الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: خصائص البحث العلمي
"Characteristics of Scientefic Research":
تعريف: لعل تعريف البحث أسهل من تعريف العلم، رغم ذلك لم يتفق العلماء والباحثون العلميون على تعريف واحد موحد، فكلمة "بحث"1 غير محددة، متعددة الوجوه، تتسم بالمرونة مثل العقل تستخدم في هذه الأيام لوصف كثير من الأنشطة، التي يبدو للوهلة الأولى أن لها روابط ظاهرية قليلة فيما بينها، أو بينها وبين العلم، ولها أيضا عدد من الروابط الأخرى، مما يثير غضب العلماء من ذوي الخبرة.
والاختلاف واسع الانتشار في استخدام كلمة "بحث" يوحي بتعدد التفسيرات الممكنة، ينحصر إحداها في أولئك الذين يعتقدون أنهم يستخدمون الكلمة بمعنى صحيح وحصري وهم أقلية محدودة، وعلى كل حال فإن تحليل جميع التعاريف والاستخدامات السارية فيما يتعلق بكلمة "بحث"، أمر يتجاوزه الحيز المتاح، ومن خلال استعراضنا لتعاريف متعددة لكلمة "بحث" نستطيع أن نميز بعض الخيوط أو العناصر العامة.
إن الفعل "RESEARCH""يفيد البحث" يعني ينشد ثانية، أو يفحص الشيء ثانية بعناية، أما الاسم "بحث" فيعرف عادة بأنه التقصي بعناية، وبخاصة الاستقصاء المنهجي في سبيل زيادة مجموع المعرفة، الذي يزداد بإضافة معرفة جديدة.
والبحث في اللغة كما يقول ابن منظور: "البحث طلبك الشيء في التراب والبحث أن تسأل عن شيء وتستخبر"2 وعند الجرجاني "البحث لغة: هو التفحص والتفتيش، واصطلاحا: هو إثبات النسبة إيجابية أو سلبية بين الشيئين بطريق الاستدلال"3 ومعنى اصطلاحي آخر يقول: "طلب الحقيقة وتقصيها وإشاعتها بين الناس" وقد ذكر المؤرخ التركي المعروف "حاجي خليفة" في كتابه "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" أن التأليف والبحث لا يخرج عن أن يكون في سبعة أنواع، ونصت عباراته الشهيرة:"التأليف في سبعة أنواع" لا يؤلف عالم عاقل إلا فيها وهي:
1-
إما إلى شيء لم يسبق إليه فيخترعه.
1 نميز كلمة بحث عن كلمة الدراسة: فالبحث: كل عمل علمي يظهر فيه جهد الاستقصاء والتفتيش في جمع المادة التي يتطلبها ثم تحليلها وتفسيرها هو بحث، أما الدراسة فتعني قراءة الكتب وحفظها ودرسها، يدرس الموضوع ثم يكتب فيه المتخصص كتابا أو مقالا، يشرح فيه العناصر ويوضحها فإن كتابه أو مقالته هذه تعد دراسة وليس بحثا، وبينما تعود ثمرة الدراسة بالفائدة على الدارس من داخل ذاته، تثري ذهن الدارس، فإن البحث لا يفيد منه الباحث فقط بل العلم والمجتمع، انظر المعجم الوسيط 1/ 39، مادة بحث. أيضا المصدر نفسه، 1/ 279، مادة درس.
2 ابن منظور: اللسان "بحث"، المعجم الوسيط. 1/ 39 مادة "بحث".
3 التعريفات: 24.
2-
أو شيء ناقص يتمه.
3-
أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه.
4-
أو شيء متفرق فيجمعه.
5-
أو شيء مختلط يربطه.
6-
أو شيء مغلق يشرحه.
7-
أو شيء أخطأ فيه مصنفه فيصلحه1.
