الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: النماذج الرياضية والتجريبية والطبيعية
تظهر في النموذج المبسط الذي يمكن الاستفادة منه خصائص هامة من الواقع أهمها تركيب أو بنية الظاهرة أو المكان، والعلاقات بين عناصره المختلفة، وهذا يمكننا من استخدام النموذج في معرفة التوقعات والتنبؤات، ويمكن متابعة هذا الاستخدام بوساطة نماذج رياضية وتجريبية أو طبيعية.
1-
النماذج الرياضية:
هي نماذج نظرية تحتوي على بعض التفاصيل باختلاف الظروف، أي أن الملامح الأساسية والضرورية للظاهرة تبقى، ولكن على شكل رموز مجردة مكونة من معادلات رياضية أو جبرية، يطلق عليها النموذج العامل "Working Model"، وبوساطته نستطيع استنتاج ملامح الشيء الحقيقي الذي هو قيد الدراسة والبحث، ولم يسبق كشفه أو تحليله أو رصده.
إن أول عمل يقوم به الباحث في بناء النماذج الرياضية هو لغة التحويل، من كلمات نموذج مبسط إلى رموز رياضية، حيث تستبعد العلاقات الوصفية واللفظية، أي أن عملية بناء النموذج الرياضي تقوم على ترميز المتغيرات، لكي يتيح لنا نظاما أو نموذجا رياضيا ثم عرض هذه الرموز في علاقة تتخذ صورة معينة تمثل النموذج، وقد يضم النموذج متغيرين أحدهما مستقل والآخر بينهما علاقة خطية، وقد يحتوي على متغيرين مستقلين أو أكثر، وفي هذه الحالة يطلق على العلاقة اسم الانحدار المستقيم المتعدد.
تقسيم النماذج الرياضية إلى نوعين هما:
1-
حتمية "Deterministic": يقوم على النظرية الرياضية التقليدية القائمة على السبب والنتيجة "Cause and effect".
2-
احتمالية "Probabilistic"، ويطلق عليها نماذج الألعاب، فهي تستند على الاحتمال لذلك هي عكس الأولى، وتعتمد على الصدفة بدلا من التأكيد الرياضي، وقد اقترح جارسون "Garrison" مؤخرا استخدام "الكومبيوتر" من أجل تطوير نموذج رياضي احتمالي لمعرفة وقياس نمو المدن.
إن كلا من النموذجين يجب أن يكونا قابلين للجدل الرياضي المنطقي يمدنا بالنتائج الرياضية المنطقية، وعلى الرغم من أن هذه النتائج تكون قابلة للتفسير النظري على شكل ملخصات تمثل الواقع والحقيقة، إلا أن هذه النماذج الرياضية لا تعطي تفسيرات كاملة عن الواقع، وهي قاصرة على عمل اقتراحات رياضية تكون أساسا لمناقشات نظرية.
2-
النماذج التجريبية:
هناك أسلوب آخر يمكن به معالجة النموذج المبسط معالجة أخرى، وذلك من أجل فحص مراحل معينة من مراحل عمل النموذج، وكشف صدق توقعاته، ويتحقق هذا الأسلوب عن طريق التجسيد "Substantation" والإجراء المتبع هنا هو أن فكرة النموذج المبسط تظهر على شكل تركيب محسوس "أي إظهار الفكرة الأصلية للنموذج" وذلك بوساطة ترجمة هذه الأفكار.
ونميز في هذا الصدد نوعين من النماذج التجريبية:
1-
النموذج المقياسي "Scale Model".
2-
نموذج النظير أو الشبه "Analogue Model".
1-
فالأول عبارة عن تقليد قريب جدا لجزء من الواقع: ويشبهه كثيرا في بعض النواحي، ويتألف غالبا من نفس نوعية المواد، وإذا كان الشبه كبيرا جدا بين النموذج المقياسي والواقع، ففي هذه الحالة يعتبر النموذج جزءا مضبوطا من الواقع وتستخدم النماذج المقياسية في الجغرافية بكثرة وبخاصة في الميدان الطبيعي، والنماذج المستخدمة في هذا المجال على نوعين: الأول عبارة عن نسخة ثابتة ومطابقة للظاهرة الطبيعية ويطلق عليها "Static Replica"، وهو هام لأغراض التوضيح والشرح، لكن من عيوبه أن عنصر المشكلة فيه مفقود تقريبا، أما النوع الثاني فهو النموذج المقياسي العامل "Working Scale Model"، والذي يمكننا عمله بدرجات متفاوتة، بحيث تكون مطابقة للشبه الأصلي مختلفا.
أما النوع الثاني من النماذج المقياسية فهو الأهم، ونتائجه أوضح وبخاصة في الميدان الطبيعي كما أن السيطرة عليه سهل والتحكم فيه في الدراسة والتحليل، وعزل كل متغير على انفراد، هذا ويمكننا اعتبار الخريطة في حالات كثيرة نموذجا مقياسيا بسيطا جدا، لأنها تمثل مظاهر محدودة جدا لمظاهر السطح ويكون فيها التجريد على عدة مراحل بحسب ما هو مطلوب في الخريطة، وكلما صغرت الخريطة ازداد التجريد، وعلى كل حال فإن الخريطة نموذج هام جدا لأنه بوساطتها يمكن أخذ فكرة عامة عن المنطقة بكاملها وتحليلها وكل نوع من الخرائط يبرز مظهرا واحدا مع تجريد وإهمال المظاهر الأخرى.
