الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع: العلم الحديث.. إحياء واجتهاد
أشرنا في موضع آخر إلى أن الفترة ما بين أول القرن الرابع عشر وأوائل القرن السابع عشر كانت فترة انتقال خرجت فيها أوروبا من العصور المظلمة لتدخل عصر العلم والتقانة والسيادة، بنتيجة جهود المفكرين وثمرة لأبحاثهم، ومن المؤكد أن الأمثولة الحضارية في العالم الإسلامي خلقت الحافز الأول عند الغربيين لتغيير نمط الحياة، ومن المؤكد أيضا أن هذا الأمر والأحداث التي رافقته تضافرا معا على الخروج بأوروبا من بحر الظلمات.
ظهرت خلال القرنين "الثامن عشر والتاسع عشر" حاجة جماهيرية إلى طلب المعرفة عن كل ما هو تقني وعلمي، وأطلق على طلائع العلم الحديث مصطلح "الثورة العلمية""The Scientific Revolution" وكان أول من وضعه هو ألكسندر كواريه "Alexsandera Koyre" في عام "1943"، إلا أن هذا المصطلح كان ولم يزل منذ وضعه مثار جدل ونقطة اختلاف لوجهات نظر عديدة.
كانت الفترة ما بين "854هـ-1112هـ/ 1450-1700م" فترة انقلابات فكرية
وتحديات للنظريات والأفكار التي كانت سائدة من قبل، ويرى هربرت بترفيلد "Herbert Butterfield" أن العلم طور جديد من المعرفة، أوجد اتجاها جديدا استوجب دراسات جديدة ومناهج مبتكرة لمعالجة ظواهر المجتمع ومشكلاته وأن أكثر ما يشدد بترفيلد في تصوره للعلم هو حدوث ثورة علمية أكيدة، كان لها أثرها في تغيرات جذرية في ميدان العلم نفسه، وفي تشكيل الحياة الاجتماعية ذاتها.
ولقد طرحت مذاهب شتى فيما يتعلق بأسباب حدوث الثورة العلمية أو أسس الثورات العلمية1، هل تتعلق بالتطورات التي حصلت على الصعيد السياسي وعلى ظهور دويلات، أم الصعيد الاقتصادي الذي أدى إلى انتشار المدن الكبرى والمناطق الحضرية "Urban" وبالتالي توسيع العلاقات التجارية الذي ظهر أثره واضحا على حركة الكشوف الجغرافية آنذاك، أو على الصعيد التقني وغير ذلك من مظاهر الحياة التي نقلت أوروبا من عصر إلى عصر، فهل تتعلق الثورة العلمية بهذه التطورات والاختراعات أساسا أم أنها تشكل ظاهرة منفصلة عن هذه الابتكارات؟ وما هي الخيرات التي تميز بها المفكرون والعلماء آنذاك وجعلتهم ينحون منحى جديدا، أدى إلى ظهور الثورة العلمية؟
لما كانت البدايات الأولى للثورة العلمية قد ظهرت في القرن "الخامس عشر"، فإن بعض المؤرخين راحوا يوازنون بين الثورة العلمية وبين ما يعرف "بعصر النهضة""Renaissance"، ذهب البعض جاكوب بوركهارت "Jacob Burkhart" إلى أن "القرن الخامس عشر" كان بداية عهد لمخترعات جديدة، لكنه لم يشر إلى تطور أصاب العلم، وظهرت بعد ذلك كتابات تؤكد أن الثورة العلمية هي حصيلة اتجاهات جديدة في التفكير طرأت في عصر النهضة، لقد عمل المفكرون في ذلك العصر على نشر مخطوطات الأقدمين وتراثهم.
1 عبد الله العمر. ظاهرة العلم الحديث. عالم المعرفة 69 الكويت 1983. أيضا أحمد سليم سعيدان. مقدمة لتاريخ الفكر العلمي في الإسلام. عالم المعرفة 131 الكويت 1988 ص117-141.
