الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحق إنما هو تصديق الصادق وتكذيب الكاذب. فأما ما سلكه الأستاذ من تصديق الكذَّابين كأحمد بن محمد [بن]
(1)
الصلت بن المغلِّس الحِمَّاني، وتكذيب الصدِّيقين كأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفَزَاري وأضرابه كعبد الله بن أحمد؛ فهذا طريق لا يرضاه مؤمن.
وإن أراد أنه قد بُلي في عبد الله بن أحمد الكذب، أي: أنه قد جُرِّب عليه أنه يكذِب، فهذا من قبيل تكذيب الصدِّيقين، وقد تقدم الكلام في تلك الحكاية في ترجمة أحمد بن عبد الله الأصبهاني
(2)
، واتضح هناك من هو الكاذب! وقد كنتُ أشرت إلى طرف من ذلك في «الطليعة» (ص 92 - 93)
(3)
فلم يعرض الكوثري لها في «الترحيب» بشيء! وعبد الله قد أثنى عليه أبوه، ووثَّقه النسائي وابن أبي حاتم والدارقطني والخطيب وغيرهم، وأجمع أهل العلم على الاحتجاج به. والله الموفق.
119 - عبد الله بن جعفر بن دَرَسْتوَيه
(4)
:
كان يروي «تاريخ يعقوب بن سفيان» ، فرواه عنه جماعة. ويروي الخطيبُ عن رجل عنه، فيأخذ الخطيبُ الحكايةَ من «تاريخ يعقوب» ولا ينصُّ على ذلك، بل يسوقها بالسند عن شيخه عن ابن درستويه عن
(1)
سقطت من (ط).
(2)
رقم (22).
(3)
(ص 73).
(4)
هكذا ضبطه ابن ماكولا، وضبطه السمعاني بضم الدال والراء والتاء وسكون الواو. انظر «الإكمال»:(3/ 322)، و «وفيات الأعيان»:(3/ 44).
يعقوب .. إلخ، على ما جرت به عادةُ محدّثي عصره. كما ترى في «سنن البيهقي» يأخذ من «سنن أبي داود» و «سنن الدارقطني» ومؤلفات أخرى كثيرة، فيسوق الحديث بسنده إلى أبي داود، ثم يصله بسند أبي داود، ويكرِّر ذلك في كل حديث. وقد قرَّر أهل العلم أنَّ جُلَّ الاعتماد في مثل هذا على الوثوق بصحة النسخة، فلا يضرُّ أن يكون مع ذلك في الوسائط التي دون مؤلف الكتاب رجلٌ فيه كلام؛ لأنه واسطة سَنَدية فقط، والاعتماد على صحة النسخة.
وهذا كما لو أحبَّ إنسانٌ منَّا أن يسوق بسند له إلى البخاري، ثم يصله بسند البخاري لبعض الأحاديث في «صحيحه» ، فإنه بعد ظهور أنه إنما يروي بذلك السند من «صحيح البخاري» لا يكون هناك معنًى لأن يُعترَض [1/ 286] عليه بأنَّ في سنده إلى البخاري رجلًا فيه كلام.
والأئمة الأثبات كالبيهقي والخطيب قد عُرف عنهم كمالُ التحرّي والتثبت في صحة النسخ، وتأكَّدَ ذلك بأن مَن كان مِن أهل العلم والنقد في عصرهم وما بعده لم ينكروا عليهم شيئًا مما رووه من تلك الكتب، مع وجود نسخ أخرى عندهم. وكانوا بغاية الحرص على أن يجدوا للمحدِّث زلةً أو تساهلًا، فيشيعوا ذلك ويذيعوه نصيحةً للدين من وجه، وحبًّا للسمعة وللشهرة من وجه آخر، ولِما قد يكون في صدر بعضهم من الحَنَق على الرجل أو الحسد له من وجه ثالث.
وقد كان القدماء كسعيد بن أبي عَروبة ووكيع وغيرهما يروون من حفظهم وتكون لأحدهم كتب ومصنفات لا تحيط بحديثه، فكثيرًا ما يحدِّث
من حفظه بما ليس في كتبه، مع ذلك كان الرجل إذا روى عن أحد هؤلاء ما ليس في كتبه أنكر الناس عليه ذلك قائلين: ليس هذا في كتب ابن أبي عروبة، ليس هذا في كتب وكيع؛ حتى تناول بعضهم يحيى بن معين إذ روى عن حفص بن غياث حديثًا لم يوجد في كتب حفص، كما تقدم في ترجمة حسين بن حميد
(1)
. فما بالك بالمتأخرين الذين إنما يروون من الكتب! فما بالك بمثل الخطيب الذي قد عُرف أنه إنما يروي بذاك السند من كتاب يعقوب!
