الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: منهج البحث التاريخي عند العرب
نشأ علم التاريخ عند العرب المسلمين فرعا من علم الحديث، وقد سعوا إلى المصادر الموثوقة وإلى الرواية الشفوية، واهتم مؤرخوهم بالمكان فمزجوا بين الجغرافيا والتاريخ، من مثل المسعودي وابن النديم، ومن ثم اعتمدوا على الوثائق الرسمية في مدوناتهم من مثل اليعقوبي والبلاذري والطبري وابن الجوزي والعماد الأصفهاني، كما اعتمد بعض المؤرخين النقوش الكتابية على الأبنية كالخطيب البغدادي، وابن الشحنة والأزرقي وكذلك النقوش على الأختام، وقد أشار ابن خلدون إلى هذا المضمون الشامل لمصادر التاريخ حين قال في مقدمته:"إن المؤرخ محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة"1.
لقد عمل المؤرخون على بيان مظانهم في مقدمات كتبهم، أو في طليعة روايتهم للخبر، وفي القرون الأولى للتدوين التاريخي استخدموا "الإسناد" كما في "الحديث" وبذلك كانوا أمناء في نقل الأخبار، ويلاحظ هذا بخاصة لدى الطبري، وقد يستطيل الإسناد لديهم.
أما النقد التاريخي عند العرب فقد بينه القرآن الكريم في آيات كثيرة، ضرورة إعمال العقل في ما يرى الإنسان ويسمع، وأكد على مفهوم البينة، والحجة، والبرهان،
1 المقدمة: مرجع سبق ذكره. ص9.
ووجوب "التثبت من الخبر" وكلها أمور توجه الفكر إلى النقد العقلاني للأمور، وقد نبه الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في أحاديثه لضرورة تبين الصدق من الكذب أي نقد ما يرى ويسمع، ومن ثم أوجد علماء الحديث تدريجيا أصولا نقدية للتمييز بين الصحيح والموضوع من الأحاديث ولتصنيفها بحسب قربها من الحقيقة، واتبع المؤرخون العرب تلك الأصول للتحقيق من "صحة الخبر" أيضا، والأسلوب النقدي الذي ساروا عليه، واقتدوا فيه بعلماء الحديث كان "التجريح والتعديل" هذا النهج هو في المنهجية العلمية المعاصرة للبحث التاريخي، النقد الباطني السلبي أو ما يسمى بنقد المؤلف.
لقد اتخذوا "الموازنة الزمنية" بين خبرين أو "الموازنة بعامة، من مثال ما أورده السخاوي في كتابه، بل إنهم استطاعوا بذلك النمط من الموازنة والمحاكمة الزمنية التاريخية أن ينقدوا ما يدّعي بأنه "وثائق" ويظهر زيفها، وإن المتتبع لحديث ابن خلدون عن "التاريخ" في مقدمته ونقده للمؤرخين العرب، يرى بوضوح أنه كان مدركا لمختلف عملياته وخطواته، وقد شجب ابن خلدون نقل المؤرخين عن بعضهم أو عن الرواة دون تدقيق أو تمحيص، كما حلل الأسباب التي تلزم المؤرخ على النقد والتمحيص. وميز في عملية النقد التاريخي وقواعدها بين نوعين من الأخبار: الأخبار الشرعية، والأخبار عن الواقعات، وبذلك رسم طريقا واضحة في عملية نقد الخبر أو الواقعة، وإذا كان بعض المؤرخين العرب قد التزم خطة دقيقة في النقد عددا منهم كانوا يتجاوزونه، وينقلون الخبر دون تمحيص عقلاني وقد نقدهم ابن خلدون في مقدمته من مثال نقده للمسعودي عن كيفية بناء الإسكندر للإسكندرية، وما نقله المسعودي في تمثال الزرزور الذي بروما، وحديثه عن مدينة النحاس بصحراء سجلماسه.
حاول المؤرخون العرب ضبط الأحداث زمنا، بوساطة التوقيت لها بالسنة والشهر
والليلة وبهذا فاقوا مؤرخي اليونان والرومان، وأوروبا في العصور الوسطى وقد قال المؤرخ الإنكليزي بكل:"H. TH. Buchle" إن التوقيت على هذا النحو، لم يعرف في أوربا قبل "1957م" وبالواقع أبدى المؤرخون العرب اهتماما فائقا بتحديد الزمن في الأخبار ويتضح هذا من تعريفهم للتاريخ بأنه "الإنسان والزمان" وأنه "الزمان وأحواله" ولكن جميع الأحداث في سلسلة زمنية، هو خطوة أولى في عملية التركيب التاريخي إلا أنها ليست لبّها، فالتركيب الحقيقي يقوم على ربط الأحداث ببعضها ربطا سببيا، وهذا ما عناه ابن خلدون عندما عرف التاريخ بقوله: "هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول
…
وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق"1.
