الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث العاشر: مرحلة النظرية
عرّفنا في موضع آخر النظرية بأنها "أفكار مرتبطة ومنظمة تساعدنا على تفسير مجموعة من الظاهرات المعروفة أو المرصودة وتصلح لأن تكون أساسا للتوقع أو التنبؤ".
هناك منهجان يمكن بهما التوصل إلى صياغة النظرية، أولهما أن نبدأ بالحقيقة، التي نرصد الواقع كما هو من مشاهداتنا وتجربتنا، وكل ما نتوصل إليه بحواسنا، ثم نحذف التفاصيل لنصل إلى الحقائق المصفاة. ونحصل على الإجابات المطلوبة، وهذا ما نطلق عليه "التجريد" وقد أطلق على هذا المنهج المسلك الاستقرائي.
والمنهج الثاني ويطلق عليه الاستنتاجي، ويبدأ بأن نفترض تنظيما مثاليا نقوم ببنائه بأنفسنا، وهو عبارة عن تصورنا لما ينبغي أن يكون عليه سلوك الظاهرة، وبعد هذا البناء الفكري والنظري للمسألة، نبدأ بالمقارنة مع واقع الحال، ويلزم في هذه الحالة إجراء التعديلات المناسبة، حتى يتم التلاؤم والتطابق بين تنظيمنا الفكري التصوري والحقيقة، ولتوضيح الأمر نقول: إن هناك فرقا بين الطريقة التي نفرض بها النظرية بمجرد صياغتها، وبين الطريقة التي نشرع فيها بعمل النظرية وإيجادها.
وبهذا التوضيح نشبه النظرية بالخريطة:
ترسم الخريطة طبقا لمبادئ كوتوغرافية معينة، منها المحافظة على استعمال الرموز نفسها على الخريطة بصرف النظر عن اختلاف الأمكنة، والخريطة في حد ذاتها نظام يقوم على التجربة "مجموعة خطوط وعلامات وألوان وإشارات ورموز" إذن فالخريطة على هذا النحو عبارة عن نظرية بدون نص.
من الطبيعي أن يكون تفسير الخريطة عن طريق عمل مفتاح لها يكون بمثابة الدليل أو التفسير لرموز الخريطة واصطلاحاتها، ويجب أن يبين هذا المفتاح ماهية الإشارة والألوان والرموز، وهكذا
…
كما يبين دلالة هذه الخريطة والشيء الذي تمثله، وأما المقياس والموقع والمسقط والاتجاه فكلها أمور هامة تخبرنا عن ميدان الخريطة بنفس
الطريقة التي يخبرنا بها النص الصحيح المضبوط ميدان النظرية، فالنظرية بدون نص كامل كالخريطة بدون مفتاح كامل، وعدم الكمال هذا يحد ويقلل من الاستفادة من الخريطة والنظرية، فمن الخطورة مثلا أن نقوم بحساب المسافات الحقيقية بين الأماكن من الخريطة، إذا لم نكن نعرف المسقط الذي استخدم في رسم الخريطة، كذلك من الخطورة عمل قياسات للواقع من النظرية، إذا لم نعرف الأساس الذي قامت عليه النظرية، ومما يؤسف له حقا أن كثيرا من النظريات في مختلف العلوم الاجتماعية تعاني من نقص واضح في مثل هذه الأمور، مما يجعلها عاجزة عن أن تقوم بالتوقع والتنبؤ اللازمين1.
تتشابه أغراض الخرائط والنظريات، فالخريطة نستخدمها لتخزين المعلومات ومدنا بها، كما تستخدم لعمل التوقعات ولتحليل الروابط بين الأشياء والظاهرات، وهذا القول ينطبق أيضا على النظريات، وكما نستطيع أن نشتق من الخريطة بعد رسمها عددا من النماذج، ونقتطف منها معادلات رياضية تلائم اتجاهات السطوح والكونتور، ونترجم المعلومات إلى وسيلة أخرى لغرض التحوير كي نحصل على النموذج النظير، أي نحاول استعمال الخريطة بكاملها، والنظرية كلها لأنها أشمل تعبيرا للواقع كله2.
هذا وقد لا تكتمل النظرية حينما تشرح جزءا من الأدلة وتفشل في شرح أجزاء أخرى، لهذا لا تعتبر النظرية كاملة إلا إذا كانت قادرة على شرح جميع البيانات والحقائق التي تمت ملاحظتها، والنظرية المفضلة هي النظرية التي تحتوي أقل قدر ممكن من التعقيدات والفروض، أي أن النظرية الأفضل هي تلك التي تفسر أكبر قدر من الحقائق التي يمكن ملاحظتها دون تعديلات "Revision" للنظرية، وعرفت هذه الفكرة فيما بعد في مجال البحوث العلمية بقانون الاقتصاد والتركيز في المعرفة "The
1 Thoman، R. S. Conkling، E. C. and Yeates، M. H. "The Geography of Ecanomic Activity". op cit، 1968. p. 86.
2 محمد علي عمر الفرا. مناهج البحث في الجغرافية بالوسائل الكمية، ط4. وكالة المطبوعات، الكويت 1983، ص309-314.
Low of Parsimony" وأخيرا فإن النظرية السليمة هي التي تفتح أبوابا جديدة كانت مغلقة من قبل.
هذا ويركز القائمون بالبحوث البحتة "Pureresearch" جهدهم في صياغة النظريات دون الاهتمام بالتطبيق العملي، وقد تصبح ذات قيمة عملية في حالة التطبيق، فالنظريات التي تتعلق بعلاقة الأرض بين الكواكب المختلفة، كانت أساسية في نجاح إطلاق وعودة الصواريخ التي أطلقت للفضاء إلى الأرض1.
إن فرض الفروض وصياغة النظرية يدلان على تفكير سليم وبعد نظر، ويأتي هذا عن مقدرة عقلية وخبرة ومعرفة، والإبداع والجرأة صفتان للعالم الحق، ويكون الإبداع بفرض الفروض ووضع النظريات ثم دقة التجريب وموضوعيته، وبدهي بعد ذلك أن الفرضية هي بداية القانون، وأنها صياغة للعلاقات، ويترك للتجريب أن يثبت صحتها أو بطلانها، لأن النظرية تربط بين الوقائع وتصل بين الحقائق، لهذا يجب أن تكون قاعدتها واسعة من المعرفة والخبرة.
ثم إن الفرضية "أو النظرية" تنبؤ وتعميم، وهي بداية لعمل جدي، ولا بد من الإشارة إلى العلاقة بين الملاحظة الصحيحة وبين جمع الحقائق المستنيرة، وبين صياغة الفرضيات، والنظريات، وبين الوصول إلى الحقائق العامة والقوانين، إن الملاحظة الذكية توصل إلى الحقائق الهامة، والحقائق الهامة تترابط في نظرية أو فرضية فعالة، والنظرية الذكية بدورها إذا بحثت بحثا دقيقا، وجربت تجريبا علميا صحيحا أوصلت الباحث إلى العلم سلبا أو إيجابا، ونشير أخيرا إلى التواصل الوثيق بين كل خطوة من هذه الخطى، وأثر كل واحدة في الأخرى، وقيمة كل منها في الوصول إلى الحقيقة إلى القانون2.
1 أحمد بدر. أصول البحث العلمي ومناهجه. مرجع سبق ذكره ص107.
2 فاخر عاقل: أسس البحث العلمي. مرجع سبق ذكره ص84-99.