الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: قبسات منهجية من التراث العربي الإسلامي
…
المبحث الثالث: قبسات منهجية من التراث 1 العربي الإسلامي
اعتاد الكتاب الغربيون أن يرموا الفكر العربي الإسلامي بأنه فكر غيبي، ينقصه الالتزام بالمنهج العلمي1، وقد طال الجدل حول هذا الموضوع، فنسب الغربيون غير المنصفين المنهج العلمي الحقيقي إلى فرنسيس بيكون وديكارت في القرن "السابع عشر الميلادي" وجون ستيوارت ميل في القرن "التاسع عشر الملادي"، في حين أن الدراسات المنصفة انتهت إلى نتيجة مفادها أن تفكير العرب العلمي يعتبر أساسا لهذا المنهج، ولا يختلف كثيرا عن المنهج العلمي الحديث.
تميز الإسلام منذ انطلاقته بمبادئ الأولى منها التوحيد، وتبين للمستشرقين2 بخاصة الأهمية البالغة لإبعاد هذه الرؤية الإسلامية للإله الواحد، ويتداخل مع موضوع التوحيد موضوع آخر هو الخطاب العقلاني، حيث يستخدم البرهان الذي أفاد منه الفلاسفة الإسلاميون، لقد جعل القرآن العقل أداة أولية في حياة الإنسان، ودعا إلى استخدامه في البحث عن الكون كأحد أركان العبادة، كما في قوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 2/ 164] .
ونرى من خلال آياته أن العلم هو الحق اليقيني الثابت بالحجة القاطعة: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 10/ 36] وهو الطريق العلمي السليم في بحث أسرار الطبيعة
1 التراث لغة هو ما ورث أو ما يخلفه الإنسان لورثته، والتراث اصطلاحا هو ما خلفه لنا الأجيال السابقة من آثار فكرية مسجلة على الألواح أو أوراق البردي، أو مدونة في بطون الكتب التي خطتها أيديهم قبل أن تعرف الطباعة.
2 انظر فرانز روزنتال: مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي، مرجع سبق ذكره.
3 ارجع إلى كتاب المستشرق جب "Gibb":
H. A. R. Gibb. Mohmmad Anism، Anhistorical second Oxfard Univ، Press new york، 1962. p 54.
بأسلوب قائم على البرهان التجريبي، وليس على التخمين والظن ويبني القرآن الكريم العلم على المنطق الأساسي في قانونين أساسيين:
1-
ثبوت الفطرة واستقلالها: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 35/ 43] .
2-
لا تناقض مطلقا بين الحقائق: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 67/ 3] كما يؤكد المشاهدة الصحيحة كإحدى وسائل البحث في العلوم الطبيعية {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 10/ 101] وتتجمع أصول النظر العلمي السليم والمنهج الاستقرائي التجريبي في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 17/ 36] .
لقد أكد الإسلام على استخدام المنهج الاستقرائي في النظرة العلمية والبحث عن كيفية تركيب الأشياء في هذا الكون، كما في قوله تعالى:{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 88/ 17-20] فكلمة كيف تعبر عن روح العلم ومنهجه كله، كما أشار القرآن الكريم إلى عدم التوقف في البحث عند محصولات الخيال، إلا أنه لا بد من أن يأتي يوم يظهر فيه اليقين كما في قوله تعالى:{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 38/ 88] .
لقد حض الإسلام على التقدم المستمر: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 20/ 114] وأن يكون العلم نافعا وقد ورد في الحديث الشريف: "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع ومن دعاء لا يسمع ومن نفس لا تشبع ومن علم لا ينفع" 1 وهذه إشارة إلى تكريس العلم واستخدامه في خدمة الإنسان ولصالحه وليس للقضاء عليه.
كتب ابن المعتز "ت 296هـ/ 908م" في سنة "274-275هـ/ 887-888م" "كتاب
1 رواه أحمد عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه "كنز".