لقد اتهم المؤرخون العرب بأنهم لم يسعوا إلى التعليل أبدا بل اكتفوا بالسرد، ويتفاوت المؤرخون العرب في تقصيهم للأسباب في تفسيرهم للحوادث، إلا أنهم أدركوا بالمجموع أهمية العوامل الاقتصادية والجغرافية في دفع الأحداث، وفي التأثير على حياة البشر، وكذلك العوامل النفسية والاجتماعية والفكرية، وندر جدا من المؤرخين من كان كتابه مجرد سرد ساذج لا يحمل ضمن السطور تأويله الخاص وتفسيره الذاتي.
إن المستقصي لمجموع ما دونه العرب في التاريخ وهو وفير جدا، يتعرف تماما بأن التاريخ العربي قد اهتم بالقضايا السياسية العامة لا الفردية فحسب، كما أنه توغل في بنية المجتمع، ولم يكتفِ بعض المؤرخين المسلمين بتتبع أسباب الحوادث فقط، بل سعى لتكوين تركيب فلسفي لمعنى التاريخ ككل ومن هؤلاء المطهر بن طاهر المقدسي في كتابه "البدء والتاريخ" وقد يشبهه في هذا "أبو طالب عبد الجبار" الذي عاش في أواخر القرن "الخامس الهجري" وأوائل "السادس" في أرجوزته التاريخية التي صاغ فيها التاريخ الإسلامي شعرا منذ عهد الخلفاء الراشدين حتى نهاية دولة المرابطين.
1 المقدمة: مرجع سيق ذكره ص3-4.
هذا وليس علميا البتة إطلاق أحكام عامة على مجموع التاريخ العربي والمعالجة السببية لدى كلية المؤرخين العرب المسلمين لكثرتهم، واختلاف الموضوعات التي بحثوا فيها، وتنوع مناهجهم في العمل وأساليب عرضهم، وقد ثبت في أذهان الباحثين نقد ابن خلدون لسابقيه لا سيما حول ابتعادهم عن تقصي السبب، ولعل مفهومات ابن خلدون العميقة والمثلى للكتابة التاريخية وأهدافها وصفات المؤرخ ومنهجيته، هي التي أوقعته بتلك الأحكام "العامة" القاسية، لأنه في مقدمته التاريخية كان قمة في التأريخ العالمي" لا "التأريخ العربي" فحسب، فهو أول من بحث جمعا وتفصيلا في عوامل العمران المختلفة، ودخل في فلسفة التاريخ بمضمونها الواقعي الدنيوي.
كان أسلوب الصياغة والأداء عند العرب في معظم الأحوال بلغة عربية بينة وبليغة، ومصورة بوضوح ما يريدون تباينه، دون إدخال التأنق الأدبي فيه، إلا أنهم استعملوا السجع وضمنوا كتاباتهم الشعر والرواية القصصية وفي الواقع كان أسلوب كل مؤرخ عربي يتباين عن الآخر، إلا أن أسلوب الأغلبية كان واضحا وبينا يحيط بالحقيقة التاريخية ويبرزها.
وهكذا نخلص إلى القول: إن منهج البحث التاريخي عند المؤرخين العرب المسلمين كان منهجا علميا في خطوطه العامة، وإن العلم الحديث يسجل لهم أنهم أول من ضبط الحوادث بالإسناد والتوقيت الكامل، وأنهم مدوا حدود البحث التاريخي، ونوعوا التأليف فيه، وأكثروه، إلى درجة لم يلحق بهم فيها من تقدمهم أو عاصرهم من مؤرخي الأمم الأخرى، وأنهم أول من كتب فلسفة التاريخ والاجتماع وتأريخ التاريخ، وأنهم حرصوا على العمل جهد طاقتهم بأول واجب المؤرخ وآخره "وهو الصدق في القول والنزاهة في الحكم" وبذلك يكون المؤرخون العرب هم الذين وضعوا الأصول الأولى "لمنهج البحث التاريخي العلمي الحديث" الذي بدأ ناضجا في أوروبا في القرن "التاسع عشرا"، وهم الذين تركوا بتلك الأصول أثرهم في مؤرخي أوروبا في مطلع العصور الحديثة، الذين شرعوا بدورهم ينهجون في الكتابة التاريخية طريق النقد والتمحيص والتدقيق1.
1 ليلى الصباغ. دراسة في منهجية البحث التاريخي، ط8، مرجع سبق ذكره ص39-78.