الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: الباحث والبحث العلمي
المبحث الأول: قراءة تاريخية
يصعب تتبع تاريخ البحث العلمي بالتفصيل، ومن الصعوبة بمكان أن نحدد بوضوح النقطة التي كانت بداية البحث العلمي في التاريخ الإنساني، وما نستطيع ذكره هو بعض معالم التطور والنشاط في هذا المجال، وجدير بالإشارة أن أسس التفكير والبحث العلمي استغرقا عدة قرون، ولا بد للباحث أن يكون على معرفة بالميدان بالنسبة للوضع الراهن وبشيء من الوعي التاريخي بالمسارات التي أدت إلى هذا الوضع.
ونورد هنا ثلاث لمحات خاطفة تتناول أولاها البحث العلمي في العصور القديمة، ونعرض في ثانيتهما البحث العلمي في العصور الوسطى، ونبين في ثالثتهم البحث العلمي في العصور الحديثة.
العصور القديمة: هي الفترات التي عاش فيها المصريون القدماء والبابليون واليونان والرومان، كان اتجاه تفكير المصريين اتجاها عمليا تطبيقيا لتحقيق غايات نفعية، إلا أنه كان متصلا بالآلهة والخلود ويوم الحساب، وقد قادتهم خبرتهم العلمية المتكررة إلى أمور كثيرة، ولا مجال هنا لذكر جميع معارفهم1.
1 يتفق معظم الباحثين على أن المصريين القدماء لم يصلوا إلى فكرة العلم المنظم القائم على الملاحظة والتجربة أحمد بدر: أصول البحث العلمي ومناهجه ط6، وكالة المطبوعات الكويت، 1982 ص740.
استفاد علماء بابل من التراث المصري القديم، وباعهم طويل في علمي الرياضيات والفلك، انتحل منهم علماء اليونان النظريات الهندسية منها نظرية "فيثاغورث"، ولا مجال لاتساع أكبر في ذكر معارفهم ونكتفي بالقول: إن الحضارتين المصرية والبابلية دامتا حوالي "خمسة وثلاثين قرنا".
أخذ الفكر الإغريقي عن الحضارات القديمة، وكانت حضارتهم امتدادا للحضارتين المصرية والبابلية، وأحرزوا تفوقا عظيما في مبادئ البحث، واعتمدوا اعتمادا كبيرا على التأمل والنظر العقلي المجرد، ولعل هذا ما دعا براتراندرسل إلى القول: إن فلسفة اليونان كانت تعبر عن روح العصر وطبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه1.
اهتم اليونان بالمدارس العلمية، نذكر منهم "طاليس""624-546 ق. م""وفيثاغورث" حوالي 572-497 ق. م" وتلميذه "هبوقراط"، و"أفلاطون "429-349 ق. م" الذي أسس الأكاديمية الأفلاطونية التي كانت تهتم بجميع فروع المعرفة، "وأرسطوطاليس""384-322 ق. م" الذي وضع المنهج القياسي أو الاستدلالي، وفطن إلى الاستقراء، ودعا إلى الاستعانة بالملاحظة، ولكن الطابع التأملي كان غالبا على تفكيره و"إقليدس""330-275 ق. م" و"أخميدس""287-212ق. م" الذي ابتكر نظرية الوزن النوعي2 و"أبو لونيس""260-200 ق. م" و"استرابون" وعاش حوالي "20ق. م" وقد طور الجغرافية كعلم، و"بطليموس""87-165م" وجاء كتابه "دائرة معارف فلكية"3، وقد وضع أول نظرية ملائمة عن الكواكب، وكانت خطوته هذه خطوة هامة في طريق البحث العلمي، وفي سنة "250 بعد الميلاد" ولد ديوفانتس وكان من كبار علماء الرياضيات وقد ورث عن علماء بابل المعادلات الجبرية.
1 براتراندرسل: النظرة العلمية، ترجمة: عثمان نويه، القاهرة، 1956 ص6.