البديع" وهو فيه على وعي تام بأنه أول من قام بدراسة نظامية لفنون الشعر، وعبر عن أمله في أن يكشف غيره أنواعا أخرى، وبذلك يزيدون عمله تحسينا، وبذا يكون ابن المعتز أول مسلم يفكر في العلم بوصفه واجبا، لا بد من مواصلته للتمكن منه باطراد بوساطة تعاون أجيال متعاقبة من العلماء، أما السكاكي "ت 627هـ/ 1229م" فقد جنح أصلا إلى العلم لما شهده من التشريف الذي كان يحظى به العلماء الكبار، كيف دعم أركان تقليد شريف عندما عاد بعد عرض وجهة نظره في مسألة بيانية ملخص وجهة نظر خصومه وترك للقارئ الحكم1.
كانت الاتجاهات السائدة في المجتمع الإسلامي تحبذ أن يكون العالم نموذجا معياريا للأخلاق والأنشطة البشرية، ولقد يلوح أن رجل العلم كان يظن فيه في البداية الإحاطة بكل شيء تقريبا، ونظرا لعدم وجود معايير معترف بها مسلمة فيما يجوز تصديقه عقلا، كان من العسير الفصل بين الإدراك المتولد من العلم ومثيله الذي يجيء عن طريق الإلهام "Inspiration" ونستخلص من التراث العربي ما يلفت النظر في النزعة الكريمة لدى العلماء الأوائل الذين واجهوا بشجاعة أهل الجمهور فيهم باعترافهم بقلة ما لديهم من معلومات مما ذكره السيوطي "ت 911هـ/ 1505م" في فصل ثم يتبع فصلا عقده في ذكر "من سُئل من علماء العربية عن شيء فقال: لا أدري، بفصل آخر سجل فيه أسماء من سُئل عن شيء فلم يعرفه فسأل من هو أعلم منه، ثم يذكر كذلك عددا من الأعلام الثقات الذين جرءوا على الرجوع عن رأيهم بعد طول البحث"2، وقد صاغ المبرد "ت 306هـ/ 898م" مبدءا يبرر فيه اعتراف الإنسان بخطئه فيقول: "إنه يمحو الذنب الذي قد يترتب على الوقوع في الأخطاء ونشرها بين الناس".
لقد سما العصر العظيم الزاهر للحضارة العربية الإسلامية بالعلماء، واستطاع أن يقيم للعالم مثلا أعلى ساميا حقا3، "ويأبي العلم أن يضع كنفه أو يختفي جناحه أو يسفر
1 مفتاح العلوم. القاهرة غير مؤرخ "قرابة 1898" ص212-213.
2 المزهر 2/ 163-166.
3 غوستاف جرونيباوم. حضارة الإسلام، مرجع سابق ذكره، ص309.
عن وجه إلا لمتجرد له بكليته، ومتوفر عليه بأينيته، مكان بالقريحة الثابتة والرؤية الصافية، معترفا به التأييد والتسديد، قد شمر ذيله وأسهر ليله، حليف النصب، ضجيع التعب، يأخذ مأخذه متدرجا يتلقاه متطرفا، لا يظلم العلم بالتعسف والاقتحام، ولا يخبط منه خبط عشواء في الظلام، ومع هجران عادة الشر، والنزوح عن نزاع الطبع ومجانبة الألف، ونبذ المحاكلة واللجاجة وإحالة الرأي عن غموض الحق والتأتي بلطف المآتي، وتوفيته النظر حقه من التمييز بين المشتبه والمتضح والتفريق بين التمويه والتحقيق، والوقوف عند مبلغ العقول"1.
ويأمل المقدسي "ت 390هـ/ 999م" أن يقدم موضوعه منحطا عن درجة الغلو، خارجا عن حد التقصير، مهذبا من شوائب التزيد، معفى عن إسقاط الغسالات، وخرافات العجائز وتزاوير القصاص فموضوعات المهتمين المحدثين2.