أما في المصطلح العلمي، فقد تعددت معاني البحث فهو:"تقرير واف يقدمه باحث عن عمل أتمه وأنجزه، بحيث يشمل هذا التقرير كل مراحل الدراسة منذ كانت فكرة حتى صارت نتائج معروفة، مدعمة بالحجج والأسانيد" وتعريف آخر "البحث هو التنقيب عن حقيقة ابتغاء إعلانها دون التقيد بدوافع الباحث الشخصية أو الذاتية إلا بمقدار ما يفيد في تلوين البحث بطابع الباحث وتفكيره ويعطيه روحه التي تميزه عن غيره"2 وآخر "محاولة صادقة لاكتشاف الحقيقة بطريقة منهجية وعرضها بعد نقص دقيق ونقد عميق، عرضا ينم عن ذكاء وفهم، حتى يستطيع الباحث أن يقدم لمعرفة لبنة جديدة ويسهم في تقدم الإنسانية3 وأيضا "البحث العلمي هو البحث النظامي والمضبوط والخبري "Empirical" في المقولات الافتراضية عن العلاقات المتصورة بين الحوادث الطبيعية4 و"البحث استقصاء منظم يهدف إلى إضافة معارف يمكن
1 مؤرخ تركي مشهور بكاتب جلبي، عاش في القرن الحادي عشر الهجري، "السابع عشر الميلادي"، ومن مؤلفاته كتابه "في فن الكتب" الذي يشمل جمع الفنون والآداب، وله كتاب في الجغرافيا "جهانتما" وهي محاولة جمعت معلومات الأوربيين والمسلمين والعرب في الجغرافية، ولم تكن أوروبا قد قامت بمثل هذه الترجمة إلى ذلك الوقت، ونذكر في شأن النوع "3" قول ابن خلدون الذي ينتقد المختصرات انتقادا شديدا ويصفها بأنها مضرة بالعلوم.
2 يقول بوفون "Buffon": الأسلوب هو الرجل.
3 جودة الركابي. منهج البحث الأدبي في إعداد الرسائل الجامعية، دار ممتاز، دمشق 1413هـ/ 1992م ص12.
4 فاخر عاقل. أسس البحث العلمي. مرجع سبق ذكره، ص35.
توصيلها والتحقق من صحتها عن طريق الاختبار العلمي، ونستطيع أن نجمع مضمون ما ذكرناه من التعاريف السابقة بما يلي:
"البحث العلمي هو نتاج إجراءات منظمة ومصممة بدقة من أجل الحصول على أنواع المعرفة والتعامل معها بموضوعية وشمولية، وتطويرها بما يتناسب مع مضمون واتجاه المستجدات البيئية الحالية والمستقبلية"1، ولا بد لنا من التأكيد على نقطتين هامتين:
إن البحث العلمي نظامي ومضبوط، وإن البحث العلمي خبري، أي أن ما يحصل عليه الباحث العلمي يكون موضع اختبار، مما لا يسمح للباحث التساهل بالدقة والصحة والموضوعية في كل ما يصل إليه من نتائج.
عن ما يميز البحث العلمي عن الأنشطة الأخرى خصائصه، ورغم أن جميعها تشترك في خاصتي جميع الحقائق والبيانات وتبليغها، إلا أن الاستقصاء العلمي يهتم ويتسم بمجموعة من الخصائص والسمات2 هي:
1-
الموضوعية "Objectivity": الموضوعية في البحث والموضوعية في عرض النتائج، ورغم أنها حديثة على الفكر العالمي، إلا أنها أهم خصائص البحث العلمي، فالبحث العلمي يجب أن يكون منزها عن الهوى الذاتي، وأن تكون غايته الأولى الدخول إلى الحقيقة واكتشافها، سواء اتفقت مع ميول الباحث أم لم تتفق، ونشير بتحفظ إلى أن
1 ارجع إلى:
Whitney. "Elements of Research". New York، 1946. p. 18.
Polansky، N. Social work Research". p. 2.
2 قارن ذلك بما ورد عند علماء المسلمين والعرب فيما يختص البحث العلمي والتأليف وتحديد الأهداف وارجع في هذا الشأن إلى:
- حاجي خليفة. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ط3، المطبعة الإسلامة، طهران 1387هـ، ج1 ص35.
- فرانز روزنتال: مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي، دار الثقافة بيروت 1961، ص26.
البحث رغم أنه لا يستطيع أن يتخلى عن الذاتية التي تتجلى في أثر الباحث، والتي تجدد نوع الإبداع والابتكار، وتعطيه طابع أسلوب الشخصي فإن الصفة الموضوعة تلك التي تتجلى في تطبيق الوسائل العلمية على البحث، واستخدام المادة واستقرائها ومعالجتها بالتنقيب والتحليل والموازنة بذكاء وفهم، لتقود الباحث إلى الحقيقة المنزهة عن الهوى المؤيدة بالحجج والأسانيد، وجميع البحوث على الرغم من تنوع حقولها علمية كانت أم اجتماعية أم فنية أم أدبية، لا بد أن تسير في تحقيق أهدافها على الأسلوب الموضوعي المنهجي، فهي واحدة في جوهرها.