2 يبدأ بالمسلمات التي تفترض أنها لا تحتاج إلى برهان، وأنها ليست نتيجة للتجربة، وقد سار في كتابه عن الأجسام الطافية كميادين جديدة للدراسة.
3 كتابه النظام الرياضي للنجوم "Mathematic Symtaxis" وسماه العرب فيما بعد "بالمجسطي""Almagistic" أي الأعظم.
أما بالنسبة للفكر العلمي عند الرومان، فقد كانوا ورثة المعرفة اليونانية، وكان إسهامهم يتركز في الممارسة العملية أكثر من متابعتهم للمعرفة ذاتها، وكان الرومان صناع قوانين ومهندسين أكثر منهم مفكرين متأملين، ويعود إليهم تحديد الأبراج1.
تشمل العصور الوسطى وما يلها حتى العصور الحديثة "ويطلق عليها العصور الوسيطة" الفترة التي ازدهرت فيها الحضارة العربية الإسلامية، بين القرنين "الثامن والحادي عشر الميلاديين"، وفترة عصر النهضة في أوروبا2، يسمي الأوروبيون العصور الوسطى بالعصور المظلمة، لكنها كانت في الشرق هي العصور الذهبية، عصور الإنتاج الغزير، والقيادة الحكيمة لدفة الحياة، لا في العالم الإسلامي وحده، ولكن في الصين أيضا والهند، وسوف نعود للعصور الوسطى في موضع آخر.
في هذه القرون الأربعة ظهر في العالم الإسلامي عدد كبير من الأئمة والعلماء والفلاسفة والمؤرخين ومن الكتاب والأدباء واللغويين، وتركوا من الآثار ما كان الأساس الذي نقل إلى الغرب فبنى عليه الغرب الفكر الذي أفضى إلى الحضارة المعاصرة والفكر المعاصر.
بلغ الإنتاج الفكري العربي أوج عظمته في القرنين "العاشر والحادي عشر"، بينما كان الغرب سادرا في جهالته، وفي القرنين "الثاني عشر والثالث عشر" انتشرت في أوروبا الرشدية، وكان من جراء ذلك أن وضع توما الأكويني مدرسته، التي فتحت نافذة على العقل، وقام روجر بيكون يدعو إلى بناء العلم على التجربة والخبرة المتزايدة.
1 أول من استعمل كلمة برج "Dodiac" في مكانها الصحيح العالم اليوناني في علم الفلك "كليوستراتوس التنيدي""القرن السادس ق. م" كما طور في الدورة الفلكية التي تتكون من ثمانية أعوام، التي ورثوها عن علماء بابل.
2 إن ما عرف باسم النهضة كان استرجاعا بل إحياء للمفقود، نبتت في إيطاليا "وتختلف الآراء في ذلك" واستمدت غذاءها من المصادر الإغريقية، وكانت فلورنسة خير نبت لها "جواهر لال نهرو. مرجع سبق ذكره ص55".
كانت الفترة ما بين أول القرن "الرابع عشر وأوائل القرن السابع عشر" بالنسبة لإيطاليا وأوروبا الغربية فترة انتقال خرجت فيها أوروبا من عالم العصور المظلمة، وجمعت قواها علما ووعيا، ومواصفات اجتماعية واقتصادية وسياسية لتدخل بقوة العصر الحديث، "عصر التكنولوجيا".
لقد وقع في هذا العصر أحداث منها ابتكار المطبعة المتحركة، ودعوة صارخة للتجديد في أساليب التعليم، وترجمة الكتاب المقدس ونشره بين الناس لكن اللاتينية بقيت لغة العلم إلى منتصف القرن "السابع عشر"، وكانت النهضة ذات متناقضات كثيرة: فمن الأحداث التي جرت حركة الإصلاح الديني، ووضع كوبرنيكوس نظرية فلكية استوحاها من ابن الشاطر الدمشقي، ورحلات الاستكشاف التي بدأها برتلوميودياز "سنة 894هـ/ 1488م" وتبعه كريستوف كولومبوس "سنة 898هـ/ 1492م" وفاسكودي غاما "904هـ/ 1498م" ثم ماجلان "ت 925هـ-929هـ/ 1519-1522م".
