الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة ثمان وأربعين وستمائة
استهلّت والفرنج على المنصورة والمسلمون بإزائهم مستظهرون لانقطاع الميرة عن الفرنج، ولوقوع المرض في خيلهم، ثم عزم ملكهم الفرنسيس على المسير في الليل إلى دمياط، ففهمها المسلمون، وكان الفرنج قد عملوا جسرا من صنوبر على النيل، فنسوا قطعة، فعبر عليه الناس وأحدقوا بهم، فاجتمع إلى الفرنسيس خمسمائة فارس من أبطاله، وحملوا على المسلمين حملة واحدة، ففرّج لهم المسلمون، فلما صاروا في وسطهم أطبقوا عليهم، فلم ينج منهم أحد، ومسّكوا الفرنسيس أسرة سيف الدّين القيمري باني المارستان في صالحية دمشق وانهزم جلّ الفرنج على حمية، فحمل عليهم المسلمون، ووضعوا فيهم السيف، وغنم الناس ما لا يحدّ ولا يوصف، وأركب الفرنسيس في حرّاقة والمراكب الإسلامية محدقة به تخفق بالكوسات والطبول، وفي البرّ الشرقي الجيش سائر تحت ألوية النصر، وفي البر الغربي العربان والعوام. وكانت ساعة عجيبة، واعتقل الفرنسيس بالمنصورة، وذلك في أول يوم من المحرّم.
قال سعد الدّين بن حمّويه: كانت الأسرى نيفا وعشرين ألفا، فيهم ملوك وكبار، وكانت القتلى سبعة آلاف، واستشهد من المسلمين نحو مائة نفس، وخلع الملك المعظّم على الكبار من الفرنج خمسين خلعة، فامتنع
الكلب الفرنسيس من لبس الخلعة، وقال: أنا مملكتي بقدر مملكة صاحب مصر، كيف ألبس خلعته؟.
ثم بدت من المعظّم خفّة وطيش وأمور خرج بسببها عليه مماليك أبيه وقتلوه بعد أن استردوا دمياط، وذلك أن حسام الدّين بن أبي علي أطلق الفرنسيس على أن يسلّم دمياط، وعلى بذل خمسمائة ألف دينار للمسلمين، فأركب بغلة، وساق معه الجيش إلى دمياط، فما وصلوا إلّا وأوائل المسلمين قد ركبوا أسوارها، فاصفرّ لون الفرنسيس، فقال حسام الدّين: هذه دمياط قد ملكناها، والرأي لا نطلق هذا، لأنه قد اطلع على عوراتنا. فقال عزّ الدّين أيبك: لا أرى الغدر، وأطلقه [1] .
وفيها توفي ابن الخيّر أبو إسحاق إبراهيم بن محمود بن سالم بن مهدي الأزجي المقرئ الحنبلي [2] . روى الكثير عن شهدة، وعبد الحق، وجماعة. وأجاز له ابن البطّي. وقرأ القراءات.
ولد في سلخ ذي الحجّة سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وعني بالحديث، وكان له به معرفة، وكان أحد المشايخ المشهورين بالصلاح وعلو الإسناد. دائم البشر، مشتغلا بنفسه، ملازما لمسجده حسن الأخلاق.
قال ابن نقطة: سماعه صحيح، وهو شيخ مكثر. روى عن خلق كثير، منهم: ابن الحلوانية، وابن العديم، والدمياطي، وتوفي يوم الثلاثاء سابع عشر ربيع الآخر، ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد.
وكان والده شيخا صالحا ضريرا. حدّث عن ابن ناصر وغيره، وهو الذي يلقب بالخيّر. توفي في صفر سنة ثلاث وستمائة.
[1] انظر الخبر برواية أخرى في «مرآة الزمان» (8/ 517- 518) و «النجوم الزاهرة» (6/ 367) .
[2]
انظر «العبر» (5/ 198) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 235- 236) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (270) .
وفيها فخر القضاة بن الجبّاب أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن الحسين السّعدي المصري [1] ، ناظر الأوقاف، وراوي «صحيح مسلم» عن المأموني. سمع قليلا من السّلفي، وابن برّي، وتوفي في رمضان، وله سبع وثمانون سنة.
وفيها الحافظية أرغوان العادلية [2] عتيقة الملك العادل، وسميت بالحافظية لتربيتها للملك الحافظ صاحب قلعة جعبر. وكانت امرأة صالحة مدبرة، صادرها الصالح إسماعيل، فأخذ منها أربعمائة صندوق، ووقفت دارها التي داخل باب النصر بدمشق وتعرف بدار الإبراهيمي على خدّامها، وبنت بالصالحية تحت ثورا [3] قرب عين الكرش مدرسة وتربة كانت بستانا للنّجيب غلام التّاج الكندي فاشترته منه، وبنت ذلك، ووقفت عليه أوقافا جيدة، منها بستان بصارو، وتسمى الآن بالحافظية [4] .
