الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الخلفية التاريخية لمناهج البحث العلمي
إن تتبع مناهج البحث العلمي من القديم إلى الحديث يجعلنا نقول: إن أول من وضع البحث العلمي وطرق الاستدلال فيه والاستنباط هو أرسطو، وقد سمى منهجه باسم المنطق، إلا أن الطابع التأملي كان غالبا على تفكيره1، وقد تحدث فيه عن الكليات الخمس المعروفة: الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض، ومنها تتألف الحدود والتعاريف، وقد لعبت دورا كبيرا في جميع العلوم عند العرب، وإن أصبح العصر الحديث لا يعنى بها، لأنها كثيرا ما تكون مضللة، وخير منها التقسيم الذي يقوم على تحليل ما يراد تعريفه إلى عناصره وجزئياته وأفراده وأصنافه، وأهم من الكليات في منطق أرسطو اهتداؤه في الاستدلال إلى أنه يتألف من قضايا، فهي الوحدات التي يتخلل إليها، وينبغي أن ندرس أشكال وضروب تركيبها، من موجبة كلية وموجبة جزئية، وسالبة كلية وسالبة جزئية، ومن هذه القضايا تتكون مقدمة القياس، بحيث إذا كانت صادقة كان صادقا، وإذا كانت فاسدة فسد بفسادها2، فإذا قلنا: فلان إنسان وكل إنسان ناطق، تولد من القضية أو ترتب عليهما أن فلانا ناطقا.
اهتم العرب بمنطق أرسطو، أخذوا يترجمونه أولا ثم مضوا يشرحونه ويلخصونه في مصنفات كثيرة، واستلهموا هذا المنطق في وضع علومهم، واهتدى علماؤهم إلى أن القياس الأرسطي قياس رياضي، فهو يبدأ من العام الكلي ويطلبه في المفردات الجزئية.
1 le blono، j. "logique et methode chezaristoth". paris، 1939. pp. 120-146.
2 شوقي ضيف: البحث الأدبي، دار المعارف القاهرة 1972. ص79-80.
وقد تطرد صحته تلك في الرياضيات، أما في العلوم الطبيعية والإنسانية فلا بد من الانتقال العكسي، أي من الأفراد والمفردات إلى الكلي العام، حتى يكون القياس سديدا، وكان لذلك أثره البعيد في العلوم العربية، إذ عد الاستقراء والملاحظة أصلين أساسيين فيها، وضمت إليها العلوم الطبيعية والتجريبية، وبذلك أمكن للعلوم العربية أن تنهض نهضتها العظيمة في كل مجال، وهي نهضة أعدت لازدهار علوم الطب والصيدلة بفضل التجارب الكثيرة التي كان يجريها الصيادلة والأطباء، وقل ذلك نفسه في الكيمياء والفلك، ومراصده الضخمة، وحتى في البحوث الأدبية كان أهم بحث أدبي عند العرب يتضح فيه تأثير المنطق الأرسطي والتأثر بمنهجه في كتاب "البرهان في وجوه البيان" لابن وهب الذي نشر خطأ باسم "نقد النثر" ونسب إلى قدامة1.
وعلى هذا النحو كان العرب يستضيئون بمنطق أرسطو حتى في بحوثهم الأدبية، مع محاولات خصبة للعناية بالجزئيات والمفردات واكتمال الاستقراء وصحة الاستنباط، واتسعوا في الملاحظات سعة شديدة، وهي تقابل في البحوث الأدبية والتجارب في البحوث العلمية عندهم، وظلوا مع ذلك يحتكمون إلى المنطق الأرسطي، مكثرين من القواعد والضوابط والأقيسة، وهم في كل ذلك يختلفون عن علماء العصور الوسطى الغربيين، ولا ريب في أنهم أخذوا يتعرفون بوضوح على العلم العربي في نهاية تلك العصور، فعرضوا بدقة ما تنادى به علماء العرب ومفكروهم من العناية بالاستقراء الكامل والملاحظة والتجربة، وعلى قبس أو أقباس من هذه المعرفة أخذ روجر بيكون "الفيلسوف الإنكليزي""611-694هـ/ 1214-1294م" وليونارد دي فينشي "856-921هـ/ 1452-1515م" وغيرهما، ممن طالبوا باستخدام الملاحظة والتجريب وأدوات القياس للوصول إلى الحقائق، وعارضوا منهج أرسطو في القياس المنطقي.
