الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: أهمية النماذج
يقول الفيلسوف "فرنسيس بيكون""F. Bacon" بأن النظرية العلمية تعتمد على الحدس أو التوقع "Anticipation" وسلسلة متلاحقة من الأحداث في فترة قصيرة، ويبدو أن مثل هذا القول ينطبق إلى حد ما على النماذج، وجميعها أشبه بالمادة الخام تحتاج إلى التنقية والتكرار من الشوائب وتحتوى على بعض الاستثناءات، وكلها قابلة للرفض، ولكن هناك فروقا جوهرية بين النظريات العلمية والنماذج:
- إن للنظريات قدرة كبيرة من حيث الصياغة، وهي مبنية على أساس تجريبي، وتستخدم مفاهيم ذات تعاريف علمية، بينما النموذج يستخدم عبارات منطقية، وبذلك فهي في حد ذاتها غير مؤكدة.
- تسلك النظرية المنهج العلمي الذي يستفيد من الخبرة السابقة، وعلى ضوئها يمكن توقع المستقبل وشكله، والتوقع هام، والعلم في جوهره هو القدرة على عمل التوقعات الكلية السليمة عن أصالة أي نظام، إذا توافرت الخبرة السابقة عن هذا النظام أو أي نظام مشابه له، لكن التوقع ليس هو كل شيء إنما المهم هو أن نفهم النظام والقدرة التي تساعدنا على الضبط والسيطرة على الظاهرة التي نحن بصددها وهذه تعتمد على إمكاناتنا وقدراتنا على عمل توقعات من أي نوع، والمنهج العلمي يستند في أساسه على أسلوبين:
1-
الأسلوب الاستقرائي "inductive": والذي يعتمد على معلوماتنا السابقة وقياساتنا للظروف والملابسات وتتبع خط سير الظاهرة واتجاهاتها.
2-
الأسلوب الاستنتاجي "deductive": وهو حدسي وعقلي ويستند على تصوراتنا للشيء ورؤيتا له ولكن ما دامت النماذج ليست مؤكدة في نتائجها فلماذا إذن نهتم بها ونشغل أنفسنا ببنائها؟ ولماذا لا نحاول دراسة الحقائق والظاهرات مباشرة دون وساطتها أو الاعتماد عليها؟ يعود ذلك للأسباب التالية:
1-
إن بناء النموذج أمر محتوم: لأنه ليس هناك أي حد فاصل بين الحقائق والمعتقدات، والنماذج هي بمثابة النظريات وقوانين ومعادلات أو أشياء حدسية "Hunches" تبين وتوضح هذه المعتقدات عن العالم الذي يفكر فيه ونراه ونلمسه ونحسه وندركه.
2-
إن بناء النموذج أمر اقتصادي لأنه يساعدنا، بل يمكننا من تعميم ما لدينا من معلومات بشكل مكثف ومركز، ورغم ما فيها من شذوذ عن المألوف وعدم انطباق.
مضبوط على واقع الحال "في بعض الحالات" إلا أنها تظل نماذج صالحة للتطبيق، وبها يستنير الباحث في بحثه والعالم في ميدان علمه.
3-
إن بناء النماذج شيء مثير: وهذه الإثارة تنبعث من التصميمات التي بني عليها النموذج والتي توضح الأجزاء التي يلزمها التعديل والتحسين، هذا وإن بناء النموذج وفحصه شيء هام ومثير، ولكنه في نفس الوقت لا يخلو من خطورة فالباحث عليه أن يفحص نموذجه ويتفهمه ويتأكد من سلامة بنائه وإلا فشل بحثه، طبيعي أن التجربة تعطي للعالم أو الباحث الفرصة لمعرفة أوجه النقص أو الخلل في نموذجه، وهذا يقود إلى مزيد من الأبحاث وكثير من التعديلات، فالنماذج إذن هي كسائر المخترعات يصيبها التعديل والتطوير نتيجة الأبحاث المستمرة، وبهذا فإن دور النماذج يشمل جمع وتصنيف ما ظهر من نظريات، وفي نفس الوقت إثارة وطرح استفسارات وتحقيقات جديدة تعطي للعلم زادا جديدا وتدفعه لمواصلة مسيرته إلى الأمام.
أما ما يعاب على النماذج فهو: أن استحكامها يفرض مشكلتين من مشاكل طرق البحث هما:
1-
كيفية بيان الوظيفة التي يؤديها النموذج من بين الوظائف الكثيرة والممكنة بجلاء ووضوح؟
2-
بيان ملاءمة نموذج ما لوظيفة معينة في أذهاننا؟
ورغم أن هاتين المشكلتين لم تحلا بعد، ولكن ينبغي ألا تكونا عقبة أو عذار يحول دون استخدامنا للنماذج فقد تستخدم النماذج كوسيلة لربط النظرية بالتجربة والتجربة بالتصوير والنظريات مع بعضها، والتصور بالنظرية التقليدية وهكذا، فلو أردنا أن نبين مثلا كيف نستخدم النماذج كوسيلة لعمل إضافات على النظريات، في هذه الحالة "الإضافة أو إكمال النظرية" ينبغي على النموذج أن يلبي متطلبات النظرية وأن يمتلك الخصائص البنائية للنظرية، أما في حالة إعادة بناء النظرية فإن النموذج ينبئ إذا لم يكن قادرا على تحقيق أي مطلب من مطالبها.
وهكذا ليست جميع النماذج ناجحة في التطبيق وإن نجاحها يتوقف على مقدار مطابقتها، للواقع، ومرحلة التجريد هي من أهم المراحل وأدقها، لأن التجريد يفقد النموذج أحيانا قيمته العلمية إذا أبعده كثيرا عن الواقع، ومهما كانت عيوب النماذج وأخطار الاعتماد عليها، إلا أنها على حد قول تشورلي كالنظريات أشبه بمشاعل ذات أنوار تشع في كافة الاتجاهات، وكل من النظرية والنموذج ينير بعض نواحي جديدة، أو تظهر علامات موجودة أصلا في دنيا الواقع، وعلى مساوئها تعتبر الوسيلة الناجحة والمريحة التي تستخدم في التحليل والتعليل، والتعبير عن آرائنا وأفكارنا عن الواقع، إن النماذج تساعدنا على إجراء تقويم أسس البحث وأصوله، وتطلعنا على خصائصه الضرورية ومدى حدوده واتصاله بالميادين الأخرى1.
1 محمد علي الفرا. مناهج البحث في الجغرافية بالوسائل الكمية. مرجع سبق ذكره، ص284.