وفيها الملك الصالح عماد الدّين أبو الجيش إسماعيل بن العادل [5] ، الذي تملّك دمشق مدة. انضم سنة أربع وأربعين إلى ابن أخيه صاحب حلب الملك الناصر، فكان من كبراء دولته ومن جملة أمرائه بعد سلطنة دمشق، ثم قدم معه دمشق، وسار معه، فأسره الصالحية، ومرّوا على تربة [6] الصالح مولاهم، وصاحوا: يا خوند أين عينك ترى عدوّك أسيرا. ثم أخذوه في الليل وأعدموه في سلخ ذي القعدة، وكان ملكا شهما محسنا إلى خدمه وغلمانه وحاشيته، كثير التجمل.
[1] انظر «العبر» (5/ 198) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 234- 235) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (270) .
[2]
انظر «الدارس في تاريخ المدارس» (2/ 243) و «أعلام النساء» لكحالة (1/ 26) .
[3]
يعني نهر ثورا.
[4]
قلت: وتعرف في أيامنا بالست حفيظة.
[5]
انظر «العبر» (5/ 198- 199) .
[6]
تحرفت في «ط» إلى «طربة» .
وفيها أمين الدولة الوزير أبو الحسن الطبيب [1] . كان سامريّا ببعلبك فأسلم في الظّاهر، والله أعلم بالسرائر، ونفق على الصالح إسماعيل حتّى وزر له، وكان ظالما، نجسا، ماكرا، داهية، وهو واقف الأمينية التي ببعلبك.
أخذ من دمشق بعد حصار الخوارزمية، وسجن بقلعة مصر، فلما جاء الخبر الذي لم يتمّ بانتصار الناصر، توثب أمين الدولة في جماعة وصاحوا بشعار الناصر، فشنقوا، وهم: هو، وناصر الدّين بن يغمور [2] ، والخوارزمي.
ومن جملة ما وجد في تركة أمين الدولة، ثلاثة آلاف ألف دينار، غير ما كان مودعا له عند الناس.
وفيها الملك المعظم غياث الدّين توران شاه بن الصّالح نجم الدّين أيوب [3] . لما توفي أبوه حلف له الأمراء وقعدوا [4] وراءه كما ذكرنا، وفرح الخلق بكسر الفرنج على يده، لكنّه كان لا يصلح لصالحة، لقلّة عقله وفساده في المرد. ضربه مملوك بسيف فتلقاها بيده، ثم هرب إلى برج خشب فرموه بالنفط، فرمى بنفسه وهرب إلى النيل فأتلفوه، وبقي ملقى على الأرض ثلاثة أيام، حتّى انتفخ، ثم واروه. وكان قويّ المشاركة في العلوم، ذكيا.
قال ابن واصل: لما دخل المعظم مصر، قام إليه الشعراء، فابتدأ ابن الدجاجية تاج الدّين فقال:
كيف كان القدوم من حصن كيفا
…
حين أرغمت للأعادي أنوفا
[1] انظر «العبر» (5/ 199) .
[2]
في «آ» و «ط» : «ابن مغمور» والتصحيح من «العبر» .
[3]
انظر «فوات الوفيات» (1/ 263- 265) و «العبر» (5/ 199- 200) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 193- 196) .
[4]
تحرفت في «آ» و «ط» إلى «وتعدوا» والتصحيح من «العبر» .
فأجابه الملك المعظم:
الطّريق الطّريق يا ألف نحس
…
تارة آمنا وطورا مخيفا
أدركته حرفة الأدب كما أدركت عبد الله بن المعتز.
قال أبو شامة: دخل في البحر إلى حلقه، فضربه البندقداري بالسيف فوقع.
وفيها ابن رواج المحدّث رشيد الدّين أبو محمد عبد الوهاب بن ظافر ابن علي بن فتّوح الإسكندراني المالكي [1] .
ولد سنة أربع وخمسين وخمسمائة، وسمع الكثير من السّلفي وطائفة، ونسخ الكثير، وخرّج «الأربعين» . وكان ذا دين وفقه وتواضع. توفي في ثامن عشر ذي القعدة.
وفيها أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي السعادات الدبّاس الفقيه الحنبلي البغدادي [2] ، أحد أعيان فقهاء بغداد وفضلائهم. سمع الحديث من ابن شاتيل، وابن زريق البرداني، وابن كليب وتفقه على إسماعيل بن الحسين صاحب أبي الفتح بن المنّي، وقرأ علم الخلاف والجدل والأصول على النّوقاني، وبرع في ذلك، وتقدم على أقرانه، وتكلّم وهو شاب في مجالس الأئمة فاستحسنوا كلامه. وشهد عند قاضي القضاة أبي صالح.
