الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنظيما وغنى بالمؤلفات الأثرية، ومنهج عمل الباحث في المتاحف مثل عمل الباحث في المكتبات والأرشيفيات.
جـ- الرواية الشفوية المباشرة. وهي أقوال الأشخاص الموثوقين الذين شهدوا الحوادث الماضية بأنفسهم، وسمعوا عنها مباشرة، وكتاباتهم، وقد يستعين الباحث بشهادات أشخاص لم يروا الحادث بأنفسهم ولكنهم سمعوا عنه من أشخاص آخرين، أو قرءوا عنه في مصادر مفقودة أو غير ذلك.
هذا وتشكل الرواية الشفوية مصدرا هاما من مصادر البحث التاريخي، حيث يقوم الباحث بالاتصال بالناس الذين عايشوا المشكلة وشاهدوها، أو اشتركوا فيها فعليا بعد أن يكون قد أعد مجموعة من الأسئلة الشاملة الذكية يطرحها عليهم، وقد تكون أجوبتهم مكتوبة أو شفوية، وقد يكون الاتصال بهم مباشرة، وهو الأفضل أو بوساطة الكتابة إليهم، ونشير هنا إلى وجوب خضوع هذه المصادر لنقد الباحث التاريخي من حيث سلامتها الجسمية والنفسية والعقلية والأهواء والميول والعواطف.
المبحث الثالث: نقد الوقائع والحقائق
يطلق على عملية "التحليل" المفصل للاستدلالات التي تقود من ملاحظة الوثائق إلى معرفة الوقائع والحقائق اسم "النقد" وهي عملية ضرورية لجميع الوثائق مهما كان نوعها، يقوم فيها الباحث التاريخي بعملية فكرية تراجعية، نقط الانطلاق فيها الوثيقة، ونقطة الهدف الواقعة التاريخية، وبينهما سلسلة من الاستدلالات تكون فيها فرص الخطأ عديدة.
إن مصادر المعلومات في معظمها مصادر غير مباشرة، تتراوح بين شهادات الأشخاص الذين حضروا الحوادث أو الذين سمعوا عنه أو كتبوا عنه، وبين الآثار والسجلات والوثائق التي تركوها، وحيث أن هذه الوثائق معرضة للتلف والتزوير
بسبب قدمها، كما أن كاتبها معرضا للنسيان أو التزوير، لهذا تطرح تساؤلات حول مدى موضوعية الوثيقة ومدى تطابق معلوماتها مع معلومات وثائق أخرى، وهل كتبت مباشرة بعد الحادثة أم بعد مرور فترة زمنية، هل كان صاحبها في صحة جسمية ونفسية سليمتين، هل كانت هناك حرية الكتابة حينما كتبت، أم أنها كتبت بتأثير من سلطة أو وجهة نظر ما، كما أن كثيرا من المسلمات التي كانت شائعة اكتشف الباحثون أنها ليست صحيحة.
إن ما ذكرناه من حيث نقد الوثائق، يعود بنا إلى نقد مصادر الخبر من حيث معرفة سلامتها أو زيفها والأسباب التي تدعو إلى التحريف والتشويه والخطأ المتعمد فيها وغير المتعمد كان أمرا معروفا منذ القدم، وقد برع المسلمون في ميدانه عندما نقدوا "الحديث" و"الخبر" ووضعوا له قواعد صارمة، وقد اقتبس الأوربيون في العصور الحديثة كثيرا من أصوله، وارتقوا به من القرن "الخامس عشر" حتى الوقت الحاضر ومع توافر الكثير من الأدوات الميسرة له اليوم، فإنه يمكن القول: إنه احتفظ بإطاره الأساسي التقليدي الذي حدده "لانغلوا" و"سينوبوس"1 في عمليتين رئيسيتين:
1-
النقد الخارجي.
2-
النقد الداخلي.
وفي كليهما على الباحث أن تكون قراءته فاحصة متأنية، تتناول شخصية المؤلف أو الكاتب كما تتناول الوثيقة شكلا ومضمونا، بحيث تخرج على أسس صحيحة محكمة من التحقيق العلمي2.
يتناول الباحث في النقد الخارجي للوثيقة هوية الوثيقة وأصالة الوثيقة "Authenticity" أي صدق الوثيقة أو عدمه "إثبات صحة الأصل"، تحديد مصدر
1 مؤرخان فرنسيان، شارل فيكتور لانغلوا "1863-1929م" وشارل سينوبوس " 1854-1942م".
2 جاءت لفظة تحقيق مصدرا لفعل "حقق يحقق تحقيقا" وأصل مادته الفعل المضعف العين "حق" ويرى ابن فارس أنها تدور حول إحكام الشيء وصحته، ويقال: حققت الأمر أو حققته أي كننت على يقين فيه "معجم مقاييس اللغة. 2/ 15، 16، 219" وتهذيب اللغة 3/ 377".