أما هانز بارون "Hans Baron" فقد أخذ بالأسباب السياسية، وأنها أدت إلى إذكاء روح البحث العلمي ودفع مسيرته، وأن الاتجاهات الاجتماعية والخلقية الجديدة أدت إلى إذكاء روح البحث العلمي وظهور العلم الحديث، ولدى بول أوسكار كريستلر "Paul. O. Kristeller" نجد أن التغيرات الحضارية المختلفة التي حدثت إبان عصر النهضة، كان لها أثرها على تطور العلم، حيث نظر الناس والمفكرون آنذاك إلى الفروض والنظريات العلمية السابقة، على عصرهم نظرة جديدة، أما أرنست كاسيرز "Ernest Cassires" فيرى أن إمكانيات الإنسان واتجاهاته الفكرية المتمثلة بقيامه بمناهج جديدة للملاحظة والاستقصاء إبان ذلك العصر كانت مظهرا من مظاهر النزعة الإنسانية "Humanis" التي امتد أثرها في عصر الثورة العلمية.
أما المنحى الاجتماعي فقد أكد على أهمية العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة آنذاك فكان من أبرزهم كارل ماركس "Karl Marx" وفريدريك إنجلز "F. Engels" وعمل على تطوير أفكارهما ماكس فير "M. weber" وجورج زيمل "G. Simmel" في النصف الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين، وكذلك إدجار زلزل "Edgar Zilsel" الذي أكد على العلاقة الوطيدة القائمة بين العوامل الاجتماعية والاقتصادية من ناحية والنواحي الفكرية التي تشيع في المجتمع من ناحية أخرى.
أما وولتر أونج "W. G. ONG" فقد ذهب إلى أن اختراع الطباعة وما أدى ذلك إلى انتشار واسع للكتب والمؤلفات أجبر الناس والمفكرين على انتهاج منهج جديد في تفكيرهم الأمر الذي أدى إلى الثورة العلمية، بينما يرى كروثر "J. G. Grouther"1" أن الثورة العلمية ترجع بالأساس إلى العلاقة الوطيدة بين الفكر البرجوازي والعلم، نرى أن لين وايت الصغير L. White، JR"2" كتب حول العلاقة الوطيدة بين التكنولوجيا
1 Grouether، J. G. "the Social Relation of Science". London، The Gresset press، 1967.
2 White، Lynjr. "Pumps and Pendula. Galileo and Technology". In Galileo Reapraised. C. L. Golino، "ed. Barkeley and los Angelos: University of Galifornia Press 1966".
والعلم، ومن المحدثين الذين أسهموا في هذه الدراسات كرومبي "G. Grombie A" أما أرنست مودي Ernest Moody"1" فإنه يظهر متحفظا حول فكرة الإسهام المباشر لمفكري العصور الوسطى في الثورة العلمية وتطور العلم الحديث.
وهكذا ذهب مؤرخو العلم مذاهب شتى في تفسير ظاهرة الثورة العلمية، وجملة الظروف التي أحاطت بها وأظهرتها، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل من الممكن أن يكون الاختلاف حول الأفكار التي طرحها المفكرون لتلك الظاهرة اختلافا ظاهريا فقط، أم أن التباين بين آرائهم تباين حقيقي وعميق إلى حد كبير؟ وهل من وسيلة يمكن من خلالها استقطاب الأفكار المختلفة وصهرها في بوتقة توالف فيما بينها؟
نذكر في هذا الشأن نظرية توماس كون "Thomas Kuhn" حول أسس الثورات العلمية ومفهومها، وقد أثارت منذ أوائل الستينات وما تزال ضجة كبرى في أوساط الفكر العلمي وفلسفته، فهو يرى أن النقلة من العلم العادي "Normal Science" وهو العلم الذي كان شائعا بين العلماء في عصر من العصور، إلى منحنى جديد وتصورات جديدة واعتماد أسس مختلفة للعلم يحدث ما يطلق عليه "كون" اصطلاح "الثورة العلمية" وأن هذه الثورة ما تزال في مراحلها الأولى فهي عملية ليست سهلة، إنها ديناميكية وتتسم بعلاقات متشابكة.