وبهذه الروح يستهدي المقدسي3 في مقدمة كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" وقد كتبه في سنة "377هـ/ 987م" في حين يرى أن يسترشد أولا بالملاحظة الشخصية ثم بالكتب والمراجع وأخيرا فالبحث لا التأمل، والنظر هو الذي يحصل به المرء على العلم الدقيق بالعالم، وما أكثر الرسائل التي يستخدمها في الأسفار وجمع المعلومات4.
ومن قبله اليعقوبي "ت 284هـ/ 897م" بنفس ذلك الدافع الذي لا مرد إلى جمع المعلومات البكر التي لم يسبقه إليها إنسان، كان يسأل ويستكمل ذلك بالأسفار5.
1 المطهر بن طاهر المقدسي. كتاب البدء والتاريخ. ترجمة ونشره س. هورات، باريس "1899-1919" جـ1 ص4-5.
2 المرجع السابق 1/ 5-6.
3 معظم المؤرخين يذكرون أنه توفي سنة "381هـ/ 991م".
4 انظر أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ص43-45.
5 كتاب "البلدان" نشره م. ج ديغويه "ليدن 1892" ص232 -233 ويناقش كارادي فو منهج اليعقوبي ومواهبه: Penseurs. "Del' Islam" Paris 1921. pp. 4-7.
وهذا هو الحسن بن الهيثم يعترف بأن الدراسة والبحث هما عمله في الحياة، وأنه ليتفق مع جالينوس في اعتبار الصدق أمرا لا ينال إلا بالجهد العلمي، وقد نبه في مقدمة كتابه "الشكوك على بطليموس" إلى أن حسن الظن بالعلماء السابقين مغروس في طبائع البشر، وأنه كثيرا ما يقود الباحث إلى الضلال، وطالب الحق عنده ليس من يستقي حقائقه من المتقدمين، بل عليه أن يشك في إعجابه بهم، ويتوصل إلى حقائق الأمور، ورغم أنه يقر في كتابه أن بطليموس رجل يشار إليه في العلوم الحقيقية ولكن وجد فيه مواضع شبهة وألفاظا بشعة ومعاني متناقضة، وهذا أوضح من التعليق.
ورغم حماسة العرب في نقل تراث الأوائل إلى لغتهم، فإن ذلك لا يمنع العقل العربي من أن يكون حرا في نقد الآثار التي تستهويه وتمحيص حقائقها والكشف عما يحتمل أن تتضمنه من زيف وبطلان مستعينا بالملاحظة والمعاينة1.
قال ابن الهيثم في كتابه "المناظر": بأن مراحل المنهج التجريبي تبدأ بملاحظة الظاهرات الجزئية الحسية وتحديد صفاتها وخصائصها، ثم يندرج في بحثه مع التمحيص والحذر من الوقوع في الخطأ حتى يبلغ اليقين، يقول ابن الهيثم:"يبدأ البحث باستقراء الموجودات وتصفح أحوال المبصرات، وتميز خواص الجزئيات ويلتقط باستقرائها ما يخص المبصر في حالة الإبصار وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه في كيفية الإحساس، ثم أرقى في البحث والمقاييس على التدرج والتدريب مع انتقاد المقدمات والتحفظ في الغلط في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نجيزه وننقده طلب الحق الذي به تثلج الصدور ونصل بالتدرج واللطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين، وتظهر مع النقد والتحفظ التي يزول معها الخلاف وتنسجم به مواد الشبهات" فهو بهذا لا يختلف عن ديكارت رغم وجود فارق زمن بينهما يصل إلى حوالي "ستة قرون".
1 انظر: أنيس فريجة: مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي "ترجمة" بيروت 1961.