2-
التكرار والتعميم: "Repetition" يهتم الاستقصاء العلمي في المقام الأول بالتعميم وتعريف الخصائص العامة، وأنماط السلوك المشتركة بين الأشياء والأحداث التي تتم ملاحظتها على انفراد بشكل موضوعي، وأن تكون تجربة الملاحظة قابلة للنقل للآخرين، أي أن تكون معرفة متبادلة بين الأشخاص ويعني التكرار إمكانية الحصول على نفس النتائج تقريبا، إذا تم اتباع نفس المنهج العلمي، وخطوات البحث مرة أخرى وفي ظروف وشروط موضوعية وشكلية مشابهة، والتعميم نوعان، أما بالنسبة للخصائص التي تتيح تصنيف الأشياء أو العلاقات القائمة بين الخصائص أو قد يكون التعميم والتكرار مستقلين تماما عن الزمن والمكان والفرد الملاحظ.
3-
الخصائص والتصنيف: نقصد بالخصائص الشيء المركب من الملاحظات السابقة والأسباب تتصل دائما بالخصائص النوعية للأشياء أكثر من صفاتها الكمية، أما التصنيف: فهو إضفاء المنهجية الواعية على نزعة الجدولة والتعميم، والذي توضح فيه الأسباب جمع الأشياء المتشابهة، ويتراوح التصنيف بين العناصر المكونة للأشياء "البللورات" إلى التصنيف العملي "المنهجي" وتصنيف الأمراض، إلى التصنيف المستحيل تقريبا، مثل تصنيف السلوك الإنساني، ويمكن أن يسبب التصنيف النظري عددا من المشكلات وعلى سبيل المثال: نجد أن تصنيف الصخور يقع في ثلاثة أنواع رئيسة:
الصخور النارية والصخور الرسوبية والصخور المتحولة، ولكن ماذا عن تدفقات الحمم النارية، وهي بركانية الأصل، لكنها تتواجد بين طبقات رسوبية أخرى.
4-
بيان الاختلافات والضوابط: القياس الكمي والمعابرة، على الباحث العلمي أن يحاول بيان الاختلافات القائمة بين الأشياء، وقد تكون هذه الاختلافات نوعية أو كمية، ويتطلب قياس الاختلافات أولا وجود آلة القياس والتقدير الكمي الفعلي لهذه الاختلافات، وثانيا توافر معايير مشهود بدقتها، وتوضح المعايرة التفاعل بين التقانة والنظرية والحاجة الاجتماعية، وهو الذي يؤدي إلى مختلف صور التقدم للجمعيات العلمية ولهذه وللأنشطة الحكومية دور هام في هذا المجال، ولقد أصبح من الضروري وجود معايير مقبولة على الصعيد الدولي، وتشترك الهيئات العلمية الموجهة إلى الفروع العلمية المتخصصة بالإضافة إلى منظمات عامة "الإكسو" في مثل هذه الأعمال الأساسية للتوحيد القياسي الخاص بفروع علمية معينة، وربما الباحث العلمي العادي أقل دراية بالكثير من هذا النشاط، ومثال جيد لأحد المجهودات الدولية في مجال التوحيد القياسي هي منظمة "الصحة العالمية" و"الاتحاد الدولي لمكافحة السرطان"، عن معايير تشخيص الأمراض الخبيثة وتصنيفها وتحديد مراحلها.
5-
اليقين: ونقصد به استناد الحقيقة العلمية على مجموعة من الأدلة الموضوعية المقنعة، وهي صفة ترتبط بالتعميم، واليقين العلمي هو اليقين المستند إلى أدلة محسوسة، وهو ليس مطلقا لا يتغير، لأن العلم لا يتسم بالثبات ولا يعترف بالحقائق الثابتة فالحقيقة العلمية هي حقيقة نسبية لا مطلقة تتبدل وتتغير أثناء تطورها، لكنها حقيقة موثوقة.
6-
تراكم المعرفة: ونقصد بذلك أن يستفيد الباحث ممن سبقه من الباحثين، فيكمل الخطوات الصحيحة ويوسع النطاق، من نهاية ما توصل إليه غيره، وبهذا فإن المعرفة العلمية ترتفع عموديا، وكل معرفة علمية جديدة يؤخذ بها وتصبح سابقتها في صف النسيان، لهذا فإن الحقيقة العلمية حقيقة نسبية ترتبط بفترة زمنية معينة، تتطور ولا
تقف عند حد معين، كما لا يرتبط بباحث معين، فهي ليست ذاتية بل موضوعية تفرض نفسها على كل العقول.