فإذا لم يطعن أحد في شيء يرويه الخطيب بطريق ابن درستويه عن يعقوب، ولا قال أحد: هذه الحكاية ليست في «تاريخ يعقوب» ، ولا: هذا السياق مخالف لما في «تاريخ يعقوب» بزيادة أو نقص أو تغيير= فقد ثبت بذلك وبغيره صحةُ نسخة الخطيب وثبوتُ ذلك عن يعقوب.
وهكذا لم يطعن أحد في شيء رواه ابن درستويه عن يعقوب بأنه ليس في كتاب يعقوب إما البتة وإما بذلك السياق، فظهر بهذا أن كلَّ ما رواه ابن درستويه عن يعقوب فهو ثابت في كتاب يعقوب. وبهذا يتبين أن محاولة القدح في كل الحكايات التي يرويها الخطيب من طريق ابن درستويه عن يعقوب بمحاولة الطعن في ابن درستويه تعبٌ لا يجدي ولا يفيد، ولا يبدئ ولا يعيد. ومع ذلك فلننظر في حال ابن درستويه.
قال الأستاذ (ص 35): «كان يحدِّث عمن لم يدركه، لأجل دريهمات يأخذها، فادفع إليه درهمًا يصطنع لك ما شئت من الأكاذيب! وروايته عن الدوري ويعقوب
(1)
رقم (82).
خاصة منكرة. وقول البرقاني واللالكائي فيه معروف. وتضعف كواهل الخطيب وأذنابه عن حمل أثقال [1/ 287] التهم التي رُكِّبت على أكتاف هذا الإخباري الهاذي. وقد أكثر الخطيبُ عن عبد الله بن جعفر هذا جدَّ الإكثار».
أقول: قوله: «يحدِّث عمن لم يدركه» فرية، كما سترى. وقوله:«لأجل دريهمات يأخذها» فرية أخرى. وصار الأستاذ يكررها في مواضع وينبز هذا الرجل بقوله: «الدراهمي» ، ويسيء القولَ فيه في عدة مواضع. وحقيقة الحال أن هذا الرجل كان يروي عن عباس الدوري أحاديثَ، ويروي عن يعقوب بن سفيان «تاريخَه» ، وغير ذلك. وكانت ولادة هذا الرجل سنة [258، ووفاة عباس الدوري سنة]
(1)
271، ووفاة يعقوب سنة 277. فقد أدركهما قطعًا. وكان سنُّه لما مات عباس ثلاث عشرة سنة. وقد ذكر الخطيب
(2)
أن جعفر بن درستويه والد عبد الله هذا كان «من كبار المحدثين وفهمائهم، وعنده عن علي ابن المديني وطبقته، فلا يُستنكر أن يكون بكَّر بابنه في السماع» .
أقول: بل هذا هو الظاهر، كما جرت عليه عادة المحدثين في ذاك العصر من التبكير بأبنائهم للسماع من المعمَّرين، على أَمَل أن يعيش الابن فيكون سنده عاليًا، فيكون له بذلك صيت وشهرة ويرحل الناس إليه، وتلك مرتبةٌ يحرص المحدِّث أن ينالها ابنه.
وقد ولد أبو حنيفة سنة 80 بالكوفة ونشأ بها، ولم يُعْرَف والده بشيء
(1)
زيادة يقتضيها السياق، ولعلها سقطت لانتقال النظر.
(2)
في «تاريخه» : (9/ 435).
من العلم، ونشأ هو غير معنيٍّ بطلب الحديث، كما يدل عليه النظر في وفيات شيوخه الذين تثبتُ روايته عنهم. وعاش أنس رضي الله عنه بالبصرة إلى أن مات سنة إحدى وتسعين وقيل: بعدها بسنة، وقيل: بسنتين ــ أي: وعمر أبي حنيفة ما بين إحدى عشرة إلى ثلاث عشرة، ولم يكن عادة الناس في ذاك العصر التبكير بالسماع. وفي «الكفاية» (ص 54):«قلَّ من كان يُثبت (وفي نسخة: يكتب) الحديث ــ على ما بلغنا ــ في عصر التابعين وقريبًا منه إلّا مَن جاوز حدَّ البلوغ، وصار في عداد من يصلح لمجالسة العلماء ومذاكرتهم وسؤالهم. وقيل: إن أهل الكوفة لم يكن الواحد منهم يسمع الحديث إلا بعد استكماله عشرين سنة» . ثم روى بعد ذلك حكايات، منها:«أنه قيل لموسى بن إسحاق: كيف لم تكتب عن أبي نعيم؟ قال: كان أهل الكوفة لا يُخرجون أولادهم في طلب الحديث صغارًا حتى يستكملوا عشرين سنة» . وروى الخطيب في «التاريخ»
(1)
من طريق حمزة السهمي قال: «سئل الدارقطني عن سماع أبي حنيفة من أنس هل يصح؟ قال: لا، ولا رؤيته» . فذكر الأستاذ ذلك (ص 15) ونازع [1/ 288] في ذلك بما نظرتُ فيه في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت
(2)
. وضجَّ الأستاذ في (ص 196) من إنكار سماع أبي حنيفة من أنس، قال:«مع أن أبا حنيفة كان أكبر سنًّا من أقلِّ سنِّ التحمل عند المحدثين بكثير في جميع الروايات في وفاة أنس» .