وهكذا فإن مبدأ الشك لم يكن بدعة نادى بها ديكارت، فقد سبقه إلى ذلك كثير من المفكرين العرب، وأوجبوا على الباحث منذ البداية بحثه أن يطهر عقله من كل ما يحويه من أفكار حول موضوعه، خشية أن يتلف بحثه وتوجهه إلى غير ما يقتضيه منهجه وتوصلوا إلى ذلك بالشك.
يقول إبراهيم النظام: "لم يكن يقين قط حتى صار فيه شك، ولم ينتقل أحد من اعتقاد حتى يكون بينهما حال شك، لأن كل يقين في المعرفة مسبوق بشك يستهدف التمحيص ويمهد لليقين".
قام علم الفلك عند العرب على التجربة، معتمدا على الملاحظة الحسية وآلات الرصد لتعليل حركات الأجرام السماوية وتفسير الظاهرات الفلكية، لقد ترجم العرب كتاب بطليموس1 "النظام الرياضي للنجوم Mathematic Syntaxis" وسموه المجسطي "Al-magistic""أي الأعظم" ورغم أن كتابه بالغ الأثر في العرب، إلا أن علماء العرب كشفوا في ضوء دراساتهم التجريبية عن الكثير من أخطائه، لهذا قيل: إنه كان عندهم نقطة انطلاق في تفكيرهم العلمي فيما لاحظ ول ديورانت "W. Durant".
نذكر في هذا المجال أبناء أحمد بن موسى بن شاكر "ت 259هـ/ 872م" الذين تحققوا من مقياس الكرة الأرضية، وقد علق المستشرق الإيطالي كارلو ألفونسو نلليو "Nallino" عام "1938م" ويعد حجة في عالم الفلك بقوله:"وهو كما لا يخفى قريب من الحقيقة""مقياس محيط الأرض" دال على ما كان للعرب من باع طويل في الأرصاد وعلم المساحة
…
وقياس العرب أول قياس حقيقي أجري ولا بد لنا من إعداد ذلك القياس من أعمال العرب الفلكية المجيدة المأثورة.
1 جاء في كتاب دائرة المعارف الفلكية، وقد رفض نظرية معاصره أوسطارخوس "Aristarqus" في دوران الأرض حول الشمس، وهي النظرية التي قال بها العرب كما اعتمدها العلم الحديث.
إن التجربة في التصور العلمي الحديث هي ملاحظة مستثارة، يتدخل أثناءها الباحث في تغيير الظروف التي يدرس فيها ظاهرته، وقد فطن العرب إلى التجربة قبل المحدثين من الغربيين بمئات السنين، وقد سماها "جابر بن حيان ت 198هـ/ 813م التدريب"، وكان ابن الهيثم يزاول التجربة العلمية مكملة للملاحظة الحسية وسماها "الاعتبار"، وقد نقل عنه روجر بيكون "Roger Bacon" في دراسته للبصريات، ورغم أن الكشف العلمي "الخزانة المظلمة ذات الثقب" في أوروبا يعود إلى القرن "السادس عشر" فإن ابن الهيثم قد ذكر في بحوثه كثيرا عبارة البيوت المظلمة ذات الثقب1.
كان مسلمة بن أحمد المجريطي "ت 397هـ/ 1006م" يوجب على المشتغل بالكيمياء أن يدرب يديه على التجارب وبصره على ملاحظة المواد الكيماوية وعقله على مزاولة التفكير فيها، وقد مهدت تجاربه ووصوله إلى قانون حفظ المادة، مهدت لبحوث كيميائية قام بها لافوازييه "Lavoisier" وبريستلي "Priestly" في هذا المجال.
لقد بدأ تمحيص التجربة العلمية والحرص على بيان العامل المؤثر، وتحديد القواعد التي تلزم مراعاتها في نص أورده ابن سينا "ت 428هـ/ 1036م" في الفصل الثاني من كتاب "القانون"، ومنه نستنتج أن ابن سينا لا يقنع باستخدام التجربة وإنما يحرص على تحديد قواعدها، وبين ما قاله ابن سينا في القانون وما قاله جون ستيوارت ميل "1290هـ/ 1873م" في كتابه "System of Logic" عن قواعد التثبت من صحة الفروض وخطئها صلة وثيقة.
