الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: البحث التجريبي وسماته العلمية
أشرنا إلى أن استخدام التجارب في العلوم الطبيعية لقي نجاحا، لكنه في العلوم الإنسانية والاجتماعية لم يلق إلا أهمية جزئية نظرا لاختلاف طبيعة المادة في كليهما لذلك طورت أساليب أخرى بديلة أطلق عليها اسم التجربة غير المباشرة أو التحليل الاستقصائي1 "Survey analysis" وقد دعاها أميل دوركهايم طريقة المقارنة، وكان قد رفض ادعاءات ستيوارت ميل حول تعذر استخدام التجربة بصورتها المباشرة أو غير المباشرة في البيولوجيا والكيمياء وعلم الاجتماع.
نعرف البحث التجريبي بأنه: استخدام التجربة في إثبات الفروض، أو إثبات الفروض بوساطة التجريب وهناك تعريفات أخرى:
- محاولة التحكم في جميع المتغيرات والعوامل الأساسية، باستثناء متغير واحد، حيث يقوم الباحث بتغييره بهدف تحديد وقياس تأثيره في العملية.
- تغيير متعمد مضبوط للشروط المحدودة للواقع أو الظاهرة التي تكون موضوعا للدراسة وملاحظة ما ينتج عن هذا التغير من آثار في هذا الواقع والظاهرة.
- ملاحظة تتم تحت ظروف مضبوطة لإثبات الفروض، ومعرفة العلاقات السببية ويقصد بالظروف المضبوطة إدخال المتغير التجريبي إلى الواقع وضبط تأثير المتغيرات الأخرى.
- محاولة لضبط جميع المتغيرات التي تؤثر على ظاهرة ما أو واقع ما عدا المتغير التجريبي، وذلك لقياس أثره على الظاهرة والواقع.
أما السمات العلمية لمنهج البحث التجريبي فهي:
1- الاستقصاء هو جمع البيانات كما هي في بيئتها الطبعية دون تدخل من الباحث ويعتبرها هانزل زيزل "Hans Zeizel" أداة رئيسة لمنهج البحث في العلوم الاجتماعية.
للمنهج العلمي في البحث التجريبي سمات رئيسة أهمها:
1-
التشخيص المادي أو الوضعية "Positivism".
2-
الاختبارية "Empericism"
3-
الموضوعية "Objectivity".
إن أول من وضع هذه السمات عبد الرحمن بن خلدون، فقد كانت مادة بحثه دائما الكائنات الاجتماعية وفي ذلك يؤكد "أن النظر الذي يفيد تمييز الحق من الباطل، إنما هو للذهن في المعاني المنتزعة من الموجودات الشخصية"1، والتشخيص المادي عند ابن خلدون هو الوضعية عند أوغست كونت "ت 1274هـ/ 1857م" الذي أنشأ علم المعاشرة في العالم الغربي بعد ابن خلدون "ت 808هـ/ 1405م" بقرابة "خمسة قرون" وفي رأيه أن الظاهرات الحياتية تخضع للقوانين عامة، ولا تسير وفق الأهواء والمصادفات، شأنها في ذلك شأن الظاهرات الطبيعية تماما، في المنهج العلمي الذي يطرقه العلماء لبحثها.
أما الاختبارية، أي الملاحظة والخبرة الشخصية بالأمور: فمثالنا في ذلك ابن خلدون وسواه من علماء العرب الذين كانوا يلاحظون الظاهرات ملاحظة حسية وخبرها خبرة شخصية، وكذلك ملاحظتها ملاحظة عقلية مما سجله المؤرخون في كتبهم، وكان ابن خلدون يعقد مقارنات تساعده على الدراسة بدقة بوساطة تحري سير الأحداث في الحالتين الماضية والآنية، وكذلك تقصي نتائج الأحداث وبذلك أمكنة تطبيق ما أستقرأه من قوانين ونظريات من سير الأحداث في الماضي، على ما يعانيه في أوانه.
الاختبارية: هي الملاحظة والخبرة الشخصية بالأمور أي الخبرة التجربية، بما هو حادث في حاضر الباحث، أو بما كان حدث في ماضيه، والمعرفة الاختبارية أو الحسية
1 مقدمة ابن خلدون: ص4، 38، 54.
تقوم على معايشة الواقع المتشخصة بمادتها، أي ذات الوجود الكياني العياني، والوقائع الاختبارية وقائع مشاهدة أي ملاحظة حسية، تكون المادة الأصلية للعلوم الخاضعة للتجارب أو التجاريب، التي يفرق العالم فيها بين الواقع وتأويله والمشاهد والمستنتج منه، فالأساس الواقعي محتوم، أما التأويلات فصياغات اجتهادية لتنظيم مكونات الموقف الواقعي، بحث يصبح مفهوما، وأولى خطوات الفهم تتم بالتعميم الاستقرائي من التجارب والتجاريب والخبرة بها، ويقتضي هذا التحليل والتجريد، والشائع تسمية هذه العمليات بـ "الامبيريقية" وهي كلمة معربة للاصطلاح الأجنبي الذي تترجمه الكثرة "تجريبية" بينما ظهر اجتهاد منفرد يترجمه: تجربة، ومصطلح الاختبارية يتضمن كلا من التجربة والتجريب، ولا يخصص أيا منهما، كما هي الحال في المصطلحين السالفين.
والسمة الثالثة الموضوعية: ترتبط ارتباطا وثيقا بالموضوعية والاختبارية، وهي سمة الباحث لأية ظاهرة، بوصفها شيئا خارجا عن شعور الفرد وسابقا لوجوده، أي أن لا يتأثر الباحث بأية أفكار سابقة، تجعله ينظر إلى الظاهرة من وجهة نظره هو، أو نظر شخص آخر، بحيث يكون البحث علميا بالمعنى الدقيق، أي مجموعة من المعارف العلمية التي تتصل بوقائع ذات وجود خارجي عن الفرد، غير متأثر بمن بحث أو بأية نظرة تقييمية معينة1، وهذا ما فعله ابن خلدون حيث استخدم المنهج التجربي، وركيزته الطريقة التاريخية، كما استعان بالملاحظة الحسية، أي المشاهدة لما عاصره في زمانه من أحداث، ذوات كانت أو أفعالا، وكان يتشكك في الأخبار والروايات يقول:"فلا تثقن بما يلقي إليك من ذلك وتأمل الأخبار وأعراضها على القوانين الصحيحة، يقع لك تمحيصها بأحسن وجه"2 حيث تبدو الموضوعية عنده بأجلى مظاهرها، وقبيل نهاة القرن "التاسع عشر" نبه العالم الفرنسي "أميل دوركايم" إلى ضرورة الدراسة الموضوعية وبذلك أتى متأخرا عن ابن خلدون.
1 حسن الساعاتي. تصميم البحوث الاجتماعي، مرجع سبق ذكره، ص33-39.
2 مقدمة ابن خلدون. مرجع سبق ذكره، ص13-14.