1 نرى مؤلفه يعقد فصلا للقياس، وفي البيان الثاني يعرض للسفسطة، متأثرا بحديث أرسطو، وفي البيان الثالث الخاص بالعبارة فيتسع بالحديث عن الجدل، ويفرد للتناقض حديثا خاصا متأثرا بالمنطق الأرسطي مع ما أضاف إليه من بحوث المتكلمين والفقهاء ومواصفاتهم ومقالات الفلاسفة الإسلاميين وأفكارهم "المرجع السابق: 80-81".
ولا بد من الإشارة إلى أنه بالرغم من مطالبة هؤلاء المفكرين تبني الطريقة العلمية، إلا أنهم لم يستخدموا فعلا هذه الطريقة إلا في حدود ضيقة، كما ينبغي أيضا أن نشير إلى أنه رغم التحرر التدريجي من سلطان الكنيسة ورجال الدين، إلا أن هذه السلطة كانت ما تزال لها فعاليتها، ومثال على ذلك موقف السلطات الدينية من العالم كوبرنيكوس1 "Copernicus" عام "878-950هـ/ 1473-1543م" لقوله بدوران الأرض حول الشمس، كما أحرقت الكنيسة في روما عام "1600م" عالما إيطاليا "جيودا نوبرونو" لإصراره على أن الأرض تدور حول الشمس2.
أتى فرنسيس بيكون لبعث الحياة في فكرة روجر بيكون3، وقال بالاستقراء الكامل وبالتجارب وجمع الأمثلة الكلية التي تنقض القانون العام، والتجارب وحدها لا تكفي، فلا بد من الاستنباط والنشاط العقلي، وكان المنهج الصحيح عنده هو الذي يجمع بين التجربة والطريقة القياسية، أو بعبارة أدق هو الذي جمع بين الاستقراء الدائم على التجارب وبين القياس العقلي المحكم، أو قل هو الاستقراء المصبوب في قالب عقلي وطيد، وبذلك كله يعتبرون فرنسيس بيكون مؤسس المنطق الحديث، وفاتحة عصر جديد في البحث العلمي4، ومؤلفه الأداة الجديدة للعلوم "Novum organ om Scientiarum" يفصل بين قواعد المنهج التجريبي وخطواته.
إن جوهر العمل الذي قام به بيكون لم يكن علما بقدر ما كان في مجال العلاقات الاجتماعية للعلم، وقد أشار إلى ضرورة إخضاع العلم بكلياته وجزئياته للملاحظة العلمية، كما قام بتصنيف الأخطاء الشائعة التي تعوق البحث العلمي:
1-
أخطاء تعود إلى ضعف العقل الإنساني.
1 أحمد بدر: أصول البحث العلمي. مرجع سابق ذكره ص80.
2 البنديت جواهر لال نهرو. لمحات من تاريخ العالم. مرجع سبق ذكره، ص57-59.
3 أول كتاب وضعه كتاب تقدم العلم "The Advanement of learning" وهو الكتاب الوحيد الذي وضعه بالإنكليزية وسائر كتبه باللغة اللاتينية.
4 شوقي ضيف: البحث الأدبي ط7، مرجع سبق ذكره ص83.
2-
أخطاء تعود إلى اللغة التي يتعامل بها الفرد مع أقرانه.
3 -
أخطاء تعود إلى اعتماد الفرد على أهل الثقة.
أما بالنسبة إلى خطوات المنهج التجريبي، فقد أوضح بيكون أن على الباحث أن يجمع الحقائق التي تعتبر أساس المنهج الاستقرائي ومادته، كما بين مراحل البحث:
الأولى مرحلة التجريب، والثانية مرحلة اللوحات "3 لوحات" أو تسجيل التجربة، والخطوة التالية هي مقارنة ما تم تسجيله في اللوحات الثلاث "الحضور، الغياب، تفاوت الدرجات" لاستخلاص الخصائص الظاهرة موضع الدراسة، ثم يقوم بالتحقيق من النتائج لإثبات مدى صحتها أو خطئها، والنتائج الأولى هي فروض عملية، لا بد من اختبارها حتى يتأكد الباحث من صحتها، لتصبح قاعدة أو قانونا.