تبدأ العصور الحديثة: منذ القرن "السابع عشر" حتى وقتنا المعاصر1، وفي هذه الفترة اكتملت دعائم التفكير العلمي في أوروبا، أو كادت، وبدأت هذه الخطوات على يد الكثيرين منهم "فرنسيس بيكون" و"جون ستيورات ميل"، و"كلودبرنارد" وتعود مسيرة البحث العلمي إلى التجارب التي أجراها جاليليو "Galileo" في الفيزياء في أوائل القرن "السابع عشر"، ويرى الغربيون أن هذا العصر قد توج باكتشاف اللوغاريتم والدورة الدموية، وفصل قواعد المنهج التجريبي وخطواته من خلال نظريات فرنسيس بيكون، وظهور بويل كأب للكيمياء الحديثة، وأفكار نيوتن الرياضية في القرن "الثامن عشر"، وأخذ الغرب بالموضوعية في الحقول العلمية على الأقل، وقد بدأ
1 يقسم بعض الباحثين الغربيين العصور العلمية إلى عصرين رئيسيين: الأول العصر الإغريقي "600 ق. م-200 بعد الميلاد" والثاني عصر النهضة المعاصرة من "854هـ/ 1450م" وبهذا يغفلون ما قبل الحضارة الإغريقية ودور الحضارة العربية الإسلامية.
بحثه العلمي بالرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك، ووضع في القرن "الثامن عشر" ما يسمى "بالموسوعة العلمية" في فرنسا.
لقد بدأت طلائع التكنولوجيا ممثلة بما سموه "الثورة الصناعية"، وازدهرت علوم الجيولوجية والبيولوجية كميادين جديدة للدراسة والبحث والعمل، وبدأت دراسة علم الآثار وعلم النفس وعلم دراسة الجمجمة، خلال القرن "التاسع عشر"، كما شهد هذا القرن تداولا واسعا للكتب القيمة، ترافقها حرية في النقد وإبداء الرأي، كما صنع الغرب الآلة البخارية، ونما علم الاقتصاد، وكان رائدة آدم سميث "1136-1205هـ/ 1723-1790م" ونمت علوم أخرى كثيرة، وفيه صارت أوروبا دولة صناعية، اتسع رخاؤها ونمت ثروتها. وما يهمنا في مجال هذا البحث أن رسخت المنهجية العلمية، لا في البحث العلمي فقط، بل في جميع دروب الحياة، حتى وجدنا أن النمو الملحوظ في التكنولوجيا وفي جميع عناصر الحضارة المعاصرة يمكن أن يعزى إلى حد كبير إلى استخدام البحث العلمي. وفي هذا المجال نشير إلى قول غوستاف جرونيباوم:
إن ابن المعتز أول مسلم فكر في العلم بوصفه واجبا، لا بد من مواصلة التمكن منه باطراد وبوساطة تعاون أجيال متعاقبة من العلماء1، وفي شأن احترام العلماء ننظر إلى السكاكي "ت 627هـ/ 1229م" وقد جنح أصلا إلى العلم، لما شهده من التشريف الذي كان يحظى به العلماء الكبار2، ونشير إلى قول الأحنف بن قيس "ت 72هـ/ 691م":"كل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل مصيره".
أما التطورات الخاصة باستخدام الكيمياء الحيوية والبكتريولوجيا في دراسة المشكلات الطبية واستخدام أفكار جديدة في الفيزياء والوصول إلى تحطيم الذرة
…
1 غوستاف جرونيباوم: حضارة الإسلام، مرجع سبق ذكره، ص311.
2 كرينكوف: دائرة المعارف الإسلامية، Ei، 4y، ص80، وكان نفس الاتجاه إلى احترام العلماء معمولا به في العالم اليوناني المعاصر.