الوثيقة زمانها ومكانها، هل هي الأصل أم منسوخة عنه، هل كتبت بخط صاحبها أم بخط شخصي آخر، هل كتبت بلغة العصر الذي كتبت فيه أم تتحدث بمفاهيم ولغة مختلفتين، وهل المواد التي كتبت عليها كانت مستعملة في زمن كتابتها، هل تتحدث عن أشياء كانت غير معروفة في ذلك العصر، وهل يطابق مظهرها مخبرها، هل في نصها إضافة أو حك أو تغيير، وهل تقبل على حقيقة معينة أم لا تقبل؟
ما هي هوية المؤلف، والبحث عن موارد الأصل1، هل تحمل اسم صاحبها أو تحمل اسما مستعارا؟ ويتحقق الباحث من ذلك بمقارنة الوثيقة من حيث الأسلوب والخط بأعمال أخرى للمؤلف والفترة الزمنية التي كتبت فيها الوثيقة، وهل هناك أحداث وردت في الوثيقة، وأماكن لم يكن يعرفها شخص عاش في عصر كاتب الوثيقة، وإذا كان المؤلف مجهولا وكانت الوثيقة غير مؤرخة فهل في مضمون الوثيقة ما يكشف عنهما؟
بعد أن يتم التأكيد من زمان ومكان الوثيقة وتحقيق شخصية الباحث فإن النقد الداخلي أو الباطني يسير نحو تحقيق عمله لتقويم الوثيقة، معنى المادة الموجودة في الوثيقة وصدقها، هل كتبت بناء على ملاحظة شخصية مباشرة أم نقلا عن رواة، ويسير ذلك وفق خطوتين: الأولى هي النقد الداخلي الإيجابي والهدف منه تفسير الأصل التاريخي، وإدراك معناه الحقيقي، ويمر ذلك بدورين: الأول تفسير ظاهرة النص وتحديد المعنى الحرفي له، والثاني إدراك المعنى الحقيقي للنص أي هدف المؤلف مما كتبه.
أما النقد الداخلي السلبي فيتناول مدى دقة الحقائق التي أوردها صاحب الأصل وإخلاصه، الموضوعية فيها، ويعنى هذا تحليل شخصية المؤلف وظروفه، ومدة صحة ما أورد من حوادث، أي إثبات الحقائق التاريخية، ويرتبط ذلك ارتباطا كبيرا بتقويمها أي بمدى فهمها وشرحها، ويتعلق ذلك بشخصية الباحث التاريخي وخياله المبدع
1 أي إذا كان المؤلف شاهدا مباشرا للحادث.
وثقافته الواسعة وقوة ملاحظته ومقدماته، وكل هذا يوضح لنا التعقيد الشديد للتحليل أو للنقد التاريخي، إلا أنه يبين لنا في الوقت نفسه الضرورة المطلقة له.
هذا ولا بد أن تتوافر لدى الباحث معارف تاريخية عامة وخاصة كافية، وحس تاريخي وذكاء لماح وإدراك عميق ومعرفة بالسلوك البشري، ومعرفة أيضا بالعلوم المساعدة من مثل فقه اللغة والكيمياء وعلم الأقوام وعلم الخرائط وعلم النقود وعلم النفس، والإلمام بالفنون والأدب، ومعرفة الخطوط واللغات القديمة منها والحديثة، مما يتطلب تدريبا للباحث، رغم إمكانية الاستعانة بالمتخصصين في كثير من هذه الأمور.
لقد مارس العرب المسلمون عند نقدهم للأحاديث المروية عن الرسول الكريم هذا النوع من النقد "الداخلي" بشكل واسع، واستخدموا لهذا الغرض التجريح والتعديل، وبحسب الثقة التي منحوها لشخصية المحدث فإنهم أخذوا روايته أو رفضوها، ويمكن الرجوع إلى ما كتبه الغزالي "ت 505هـ/ 1111م" في كتابه "المستصفى من علم الأصول"وما دونه ابن الصلاح1 "ت 641هـ/ 1243" في كتابه "مقدمة في علم الحديث" للاطلاع على عدالة الراوي، وقد طرح المؤرخ "سينوبوس" جملة من الأمثلة توضح واقعها أسباب الخطأ، فيما يقدمه مؤلف النص من وقائع، وربما أخذ جزءا كبيرا مما طرحه ابن خلدون في مقدمته عن "أسباب الكذب في الخبر"1.
وقد أورد "فان دالين" مبادئ عامة للنقد نورد فيما يلي أهمها:
1-
لا تقرأ في الوثائق القديمة مفاهيم أزمنة متأخرة.
2-
لا تحكم على المؤلف بأنه يجهل أحداثا معينة لأنه غفل عن ذكرها.
3-
لا تقلل من قيمة المصدر ولا تبالغ في قيمته.
4-
لا تكتفي بمصدر واحد حول حقيقة واحدة.
1 ابن الصلاح: "عثمان بن عبد الرحمن" القاهرة 1326هـ.
2 مقدمة ابن خلدون: مرجع سبق ذكره. ص35.