هذا كله مع أن أسطورة الدراهم والتحديث عمن لم يدركه، إنما أخذها
(1)
(4/ 208).
(2)
رقم (34).
الأستاذ من قول الخطيب: «سمعت هبة الله [بن] الحسن
(1)
الطبري (اللالكائي) ذكر ابن درستويه وضعَّفه وقال: بلغني أنه قيل له: حدِّثْ عن عباس الدوري حديثًا ونحن نعطيك درهمًا، ففعَلَ، ولم يكن سمع من عباس». قال الخطيب:«وهذه الحكاية باطلة، لأن أبا محمد بن درستويه كان أرفع قدرًا من أن يكذب لأجل العرض الكثير، فكيف لأجل التافه الحقير! وقد حدثَنا عنه ابنُ رزقويه بأمالي أملاها في جامع المدينة، وفيها عن عباس الدوري أحاديث عدة»
(2)
.
أقول: واللالكائي توفي سنة 418، وقد قال الخطيب في ترجمته:«عاجلته المنية، فلم يُنشر عنه كبير شيء» . فهذا يدل أن مولد اللالكائي كان بعد وفاة ابن درستويه بمدة، فإن وفاته كانت سنة 347. وقوله: «بلغني
…
» لا يُدرَى من الذي بلَّغه، ومثل هذا لا يثبت به حكمٌ ما.
وقد قال الحِمَّاني: «سمعتُ عشرةً كلُّهم ثقات يقولون: سمعنا أبا حنيفة يقول: القرآن مخلوق» . فردَّه الأستاذ (ص 56) بقوله: «قول الراوي: سمعت الثقة، يُعَدُّ كرواية عن مجهول، وكذا الثقات» . ثم تراه يبني على قول اللالكائي «بلغني
…
» القصورَ والعلالي جازمًا بذلك، مكرِّرًا نبزَ ابن درستويه بقوله «الدراهمي» وغير ذلك.
ومع أنَّ المبلِّغَ اللالكائي إنما قال: «ولم يكن سمع من عباس» ، فلم يقنع الأستاذ «الإمام الفقيه المحدث والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير
صاحب الفضيلة مولانا الشيخ محمد زاهد الكوثري وكيل المشيخة الإسلامية في الخلافة العثمانية سابقًا»، كما نَعَتَه صاحبُه على لوح «التأنيب» أو كما نعتَ نفسَه= لم يقنع بذلك، بل قال:«كان يحدِّث عمَّن لم يدركه لأجل دريهمات يأخذها» . ثم مع هذا وأمثاله وما هو أشدُّ منه وكثرةِ ذلك، يضِجُّ ويعِجُّ ويُرغي ويُزبِد إذا نُسب إلى المغالطة. وليت شعري كيف يمكننا إحسان الظن به، وحملُه على الغلط والوهم من
(1)
أن تلك الزلات الكثيرة كلَّها فيما يؤيد به هواه، ولا أذكر له زلة واحدة فيما يخالف هواه!
[1/ 289] هذا ولم ينكروا على ابن درستويه حديثًا واحدًا مما حدَّث به عن الدوري، فدلَّ ذلك على أن تلك الأحاديث ثابتة عن الدوري حتمًا، وإنما زعم من لا يُدرَى مَنْ هو أن ابن درستويه لم يسمع من الدوري، وقد علمتَ إمكانَ سماعه منه، فإن ثبت أن ابن درستويه ثقة ــ وسنُثبته إن شاء الله تعالى ــ ثبت السماع.
