ [1] ويلقن إلى ارتفاع النهار، ثم يصلي الضحى طويلة، وكان يصلي كل ليلة جمعة بين العشاءين صلاة التسبيح [ويطيلها][2]، ويصلي يوم الجمعة ركعتين بمائة قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ 112: 1 [3] . وكان يصلي في كل يوم وليلة اثنتين وسبعين ركعة نافلة، وله أوراد كثيرة. وكان يزور القبور كل جمعة بعد العصر، ولا ينام إلّا على وضوء، ويحافظ على سنن وأذكار عند نومه.
وكان لا يترك غسل الجمعة، ولا يخرج إلى الجمعة إلّا ومعه شيء يتصدق به. وكان يؤثر بما عنده لأقاربه وغيرهم، ويتصدق كثيرا ببعض ثيابه، حتى يبقى في الشتاء بجبة بغير قميص. وكانت عمامته قطعة بطانة، فإذا احتاج أحد إلى خرقة أو مات صغير، قطع منها. وكان يلبس الخشن وينام على الحصير. وكان ثوبه إلى نصف ساقه، وكمّه إلى رسغه.
ومكث مدة لا يأكل أهل الدّير إلّا من بيته. يجمع الرجال ناحية، والنساء ناحية، وكان إذا جاء شيء إلى بيته فرّقه على الخاص والعام.
وكان يقول: لا علم إلّا ما دخل مع صاحبه القبر.
ويقول: إذا لم تتصدقوا لا يتصدق أحد عنكم، وإذا لم تعطوا السائل أنتم أعطاه غيركم.
وكان إذا خطب ترقّ القلوب وتبكي النّاس بكاء كثيرا. وكانت له هيبة عظيمة في القلوب. واحتاج الناس إلى المطر سنة، فطلع إلى مغارة الدّم [4] ومعه
[1] كذا في «آ» و «ط» و «المنتخب» : «يقرئ» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» : «يقرأ» .
[2]
زيادة من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[3]
أقول: هذه الصلاة بهذه الكيفية لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ع) .
[4]
حول مغارة الدّم راجع كتاب «حدائق الإنعام في فضائل الشام» ص (96) بتحقيق الأستاذ يوسف بديوي.
نساء من محارمه، واستسقى ودعا، فجاء المطر حينئذ، وجرت الأودية شيئا لم يره الناس من مدة طويلة [1] .
وقال عبد الله بن النحاس: كان والدي يحب الشيخ أبا عمر، فقال لي يوم جمعة: أنا أصلي الجمعة خلف الشيخ، ومذهبي أن بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 من الفاتحة، ومذهبه أنها ليست من الفاتحة، فمضينا إلى المسجد، فوجدنا الشيخ، فسلّم على والدي وعانقه، وقال: يا أخي صلّ وأنت طيب القلب، فإنني ما تركت بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 في فريضة ولا نافلة مذ أممت بالناس. وله كرامات كثيرة، وقد أطال الضياء ترجمته، وكذلك سبط ابن الجوزي في «المرآة» [2] وقال: كان معتدل القامة، حسن الوجه، عليه أنوار العبادة، لا يزال متبسما، نحيل الجسم من كثرة الصيام والقيام.
وكان يحمل الشّيخ من الجبل إلى بيوت الأرامل واليتامى، ويحمل إليهم في الليل الدراهم والدقيق ولا يعرفونه. ولا نهر أحدا [3] ولا أوجع قلب أحد. وكان أخوه الموفق يقول: هو شيخنا، ربّانا وأحسن إلينا، وعلّمنا وحرص علينا، وكان للجماعة كالوالد يقوم بمصالحهم، ومن غاب منهم خلفه في أهله، وهو الذي هاجر بنا وسفّرنا إلى بغداد، وبنى الدّير. ولما رجعنا من بغداد زوّجنا وبنى لنا دورا خارجة عن الدّير وكفانا هموم الدّنيا. وكان يؤثرنا ويدع أهله محتاجين، وبنى المدرسة والمصنع بعلو همته، وكان مجاب الدعوة، وما كتب لأحد ورقة للحمّى إلّا وشفاه الله تعالى.
وذكر جماعة أن الشيخ قطب، [وأقام قطب الوقت][4] قبل موته بست سنين.
[1] لفظة «طويلة» لم ترد في «ذيل طبقات الحنابلة» .
[2]
انظر «مرآة الزمان» (8/ 356- 361) .
[3]
في «مرآة الزمان» و «ذيل طبقات الحنابلة» : «وما نهر أحدا» وهو أجود.
[4]
زيادة من «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 58) لا يتم المعنى بدونها.
