الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: المناهج التجريبية
1-
المنهج التجربي:
إن كل البحوث التي تتناول أي نوع من الظاهرات الاجتماعية في إطارها السالف، أي فيما مضى من الزمان تعتمد على المنهج التجربي، وبتعبير ابن خلدون نفسه، أمر يحدث "في المرات المتعددة بالتكرار ليحصل عنه العلم أو الظن" وبهذا يصبح المنهج التجربي المنهج الوحيد الذي يستخدم في دراسة وقائع وأحداث ماضية، باعتبار أنها تجارب عرضية يمكن الاستدلال منها للتوصل إلى وضع قوانين وصياغة نظريات خاصة بالبشرية في معاشرتهم بعضهم بعضا، وهذا النوع من الاستدلال المبني على ملاحظات حسية، أي مشاهدات اجتماعية سجلها المعنيون بها في الماضي ثم تركوها لنا تاريخيا، هو المنهج التجربي الاجتماعي بمعناه الصحيح، ومن قبيل الوقائع والأحداث الاجتماعية التجريبية الماضية حالات الزواج والطلاق، والهجر والترمل والمواليد والوفيات والتعليم والأمية والعمالة والبطالة بخاصة إذا كانت مسجلة تسجيلا كميا، أي في شكل إحصاءات منشورة بوساطة هيئات رسمية متخصصة.
وكما يمكن استخدام المنهج التجربي في بحث الوقائع والأحداث الاجتماعية الماضية، كذلك يمكن الاعتماد عليه في بحث الوقائع والأحداث الاجتماعية الآتية، أي التي تحدث تحت سمع وبصر الباحثين كتجارب مفاجئة دون تدبير مسبق منهم، ثم تصبح في عداد الماضي، ويظل منهج البحث التجربي ما دامت الحقائق أو المعطيات أو الوقائع أو الحوادث تجارب اجتماعية ماضية، جرت في بقاع مختلفة، متزامنة أو متعاقبة، وتم تسجيلها وحفظها بمختلف أشكال التسجيل، أو يجري تسجيلها آنيا بوساطة وسائل جمع البيانات: الملاحظة، الاستبيان.
2-
المنهج التجربي التجريبي:
ميز أوغست كونت مؤسس الفلسفة الوصفية مما أسماه بالتجارب الاجتماعية غير
المباشرة، ويقصد بها الحالات الاجتماعية المرضية "الباثولوجية" وهي وقائع عرضية تلقائية، تحدث عادة في الظاهرات الاجتماعية تغيرات تصبح لافتة للأنظار، مثالها: الفن، والثورات، والأزمات الاقتصادية، وكان يرى أن استخدام مسلك المقارنة بين الأحوال السوية الطبيعية للظاهرات الاجتماعية وأحوالها المرضية، بعوض الباحث عن التجريب المقصود والمدبر له، والذي يجري وفق منهاج معين.
وفي الوقت الذي أنهى فيه كونت مبحثه في الفلسفة الوضعية "Course de la Philosoph Positive" ميز الفيلسوف التجريبي "جون ستوارت ميل"1 بين ظرفين مختلفين وصفهما بأنهما تجريبيان، إذ يرى أن هناك تجربة تلقائية هي تجربة الطبيعة أو تجربة مصطنعة يوجدها الباحث بطريقة متعمدة، وهذا يعني أن يكون الباحثون دائما في حالة ترب لحدوث أية واقعة أو أية تجربة، تحل في أي من مجتمعاتهم، ثم يبدئون على الفور في بحثها ماهية وكيفيا وسببا، على أساس أن الظروف الطبيعية الاجتماعية كفتهم مئونة التجريب المصطنع، والمدبر وفق منهاج معين، وهذا يوضح معنى التجربة التجريبية، والمنهج التجربي التجريبي2.
هذا ويجمع العلماء الاجتماعيون بين التجربة الواقعة التي لا دخل لهم في وقوعها ولا إرادة لهم عليها، وبين التجريب الذي يلاحظون نتائجه ويقيسون ما يمكن قياسه منها ويستقرئون من ذلك ما يستطيعون استقراءه من نظريات وقوانين وهذا هو المنهج التجربي التجريبي، الذي يستخدم في بحث الظاهرات الاجتماعية التي تقع تلقائيا، ولا يمكن إحداثها بحال من الأحوال.
3-
المنهج التجريبي:
أفاد التجريب العلمي العلوم الطبيعية أعظم فائدة، إذ مكنها من صياغة الكثير من النظريات ووضع العديد من القوانين التي استند إليها التطبيق العملي، في ميادين هذه
1 Mill، J، S. "System of Logic"-op. cit.
2-
حسن الساعاتي: تصميم البحوث الاجتماعية، مرجع سبق ذكره، ص220-222.
العلوم، ولا يشذ عن ذلك إلا علمان واسعان هما: علم الفلك، وعلم طبقات الأرض، أما العلوم الاجتماعية فقد اعتمدت ولا تزال تعتمد على التجارب التي تقع عرضا، وبدون تدخل الإنسان، شأنها في ذلك شأن علمي الفلك وطبقات الأرض، وإن كان علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية تمتاز بأن بعض الظاهرات طيعة للتجريب في حدود ضيقة.
وفيما عدا علم النفس الاجتماعي، نجد أن التجريب الاجتماعي محدود في علم الاجتماعي، والعلوم الاجتماعية الأخرى، وذلك لأن التجريب الاجتماعي لا يكون هدفه إلا التنمية الاجتماعية في محيط المجموعات والجماعات والمجتمعات الحضرية وجميع العالم. وليس من اليسير وضع مشروعات التنمية على اختلاف أنواعها محك التجريب، بخاصة في الدول العربية لعدد من الأسباب، نذكر منها الرغبة في سرعة الإنجاز وعدم تنفيذ المشروعات بوساطة علماء اجتماع متخصصين مثالها مشروعات توطين البدو في الأردن وفي شمال المملكة العربية السعودية، ومشروع توطين أهالي النوبة في منطقة كوم أمبو شمال مدينة أسوان في جمهورية مصر العربية، ولو كانت هذه المشروعات الاجتماعية وغيرها قد بحثت بمنهج تجريبي على أساس أنها تجارب ذات أهداف حددها من فكروا فيها، لكان لدينا الآن تنظيرات علم اجتماعية من واقع أسلوب الحياة في الوطن العربي.
هذا وإن البحوث الاجتماعية التي تجري فور تنفيذ القوانين الاجتماعية التي تهدف إلى تحقيق الرفاهية الاجتماعية، لا يمكننا أن نعدها تجارب بالمعنى الصحيح، لأنه يمكن إدخال تغييرات على هذه القوانين وإجراء تجارب أخرى بعد ذلك، والمقارنة بين نتائج التجاريب السابقة والتجاريب اللاحقة، وما دام الباحث لا يستطيع التحكم في عملية البحث من أولها إلى آخرها وإجراء ما يراه من تعديلات فيها، فإنها لا تكون تجاريب، ولا يصح أن يقال: إنه يستخدم المنهج التجريبي والأصوب أن يقال عن هذا الإجراء المبحثي أنه شبه تجريبي، وأن المنهج شبه تجريبي1.
1 حسن الساعاتي: تصميم البحوث الاجتماعية، مرجع سبق ذكره، ص233-234.