وأما شأنه مع يعقوب بن سفيان، فقد عُلِم بما مرَّ أنه لما توفي يعقوب كان سنُّ ابن درستويه نحو عشرين سنة، لكن قال الخطيب:«سألت البَرْقاني عن ابن درستويه، فقال: ضعَّفوه؛ لأنه لما روى «التاريخ» عن يعقوب بن سفيان أنكروا عليه ذلك، وقالوا له: إنما حدَّث يعقوبُ بهذا الكتاب قديمًا، فمتى سمعتَه! ». ولم يبيِّنوا تاريخ تحديث يعقوب بـ «التاريخ» ، فقد يكون حين كان سنُّ ابن درستويه اثنتي عشرة سنة أو نحوها، واستبعدوا أن يكون سمع حينئذ لصغره. وعلى هذا يدل قولُ الخطيب عقب ما حكاه عن
(1)
كذا الأصل. ولعل الصواب: «مع» . [ن]
البرقاني، قال: «في هذا القول نظر، لأن جعفر بن درستويه من كبار المحدثين
…
فلا يُستنكر أن يكون بكَّر بابنه في السماع من يعقوب بن سفيان». ثم استأصل الخطيبُ الشأفةَ واقتلع الجرثومة بقوله: «مع أن أبا القاسم الأزهري حدَّثني قال: رأيتُ أصل كتاب ابن درستويه بـ «تاريخ يعقوب بن سفيان» لمَّا بيع في ميراث ابن الآبَنُوسي
(1)
، فرأيته أصلًا حسنًا، ووجدت سماعه فيه صحيحًا». والأزهري من أهل المعرفة والتيقظ والثقة والأمانة. ترجمته عند الخطيب (ج 10 ص 385). فثبت السماع وبطل النزاع.
فأما حال ابن درستويه، فتضعيف اللالكائي له قد بيَّن وجْهَه، وهو قوله: «بلغني
…
». وقد علمتَ أنه ليس في ذلك حجة. وقول البرقاني: «ضعَّفوه» قد بيَّن وجْهَه، وهو استبعادهم أن يكون سمع «التاريخ» . وقد ثبت سماعه له، فزال سبب التضعيف. على أنه لو لم يتبين أن ذلك هو وجه التضعيف لكان تضعيفًا مجرَّدًا، وهو جرح غير مفسَّر، وقد ثبت التوثيق. قال الخطيب: «سألت أبا سعد الحسين بن عثمان الشيرازي عن ابن درستويه؟ فقال: ثقة [1/ 290] ثقة. حدَّثنا عنه أبو عبيد الله
(2)
(الصواب: أبو عبد الله. كما في «لسان الميزان»
(3)
. وهو الحافظ محمد بن إسحاق بن منده من شيوخ
(1)
هكذا ضبطه السمعاني في «الأنساب» : (1/ 67)، وذكر له وجهًا آخر بسكون الباء (الآبْنوسي).
(2)
ووقع كذلك في الطبعة المحققة: (11/ 86)!
(3)
(6/ 555).
الشيرازي هذا، كما في ترجمته من «التاريخ» (ج 8 ص 84)) ابن منده الحافظ بغير شيء، وسألته عنه، فأثنى عليه ووثَّقه». وقال الخطيب في ترجمة الشيرازي هذا
(1)
: «كتبنا عنه وكان صدوقًا متنبهًا» . وقد تقدَّم ثناءُ الخطيب على ابن درستويه.
وذكر الأستاذ (ص 105) ما رواه الخطيب من طريق ابن درستويه، عن يعقوب، عن الحسن بن الصباح، عن إسحاق بن إبراهيم الحُنَيني قال: «قال مالك: ما ولد في الإسلام مولودٌ أضرُّ على أهل الإسلام من أبي حنيفة. وكان (مالك) يعيب الرأي، ويقول: قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تمَّ هذا الأمرُ واستكمل
…
». فذكر الأستاذ أن ابن عبد البر ذكر في «كتاب العلم»
(2)
عن «تهذيب الآثار» للطبري عن الحسن بن الصباح عن الحنيني أن مالكًا قال: «قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
» ولم يذكر ما قبله. قال الأستاذ: «فيكون ابن درستويه الدراهمي هو الذي زاد في أول الخبر ما شاءه» .
أقول: ليس هذا بشيء، وإنما اقتصر ابن جرير أو ابن عبد البر على موضع الحجة. وقد جرت عادتهم بتقطيع الأحاديث النبوية، كما فعله البخاري في «صحيحه» وغيره، فما بالك بمثل هذا؟
وقال الخطيب في ترجمة ابن درستويه
(3)
: «حُمِلَ عنه من علوم الأدب كتب عدَّة صنَّفها. منها: «تفسير كتاب الجَرْمي» . ومنها: كتاب في النحو
(1)
(8/ 84).
(2)
(2/ 1069).
(3)
(9/ 428 - 429).