وقال سبط ابن الجوزي: كان على مذهب السّلف الصالح، حسن العقيدة، متمسكا بالكتاب والسّنّة والآثار المروية وغيرها [1] كما جاءت من غير طعن على أئمة الدّين وعلماء المسلمين، وينهى عن صحبة المبتدعين، ويأمر بصحبة الصالحين.
قال: وأنشدني لنفسه:
أوصيكم في القول بالقرآن
…
بقول أهل الحقّ والإيقان [2]
ليس بمخلوق ولا بفان
…
لكن كلام الملك الدّيّان
آياته مشرقة المعاني
…
متلوّة في اللفظ باللّسان
محفوظة في الصّدر والجنان
…
مكتوبة في الصّحف بالبنان
والقول في الصّفات يا إخواني
…
كالذّات والعلم مع البيان
إمرارها من غير ما كفران [3]
…
من غير تشبيه ولا عدوان
ولما كان عشية الاثنين ثامن عشري ربيع الأول، جمع أهله واستقبل القبلة، ووصاهم بتقوى الله تعالى ومراقبته، وأمرهم بقراءة يس وكان آخر كلامه إِنَّ الله اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 2: 132 [البقرة: 132] .
وتوفي- رحمه الله وغسّل في المسجد، ومن وصل إلى الماء الذي غسّل به، نشّف [به] النساء [مقانعهن] والرجال عمائمهم [4] ، وكان يوما مشهودا، ولما خرجوا بجنازته من الدّير كان يوما شديد الحرّ، فأقبلت غمامة
أقول: وهذه الألقاب من قطب وغيرها، ليست ألقابا صحيحة، ولم يذكرها العلماء المتقدمون، وليس في الإسلام قطب ولا غوث ولا غيرهما. (ع) .
[1]
في «آ» و «ط» و «المنتخب» (139/ آ) : «ويمرها» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[2]
في «ذيل طبقات الحنابلة» : «والإيقاف» .
[3]
في «آ» «من غير كفران» وهذه الأبيات لم ترد في «مرآة الزمان» .
[4]
في «آ» و «ط» . «نشّف النساء والرجال به عمائهم» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 60) .
فأظلت الناس إلى قبره. وكان يسمع منها دوىّ كدويّ النّحل، ولولا [المبارز المعتمد، والشجاع بن محارب، وشبل] الدولة [الحسامي][1] أحاطوا به بالسيوف، لما وصل من كفنه إلى قبره شيء.
ولمّا دفن رأى بعض الصالحين في منامه تلك الليلة النّبيّ- صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «من زار أبا عمر ليلة الجمعة، فكأنّما زار الكعبة، فاخلعوا نعالكم قبل أن تصلوا إليه» [2] .
ومات عن ثمانين سنة، ولم يخلّف قليلا ولا كثيرا.
وذكر الضياء عن عبد المولى بن محمد، أنه كان يقرأ عند قبر الشيخ سورة البقرة، وكان وحده، فبلغ إلى قوله تعالى: لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ 2: 68 [البقرة: 68]، قال: فغلطت، فردّ عليّ الشيخ من القبر. قال: فخفت وارتعدت وقمت، ثم مات القارئ بعد ذلك بأيام.
قال: وقرأ بعضهم عند قبره سورة الكهف، فسمعه من القبر يقول:
لا إله إلّا الله [3] ، ورؤيت له منامات كثيرة، ودفن بسفح قاسيون إلى جانب والده، رحمهما الله تعالى.
وفيها محمد بن هبة الله بن كامل أبو الفرج [4] الوكيل عند قضاة بغداد. أجاز له ابن الحصين، وسمع من أبي غالب بن البنّا وطائفة، وروى الكثير، وكان ماهرا في الحكومات. توفي في رجب.
وفيها المظفّر بن إبراهيم أبو منصور بن البرتي- بكسر الموحدة
[1] ما بين الحاصرتين زيادة من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[2]
أقول: لا تؤخذ الأحاديث والأحكام من المنامات. (ع) .
[3]
قلت: هذا وما سبقه من مبالغات محبيه المغالين في الإطراء، هو مما نهى الشرع الحنيف عنه، ولو حصل لأحد لحصل لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه المكرمين رضي الله عنهم أجمعين، ولكن لا يصح شيء من ذلك.
[4]
انظر «العبر (5/ 26) و «تاريخ الإسلام» (61/ 260) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 10- 11) .
وفوقية، نسبة إلى برت قرية بنواحي بغداد [1]- الحربي. آخر من حدّث عن أبي الحسين محمد بن الفرّاء توفي في شوال.