إن ما ساعد العرب على الدقة في البحث استعمالهم الأدوات والأجهزة، كان بعضها اختراعا عربيا، وبعضها مقتبسا عن أسلافهم، والمعروف أن ابن الهيثم منشئ علم الضوء قد استعان بالكثير من الآلات في دراساته، وكاد يخترع العدسة المكبرة، فاستعان
1 ارجع في هذا الشأن إلى: مصطفى نظيف. الحسن بن الهيثم بحوثه وكشوفه البصرية، جامعة القاهرة 1943، 1/ 180.
به بعد نحو ثلاثة قرون روجر بيكون وغيره ممن اخترعوا المجهار "الميكرسكوب" والمقراب "التلسكوب" فيما لاحظ مؤرخ الحضارات ول ديورانت.
لقد أشار الرازي في كتابه "سر الأسرار" إلى الآلات التي تستخدم لتحضير العقاقير، وقد نشر يوليوس روسكا "Ruska" في عام "1937م" ترجمة لهذا الكتاب يتضمن القول: إن الكيمياء بدأت علما تجريبيا في هذا الكتاب، ومن أجل هذا كان خليقا بأن يكون منشئ علم الكيمياء قبل لافوازييه "Lavoisier" بنحو تسعة قرون من الزمان، وقد سبق جابر بن حيان إلى جعل الميزان أساسا للتجريب، ففطن إلى التفرقة بين الكيفيات والكميات، وبهذا حقق للدراسات الكيميائية خاصة من أهم خصائص العلم تحقيقا للدقة والضبط.
وفي الطب استخدم جراحو العرب مئات الآلات في التشريح وإجراء الجراحات، ومن ذلك أكبر جراحي العصور الوسطى أبو القاسم الزهراوي "ت414هـ/ 1013م" صاحب "التصريف لمن عجز عن التأليف" وقد عولت الجامعات الأوروبية على كتابه حتى مطلع العصر الحديث، منذ أن ترجم الجزء الجراحي"جيرار كريموني" إلى اللاتينية، فكان مرجعا في جامعتي سالرنو ومونبلييه وغيرهما، ومنذ عصره كان أقرانه ممن يزاولون الجراحة في إسبانيا يمنحون لقب طبيب جراح "Medeican-Surgeon" بينما كان قرينهم في جامعة باريس أو لندن أو أدنبره يمنح لقب حلاق جراح "Barber-Surgeon".
أما استخدام العرب لآلات وأجهزة علم الفلك فقد كان أوضح من هذا كله، إن أهم ما في الفلك أرصاده التي تستخدم لمعرفة حركة الأجرام السماوية، وقد بدأت الأرصاد المنظمة في مطلع القرن "التاسع" وكان أول مرصد عرف في تاريخ الفلك قد أنشئ في الإسكندرية في عصر بطليموس، وظل وحيدا حتى أنشأ العرب مراصدهم في بغداد ودمشق والقاهرة ومراغة وسمرقند وغيرها، والآلات التي استخدموها في هذه
المراصد كثيرة منها "الأسطرلاب Astrolabe" وكان أنواعا، وكان أول مسلم صنع الأسطرلاب هو إبراهيم بن حبيب الفزاري "ت 189هـ/ 804م" تقريبا، وأقدم رسالة في الأسطرلاب هي رسالة "علي بن يحيى" الذي سمي بأسطرلابي، وكان أول من استخدم هذه الآلات وأفاض في وصفها إبراهيم بن يحيى النقاش القرطبي، المعروف باسم الزرقالي "ت 414هـ/ 1013م".