قال ابن السّاعي: قرأت عليه مقدمة في الأصول، وكان صدوقا، نبيلا، ورعا، متدينا، حسن الطريقة، جميل السيرة، محمود الأفعال، عابدا، كثير التلاوة للقرآن، محبا للعلم ونشره، صابرا على تعليمه، لم يزل على قانون واحد، لم تعرف له صبوة من صباه إلى آخر عمره، يزور الصالحين، ويشتغل
بالعلم، لطيفا. كيّسا، حسن المفاكهة. قلّ أن يغشى أحدا، مقبلا على ما هو بصدده. وروى عنه ابن النجار في «تاريخه» ووصفه بنحو ما وصفه ابن السّاعي. توفي في حادي عشري شعبان ودفن بباب حرب وقد ناهز الثمانين، ومرّ ليلة بسوق المدرسة النظامية ليصلي العشاء الآخرة بالمستنصرية إماما فخطف إنسان بقياره في الظلماء وعدا، فقال له الشيخ: على رسلك وهبتكه، قال: قبلت. وفشا خبره بذلك فلما أصبح أرسل إليه عدة بقايير، قيل أحد عشر، فلم يقبل منها إلّا واحدا تنزها.
وفيها المجد الإسفراييني المحدّث [1] ، قارئ الحديث، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عمر الصّوفي. روى عن المؤيد الطّوسي وجماعة، وتوفي في ذي القعدة بالسميساطيّة من دمشق.
وفيها مظفّر بن الفوّي أبو منصور بن عبد الملك بن عتيق الفهري الإسكندراني المالكي الشاهد [2] . روى عن السّلفي، وعاش تسعين سنة، وتوفي في سلخ [ذي] القعدة.
وفيها أبو الحجّاج يوسف بن خليل بن قراجا بن عبد الله، محدّث الشام الدمشقي الأدمي الحنبلي [3] ، نزيل حلب.
ولد سنة خمس وخمسين وخمسمائة بدمشق، وتشاغل بالكسب إلى الثلاثين من عمره، ثم طلب الحديث، وتخرّج بالحافظ عبد الغني [4] واستفرغ فيه وسعه. وكتب ما لا يوصف بخطّه المليح المتقن، ورحل إلى
[1] انظر «العبر» (5/ 200) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 258) .
[2]
انظر «العبر» (5/ 201) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 268) و «حسن المحاضرة» (1/ 378) .
[3]
انظر «العبر» (5/ 201) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 151- 155) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 244- 245) .
[4]
يعني المقدسي، رحمه الله تعالى.
الأقطار، فسمع بدمشق من الحافظ عبد الغني، وابن أبي عصرون، وابن الموازيني، وغيرهم. وببغداد من ابن كليب، وابن بوش، وهذه الطبقة.
وبأصبهان من ابن مسعود الحمّال وغيره. وبمصر من البوصيري وغيره، وكان إماما، حافظا، ثقة، نبيلا، متقنا، واسع الرّواية، جميل السيرة، متسع الرّحلة.
قال ابن ناصر الدّين [1] : كان من الأئمة الحفّاظ المكثرين الرحّالين، بل كان أوحدهم فضلا، وأوسعهم رحلة وكتابة ونقلا.
وقال ابن رجب: تفرّد في وقته بأشياء كثيرة عن الأصبهانيين، وخرّج وجمع لنفسه «معجما» عن أزيد من خمسمائة شيخ، و «ثمانيات» و «عوالي» و «فوائد» وغير ذلك. واستوطن في آخر عمره حلب، وتصدّر بجامعها، وصار حافظا والمشار إليه بعلم الحديث فيها. حدّث بالكثير من قبل الستمائة وإلى آخر عمره، وحدّث عنه البرزالي، ومات قبله باثنتي عشرة سنة. وسمع منه الحفّاظ المقدّمون، كابن الأنماطي، وابن الدّبيثي، وابن نقطة، وابن النجّار، والصّريفيني، وعمر بن الحاجب، وقال: هو أحد الرحّالين، بل واحدهم فضلا، وأوسعهم رحلة.
نقل بخطه المليح ما لا يدخل تحت الحصر، وهو طيّب الأخلاق، مرضي الطريقة، متقن، ثقة، حافظ.
وسئل عنه الحافظ الضياء فقال: حافظ مفيد صحيح الأصول. سمع وحصّل، صاحب رحلة وتطواف.
وسئل الصّريفيني عنه فقال: حافظ، ثقة، عالم بما [2] يقرأ عليه، لا يكاد يفوته اسم رجل.
وقال الذهبي: روى عنه خلق كثير، وآخر من روى عنه إجازة زينب بنت الكمال.
توفي سحر يوم الجمعة منتصف- وقيل عاشر- جمادى الآخرة بحلب ودفن بظاهرها، رحمه الله تعالى.