الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: أسلوب البحث التجريبي
هناك أسلوبان متمايزان هما: الأسلوب الكيفي والأسلوب الكمي، ويمكن في بعض البحوث ونظرا لاعتبارات تتعلق بها وبظروفها الجمع بين الأسلوبين، كي تتم الفائدة بالحصول على ميزة كل منهما، وكما أنه من الخطأ اعتبار الاتجاه منهجا، كما يخلط بعض الباحثين الغربيين، فكذلك من الخطأ عد الأسلوب "Stule" منهجا كما هو شائع بينهم ولئن كان عذرهم أن لديهم اصطلاحا واحدا "Methodus" أي منهج باللغة اللاتينية، الذي أخذوا منه اصطلاحتهم بلغاتهم وكان من الممكن استعمال كلمة "Style" أي أسلوب الكم والكيف.
يعني الأسلوب الكيفي في البحث العلمي في إطار المنهج التجريبي، التركيز في معالجة التجارب الواقعة عن الأحداث الجارية، سواء في الماضي أو الحاضر، على ما يدركه الباحث منها ويفهمه، ويستطيع تصنيفه، ولمسح العلاقات التي يمكن ملاحظتها ملاحظة عقلية، وهذا الأسلوب هو الذي اعتمد عليه كبار النظريين في العلوم الاجتماعية، وهدوا به إلى صياغة نظريات ووضع قوانين اجتماعية، استقرءوها من العديد من الوقائع والأحداث التي وقعت في الماضي أو الحاضر، في شكل تجارب طبيعية، وقد يكون وقوعها في مجتمع واحد، أو في عدة مجتمعات، وهنا يصبح مجال البحث واسعا مكانا وزمانا، حيث يأخذ الباحث ما يتعلق ببحثه من بيانات بالقدر الذي يكفيه إدراكا وفهما واستدلالا واستنتاجا، وهذه العملة الفكرية تبين مدى صعوبة الأسلوب الكيفي.
لابن خلدون في مقدمته ثلاثة فصول في الإدراك البشري من الناحيتين النظرية والعملية ثالثها "في العقل التجريبي وكيفية حدوثه" وأفكاره عظيمة لمن يرغب في التعمق في المنهج التجربي، ويرى بالإضافة إلى ذلك أن أفعال البشر هي نتيجة تجربة في التعامل.
نشير إلى أن الأسلوب الكيفي يستخدم لمعالجة معطيات تم جمعها سابقا، ويهتم بها المعنيون بالبحث العلمي، أما الأسلوب الكمي فيستخدم لمعالجة بيانات أعطيت في الماضي أو تعطي في الحاضر، إما بوساطة صحائف استخبار أو استبار شخصي، وفي هذه الحالة يعتمد المستبرون على صحائف الاستبيان، وبعد ذلك يجري تكميم هذه البيانات في عملية متتابعة الخطوات تنتهي بجداول، ثم يقوم بعمليتي التحليل والتفسير.
هكذا يتضح أن الباحث الذي يستخدم الأسلوب الكيفي يتعامل مع أفكار وآراء، بينما ذلك الذي يستخدم الأسلوب الكمي، يتعامل مع أرقام تعبر عن أفكار وآراء تكون في صورة مكممة، أي بلغة الأرقام أو الكم، ومن هنا كانت تسمية هذا الأسلوب من المعالجة في البحوث بالأسلوب الكمي ومن حسن الحظ أن وجد المعداد "الحاسب الآلي""Calculator"، ليمد يد العون في ميادين البحث العلمي، بخاصة العلوم الطبيعية، التي استفادت منه أعظم فائدة، في اجتلاء سر الفضاء الخارجي وما يجري في المجموعة الشمسية.