وباختصار فقد وضع بيكون مجرد مبادئ وملاحظات، اهتدى بها من جاء بعده من الباحثين مثل جون ستيوارت ميلن وكلود برنارد اللذين نضج على أيديهما المنهج التجريبي وثبتت دعائمه.
جاء بعد بيكون الفيلسوف الفرنسي ديكارت "1005-1060هـ/ 1596-1650م" ورأى أن يضع للعلوم كلها رياضية وطبيعية منهجا واحدا صوره في مبحثه "مقال في المنهج" وقد هاجم المنطق الأرسطي لعدم أخذه بالشك، وهاجم فرنسيس بيكون لأنه اعتمد التجربة والمشاهدة الحسية في استنباط القوانين الطبيعية، ونفذ من ذلك إلى منهجه الجديد، وهو منهج يعتمد على البراهين الرياضية، ووضع مكان قواعد المنطق الأرسطي القديم شديد التعقيد أربع قواعد هي:
قاعدة اليقين: قاعدة التحليل، قاعدة التركيب، قاعدة الاستقراء.
وقد اتفق جميع من أتى بعد بيكون وديكارت على أن المنطق الأرسطي انتهى زمنه، وأنه ينبغي أن يحل محله المنهج العلمي، الذي ينبغي أن يعتمد على دراسة الظاهرات ورصدها مع الجمع بين التفكير النظري وبين الملاحظة والتجربة كلما سنحت الفرصة،
أو سمحت الظاهرات الطبيعية باستخدامها، وهو بذلك منهج يجمع بين قوانين العلوم الرياضية وقوانين العلوم الطبيعية التجريبية، ويقدرهما جميعا، وأيضا فإنه يقدر العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع والتاريخ والاقتصاد السياسي1، وحسبه أن يسجل الأسس التي تقوم عليها الأصول المختلفة التي تسود فيها، فلكل علم طبيعته ومن الصعب أن يوضع لكل العلوم قوانين عامة مطلقة على نحو ما حاول أرسطو قديما في منطقه.
ولعل مسيرة البحث العلمي الكبرى بخاصة في العلوم الطبيعية، يمكن أن تعود إلى التجارب التي أجراها جاليلو في الفيزياء "Calileo، S. Experimental work" وذلك في أوائل القرن "السابع عشر" ويدعي الغربيون أن هذا العصر تتوج باكتشاف اللوغاريتم على يد نابيير2 عام "1023هـ/ 1614م" وهناك بحوث هارفي "Harvey" على الدورة الدموية3، واستخدام الرموز العشرية على يد بريجز4 "Briggs" عام "1026هـ/ 1617م".
1 درج الباحثون العلميون على تقسيم العلوم إلى علوم طبيعية وعلوم اجتماعية، فالعلوم الطبيعية أو العلوم الدقيقة على سبيل المثال: علم الكيمياء، وعلم طبقات الأرض، وعلم الطبيعة، وعلم الفلك، وعلم النبات، وعلم الحيوان، أما العلوم الاجتماعية فقد شاع حصرها في أربعة علوم رئيسة وهي: علم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الإنسان الاجتماعي والثقافي، وعلم السياسة، وهناك علوم سموها بالعلوم الإنسانية، وعلى رأسها علم التاريخ، الجغرافية، الاقتصاد، واللغة، ولبعض هذه العلوم فروع يرى المختصون فيها عدها مع العلوم الطبيعية: كعلم الإنسان الجسدي "وضعت هذه التسمية بدلا من "الأنتربولوجية الفيزيقية" وهي تسمية معربة وقد شاعت ترجمتها بعلم الإنسان أو الإنسانية" والجغرافية الطبيعية، كذلك هناك فروع يرى المتخصصون فيها أنها تنتمي إلى العلوم الاجتماعية كالجغرافية البشرية والسياسية والاقتصادية وجغرافية الشعوب التي تتشابه مع علم وصف الشعوب كالتاريخ الاجتماعي وفلسفة التاريخ اللذين كثيرا ما اختلطا بعلم الاجتماع النظري. حسن الساعاتي: مرجع سبق ذكره ص12.