وفيها أبو القاسم المبارك بن أنوشتكين [2] بن عبد الله النّجمي السّيدي البغدادي [3] المعدّل الأديب الحنبلي. سمع من أبي المظفّر ابن التّركي الخطيب وخلق، وشهد عند قاضي القضاة أبي القاسم بن الشّهرزوري، وكان وكيل الخليفة الناصر بباب طراد، وبقي على ذلك إلى موته.
قال ابن نقطة: سمعت منه، وكان ثقة عالما فاضلا.
وروى عنه ابن خليل في «معجمه» . توفي في حادي عشر صفر، ودفن بباب حرب.
وفيها أبو زكريا يحيى بن أبي الفتح بن عمر بن الطبّاخ الحرّاني [4] الضرير المقرئ [5] ، الفقيه الحنبلي. رحل وقرأ القرآن بواسط بالروايات على هبة الله الواسطي وغيره، وسمع بها الحديث من ابن الكتّاني، وسمع ببغداد من ابن الخشّاب، وشهدة في آخرين، وتفقّه ببغداد، ورجع إلى حرّان وحدّث بها، وسمع منه سبط ابن الجوزي وغيره، وتوفي في شوال بحرّان.
وفيها صفي الدّين أبو زكريا يحيى بن المظفّر بن علي بن نعيم
[1] تنبيه: كذا قال المؤلف- رحمه الله تعالى-. وضبط ابن نقطة نسبته في «إكمال الإكمال» (1/ 375) بالحروف «البرني» بفتح الباء وسكون الراء بعدها نون مكسورة، ومثله المنذري في «التكملة لوفيات النقلة» (2/ 57)، وقال ابن نقطة: سمعت منه، وكان شيخا صالحا، صحيح السماع.
[2]
تحرفت في «آ» و «ط» إلى «ابن أبي سكين» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» إلى «ابن أبي شتكين» والتصحيح من «تكملة الإكمال» (باب السّندي والسيدي) مصورة عن مخطوطة الظاهرية.
[3]
انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 51- 52) .
[4]
انظر «تاريخ الإسلام» (61/ 264) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 62) .
[5]
في «ذيل طبقات الحنابلة» : «المقدسي» .
البغدادي البدري، الزاهد الحنبلي، المعروف بابن الحبير [1] .
ولد في محرم سنة أربعين وخمسمائة، وسمع الحديث من ابن ناصر، وأبي الوقت، وغيرهما. وتفقّه في المذهب، وكان يسافر في التجارة إلى الشام ثم انقطع في بيته بالبدرية محلّة من محال بغداد الشرقية. وكان كثير العبادة، حسن الهيئة والسمت، كثير الصلاة والصيام والتنسك، ذا مروءة وتفقد للأصحاب وتودّد إليهم، وانتفع به جماعة من مماليك الخليفة، وبنيت له دكّة [2] في آخر عمره لقراءة الحديث عليه. وتوفي في يوم الاثنين ضحى تاسع عشري ذي الحجّة، ودفن بباب حرب.
وكان له ابن [3] يقال له: أبو بكر محمد، كان فقيها فاضلا في المذهب، فانتقل إلى مذهب الشافعيّ لأجل الدّنيا، وولي القضاء وقيلت فيه الأشعار.
قاله ابن رجب [4] .
[1] انظر «تكملة الإكمال» لابن نقطة (2/ 12) و «تاريخ الإسلام» (61/ 264) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 62- 63) .
قال ابن رجب: و «الحبير» بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف، وبالراء المهملة.
وقال ابن نقطة: أوله حاء مهملة مضمومة، تصغير حبر.
[2]
في «آ» و «ط» : «وثبتت له ذكر» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» مصدر المؤلف، وجاء في الخبر عنده أيضا:«بأمر الخليفة بجامع القصر» .
قال ابن منظور في «لسان العرب» : والدّكّة، بناء يسطّح أعلاه.
[3]
لفظة «ابن» سقطت من «آ» .
[4]
قلت: وفي هذه السنة أيضا توفي الوجيه أبو الفتوح ناصر بن أبي الحسن علي بن خلف الأنصاري، المعروف بابن صورة. كان سمسار الكتب بمصر، وله في ذلك حظّ كبير، وكان يجلس في دهليز داره لذلك، ويجتمع عنده في يومي الأحد والأربعاء أعيان الرؤساء والفضلاء ويعرض عليهم الكتب التي تباع، ولا يزالون عنده إلى انقضاء وقت السوق، فلما مات السّلفيّ سار إلى الإسكندرية لبيع كتبه. مات في السادس عشر من شهر ربيع الآخر، سنة سبع وستمائة بمصر، ودفن بقرافتها، رحمه الله تعالى. انظر «التكملة لوفيات النقلة» (2/ 201) و «وفيات الأعيان» (1/ 197) .