الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: بناء النموذج
يتم بناء النموذج بطريقتين:
1-
إن استقراء الحقائق لا يبني نموذجا، بل يساعد على إدراك أمور قائمة لم نكن ندركها أو نلتفت إليها، لهذا يتم بناء المنوذج بتحديد المشكلة وبافتراضه وتجري التجارب للتأكد من صحته، ومن مقدرته على التنبؤ فإذا نجحت التجارب كان للنموذج ما يؤيده، وإذا أخفقت فسرعان ما يطرح النموذج جانبا، أو نعدله ليصبح أقدر على التنبؤ، إذ أن النموذج العلمي عرضة للمراجعة والتعديل أو التبديل والتغيير. وهذه هي طبيعة العلم، وإذا كان وضع النموذج ليس له طريقة واضحة، فإن اختباره وقياس مقدرته على التنبؤ وتغيير المعرفة العلمية التي تتبع بخاصة، كلها أمور تسير على منهاج معين هو طريقة لاختبار نماذج تم إعدادها على أيدي عالم موهوب، هذا المنهاج هو نفسه ما نسميه بالمنهج العلمي، الذي بوساطته يتم التحقق من صحة النموذج، أي مقدرته على التنبؤ وذلك بالاستقراء والاستنتاج1.
2-
أما الطريقة الثانية: فإن النموذج فيها يبني من واقع الحياة نفسها، وذلك عبر مراحل تبدأ بالتصميم والتبسيط وتنتهي بالنموذج نفسه.
هذا ومن الطبيعي أن ليس كل النماذج التي يقوم الباحث ببنائها، ويستخدمها في معرفة معينة هي نتاج الملاحظة والمشاهدة، بل قد يقوم الباحث بالاستفادة من علوم أخرى لها صلة بتخصصه، قد تؤدي في بعضها إلى تطوير البحوث من بحوث أسلوبها وصفي إلى بحوث أسلوبها علمي منظم من مثال: استعانة الباحث الجغرافي خلال بحثه
1 أحمد سليم سعيدان. مقدمة لتاريخ الفكر العلمي في الإسلام، مرجع سبق ذكره، ص41.
عن الهجرة بقانون نيوتن للجاذبية الأرضية، وإنشاء مجموعة من نماذج الجاذبية "Gravity Models"، وكذلك من علم الاقتصاد نماذجه1.
نشير إلى نموذج النماذج الذي قام ريتشارد تشورلي في سنة "1964" بعمله، وفيه يشرح الطرق التي يمكن بها استخدام النماذج في العلوم المختلفة بعامة والجغرافية بخاصة، وهذا النموذج على شكل رسم انسيابي "Flaw Diagram"، يتألف من عدة خطوات متتابعة، تتصل ببعضها بوساطة حلقات أو محولات ستة "Transformation" وكل خطوة من هذه الخطوات تحتوي على بعض مظاهر من الواقع "أو العالم الحقيقي" بدرجات متفاوتة من التجريد "Abstraction""واقع، ونموذج، ورصد، وخاتمة" ويتم عدة أنواع متتابعة من المعالجة التحليلية في الحلقات أو المحولات الموصلة بين الخطوات السابقة "معالجة مثالية ومعالجة رياضية، تفسير إحصائي
…
وهكذا" وبهذه المعالجة يمكن السيطرة على النموذج ورفع المستوى الاستنتاجي تدريجيا، فمثلا تكون المعالجة المثالية نظرية صرفة وافتراضية بحتة، تليها درجة من المعالجة وهي رياضية ويأتي بعدها التفسير الإحصائي وهكذا.
أما مراحل عمل النموذج: فإن أول مرحلة هي التجريد أي تحويل جزء من العالم الحقيقي "الواقع" للظاهرة التي يراد دراستها، إلى أولى مراحل النموذج، ويحتاج هذا إلى مجهود كبير، فهي أصعب خطوة في بناء النموذج وتكمن الصعوبة في عملية التبسيط بحيث يجب في هذه العملية المحافظة على جزء من الواقع، حتى يظل النموذج معبرا عنه، ويعني التبسيط التخلص من كثير من البيانات وفيض المعلومات المتشابكة، حتى تتلاءم البيانات مع بعضها وتشكل نمطا قائما بذاته، يسهل إخضاعها لمزيد من التحليل والتعليل، ويتم ذلك بوساطة أمور كثيرة تتوفر في الشخص: الحدس، الحظ، المعرفة، الخبرة، المهارة، القدرة الخلاقة.
1 محمد علي الفرا. مناهج البحث بالوسائل الكمية، مرجع سبق ذكره. ص26.
أيضا: Isard، w. "Methods of regional Analysis: An introductionto Regional Science". The M. I.T. Press، Cambridge Masachusettes، 1969.
يطلق على هذا النموذج اسم "النموذج المفهومي" أو "النظري"، ومن ميزات هذا النموذج احتواؤه على بعض الأسس والنظم التي أمكن رصدها ومشاهدتها، كما يحتوي على تصور عقلي للواقع، يأتي نتيجة معرفتنا التجريبية، وبوساطة الحدس أو التصور أحيانا، وأحيانا يسلك باني النموذج طريقا مختصرا دون أن يمر في المراحل الأخرى، فيصل بوساطة الاستنتاج المباشر إلى فروض أو نتائج عن الواقع، وإذا قومت هذه تقويما ناجحا على ضوء الحقيقة، فمن الممكن أن تكون أساسا لنظرية هامة.
إن النموذج السابق المفهومي أو النظري معقد ولا يصلح للعملن لذلك يبسط باستبعاد الكثير من البيانات التي يمكن الاستغناء عنها، حتى نصل إلى تجريد دقيق، ولا يبقى إلا من هو ضروري، يمثل المظاهر الجوهرية للموضوع أو المادة، وينتج عن ذلك نموذج مبسط، ونموذج إسحاق نيوتن في الجاذبية مثلا ناجحا، في هذا الصدد "إن الجذب بين جسمين يتناسب تناسبا طرديا مع كتلتيهما، وتناسبا عكسيا مع مربع المسافة بينهما" ولا بد من الإشارة إلى أنه كلما زدنا في تبسيط وتجريد النموذج بعدنا عن الواقع والصدق وبالتالي يصبح قليل الفائدة.
تظهر في النموذج المبسط خصائص هامة بوضوح، أهمها تركيب أو بنية الظاهرة أو المكان، والعلاقات بين عناصره المختلفة، وهذا يمكننا من استخدام النموذج في معرفة التوقعات والتنبؤات، ومتابعة هذا الاستخدام.