لقد أصبح الأسلوب الكمي يطغى على الأسلوب الكيفي، وأول هذه الإحصاءات وأعظمها أهمية الإحصاءات السكانية، التي تشمل التعداد العام للسكان وإحصاءات الأحوال المدنية والصحية والتعليمية والزراعية والأمنية وتعد هذه الإحصاءات ثروة من البيانات المكممة، يستعملها الباحثون، فهي تكون طريقة هامة من طرق البحث، تعتمد بالدرجة الأولى على الأسلوب الكمي، وذلك في إطار المنهج التجريبي، لأنها تتعلق بتجارب، أي وقائع وقعت، ومن المؤكد أن تكون هذه الإحصاءات صحيحة، لأنها المادة التي يتكون منها بناء أي بحث علمي، أو هيكل أية خطة واقعية للتنمية الاجتماعية الشاملة المتكاملة، كما أن طريقة البيانات الإحصائية تسهل عمل الباحث وتغنيه عن الانتقال إلى المجال المكاني أو الجغرافي، حيث المجال البشري الذي يتعامل معه، هذا وهناك عمليات إحصائية أخرى لا بد للباحث الاجتماعي من الإلمام الكافي
بها، كاستخراج النسب المئوية، وحساب معامل الارتباط واستخدام مقاييس الصدق والثبات والدلالة الإحصائية.
ولقد كسب هذا الرأي في أهمية الإحصاء تقديرا وانتشارا نتيجة التفنينات الإحصائية التي ابتدعها كبار المتخصصين، وخدموا بها البحوث العلمية في مختلف الميادين بخاصة بعد انتشار الحاسب الآلي وقد ابتدع الإحصائيون وعلى رأسهم كارل بيرسن "Karl Pearson" ما يعرف إحصائيا باختبار الدلالة، الذي يكشف بدقة كافية أن متغيرين أحدهما مستقل والآخر معتمد عليه بينهما علاقة سببي، ومن فوائد الإحصاء التطبيقية، تلك الفوائد العظمى في ميدان بحوث السكان، بخاصة ما يتعلق بما يعرف بالإسقاطات السكانية، في فترات منتظمة آتية، حتى يمكن رسم أية خطة تنمية في أية دولة.
ومهما يكن من أمر الأسلوب الكمي، فلا بد من التحذير العلمي بخصوص الإحصاءات بوجه عام، وعلى سبيل المثال حساب نسبة الأمية وفق مختلف الأعمار، كذلك التقديرات السكانية المستقبلية وفق الإسقاطات السكانية، ومهما كان الأمر، فما زال الأسلوب الكمي ولا يزال يستخدم في الأغلبية الساحقة من البحوث، لدرجة أصبح هناك اعتقاد بين فريق من العلماء بأن الذين يستخدمون الأسلوب الكمي في بحوثهم وهم وحدهم العلميون الذين يستطيعون إثراء العلم، ويرى العالم "جورج لاميرج" وهو كمي أن الكيفيين يشبهون قراء الفنجان.
ولما كان الأسلوب الكمي ببياناته الإحصائية غير كاف وحده، لفهم الظاهرات، فقد تنبه بعض الباحثين إلى ضرورة الاستعانة بالأسلوب الكمي والكيفي، الأمر الذي يساعد على دقة التحليل وضبط التفسير، وقد فعل ذلك ابن خلدون أكثر من مرة في مقدمته، وأبرزها حينما كان يبرهن على صحة قانونه الاجتماعي "في أن البدو أقدم من الحضر، وسابق عليه، وأن البادية أصل العمران ورد لها" فهو يستخدم أولا
الأسلوب الكيفي معتمدا على المسلك العقلي في إثبات العلة، أي البرهنة، ويجمع إليه البرهان الكمي بالأرقام مستخدما طريقة "الاستبار" وقد يستعمل الأسلوبين الكيفي والكمي في موضعهما المناسب، وفقا لمتطلبات البحث، مما يمكن أن نسميه المسلك التكاملي الذي أخذ به في العصور الحديثة العالم الأمريكي "بترام سوروكن"1.
1 حسن الساعاتي. تصميم البحوث الاجتماعية. مرجع سبق ذكره، ص148-202.