ونشير إلى أن أكثر الاكتشافات التي شهدها عصر الثورة العلمية لم تقم على ملاحظات جديدة أو استخلاص معلومات كان السابقون يجهلونها، بل كانت تعتمد على اتجاه خاص في النظر إلى الأمور، أي اتجاه محدد للتفكير، وزوايا جديدة يرصد بها الظاهرات القديمة، أي أن الثورة العلمية هذه نشأت واتصلت حلقات مسيرتها بفضل نظرة خاصة واتجاه محدد في التفكير تجاه الأشياء، دأب الفلاسفة والعلماء على التمسك به والإخلاص له، وليس من المستبعد قيام نظريات علمية جديدة في المستقبل القريب أو البعيد لتحل محل نظريات عصرنا، فيكون هناك فكر جديد يقوم على أكتاف فكر مضى، وهو نفسه فكر هذا العصر الذي نعيش فيه.
1 Moody Ernest A. "Galileo and his Precursors". in G. I. Galinoed California Press، 1966.
لقد ذكر وليام هيويل "william wh" أحد المؤرخين الأولين، في كتابه الذي صدر في عام "1253هـ/ 1873م" أنه لما كانت مسيرة العلم تجسد حلقات أو أزمنة يحيا فيها العلم وينتعش بعد جمود، فإن العلم يزدهر بطبيعة الحال خلال فترات أطلق عليها اسم الفترات الاستقرائية "inductive Periods"، أما فترات الجمود "Stagnation Periods" فإنها هي التي تفصل بين فترتين استقرائيتين على امتداد الزمن، ويرى هيوبل أن أول فترة استقرائية هامة حدثت في عهد اليونان القدامى، أعقبتها فترة جمود تعرف بالعصور الوسطى، ونحا منحى هيويل الباحث الأمريكي والمؤرخ الشهير الذي عاش في القرن "التاسع عشر"، أندريه ديكنسن وايت "Andrew D. White" وكان التفسير الذي جاء به وايت أقرب إلى الخطأ منه إلى الصواب، وأن مجرى الأحداث في مسيرة العلم واضطرادها يشهد أن عكس ما زعم به وايت كان صحيحا، وهنا نؤكد على أن الكتاب الغربيين يتجاهلون دور العرب في تطور وتطوير العلوم منهجا ومضمونا، فإذا كان هيويل يرى أن فترة الجمود هي العصور الوسيطة، فأين هيويل من النتاج العلمي للعرب الذي يعتبر جذرا أصيلا للثورة العلمية التي حدثت فيما بعد كما ذكرنا آنفا.
لقد ذهب المؤرخون إلى البحث عن العوامل الداخلية والخارجية التي أظهرت أو ساعدت على إظهار النظريات في الماضي، فقد عالجوا في دراساتهم للعوامل الخارجية الأوضاع الاجتماعية والفكرية والاقتصادية التي سادت آنذاك، مما يكون له أثر كبير على اتجاه العلماء في تلك الفترة اتجاها محددا، وظهورهم على الناس بنظريات معينة، فيما أشار المؤرخون الذين نظروا بإمعان في الظروف أو "العوامل الداخلية" التي عملت على إبراز نظريات عصر الثورة العلمية أشاروا إلى العوامل التي تتصل اتصالا وثيقا بطبيعة العلم نفسه وتطوره على مر الزمن، ويبدو أن بدايات القرن "العشرين" شهدت مناصرة وتعاطفا مع أصحاب النظرة الخارجية، وكذلك شهدت النظرة الداخلية مؤيدها، وأصبحت تقف جنبا إلى جنب مع أصحاب النظرة الخارجية.