2-
أما نموذج النظير أو الشبه هدفها محدود للغاية بالنسبة للنماذج القياسية، لأنها تهدف إلى إظهار بعض الظواهر، وعلى الرغم من أن نماذج "الشبه" هذه تخدم فقط الأساس الذي تستند عليه الفروض المقبولة، إلا أن استخدامها هام للغاية، فالكمبيوتر يمكن اعتباره نموذجا من هذا النوع لأنه اعتمد في صنعه على محاكاة للعقل البشري فهو بهذا نظير تجريبي. وقد استخدمت هذه النماذج في الجغرافية الطبيعية والجغرافية البشرية.
وسواء استخدمنا النموذج المقياسي أو النظير فإن المرحلة التالية لبنائهما تكون التجربة، والتي تؤدي بدورها إلى مجموعة من الملاحظات والاختبارات، وهذه تظل كما هي لتساعد على تفسير الحقيقة بأسلوب مشابه للتفسير النظري للنتائج التي حصلنا عليها من النموذج الرياضي، وهذه النتائج المأخوذة من النموذج الرياضي، تحول إلى مفاهيم تجريبية كخطوة أخرى من خطوات المطابقة على الواقع.
3-
النماذج الطبيعية:
هي الأسلوب الثالث الذي يمكن به الاستفادة من النماذج المبسطة، واستخدامها كأساس للتحليلات ومزيد من التوقعات، هو التحويل والنقل إلى ظروف طبيعية شبيهة، يعتقد أنها أبسط علاوة على كونها مألوفة وسهلة الملاحظة، ويكون النقل والتحويل على نوعين هما: تاريخي ونظيري أي أن النماذج تكون:
1-
نماذج تاريخية.
2-
نماذج نظيرية.
يشمل استخدام النماذج التاريخية ترجمة النموذج المبسط إلى زمان أو مكان مخالف، على افتراض أن ما حدث في الماضي سيحدث مرة أخرى، أو أن ما سيحدث في مكان ما سيحدث في مكان أخر، وقد شاع استخدام هذه النماذج لدى كثير من المؤرخين مثل "أرنولدتويني" وعند المختصين في الجغرافية التاريخية، كما يعتمد المختصون في المناخ والأرصاد الجوية على سجلات سنوات قد تطول لأكثر من "ثلاثين عاما" لعمل نموذج عنه يمكن بوساطته التنبؤ بالأحوال الجوية والمناخية لمنطقة من المناطق، وفي الاقتصاد استطاع روستر "Rostow" أن يبني نموذجا في التنمية الاقتصادية معتمدا على مراحل التنمية التي مرت عليها أوروبا أثناء الانقلاب الصناعي. وحاول تطبيقه على كل بلد يريد الأخذ بالتنمية وبخاصة الدول النامية.
أما النماذج الطبيعية فهي عبارة عن ترجمة أو تحويل نموذج مبسط إلى وسط طبيعي مخالف، وهذا أمر ليس بالسهل، وقد طور جاريسون "Garrison" وعدل نموذج الغطاء الثلجي واستخدامه في تفسير النمو الحضري، وبذلك شبه بنمو المدن الغطاء الجليدي، من هذا نرى كيف يمكننا الاستفادة من مشاهداتنا للطبيعة واستخدام ظواهرها كنماذج سهلة التحليل، ولكن هذا لا يخلو من مشكلات تتعلق بكيفية تطويع الظروف الطبيعية والتحكم فيها، بحيث نجعل منها أمورا تصلح للتشبيه وتخضع للقياس والتجربة، ثم إعادة نصه لتطبيق دراستها على النظام الأصلي.
وأخيرا فإن التفسير النهائي للنتائج المشتقة من النماذج الرياضية والتجريبية والطبيعية شيء لا بد من عمله، حتى نصل إلى الخاتمة والتي ينبغي أن تتلاءم والواقع، وتخدم موضوع البحث والمشكلة. هذا ويمكن التوصل لهذه المرحلة الأخيرة مباشرة أي عن طريق محول مباشر دون حاجة للمرور في المراحل السابقة ويطلق على هذه الطريقة المباشرة النظرة السريعة "eyeball metohd".
وطبيعي أن التقويم الناجح يتضمن فحص النتائج النهائية، التي نحصل عليها من النموذج بعد مطابقته للواقع، ومن هذا التقويم يمكننا تطوير الفروض، وفي حالة إذا ما توفرت الفحوصات الكافية، مع تشابه النتائج فمن الممكن بناء نظرية عليها، إن هذا التقويم ضروري ولا غنى عنه إذ عليه يتوقف نجاح أو فشل جميع استنتاجاتنا التي نبني عليها أعمالنا وحلولنا للمشكلة.