7-
البحث عن الأسباب: وهو عامل هام في فهم الظاهرات المدروسة، ولمعرفة الأسباب أهدافه نظرية وأخرى عملية، وهذه هي بذاتها أهداف العلم، ويتم فهم الظاهرات بمعرفة الأسباب وعوامل النشوء والتطور، بهدف الضبط والتأثير والزيادة أو النقصان، وبالتالي التحكم بالظاهرة وإخضاعها للتجربة والتعديل والتطوير.
يبحث العلم عن الأسباب المباشرة، والبحث عن الأسباب يعمل على إرضاء حب الإنسان للاستطلاع والمعرفة والفهم، وزيادة قدرته على السيطرة على الظاهرات بوساطة معرفة أسبابها والتحكم فيها. وهي أسئلة محدودة، وقد يصعب على الباحث رد بعض الظاهرات إلى سبب معين، فالمطر لا ينتج عن التبخر نفسه ولا عن زيادة الرطوبة وحدها، ولا عن انخفاض درجة الحرارة وحدها، بل ينتج عن جملة أسباب تتكامل وتؤدي إلى ظاهرة المطر، لهذا لا بد من توسيع فكرة "السببية"، وهذا ما جعل التفكير العلمي ينظر إلى الظاهرة ويفسرها من خلال تفاعل مجموعة من العوامل والعلاقات المتشابكة في مدخلات هذه الظاهرة1.
8-
التجريد والقياس الكمي أو التكميم 2 "Quantification": وهي سمة تميز التفكير العلمي عن أنماط التفكير الأخرى، يحدد الباحث مشكلاته وإجراءاته وفروضه، وبهدف الدقة فإنه يستخدم اللغة الرياضية، وهي لغة تقوم على أساس القياس المنظم الدقيق، ويؤدي هذا بالتالي إلى فهم دقيق للظاهرات، لأن الأحكام الكيفية تعطي فهما خاطئا لها، نقول: الجو حار، ولكن نحدد بدقة صفة الحرارة هذه حينما نقول: درجة الحرارة "45 ْم" والجود بارد ونحدد حد البرودة حينما نقول: درجة الحرارة "10 ْم"
1 ذوقان عبيدات وآخرون. البحث العلمي في "خصائص التفكير العلمي 48-55"، دار الفكر، عمان، 1989.
2 لغة الأرقام أو الكم.
والفرق بين الحار والبارد كما هو "30 ْم" وبهذا يجرد الباحث الأشياء من صفتها ومادتها حينما يستخدم الأرقام والقياس الكمي.
9-
التنظيم: يستند التفكير العلمي إلى منهج معين في طرح المشكلة، ووضع الفروض والبرهان، ويتم وضع ذلك بشكل دقيق ومنظم، وهو فحوي المنهج العلمي، وهذا بدوره وسيلة العلم، فالعلم معرفة منهجية تبدأ بالملاحظة ووضع الفروض واختيارها، بوساطة التجريب ثم الوصول إلى نتائج.
ونقصد بالتنظيم طريقة التفكير، وتنظيم العالم الخارجي، لأن الباحث العلمي يدرس الظاهرة في علاقاتها مع الظاهرات الأخرى، فيكشف العلاقة بين الأسباب والنتائج ويكشف الصلات بين الظاهرات، والتنظيم ليس سمة للتفكير العلمي فقط، لكن ما يميزه عن أنماط التفكير الأخرى هو أنه يأتي من جهد الإنسان وإرادته، لأن العقل العلمي هو الذي يضع النظام ويقيم العلاقات المنظمة بين الظاهرات، والوصول إلى الظاهرات هو غاية العلم والعالم، بينما يعتبر النظام هو الأساس الذي ينطلق منه الآخرون.
10-
الدقة: وهي سمة يجب أن تلازم البحث العلمي، وتشمل في جوهرها جميع السمات السابقة ابتداء مع الباحث منذ بدء التفكير بالبحث، وما يميز البحث العلمي عن غيره من أنماط التفكير هي الدقة، إن التحديد مشكلة البحث، والقيام بالإجراءات، وبيان النتائج، واحتمالية الوصول إليها، والتعميم كل ذلك يجب أن يتم بدقة، لهذا نعطي هذه السمة صفة الشمول لكل ما يقوله الباحث أو يدونه أو يتوصل إليه من خلال بحثه.