يذكر أنور عبد العليم في كتاب "أضواء على قاع البحر""1961م" أن العرب قد حسنوا آلتين هامتين من أدوات الملاحة كان لهما الفضل الأكبر في كشوفات فاسكو دي غاما وكولومبوس وماجلان من بعد آلة رصد النجوم "الأسطرلاب"، والأخرى هي "البوصلة البحرية" المعروفة "ببيت الإبرة"، توصل إليها العرب في القرن "الحادي عشر"، والمعتقد أن الإدريسي قد استخدم البوصلة، وقد ساعدت على نشأة علم الجغرافية علما عمليا يستند إلى حقائق تستقي من المشاهدة والخبرة.
وممن نذكر فضلهم في تطوير علوم البحار عامة والملاحة بخاصة، وابتكارهم لعدد من آلات البحر الضرورية للملاحة في ذلك الوقت سليمان التاجر، ابن ماجد، سليمان المهري، ورسالة سليمان التاجر الخطية سنة "237هـ/ 851م" موجودة في المكتبة الأهلية بباريس تحت اسم "رحلة التاجر سليمان" أضاف إليها الكاتب العربي أبو زيد حسن السيرافي1 بعض المعلومات عن الهند والصين، وعن علاقة العرب بهذين البلدين خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، كما ترك ابن ماجد النجدي، مؤلفات قيمة محفوظة في المكتبة الأهلية بباريس تحت رقم "2292، 2559" ومخطوط آخر يتضمن عددا من الأبحاث لرائد بحري آخر هو سليمان المهري، وقد قام الوزير الفرنسي جبريل فران بإعادة نشر هذين المخطوطين في باريس، مع ترجمة وتعليق عليهما، وأخرج كل ذلك في صورة ثلاثة مجلدات خلال العقد "الثالث من القرن الحالي"، ويقول الرحالة
1 لعله أبو سعيد السيرافي "ت 369هـ/ 979م" كان يثبت وجوده في حلبة المناظرة والجدل.
الإنكليزي بيرتون في عام "1854م": "إن اسم ابن ماجد قد رفع إلى مراتب الأولياء المسلمين باسم الشيخ ماجد" نتيجة لخدماته المقدمة للبحارة المسلمين.
نضيف إلى ما ذكرناه أن العرب فطنوا منذ مئات السنين إلى التعاون مع بعض البحوث العلمية فرقا "Teams" فمما قام به المأمون وحذا حذوه شرف الدولة البويهي في بغداد ونصير الدين الطوسي "ت 673هـ/ 1274م"1 في مراغة، وذلك بجمع المعنيين بالبحث ليتعاونوا ببحوثهم العلمية بهدف أن تكون نتائجها أكمل وأدق.
ما أوردناه آنفا من نماذج عن العلوم عند العرب، يشهد بحرصهم على أن الدعوة إلى الملاحظة الحسية والتجربة العلمية والدقة، أداة لكشف الحقائق، وممارسة هذه الدعوة فعلا في بحوثهم العلمية، والاستعانة بالآلات والأجهزة التي تمد في قدرة الحواس على الإدراك وتحقق الدقة والضبط في نتائج البحوث، مما أدى إلى الكشف عن كنوز من الحقائق الأصلية، التي سبقوا بها عصرهم.
مما يؤكد مقولتنا أن العرب رغم حماسهم في نقل تراث الأوائل إلى لغتهم، فإن ذلك لا يمنع العقل العربي من أن يكون حرا في نقد الآثار العلمية التي تستهويه وتمحيص حقائقها والكشف عما يحتمل أن تتضمنه من زيف وبطلان، مستعينا بالملاحظة والمعاينة، حريصا على الاستعانة بالآلات والأجهزة التي تمد في قدرة الحواس على الإدارك وتحقق الدقة والضبط في نتائج البحوث مما ذكرناه سابقا.
1- كان العلامة نصير الدين الطوسي وزيرا لهولاكو المغولي فاتح بغداد.