2 إن من بلور فكرة اللوغاريتمات هو ابن حمزة المغربي من علماء القرن "العاشر الهجري والسادس عشر الميلادي"، وأتى نابيير فطور فكرة المغربي، ثم ادعى اكتشاف علم اللوغاريتمات، وأدخل عليها هنري برجز الإنكليزي الأصل "1561-1631م" بعض التعديلات على جداول نابيير، فكانت أول الجداول التي ظهرت للنور عام 1033هـ/ 1624م". علي عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم، ط1، مرجع سبق ذكره ص74.
3 سبقه ابن النفيس "607-686هـ/ 1210-1288م" إلى ذلك فقد قال بالدورة الدموية قبل سرفيتوس بـ "250" عاما، ونذكر في هذا الشأن علي بن العباس، وأبا القاسم المشهور بالزهراوي.
4 سبقه إلى ذلك الأزدي "731هـ/ 1321م" والكاشي "ت 829هـ/ 1425م" المرجع السابق ص58.
تطور الأسلوب العلمي تدريجيا، ومن أبرز الأسماء في تاريخ العلم في إنجلترا: إسحاق نيوتن الذي عاش بين "1502-1140هـ/ 1642-1727م" ونال شهرة عظيمة، وبدأت الروح العلمية تتغلب على عقيدة الكنيسة، بخاصة في إنكلترا وفرنسة، وبعد ذلك في ألمانية وأمريكا.
ساد في القرن "الثامن عشر" في أوروبا النظرية العقلية بين الطبقات المتعلمة، وظهر فيه فولتير وروسو وكثير من العظماء والكتاب الفرنسيين الذين كتبوا في كل المواضيع، وأحدثوا ثورة في العقل البشري، وقد سايرت هذه النظرة العقلية النظرة العلمية.
وكان القرن "التاسع عشر" عصر العلم، فقد كان الفضل في قيام الثورة الصناعية والتطور الصناعي والتطور الصناعي والتطور السريع على وسائل النقل راجعا إلى العلم
…
وفي عام "1276هـ/ 1859م" نشر كتاب في إنكلترا، قام على أثر نزاع بين عقيدة الكنيسة والنظرة العلمية، ذلك الكتاب هو "أصل الأنواع لمؤلفه شارلس داروين" لم يكن من أعاظم العلماء كما لم يكن قوله جديدا كليا
…
وقد سجل طفرة علمية وأوجد اهتماما كبيرا
…
وبعد بضع سنوات نشر كتابا آخر بعنوان "أصل الإنسان" طبق فيه نظرياته السابقة على الإنسان
…
وأرى بهذه المناسبة أن أسوق بعض ما كتبه في الموضوع أحد الفلاسفة الصينيين قبل حوالي "2500" عام، وهو "تسوني تي" الذي كتب في القرن "السادس عشر قبل الميلاد" أي "عصر بوذا"
…
وهو استنتاج قريب من نظرية داروين، مما يجعلنا ندهش من وصول عالم بيولوجي صيني إلى ما احتاج العالم لألفين وخمسمائة عام للحاق به.
وكلما تقدم القرن "التاسع عشر" زاد التطور الحاصل في المجتمع
…
وما زال العلم في زحفه يزداد تسارعه ولا يعرف الكلل
…
واليوم ينغمس عدد كبير من العلماء والخبراء في خضم العلم الواسع، وعلى رأس هؤلاء ألبرت أينشتاين الذي نجح إلى درجة ما في تعديل نظرية نيوتن،
…
وقد أذهلت الإضافات والتعديلات في النظرية العلمية، أذهلت العلماء أنفسهم، ولكن التطور الأخير كان من حظ "القرن العشرين"1.
1 البنديت جواهر لال نهرو. لمحات من تاريخ العالم. مرجع سبق ذكره، ص144-151.